بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

غاية دلالته هو ان المؤدّى فيها حكم واقعي ، فليس للسان الجعل دلالة على نفي الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال في غيرها ، بخلاف الانحلال بالنحو الثاني المتقدّم ، وهو فيما اذا علمنا بنجاسة اناء زيد وقامت البينة على ان إناء زيد هو هذا الاناء المعيّن فانه انحلال تفصيلي حكمي ، لان لسان البيّنة كون هذا الإناء هو اناء زيد هذا بنحو المطابقة ، وتدل بالالتزام على نفي اناء زيد عن غير هذا الاناء ، ولذا كان انحلالا تفصيليا حكميّا لعدم حصول العلم من البيّنة ، والّا لكان انحلالا تفصيليا حقيقيا.

ولا يخفى ان ظاهر المصنف في صدر عبارته انه من الانحلال التفصيلي الحكمي ، ولكنه صرّح في ذيل عبارته بانه من الانحلال لاحتمال الانطباق.

وعلى كلّ ، فقد اتضح : ان العلم الاجمالي المدّعى في المقام لا يقتضي الاحتياط في موارد الشبهة التي لم تقم حجة على الحكم فيها ، لانه منحلّ بقيام الطرق والامارات والاصول المثبتة للتكاليف ، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مؤدّى الامارة ، ومع احتمال الانطباق لا يكون العلم منجزا في غير مورد الطرق والامارات ، ويكون من الشك البدوي الذي هو مجرى الاصول النافية للتكليف ، ولذا قال (قدس‌سره) : «والجواب ان العقل وان استقل بذلك» أي بلزوم الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي «إلّا انه اذا لم ينحل العلم الاجمالي الى علم تفصيلي وشك بدوي».

والظاهر ان مراده من العلم التفصيلي هو العلم التفصيلي بالاحكام التي قامت عليها الطرق المحتمل انطباق الاحكام الواقعية المعلومة بالاجمال عليها ، والى شك بدوي في غيرها وهو كمورد الشبهة التحريمية «وقد انحل هاهنا» كذلك «فانه كما علم بوجود تكاليف» واقعية «اجمالا كذلك علم اجمالا بثبوت طرق واصول معتبرة مثبتة لتكاليف» ب «مقدار تلك التكاليف المعلومة او ازيد» وقوله بمقدار تلك التكاليف او ازيد لاجل انه لو كان الثابت بالامارات مقدارا من التكاليف اقل

٣٨١

إن قلت : نعم ، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالواجبات (١).

______________________________________________________

من المقدار المعلوم بالاجمال لبقى العلم الاجمالي منجزا بالنسبة الى تلك التكاليف الزائدة على ما قامت عليه الطرق ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وحينئذ» أي وحين ثبوت تكاليف في الامارات بمقدار المعلوم بالاجمال «لا» يبقى لنا «علم بتكاليف آخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاصول العملية» المثبتة للتكاليف ، وقد عرفت ان الوجه في الانحلال هو احتمال الانطباق.

(١) توضيحه : ان العلم التفصيلي بحكم في بعض اطراف العلم الاجمالي على اقسام : لانه تارة يكون العلم التفصيلي متحدا مع العلم الاجمالي عنوانا ، كما اذا علم اجمالا بنجاسة اناء زيد ثم علم تفصيلا او حكما بان هذا الاناء المعيّن هو اناء زيد ، ولا ريب في انحلال العلم الاجمالي بهذا العلم التفصيلي الحقيقي أو الحكمي.

واخرى : يكون العلم التفصيلي قد تعلّق بعنوان غير العنوان الذي تعلّق به العلم الاجمالي وكان حادثا بعد العلم الاجمالي ، كما اذا علم بحرمة احد الإناءين لخمريته ثم بعد علم تفصيلا بحدوث غصبيّة لاحد الإناءين المعيّن ، بمعنى ان يعلم ان هذا الاناء الخاص بعينه غصب. ولا ريب ايضا ان هذا العلم التفصيلي بحرمة الغصب في الاناء المعيّن لا يحلّ العلم الاجمالي بحرمة احد الإناءين لانه خمر ، لان الاثر في الخمر حرمة شربه ، والاثر في الغصب حرمة التصرف باعتبار انه تصرّف في سلطان الغير.

ومما ذكرنا يظهر العلم بمحالية الانطباق ، وان الحرمة من حيث كونه خمرا لا يعقل ان تنطبق على الحرمة من حيث كونه غصبا ، لاختلاف الاثر في كل منهما ، وللعلم بمحالية انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل.

وثالثة : لا يكون حادثا بل كان مقارنا للعلم الاجمالي ، كما اذا كان مقارنا للعلم الاجمالي بالخمرية العلم التفصيلي بالغصبية ، فانه ايضا لا يحلّ العلم الاجمالي لما عرفت من اختلاف آثارهما ومحالية الانطباق فيهما.

