بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد عرفت كيفية الاستدلال بها.

واشار الى الجواب عنها بقوله : «ان القول بالاباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم» وبهذا اشار الى الجواب الرابع عنها كما مر ، وحاصله ما اشار اليه بقوله : «لما دل على الاباحة من النقل وعلى البراءة» والأمن من العقوبة «من حكم العقل» فلا يكون القول بالاباحة وبالبراءة من استحقاق العقاب من القول بغير علم بعد قيام الدليل النقلي والعقلي عليهما.

واشار الى الجواب عن آيات التهلكة بقوله : «ومعهما» أي ومع دلالة النقل وحكم العقل على الاباحة والأمن من العقوبة يكون محتمل الحرمة من المقطوع بعدم التهلكة فيه لا من محتمل التهلكة ، وهذا هو الجواب الاول المتقدم عنها ، الذي كان المبنى فيه على ان المراد من التهلكة هي العقوبة ، واشار الى الجواب عن الآيات الآمرة بالتقوى بقوله : «ولا فيه مخالفة التقوى» أي ومع دلالة النقل وحكم العقل على الاباحة وبالأمن من العقوبة في محتمل الحرمة لا يكون التورع عن ارتكابهما من مخالفة التقوى المأمور بها في هذه الآيات ، لان استدلالهم بها على ذلك لازمه كون المراد من الامر بالتقوى هو الامر بالتورع عن محتمل العقاب ، لاختصاصه على هذا بمحتمل الحرمة او الوجوب ، والجواب عنه ما اشار اليه من انه بعد دلالة النقل والعقل لا يكون من محتمل العقاب.

اما لو كان المراد بمخالفة التقوى مخالفة مطلق التكاليف المحتملة من الحرمة والوجوب والاستحباب والكراهة فالامر فيها استحبابي قطعا ، ومع كون الامر فيها استحبابيا لا دلالة فيه على لزوم الاحتياط او لزوم التوقف ، اذ لا يعقل ان يكون الامر بالتورع عن محتمل الكراهة او الاستحباب امرا لزوميا كما لا يخفى.

٣٦١

وأما الاخبار : فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، معللا في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة ، من الاخبار الكثيرة الدالة عليه مطابقة أو التزاما (١) ، وبما دل على وجوب الاحتياط

______________________________________________________

(١) قد عرفت انهم استدلوا بالكتاب ، وقد مرت الاشارة الى استدلالهم به وجوابه ، وبالسنة وهي الاخبار التي اشار اليها ، وهي على طوائف وبألسنة مختلفة يجمعهما الامر بالتوقف عند الشبهة اما بالمطابقة او الالتزام ، والامر بوجوب الاحتياط في الشبهات.

فما دل على وجوب التوقف عند الشبهة مطابقة الاخبار التي ورد التعليل فيها ، بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة.

منها ذيل مقبولة عمر بن حنظلة المسئول فيها عن المختلفين في حكمهم في مقام فصل الخصومة ، فاجاب الامام عليه‌السلام : بلزوم الاخذ بارجحهما ، وذكر المرجحات ، ثم سأل السائل عن الحكم فيما اذا تساويا من كل جهة ، فقال له عليه‌السلام : (اذا كان كذلك فارجه حتى تلقى امامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير عن الاقتحام في الهلكات) (١).

ومنها رواية زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام : (حق الله على العباد ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون) (٢).

ومنها موثقة سعد بن زياد عن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : (لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة) ـ الى ان قال ـ (فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) (٣).

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٨.

(٢) الكافي ، ج ١ ، ص ٤٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١١٦.

٣٦٢

من الاخبار الواردة بألسنة مختلفة (١).

______________________________________________________

هذه بعض من الاخبار الدالة على التوقف بالمطابقة ، وفيها ما ورد فيه التعليل بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة.