٣٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يقال : ان المعلوم بالاجمال وهو خمرية احد الإناءين ثم العلم التفصيلي الحادث بغصبية احد الإناءين وان كان لا يحلّ العلم الاجمالي بالخمرية لمحالية الانطباق ، إلّا انه يحلّ العلم الاجمالي بالخمرية ، لان الاناء الذي هو الخمر لا يملك لخمريته ، ومع تنجز العلم التفصيلي بالغصبيّة لا اثر للعلم الاجمالي بخمريته لانه يجب الاجتناب عنه وعدم التصرّف فيه باي نحو من انحاء التصرّف فلا اثر فيه للعلم الاجمالي ، ويبقى الطرف الثاني مشكوك الخمريّة فينفى بالاصل.

فانه يقال اولا : ان كون المعلوم بالاجمال هو الخمرية من باب المثال ، فلو كان العلم الاجمالي هو النجاسة دون الخمريّة لأثر.

وثانيا : ان العلم الاجمالي انما لا يؤثر حيث لا يبقى له مع العلم التفصيلي اثر اصلا ، والعلم الاجمالي بالخمرية وان كان لا يؤثر من ناحية لزوم الاجتناب من ناحية حرمة التصرّف في مال الغير ، لكنه يؤثر من ناحية حرمة مباشرته لانه نجس ووجوب غسل اليد منه.

وثالثا : ان ملكيّته وان انتفت لخمريته لكن بالامارة حق الاختصاص منه لا ينتفي لإمكان معالجته وعوده خلا.

ورابعة : ان يكون الفرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي هو السبق والحدوث فقط ، كما اذا علم بحرمة احد الإناءين ولو من دون عنوان ، ثم علم بحرمة الاناء المعين لحرمة حادثة كالربا مثلا ، وفي هذا الفرض ايضا لا ينحلّ العلم الاجمالي بهذا العلم التفصيلي ، لوضوح انه مع فرض سبق العلم الاجمالي يكون تأثيره سابقا ايضا ، ومع سبق تأثيره بلزوم الاجتناب في اطرافه لا يكون العلم التفصيلي بالحرمة الحادثة موجبا لانحلاله.

اذا عرفت هذا فنقول : ان الامارات بالنسبة الى العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية من قبيل القسم الاخير ، لوضوح تأخر الامارات عن العلم الاجمالي ، فلا تكون الامارات موجبة لانحلال العلم الاجمالي في المقام ، والى هذا اشار بقوله :

٣٨٣

قلت : إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا ، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا ، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي (١).

______________________________________________________

«ان قلت نعم» انا نسلّم ان العلم الاجمالي ينحل بالعلم التفصيلي ولو كان انحلالا حكميا علميا لا علما «لكنه» فيما «اذا لم يكن العلم» التفصيلي بالاحكام التي هي مؤدى الامارات «مسبوقا بالعلم» الاجمالي «بالواجبات» او المحرمات ، فانه اذا كان كذلك لا يكون العلم التفصيلي حالا للعلم الاجمالي ، والامارات بالنسبة الى العلم الاجمالي بالاحكام كذلك لتأخرها عن العلم الاجمالي.

(١) وتوضيح الجواب : انه فرق بين تأخر الحكم التفصيلي عن العلم الاجمالي ، وبين تأخر الجعل فيه عن العلم الاجمالي ، فان تأخر الجعل لا يضر اذا كان متعلق العلم التفصيلي مما يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، والمتأخر في الامارة هو جعلها ، واما الحكم فيها بعد ان كان بلسان انه هو الواقع فلا مانع من انطباق المعلوم بالاجمال عليها ، وذلك فيما اذا صادفته بان اصابت الواقع.

والحاصل : ان الامارة لها دلالة ذاتية غير محتاجة الى الجعل والاعتبار ، وهي دلالتها على ان مؤدّاها هو الواقع ، والجعل انما يتعلق بان ما قامت عليه قد اعتبره الشارع حكما واقعيا ، فاعتبار هذا الحكم الذي هو مؤدى الامارة متأخر عن العلم الاجمالي ، لا ان الحكم الذي قامت عليه الامارة هو حكم متأخر عن الحكم المعلوم بالاجمال ، وليس هذا كقيام البيّنة على ان هذا الاناء الخاص المعين حرام لاجل الرّبا بعد العلم بحرمته ولو بلا عنوان ، الذي هو القسم الرابع المشار اليه في ان قلت ، وانما لا تكون هذه الحرمة الحادثة حالّة للعلم الاجمالي لمحالية الانطباق بعد ان كان المفروض فيها كونها حكما حادثا غير الحكم المعلوم بالاجمال ، واما تأخر الاعتبار بعد ان كان مدلول الامارة ان مؤدّاها هو الواقع فلا يمنع عن احتمال الانطباق وهو واضح ، فالمضر هو حدوث الحكم كالعلم بحرمة الاناء المعيّن بحرمة حادثة غير الحرمة