واما ما دلّ على التوقف التزاما فالاخبار الدالة على وجوب الردّ اليهم عليهم‌السلام وبالكف والتثبت من دون ذكر فيها للامر بالتوقف فانها مما تدلّ بالالتزام على لزوم التوقف ، كموثقة حمزة بن الطيار (انه عرض على ابي عبد الله بعض خطب ابيه عليه‌السلام حتى اذا بلغ موضعا منها قال له عليه‌السلام كف واسكت ، ثم قال ابو عبد الله عليه‌السلام انه لا يسعكم فيما نزل بكم مما لا تعلمون الّا الكف عنه والتثبت والرد الى أئمة الهدى عليهم‌السلام حتى يحملوكم فيه الى القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) ومثلها اخبار أخر ، فان الاخبار الدالة بالمطابقة على وجوب الكفّ والتثبّت والردّ اليهم عليهم‌السلام تدلّ بالالتزام على لزوم التوقف. والى ما ذكر من الاخبار اشار بقوله : «الدالة عليه» أي على التوقف «مطابقة او التزاما».

(١) الاخبار الدالة على الاحتياط وردت بألسنة مختلفة ايضا ، بعضها دال على الاحتياط مطابقة ، ومنها الصحيح الوارد عن ابي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : (قال امير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد : اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت) (٢).

ومنها ما عن خط الشهيد (قدس‌سره) عن ابي عبد الله عليه‌السلام يقول في آخر الحديث : (... وخذ الاحتياط في جميع امورك) (٣).

ومنها المرسل عن الشهيد ايضا وهو قوله عليه‌السلام (لك ان تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك) (٤) فهذه الاخبار وامثالها تدل على الاحتياط لزوما بالمطابقة لدلالة

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٥٠.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٢٣.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، ص ١٢٧.

(٤) عوالي اللآلي ، ج ١ ، ص ٣٩٥.

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

هيئة الامر منها على الوجوب والمادة على الاحتياط.

وبعضها دال على الاحتياط التزاما ، فمنها اخبار التثليث الذي ورد التثليث في بعضها تعليلا لطرح الشاذ النادر لانه مما فيه الريب ، قال الامام عليه‌السلام فيها : (انما الامور ثلاثة : امر بين رشده فيتبع ، وامر بيّن غيّه فيجتنب ، وامر مشكل يردّ حكمه الى الله ورسوله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم) (١) فانها وان لم يرد فيها لفظ الامر بالاحتياط إلّا انها لما وردت معلّلة للامر بطرح الشاذ النادر تكون دالة بالالتزام على الاحتياط ، لوضوح ان الامر بالطرح معناه العمل في مورد الشبهة بما هو مقتضى الاحتياط فيها ، فلسانها ليس لسان التوقف وعدم العمل بل مؤدّاها العمل بالاحتياط ، ولذلك تكون دالة بالالتزام على الاحتياط ، واما على لزومه فلأن أمره عليه‌السلام بطرح الشاذ النادر ظاهره لزوم الطّرح ، والى ما ذكرنا من دلالة الاخبار على الاحتياط مطابقة أو التزاما اشار بقوله : «الواردة بألسنة مختلفة» وطريق الاستدلال بها :

اما باخبار التوقف فلدلالتها على الهلكة في الشبهة فتكون رافعة لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لانها هي البيان له ، واما على اخبار الاباحة أو الرفع لما لا يعلمون فلانها بعد دلالتها على الهلكة في مورد الشبهة تكون علما بالهلكة فيرتفع بها ايضا موضوع الاباحة المجعولة فيما لا يعلم والرفع المجعول لما لا يعلم.

واما اخبار الاحتياط فهي اما ان يكون الوجوب فيها نفسيا او طريقيا ، وعلى كلا الامرين فالامر بوجوب الاحتياط في مورد الشبهة يكون معلوما ومبيّنا ، فيكون رافعا لقاعدة القبح بلا بيان ، لكونه بيانا ورافعا لما لا يعلم لانه من العلم.

__________________

(١) الكافي ، ج ١ ، ص ٦٨.

٣٦٤

والجواب : إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية ، مع دلالة النقل وحكم العقل بالبراءة كما عرفت (١).