٣٨٤

إن قلت : إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا ، وأما بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

المعلومة بالاجمال ، لا فيما اذا كان الجعل حادثا ولكن الحكم كان مما يصح ان ينطبق عليه المعلوم بالاجمال ، كما هو الحال في الامارة بالنسبة الى الاحكام المعلومة بالاجمال ، والى هذا اشار بقوله : «قلت انما يضر السبق» فيما «اذا كان المعلوم اللاحق حادثا» حكما لا جعلا «واما اذا لم يكن كذلك بل» كان الحكم المتأخر العلم به لتأخر الجعل فيه «مما» يصح ان «ينطبق عليه ما علم اولا فلا محالة» يكون من الموارد التي «قد انحل العلم الاجمالي» فيها «الى» العلم «التفصيلي» لاحتمال الانطباق «والشك البدوي».

(١) توضيحه : ان ملخص ما مرّ هو ان العلم التفصيلي بحكم يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه يوجب انحلال العلم الاجمالي ، وهذا انما يتمّ حيث يكون المتحصّل من لسان الجعل في الامارة هو جعل الحكم الطريقي ، فان مؤدّاها يكون حكما طريقيا ، ويصح على هذا ان يقال بالانحلال لاحتمال انطباق الحكم الواقعي على هذا الحكم الطريقي.

واما اذا قلنا بان المجعول في الامارة هو نفس حجيتها وكونها منجزة لو اصابت ومعذرة لو خالفت فلا يكون هناك حكم مجعول اصلا ، وعلى هذا فلا حكم معلوم تفصيلا حتى يحتمل الانطباق عليه ، فكيف يقال بالانحلال لاحتمال الانطباق مع انه ليس هناك في الامارات حكم حتى ينطبق عليه المعلوم بالاجمال ، فلا موضوع لاحتمال الانطباق لوضوح ان المعلوم بالاجمال هو الحكم ، والمعلوم بالتفصيل هو نفس الحجية في الامارات من دون ان يكون هناك حكم ، فاي شيء ينطبق عليه

٣٨٥

قلت : قضية الاعتبار شرعا ـ على اختلاف ألسنة أدلته ـ وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث ، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال ، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الاطراف ، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر (١) ، ولو لا ذلك لما كان يجدي

______________________________________________________

الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال؟ والى هذا اشار بقوله : «ان قلت انما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له» أي للتكاليف «بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك» وهو الانحلال للعلم الاجمالي بالعلم التفصيلي باحكام يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليها فيما «اذا كان قضية الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا» وهذا انما يكون بناء على ان المجعول في الامارات هو الحكم الطريقي على مؤداها ، «واما بناء على ان قضية» أي بناء على ان قضية الجعل في الطريق هو جعل محض «حجيته واعتباره شرعا» من دون ان يكون هناك حكم مجعول على طبقها اصلا بل «ليس» المجعول فيها «الّا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا» وهو القطع على الطريق الشرعي وهو الامارات بان يكون لها من الآثار ما للقطع من الآثار «وهو تنجز ما اصابة» الطريق «والعذر عما أخطأ عنه» الطريق ، وعلى هذا فلا حكم في مورد الطرق والامارات حتى يمكن ان ينطبق عليه المعلوم بالاجمال ، وحيث لا حكم في الامارات معلوم بالتفصيل «فلا انحلال لما علم بالاجمال اولا كما لا يخفى».

(١) حاصله : انه لا يختلف الحال في انحلال العلم الاجمالي لاحتمال الانطباق سواء قلنا بان المجعول في الامارة هو الحكم الطريقي ، او كان المجعول فيها هو نفس الحجية والطريقيّة وانها منجزة لو اصابت ومعذرة لو اخطأت كما هو المختار للمصنف ، وتقدم تحقيقه في مبحث جعل الامارة من مباحث الظن ، بل لو قلنا بان المجعول فيها

٣٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

هو نفس الطريقية فانه اولى بالانحلال لاحتمال الانطباق ، لان الامارة لو اصابت كان المنجّز بها نفس الحكم الواقعي من دون حاجة الى تكلف او تأويل اصلا ، بخلاف ما لو كان المجعول هو الحكم الطريقي فانه حيث كان هناك حكم ظاهري مجعول فعلا على طبقها فلا بد من التأويل ، بان يكون هذا الحكم الظاهري لبّا هو الحكم الواقعي ، واما على المختار فلا حكم ظاهري مجعول ، بل ليس هناك عند الاصابة الانفس الحكم الواقعي ، فاحتمال الانطباق على المختار اولى.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «قلت قضية الاعتبار شرعا على اختلاف السنة ادلته» كقوله عليه‌السلام في بعضها : (فعليك بهذا الجالس) (١) مشيرا الى زرارة ، وقوله عليه‌السلام في بعضها : (العمري وابنه ثقتان فما حدثا فعني يحدثان) (٢) «وان كان ذلك» وهو كون المجعول في الامارة هو نفس الطريقية وترتيب آثار القطع فيها وهو المنجزية والمعذرية «على ما قويناه في البحث» المتقدم «الّا ان» الحال لا يختلف فيما ذكرناه من الانحلال لان «نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الاطراف يكون عقلا بحكم الانحلال» فيما اذا كان المجعول هو الحكم الطريقي ، بل قد عرفت انه اولى بذلك.