______________________________________________________

(١) اشار اولا الى الجواب عن اخبار التوقف ، وحاصله : انها لا بد وان لا يكون المراد بها ما يشمل الشبهة البدوية ، ويكون المراد مورد الشبهة الذي كان العقاب فيها منجزا كمورد الشبهة في ارتكاب احد اطراف العلم الاجمالي ، فيما اذا كان المراد من الهلكة فيها هو العقاب ، والوجه في ذلك انها لما كانت الهلكة فيها مفروضة ومعنى فرضها هو كونها منجزة ولا منجز لها في الشبهة البدوية ، لعدم معقولية ان تكون هذه الاخبار هي المنجزة لها ، لفرض كون الهلكة فيها مفروضة ، ولازم فرضها هو كون المنجز لها غير هذه الاخبار ، لوضوح ان ما دل على لزوم التوقف في العقاب المفروض تنجزه لا يعقل ان يكون نفس ما دل على فرض تحققه هو المحقق له ، لان لازم كون التوقف المفروض تحقق الهلكة فيه هو تقدم فرض تحققه عليه ، ولازم كونه هو المحقق له هو تأخر تحققه عنه.

واما تحققه بغير هذه الاخبار فلانه ليس هناك غيرها إلّا اخبار الاحتياط ، وسيأتي الكلام فيها ، مضافا الى انها لو كانت غير هذه الاخبار لما كانت هذه الاخبار هي الدليل على ان الحكم في المشتبه هو لزوم التوقف ، وكان الدليل عليه هي اخبار الاحتياط او غيرها من الادلة لو كانت ، هذا أولا.

وثانيا : انه بعد ان كان الموضوع فيها هو المهلكة ، فادلة البراءة والاباحة تكون رافعة لموضوع هذه الاخبار ، لوضوح ان الحكم في هذه الاخبار الذي هو التوقف لا يثبت موضوع نفسه وهو الهلكة ، والأدلة الدالة على انه لا هلكة في مورد الشبهة البدوية من العقل ومن النقل تكون رافعة للموضوع فيها ، وانما تكون هذه الاخبار رافعة لموضوع ما دل على البراءة عقلا وعلى الاباحة شرعا حيث تكون الهلكة فيها التي هي الموضوع فيها مدلولا عليها بغير هذه الاخبار والمفروض عدم ذلك ، والى هذا اشار بقوله : «انه لا مهلكة في الشبهة البدوية مع دلالة النقل» على الاباحة

٣٦٥

وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم (١) ، وإن كان واردا على حكم العقل ، فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول (٢).

______________________________________________________

«وحكم العقل بالبراءة» لارتفاع الهلكة المفروضة كونها موضوعا لاخبار الوقف بواسطة ما دل على عدم الهلكة من النقل والعقل في الشبهة البدوية ، وقد تقدم الكلام في هذا مفصلا ، ولذا قال (قدس‌سره) : «كما عرفت».

(١) لما اجاب عن اخبار التوقف تعرض للجواب عن اخبار الاحتياط.

وتوضيحه : ان اخبار الاحتياط حيث لم يفرض فيها الهلكة ، فيمكن ان يكون الامر فيها نفسيا وطريقيا وارشاديا ، ولكنه لا يخفى انه لو كان ارشاديا لما نفع المستدل به على لزوم الاحتياط ، لان كونه ارشاديا لازمه ان يرشد الى ما هو المنجز من اللزوم ، ولا معنى لكونه ارشاديا الزاميا الى غير ما هو منجز اللزوم ، والمفروض دلالة نفس الاحتياط على اللزوم ، واليه يشير بقوله : «لو سلم» أي لو سلم دلالته على وجوب الاحتياط ، وذلك فيما لم يكن ارشاديا ، فان معنى كونه ارشاديا هو كونه ارشاديا الى ما هو الواجب لا أنه هو الواجب ، وسيأتي في ذيل العبارة بيان ما يشهد بارشاديته.