ثم اشار الى معنى الانحلال «و» هو ان معنى الانحلال للمعلوم بالاجمال الى العلم التفصيلي والشك البدوي هو «صرف تنجزه الى ما إذا كان في ذلك الطرف» الذي قامت عليه الامارة ، فيكون تنجّز العلم الاجمالي منصرفا الى هذا الطرف الذي اصابه الطريق كما لو كان معلوما حقيقة تفصيلا «والعذر» في مخالفته «عما اذا كان المعلوم بالاجمال في سائر الاطراف» التي هي غير الطرف الذي قامت عليه الامارة ، ثم مثل لذلك توضيحا للامر بقوله : «مثلا اذا علم اجمالا بحرمة اناء زيد بين

__________________

(١) البحار ج ٢ : ص ٢٤٦. عن الكشي ، ص ١٣٦.

(٢) ورد في الكافي ج ١ ، ص ٣٣٠ (... فما ادّيا اليك عني فعني يؤدّيان).

٣٨٧

القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية ، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية (١).

______________________________________________________

الإناءين وقامت البينة على ان هذا» الاناء المعيّن هو «إناؤه» فالبينة القائمة بهذا النحو صرف تنجز العلم الاجمالي الى خصوص الاناء الذي قامت البينة على انه اناء زيد ويجري الاصل النافي في الاناء الثاني «فلا ينبغي الشك في انه» أي لا ينبغي الشك في ان الحال في صرف تنجز العلم الاجمالي الى الاناء الخاص بواسطة قيام البينة «كما» هو الحال في صرف تنجز العلم الاجمالي بالانحلال بالعلم الحقيقي ، وذلك «كما اذا علم انه» أي كما اذا علم حقيقة ان هذا الاناء الخاص هو «اناؤه في عدم لزوم الاجتناب الا عن خصوصه» أي لا يلزم الاجتناب الا عن خصوص اناء زيد «دون» الاناء «الآخر» فاتضح أن حال البينة فيما قامت عليه حال العلم الحقيقي في صرف تنجز العلم الاجمالي في خصوص الطرف الذي قامت عليه.

(١) حاصله : ما اشرنا اليه من ان الانحلال باحتمال الانطباق ـ بناء على المختار من كون المجعول في الامارة هو نفس الحجية والطريقية أي المنجزية والمعذرية ـ اولى من الانحلال باحتمال الانطباق فيما اذا قلنا بان المجعول في الامارة هو الحكم الطريقي ، بل يمكن ان نقول انه بناء على جعل الحكم الطريقي لا يصح الانحلال ولو مع التكلف له ، لان الحكم الطريقي المجعول بسبب الامارة ، اما ان يكون حكما مماثلا للحكم الواقعي ، ومع كونه حكما مماثلا له فهو حكم في قبال الحكم الواقعي ، ولا يعقل انطباق المماثل على المماثل. واما ان يكون المراد منه اعتبار كون هذا الحكم الطريقي هو الحكم الواقعي ، فالفرق بين الحكم الطريقي الذي ادّت اليه الامارة وبين الحكم الواقعي هو الفرق بين الوجود الواقعي للشيء والوجود الاعتباري ، ولا ريب في ان الوجود الاعتباري للشيء غير وجوده الحقيقي ، فلا يصح الانطباق ايضا.

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : انه بناء على الحكم الطريقي الذي كانت الامارة سببا لجعله على طبق ما قامت عليه هو حكم حادث غير الحكم الواقعي وقد جاء بسبب قيام الامارة عليه ، ولا يعقل انطباق حكم على حكم آخر لحدوثه ولازم حدوثه كونه غيره ، ولا يعقل انطباق الشيء على غير نفسه ، والى هذا اشار بقوله : «ولو لا ذلك» أي ولو لا القول بان المجعول هو نفس المنجزية والمعذرية لما صحّ الانحلال باحتمال الانطباق ، لانه عليه تكون الامارة منجزة لنفس الحكم الواقعي لو اصابت ومعذرة عنه لو أخطأت بخلافه بناء على ان المجعول هو الحكم الطريقي فانه لو كان هو المجعول «لما كان يجدي» في الانحلال ، لان معنى ذلك هو «القول بان قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات احكاما شرعية فعلية» في قبال الاحكام الواقعية واقعا «ضرورة انها تكون كذلك» أي احكاما شرعية فعلية غير الاحكام الواقعية هو ان هذه الاحكام قد جعلت «بسبب حادث وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية».