(٢) لا يخفى انه بناء على تسليم دلالته على الوجوب فالمتعين كون وجوبه وجوبا طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، لان كون وجوبه نفسيا وان كان ممكنا إلّا انه سيأتي ما ينفي وجوبه النفسي ، واذا كان دالا على الوجوب الطريقي بداعي تنجيز الواقع المجهول يكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لان موضوعه اللابيان بنحو من الانحاء للمجهول ، ومع كون الاحتياط طريقا الى تنجيزه يحصل البيان له بجعل الاحتياط منجزا له ، لصحة العقاب عليه بعد جعل الاحتياط طريقا الى تنجيزه لو صادف كون مخالفة الاحتياط مخالفة للواقع لصحة الاحتجاج به على مخالفته ، واذا كان هناك بيان للتكليف المجهول يرتفع موضوع دليل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وهذا هو معنى ورود أدلة الاحتياط على حكم العقل بالبراءة في التكليف

٣٦٦

ولا يصغى إلى ما قيل من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح ، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع (١) ، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا ،

______________________________________________________

المجهول ، واما بالنسبة الى الدليل النقلي على البراءة وعلى الاباحة في مورد التكليف المجهول فسيأتي انهما من المتعارضين ، واليه اشار بقوله : «وان كان واردا على حكم العقل» لان موضوعه اللابيان ، والاحتياط المنجز للواقع بيان له ، وليس الورود إلّا ارتفاع الموضوع حقيقة بواسطة الدليل الوارد ، وبهذا يفترق عن التخصيص ، فان عدم الموضوع وخروج الخارج حقيقة بذاته وبطبعه لا بواسطة الدليل كخروج الجاهل عن موضوع اكرم العالم ، فانه خارج بذاته لا بواسطة الدليل ، بخلاف ارتفاع اللابيان فانه وان كان ارتفاعا حقيقة لكنه بواسطة الدليل الذي هو البيان له ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فانه كفى بيانا على العقوبة» أي ان دليل الاحتياط يكفي ان يكون بيانا يستحق المكلف العقاب بواسطته «على مخالفة التكليف المجهول» فيكون واردا عليه لارتفاع موضوعه بواسطته حقيقة.

(١) القائل هو الشيخ الانصاري (قدس‌سره) في رسائله ، وحاصل ما قال : ان دليل الاحتياط لا يعقل ان يدل على الوجوب ، وما لم يدل على الوجوب لا ينفع الخصم الاستدلال به ، والوجوب المستفاد منه اما ان يكون وجوبا مقدميا للتحرز عن عقاب التكليف المجهول وهو غير معقول ، لان فرض كونه تحرزا عن العقاب على التكليف المجهول لازمه فرض تحقق العقاب على التكليف المجهول من دون ملاحظة دليل الاحتياط ، وقد عرفت ان العقاب على التكليف المجهول قبيح مع فرض عدم ملاحظة دليل الاحتياط ، ولازم القبيح قبيح ، فكون وجوب الاحتياط وجوبا مقدمة للتحرز عن العقاب على التكليف المجهول قبيح ايضا ، واليه اشار بقوله : «من ان ايجاب الاحتياط كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح» لان العقاب على التكليف المجهول قبيح ، فكونه وجوبا للتحرز عما هو القبيح قبيح ايضا.

٣٦٧

وهو عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ، كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات والاصول العملية (١).

______________________________________________________

وان كان الاحتياط وجوبا نفسيا فهو خلف الفرض في المقام ، لان المفروض كون عقاب الاحتياط عقابا على مخالفة الواقع عند المصادفة ، ومن الواضح ان لازم مخالفة الوجوب النفسي كون العقاب على مخالفته لا على مخالفة غيره ، وهو التكليف الواقعي المجهول في المقام ، مع ان فرض كون وجوبه نفسيا الالتزام بالعقاب عليه على كل حال سواء أصادف الواقع ام لا ، ولازم ذلك أن يلتزم القائل بالوجوب النفسي في الاحتياط بعقابين لو خالف المكلف فلم يحتط وصادفت مخالفته مخالفة المجهول ايضا ، مع انه خلاف ظاهر مادة الاحتياط ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وان كان نفسيا فالعقاب على مخالفته» أي على مخالفة نفس وجوب الاحتياط النفسي «لا على مخالفة الواقع».

(١) هذا هو السبب في عدم الاصغاء لهذا القول ، وحاصله : ان الوجوب في الاحتياط لا ينحصر في ما ذكر من كونه اما وجوبه مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول ، او انه وجوب نفسي ، بل يمكن ان يكون وجوبه وجوبا طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، ولا يرد عليه ما ذكره ، لصحة تنجز الواقع بواسطة الاحتياط ، ولا يستلزم فرض التنجز مع عدم ملاحظة دليل الاحتياط ، ولا يستلزم العقاب على نفس مخالفته بل يكون العقاب في الايجاب الطريقي على مخالفة الواقع دون الطريق.

وعلى كل ، فالاحتياط من الطرق لتنجيز الواقع كالأمارات ، واذا كان من الطرق المنجزة للواقع كان بحكم العقل مما يستحق العبد العقاب على مخالفته لو صادف الواقع ، وان لم يصادف الواقع فهو من التجري ، ففي مورد الشبهة الحكمية يصح من المولى مؤاخذة العبد على مخالفة الشبهة بعد جعل الاحتياط له ، والى هذا اشار بقوله : «وذلك لما عرفت» من ان السبب في عدم الاصغاء الى ما قيل هو ما عرفت «من» عدم الانحصار بما ذكر لوضوح «ان ايجابه» أي ايجاب الاحتياط بناء على

٣٦٨

إلا أنها تعارض بما هو أخص وأظهر ، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه أخص ، بل هو في الدلالة على الحلية نص ، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط (١) ، مع أن هناك قرائن دالة

______________________________________________________

تسليمه «يكون» ايجابا «طريقيا وهو» أي الايجاب الطريقي «عقلا مما يصح ان يحتج به» المولى «على» العبد في مقام «المؤاخذة» له «في مخالفة الشبهة» الحكمية لتنجز الواقع به ، والحال فيه «كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات» في كونها منجزة للواقع ويصح المؤاخذة بعد جعلها على مخالفة الواقع «و» كما هو الحال في «الاصول العلمية» كالاستصحاب المثبت للتكليف بناء على عدم جعل الحكم على طبق مؤدى الاستصحاب ، فان حاله في تنجيز الواقع به وكون العقاب فيه منوطا بمخالفة الواقع حال الامارات من غير فرق ، وانما يختلف الحال بينه وبين الطرق من هاتين الناحيتين بناء على جعل الحكم على طبقه.

(١) لا يخفى ان قوله : «إلّا انها تعارض» هو من متعلقات قوله في صدر عبارته : «وان كان واردا» وتقديره «ان ما دل على وجوب الاحتياط لو سلم» دلالته عليه «وان كان واردا على حكم العقل» بالبراءة من العقاب «إلّا انها» أي ادلة الاحتياط «تعارض بما هو اخص منها واظهر» وهو ما دل على حلية المشتبه.

وتوضيحه يتوقف على بيان امرين : الاول : بيان معارضتها وانه ليس احدهما واردا على الآخر ورافعا لموضوعه : أي ان ادلة الاحتياط وادلة البراءة النقلية من المتنافيين في الحكم في موضوع واحد هو الموضوع لكل واحد منهما ، ويدل كل واحد منهما على حكم له ينافي ما دل عليه الآخر ، وهذا هو ميزان التعارض التام بين الدليلين.

والثاني : بيان الوجه في تقديم ادلة البراءة النقلية على ما دل على وجوب الاحتياط.