يمكن ان يقال : انه لا فرق في الانحلال بناء على جعل الحكم الطريقي المماثل ، واما ما ذكره من محاليّة الانطباق ... فجوابه ان القائل بالحكم الطريقي قائل بان الحكم الطريقي مجعول من اول الامر كالحكم الواقعي ، وحيث انه كان مماثلا للحكم الواقعي فلا مانع من انشائه من اول الامر ، لانه هو الذي تصل اليه الامارة ، وليس هو بمتأخر بل اعتباره متأخر ، والامارة كاشفة عنه ولسانها كذلك ، فان قوله عليه‌السلام : (ما حدثا عني فعني يحدثان) يدل على ذلك بوضوح ، وعلى هذا فالعلم الاجمالي باحكام واقعية يلازمه العلم الاجمالي بجعل احكام مماثلة لها ، وعلى هذا فالانطباق واضح.

وبعبارة اخرى : ان الحجّة على الحكم المماثل مجعول اعتبارها من اول الامر ، وانما الظفر بها متأخر ، لا ان الحكم الذي هو مؤداها يجعل بعد قيام الامارة عليه ، ولذا كان قاعدة قبح العقاب بلا بيان جريانها قبل الفحص من باب عدم العذر في حال عدم الفحص عما هو الحجة المجعول ، لا ان الجعل يكون بعد قيام الحجة ، وإلّا

٣٨٩

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال ، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

لكانت الحجة على الحكم قبل قيامها مقطوعة بعدم الحكم حينئذ ، لا ان الحكم موجود والتقصير في الفحص غير معذر.

(١) هذا هو الجواب الثاني عن العلم الاجمالي ، وحاصله : ان متعلق العلم الاجمالي ليس التكاليف بنحو الاطلاق بل المتعلق له هو التكاليف المنحصرة في موارد الطرق المثبتة للتكاليف.

وبعبارة اخرى : انه كما انه لنا علم بتكاليف واقعية لنا علم آخر بان تلك التكاليف ثابتة في موارد الطرق المثبتة للتكاليف ، ولازم هذين العلمين هو كون العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية منحصرا في الطرق ، فالعلم الاجمالي في المقام هو العلم الاجمالي المنحصر في موارد الطرق.

ولازم هذا العلم الاجمالي المقيد بانحصاره في موارد الطرق هو كون التكاليف الثابتة بالطرق هي بمقدار المعلوم بالاجمال ، واذا كان الامر كذلك فانحلال العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي الذي تثبته الطرق والشك البدوي في غير موارد الطرق من الواضحات ، لوضوح انه اذا كان منحصرا كذلك فلا بد من انحصار اطرافه بها ايضا ، واذا كانت اطرافه منحصرة بالطرق فخروج غير موارد الطرق عن اطرافه بديهي ، والدليل على هذا الانحلال هو انه لو عزلنا الطرق المعتبرة لا يبقى لنا علم اجمالي بثبوت تكاليف واقعية مقطوعة الثبوت بنحو الاجمال في غيرها ، بخلاف ما لو عزلنا من الطرق غير المعتبرة بمقدار المعلوم بالاجمال لا ينحل علمنا الاجمالي بالتكاليف الواقعية ، وبالوجدان يبقى لنا علم اجمالي بتكاليف واقعيّة ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «هذا اذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعيّة في» خصوص «موارد الطرق المثبتة» للتكاليف «بمقدار المعلوم بالاجمال وإلّا» أي وان قلنا بان

٣٩٠

وربما استدل بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الافعال غير الضرورية قبل الشرع ، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله ، لا به ولا بالاباحة ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ، فإن ما دل على الاباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقف أو الاحتياط (١).

______________________________________________________

العلم الاجمالي هو على هذا النحو من اول الامر «فالانحلال الى العلم» التفصيلي بالتكاليف «بما في» تلك «الموارد» والشك البدوي في غيرها واضح «و» قد ظهر ايضا «انحصار اطرافه» أي اطراف هذا العلم الاجمالي «بموارد تلك الطرق» وهو واضح ايضا «بلا اشكال».

(١) هذا هو الدليل العقلي الثاني للاخباريين القائلين بالاحتياط أو التوقف في الشبهة التحريمية ، وهو عبارة من مقدمتين :

الاولى : ان الاصل في عامة الافعال غير الضرورية الفعل للناس هو الحظر والمنع ، أو لا اقل من التوقف فيها حتى بإذن فيها المالك الحقيقي كشرب التتن فانه غير ضروري للناس ، بخلاف اصل اكل ما يقوم به أود الحياة والشرب لما تتوقف عليه الحياة ايضا فان العقل لا يرى ان الاصل فيها هو الحظر والمنع او التوقف.

وتوضيح هذه القاعدة ببيان امرين :

الاول : ان الموضوع فيها هو الافعال قبل ورود تكليف شرعي بها.