٣٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح الاول : ان الموضوع لادلة الاحتياط هو التكليف المجهول ، كما انه هو الموضوع لدليل الرفع ، ودليل الاحتياط يثبت فعلية هذا التكليف المجهول ، ودليل الرفع ينفي فعليته ، لان المستفاد من دليل الاحتياط ـ بناء على الطريقية فيه ـ هو فعلية التكليف المجهول وتنجيزه به ، والمستفاد من دليل الرفع هو رفع فعلية التكليف غير المعلوم ، فهما متعارضان.

لا يقال : ان موضوع دليل الاحتياط هو التكليف المجهول ، وحكمه فعلية هذا التكليف وتنجيزه به ، والموضوع لدليل البراءة هو عدم العلم بالتكليف ، ومن الواضح أن قيام الحجة عليه بنحو من الانحاء من العلم به ، فعلى هذا يكون دليل الاحتياط واردا على دليل الرفع لانه يصح ان يكون هو الحجة عليه ، فهو من انحاء العلم به وبه يرتفع موضوع دليل الرفع لان موضوعه عدم العلم ودليل الاحتياط من انحاء العلم بالتكليف.

فانه يقال : ان الظاهر من قوله (ما لا يعلمون) هو عدم العلم بالتكليف نفسه ، لا عدم العلم بالحجة عليه والوظيفة فيه ، ومن الواضح ان لسان دليل الاحتياط ليس لسان انه علم بالتكليف وليس هو موجبا للعلم به حقيقة ، وعلى كل فالظاهر مما لا يعلمون هو التكليف الذي لا يعلمونه لا التكليف الذي لا يعلمون الوظيفة فيه.

لا يقال : كيف لا يكون الاحتياط علما مع انه لا ريب في ان العمل بالاحتياط موجب للعلم باصابة الواقع ، والذي يكون واردا على البراءة هو ما أوجب العلم باصابة الواقع او بما هو منزل منزلة الواقع ، والاحتياط أولى ان يكون واردا على البراءة من الامارة ، لان الامارة منزلة منزلة الواقع ، والاحتياط موجب للعلم باصابة الواقع فانه نتيجة كالعلم الحقيقي بالتكليف.

فانه يقال : ليس المدار في الورود ان تكون نتيجة العمل موجبة للعلم باصابة الواقع ، بل المدار في الورود رفع الشك بالتكليف الذي هو موضوع البراءة ، ومحل ذلك قبل العمل ، والاحتياط قبل العمل ليس علما بالتكليف حقيقة ولا كالامارة

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

منزلا منزلة العلم ، وإلّا فالاطاعة في مورد العلم بالتكليف موجبة للعلم باصابة الواقع ، ولا معنى لتوهم كونها واردة على شيء. هذا بالنسبة الى دليل البراءة.

واما بالنسبة الى دليل الحلية فالتعارض بين دليل الاحتياط وبينه واضح ، لصراحة كون الغاية في دليل الحلية هي العلم بنفس التكليف ، فان قوله : حتى تعرف الحرام بعينه صريح في لزوم معرفة التكليف بنفسه ، لا معرفة الوظيفة فيه.

واما الامر الثاني وهو الوجه في ترجيح ادلة البراءة والاباحة النقليين على دليل الاحتياط ، فتوضيحه : ان النسبة بين دليل الاحتياط ودليل الرفع وان كان هو التعارض مطلقا ، لإطلاق ادلة الاحتياط لما يشمل الشبهة بجميع افرادها ، واطلاق دليل الرفع لجميع افراد الشبهة ايضا ، إلّا ان دليل الرفع اظهر لكونه نصا في رفع الفعلية للتكليف المجهول ، ودليل الاحتياط ظاهر في جعل الوجوب الذي لازمه ظهوره في فعلية التكليف المجهول ، ولا اشكال في تقديم النص على الظاهر ، لوضوح ان دليل الرفع اذا لم يكن رافعا للفعلية لا تكون له دلالة معقولة على شيء ، بخلاف دليل الاحتياط فانه ان لم يكن دليلا على الوجوب كان دليلا على الاستحباب ، لإمكان حمله على استحباب الاحتياط فيما اذا لم يؤخذ بما هو ظاهره من الدلالة على الوجوب ، فدليل الرفع اظهر دلالة فيتقدم على ادلة الاحتياط.