الثاني : هو ان من شأن العبد بالنسبة الى مولاه هو ان يكون صدوره ووروده منوطا بما يتلقاه عنه ويكون عن اذنه ، فتصرف العبد في افعاله بما يشاء من دون صدور الاذن من مولاه خروج عن زي الرقية ورسم العبوديّة ، وكل ما كان خروجا عن زي الرقية ورسم العبودية كان ظلما من العبد لمولاه ، فهو قبيح ومذموم عليه ، فاذا ثبت الذم عليه ، فان قلنا بان كل ذم عند العقل يستلزم استحقاق العقاب كان لازم الارتكاب هو استحقاق العقاب ، وان قلنا بانه لا يستلزم كل ذم عنده استحقاق

٣٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

العقاب عليه عند العقل فلا اقل من احتمال العقاب ، وسيأتي انه لازم الاول لزوم الاحتياط ، ولازم الثاني التوقف.

فاذا تمّ هذا الاصل للافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع يتمّ المطلوب بالمقدمة الثانية ، وهي ان ما ورد من الشارع في الشبهة التحريمية مما يدل على الاباحة معارض بما ورد منه مما يدل على الاحتياط فيتعارضان ويتساقطان فيبقى الاصل العقلي الاولى المذكور بما لا مانع يمنع عنه شرعا ، ولازم الاصل المذكور هو اما المنع ولزوم الاحتياط فيه ، فيما اذا قلنا بملازمة الذم لاستحقاق العقاب ، لبداهة انه لازم حكم العقل باستحقاق العقاب على فعل هو لزوم الترك له ووجوب الاحتياط فيه عقلا ، وان قلنا بعدم الملازمة فلا اقل من احتمال العقاب ، ولا بد من التوقف فيه لانه مظنة للعقاب ولا يؤمن فيه.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وربما استدل» على الاحتياط او التوقف عقلا في الشبهة التحريمية «بما قيل من استقلال العقل بالحظر» أي المنع «في الافعال غير الضرورة» كشرب التتن مثلا «قبل الشرع» أي ان العقل مستقل بالمنع عن الارتكاب في الافعال غير الضرورة بما هي فعل للشخص ، لا بما هي محتملة للتكليف ، فموضوع هذا الاصل هي الافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع ، وقد عرفت الوجه في حكم العقل بالمنع والحظر فيها ، وان ذلك مبنيّ على القول باستحقاق العقاب على كل ما فيه الذم ، وانه ان لم نقل بلزوم المنع فلا محالة من كونه محتملا فلا بد من التوقف ، واليه اشار بقوله : «ولا اقل من الوقف» في الفعل المحتمل حرمته «و» ذلك لاجل «عدم استقلاله» أي العقل «لا به» أي بالمنع فيه «ولا بالاباحة» وبهذا كله اشار الى المقدمة الاولى ، ثم اشار الى المقدمة الثانية بقوله : «ولم يثبت شرعا اباحة ما اشتبه حرمته» لاجل المعارضة «فان ما دلّ على الاباحة» شرعا «معارض بما دل» شرعا «على وجوب التوقف او الاحتياط» فيتساقطان ويكون المرجع هو الاصل الاولي في مشتبه الحرمة.

٣٩٢

وفيه أولا : إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال ، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الافعال على الاباحة (١).

______________________________________________________

(١) توضيح هذا الايراد الاول : انه لا نسلّم كون الاصل عند العقل في هذه الافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع هو المنع والحظر وانه من الامور المسلّمة ، بل هو محل الخلاف والاشكال ، وهناك من يقول بان الاصل في هذه الافعال هو الاباحة عقلا دون المنع والحظر ، واذا كان الحكم العقلي في هذا الاصل هو من موارد الخلاف فلا يصح الاستدلال به ، لان الاستدلال على القائلين بالاباحة في المشتبه لا بد وان يكون بما هو المسلّم لا بما هو محل الخلاف ، ولو صحّ الاستدلال بما هو محل الخلاف لصحّ الاستدلال من القائلين بالاباحة في المشتبه بالاباحة عقلا في الافعال قبل ورود حكم الشرع فيها ، لوجود القائل بالاباحة فيه لو لم يكن القول به هو الاقوى كما سنشير اليه ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وفيه اولا انه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال» وانما يصح بما هو المسلّم «وإلّا» أي ولو صحّ الاستدلال بما هو محل الخلاف «لصحّ الاستدلال» من القائلين بالبراءة «على البراءة بما قيل من كون» حكم العقل «في تلك الافعال» غير الضرورية هو «على الاباحة» دون الحظر.

ومزيدا للتوضيح في هذه المسألة نقول : ان العقل مستقل بالاباحة دون المنع في الافعال قبل ورود الحكم من الشرع ، وما يقال من ان شأن العبد ان يكون صدوره ووروده منوطا بما يتلقاه من مولاه انما هو في الموالي والعبيد العاديين دون العبيد بالنسبة الى مولى الموالى ، لان المناط في الشأنية المدعاة لا وجه لها ، الا دعوى كون التصرّف من العبد بدون اذن مولاه خروجا منه عن زي الرقية ورسم العبوديّة ، وهذا انما يمكن ان يدعى فيما احتمل ان يكون في الفعل غرض للمولى ، فيكون التصرف فيما احتمل غرض للمولى فيه من دون حكمه فيه من احتمال التصرّف في غرضه

٣٩٣

وثانيا : إنه تثبت الاباحة شرعا ، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط ، للمعارضة لما دلّ عليها (١).

وثالثا : أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة ، للقول بالاحتياط في هذه المسألة ، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (٢) ، وما قيل من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام

______________________________________________________

بدون اذنه ، اما مولى الموالى فمن الواضح انه عين الغنى وعدم الحاجة ، فلا يعقل ان يكون له غرض عائد الى ذاته جلّ وعلا عن ذلك في افعال العباد ، فلا يكون التصرّف من العبد من احتمال التصرف في غرض المولى ، وانما اوامره ونواهيه تابعة لمصالح اما نوعية او شخصية عائدة الى عباده دون ذاته تعالى شانه ، ولما كان من اللطف ايصال العباد الى ما فيه مصالحهم ، فلا بد ان يكون عدم وصول ذلك اليهم لمانع يمنع عن فعلية هذا الاقتضاء من اللطف ، فالعقل يحكم بان الافعال قبل ورود الحكم فيها من الشارع لا تأثير للمصالح ولا المفاسد فيها على نحو اللزوم ، فالافعال مباحة حقيقة عقلا لعدم تأثير ما فيه الاقتضاء للحكم فيها ، ومع كونها كذلك عند العقل فلا يكون التصرّف من العبد خروجا عن زي الرقية ولا رسم العبوديّة.

(١) حاصل هذا الجواب الثاني : هو منع المقدمة الثانية وان دليل الاباحة الشرعية غير ساقط بالمعارضة بأدلة الاحتياط ، لما عرفت من عدم تمامية دلالتها على لزوم الاحتياط ولا على لزوم التوقف ، فلو فرضنا ان الاصل العقلي الاولى هو ما ذكر من لزوم الاحتياط او التوقف قبل ورود الحكم من الشارع ، ولكن بعد ورود الاذن والترخيص من الشارع يسقط تأثير هذا الاصل من أصله ، وعبارة المتن واضحة ، والضمير في قوله : «لما دل عليها» راجع الى الاباحة شرعا.

(٢) حاصل هذا الجواب الثالث هو : انه لا وجه للاستدلال على لزوم الاحتياط أو التوقف في المقام بلزوم الاحتياط او التوقف في مسألة الحظر فانهما مسألتان في موضوعين مختلفين ، فان الموضوع في مسألة الحظر هو الافعال بفرض عدم ورود

٣٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التكليف فيها من الشارع ، ففرض عدم التكليف مأخوذ في موضوع مسألة الحظر ، والموضوع في مسألتنا هذه هو فعل المكلف بما هو محتمل التكليف ، فاحتمال التكليف ماخوذ في موضوع هذه ، فلو قلنا بان الاصل في الفعل المفروض فيه عدم التكليف هو الحظر فلا ملازمة بينه وبين القول بالاحتياط في الفعل المفروض فيه احتمال التكليف ، ولذا يمكن ان نقول بالحظر في تلك المسألة وبالبراءة في هذه المسألة.

وبعبارة اخرى : انه لا مانع من ان نقول بحكم العقل بالحظر على العبد في الفعل الذي لم يصدر فيه حكم من مولاه ، وبالبراءة في الفعل الذي احتمل صدور حكم الحرمة فيه من المولى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والوجه في ذلك ان مناط الحظر في تلك المسألة هو ان العبد لا ينبغي ان يصدر ويرد في فعل الّا بما يتلقاه من حكم مولاه في ذلك الفعل ، ومناط البراءة في هذه المسألة هو ان المصلحة او المفسدة الملزمة الصادر على طبقها تكليف يقبح العقاب على ذلك التكليف ما لم يصل ، وعلى هذا فلا مانع من القول بالحظر في تلك المسألة وبالبراءة في هذه المسألة.

هذا مضافا الى اختلاف الاثر في المسألتين ، فان الاثر في المسألة الاولى هو استحقاق العقاب على الاقدام على الفعل الذي لم يصدر فيه حكم من الشارع غير منوط بالمصادفة وعدم المصادفة ، لوضوح انه مع كون الموضوع فيه هو الفعل بفرض عدم التكليف فلا معنى لان يناط العقاب بالمصادفة وعدمها ، حيث لا تكليف حتى تكون له مصادفة او لا مصادفة ، بل استحقاق العقاب فيه على نفس الاقدام ، فهو موجود على كلّ حال ، بخلاف الاثر في هذه المسألة فان الاحتياط ـ بناء عليه ـ يكون العقاب فيه منوطا بمصادفة الواقع وعدمه.