واما بالنسبة الى قاعدة الحل فهي متقدمة عليه ايضا لما ذكرنا في وجه تقديم دليل الرفع عليه من الأظهرية ، ولانها اخص منه لانها مما تختص بالشبهة التحريمية ، فهي اخص من دليل الاحتياط الشامل لها وللشبهة الوجوبية.

وقد اشار الى الامرين في قاعدة الحل بقوله : «إلّا انها» أي ان ادلة الاحتياط «تعارض بما هو اخص» منها «واظهر» فاشار الى الاخصية بقوله : «ضرورة ان ما دل على حلية المشتبه اخص» لما عرفت من اختصاصها بالشبهة التحريمية ، واشار الى الأظهرية ، بقوله : «بل هو في الدلالة على الحلية نص» أي ان دليل الحلية نص في الحلية ، لان قوله : فهو لك حلال نص في ذلك ، ولانه لو لم يرد منه الحلية لم يبق

٣٧١

على أنه للارشاد ، فيختلف إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه. ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعا ، مع أنه آب عن التخصيص قطعا ، كيف لا يكون قوله قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة للارشاد؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة (١)؟

______________________________________________________

له معنى يسوغ حمله عليه «و» هو بخلاف دليل الاحتياط فان «ما دل على الاحتياط غايته انه ظاهر في وجوب الاحتياط» لظهور الهيئة في الامر به في الوجوب ، ولانه لو لم يحمل على الوجوب لكان لحمله على الاستحباب مجال واضح ، لكثرة ما يراد من هيئة الامر الاستحباب.

(١) لا يخفى ان لزوم كون الامر بالاحتياط للارشاد انه يختلف حاله بالنسبة الى ما يرشد اليه ، فان كان المرشد اليه واجبا كان الارشاد الى الوجوب ، وان كان المرشد اليه استحبابا كان ارشادا الى الاستحباب ، فوصف الامر الارشادي بالوجوب مرة وبالاستحباب اخرى انما هو باعتبار ما يرشد اليه ، فان كان واجبا كان الارشاد اليه وجوبا ارشاديا ، وان كان مستحبا كان الارشاد استحبابيا ، واليه اشار بقوله : «فيختلف ايجابا واستحبابا» أي يتحقق الامر الارشادي في مقام وصفه بالوجوب والاستحباب «حسب اختلاف ما يرشد اليه».

ولا يخفى ايضا انه لو كان للارشاد لا يكون شاملا للشبهة البدوية كما اشرنا اليه سابقا ، للزوم كونه مرشدا الى ما كان الأمر فيه فعليا من غير قبل ادلة الاحتياط ، ولا امر فعلي في الشبهة البدوية.

واما القرائن التي تقتضي كونه للارشاد امور :

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : ما ورد في بعضها من التعليل الظاهر في كون الامر استحبابيا ، كرواية النعمان بن بشير التي هي (قال سمعت رسول الله يقول : ان لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك ، كما لو ان راعيا رعى الى جانب الحمى لم يثبت غنمه ان تقع في وسطه فدعوا المشتبهات) (١) فانه ظاهر في ان الامر بترك الشبهات لئلا يجرأ في ارتكاب المحرمات وترك الواجبات ، فهو ظاهر في الارشاد الى التورع والاعتياد على ترك حمى الله.

ومنها : ما ورد في بعض الاخبار ان في ارتكاب الشبهات عتابا ، بعد قوله ان في فعل المحرمات عقابا ، ولو كان الامر فيه للوجوب لكان مما عليه العقاب لا العتاب.