وقد اشار الى ما ذكرناه من اختلاف الموضوع في المسألتين بقوله : «وثالثا انه لا يستلزم القول بالوقف» او الاحتياط «في تلك المسألة» أي مسألة الحظر «للقول بالاحتياط» او الوقف «في هذه المسألة» أي مسالة الشبهة لاحتمال التكليف وهي

٣٩٥

على ما يعلم فيه المفسدة ممنوع (١) ، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا ، ضرورة أن المصالح

______________________________________________________

الشبهة التحريمية او الوجوبية ، والوجه في عدم الاستلزام وانه لا ملازمة بين المسألتين هو اختلاف الموضوع فيهما ، فيمكن ان يقال في تلك المسألة بالحظر وبالبراءة في هذه المسألة ، واليه اشار بقوله : «لاحتمال ان يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان» كما مرّ بيانه.

(١) لا يخفى انه قد مرّ الاستدلال بهذه القاعدة المدعاة من استقلال العقل بقبح الاقدام على نفس ما لا يؤمن مفسدته في الشبهة البدوية المحتملة للتكليف ، وقد مرّ فيها ان المفسدة المحتملة التي يدعى قبح الاقدام عليها هي مرددة بين العقوبة الاخروية على التكليف المحتمل وبين المفسدة الدنيوية.

واما الاستدلال بها على مسألة الحظر فلا بد من ان يكون المراد بالمفسدة فيها هي المفسدة الدنيوية دون العقاب الاخروي على التكليف المحتمل ، لما عرفت من ان المفروض في موضوع مسألة الحظر هو عدم التكليف ، ومع فرض عدمه لا معنى لاحتمال العقوبة عليه ، وقد عرفت مما مرّ في مسألة الشبهة البدوية انه اذا اريد من المفسدة هي المفسدة الدنيوية فانها ممنوعة صغرى وكبرى.

اما الكبرى : فلمنع دعوى استقلال العقل بقبح الاقدام من العقلاء على ما لا يؤمن مفسدته لاقدامهم عملا بما هم عقلاء على مقطوع المفسدة فضلا عن محتملها فيما اذا تعلق لهم غرض اهم من المفسدة.

واما صغرى فلان مفاسد التكليف نوعية غالبا ، والمفسدة التي يصح الاقدام عليها ـ لو سلّم ـ هي المفسدة الشخصيّة ، واحتمال كونها شخصية بعد ان كانت جلّ المصالح والمفاسد نوعية ضعيف احتماله جدا ، ولا اعتناء للعقلاء بالاحتمالات الضعيفة في مقام عملهم وهي عندهم بحكم العدم ، فلا احتمال للمفسدة معتنى به

٣٩٦

والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر ، والمفسدة فيما فيه المنفعة ، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا ، مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا ، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به فضلا عن احتماله (١).

______________________________________________________

حتى يكون الاقدام عليه من مصاديق هذه القاعدة ، ولذا اشار (قدس‌سره) الى منع هذه القاعدة بقوله : «ممنوع».

(١) لا يخفى انه اذا اريد الاستدلال بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل في مسألة الحظر لا بد وان يراد ايضا من احتمال الضرر هو المفسدة الدنيوية ، بخلاف الاستدلال بها في الشبهة البدوية المحتملة للتكليف ، فانه قد مرّ ان احتمال الضرر مردد فيها بين الضرر الاخروي والضرر الدنيوي كما تقدّم بيانه ، لما عرفت من عدم معقولية ان يراد منها المضرة الاخروية وهي العقاب على احتمال التكليف لفرض عدم التكليف هنا ، وقد عرفت ايضا ان احتمال المفسدة الدنيوية ضعيف غير معتنى به ، وما كان غير معتنى به عندهم لا يعقل ان يحكموا بوجوب دفعه ، واليه اشار بقوله : «فان المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا» ، لان المراد من الضرر هو الضرر الشخصي ، ومن المعلوم «ضرورة ان المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة الى المنافع والمضار» الشخصية «بل ربما يكون المصلحة فيها الضرر» الشخصي كمصلحة الزكاة «والمفسدة» النوعية «فيما فيه المنفعة» الشخصية كالربا «واحتمال ان يكون في المشتبه ضرر» شخصي «ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا» وما لا يعتنى به لا يجب دفعه.

ولا يخفى ان هذا راجع الى منع الصغرى وهي ان الشبهة ليست من مصاديق قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم اشار الى منع الكبرى ايضا وانه لا استقلال للعقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، لعمل العقلاء بما هم عقلاء على ارتكاب الضرر المعلوم فضلا عن المحتمل اذا كان لهم غرض في ارتكابه اهم عندهم من الضرر بقوله : «مع ان الضرر ليس دائما مما يجب التحرّز عنه عقلا ... الى آخر العبارة».

٣٩٨

الفهرس

٣٩٩
٤٠٠