ومنها : انه لو لم يكن الامر فيه للارشاد وكان للوجوب للزم تخصيصه بالشبهات الموضوعية لعدم وجوب الاحتياط فيها عند الكل ، وبالشبهات الوجوبية لقول معظم العلماء من الاصوليين اجمع وجل الاخباريين بعدم وجوب الاحتياط فيها ، مع ان سياق بعض ادلة الاحتياط آب عن التخصيص كروايات التثليث ، لانها في مقام الحصر للامور في ثلاثة اشياء : أمر بين رشده ، وامر بين غيه ، وامر بين ذلك ... وحلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، وسياق الحصر آب عن التخصيص ، فلا بد من حمله على الارشاد لئلا يلزم التخصيص ، والى هذا اشار بقوله : «ويؤيده انه لو لم يكن» الامر الاحتياطي «للارشاد يوجب تخصيصه لا محاله ببعض الشبهات اجماعا» كالشبهة الموضوعية والوجوبية «مع انه آب عن التخصيص قطعا» كما عرفت.

ومنها : ان اخبار الاحتياط واخبار الوقوف عند الشبهة مرجعهما واحد وهو الكف عن الشبهة وتركها ، وفي اخبار الوقوف قرينة واضحة على ان المراد بما يكون الوقوف عنده لازما هو غير الشبهة البدوية ، للتعليل فيها بفرض المهلكة فيها وان الاقتحام

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ : ١٢٢ / ١٢ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

في الشبهة اقتحام في الهلكة ، وقد عرفت انه لا مهلكة في الشبهة البدوية ، وانما المهلكة في مثل الشبهة قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي لتنجز الامر فيها الموجب لكون الاقتحام فيها اقتحاما في المهلكة التي هي العقوبة ، لان من الواضح ان الظاهر من المهلكة في قوله عليه‌السلام : (وقفوا عند الشبهة فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) (١) هو العقاب ، وحيث لا عقاب في الشبهة البدوية فلا بد من حمله على الارشاد لما فيه الهلكة ، وهو غير الشبهة البدوية كما مر بيان ذلك مفصلا : من ان فرض الهلكة يقتضي الحمل على الارشاد.

والى هذا اشار بقوله : «كيف لا يكون قوله قف عند الشبهة» ولا يخفى ان اسم يكون هو هذه الجملة كلها ، وهي قوله قف عند الشبهة «فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» وخبر يكون هو قوله «للارشاد» أي كيف لا يكون الامر في قف عند الشبهة للارشاد وقد علله بانه خير من الاقتحام في المهلكة «مع ان المهلكة ظاهرة في العقوبة ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل ايجاب الوقوف والاحتياط» بتركها ، لانه لا اشكال في العقاب في الشبهة البدوية قبل ايجاب الوقوف والاحتياط فيها من العقاب بلا بيان ، وقد عرفت ايضا انه لا يمكن ان تكون المهلكة فيها هي المهلكة الحاصلة بواسطة نفس ايجاب الوقوف والاحتياط ، لان الحكم لا يثبت موضوعه ، وحيث لا هلكة في الشبهة البدوية «فكيف يعلل ايجابه» أي ايجاب الوقوف فيها «بانه خير من الاقتحام في الهلكة» فلا بد وان يكون الامر فيها للارشاد الى ما فيه الهلكة وهو غير الشبهة البدوية كالشبهة قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ : ١١٦ / ١٥ باب ٦٢ من أبواب صفات القاضي.

٣٧٤

لا يقال : نعم ، ولكنه يستكشف منه على نحو الإنّ إيجاب الاحتياط من قبل ، ليصح به العقوبة على المخالفة (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان في قوله قف عند الشبهة وتعليله لذلك بفرض المهلكة في الاقتحام فيها امور ثلاثة :

ظهور قوله : (قف) في الامر المولوي الوجوبي دون الارشادي.

واطلاقه الشامل للشبهة البدوية.

والتعليل لهذا الوجوب في الشبهة بان الاقتحام فيها من الاقتحام في الهلكة.

ويقتضي المحافظة على هذه الامور الثلاثة ان يكون هناك امر فعلي منجز في الشبهة البدوية غير هذا الامر الدال عليه اخبار الوقوف والاحتياط ، وعلى فرض رفع اليد عن الامر الاول وهو الظهور في الايجاب المولوي ، لظاهر التعليل بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، بان نقول بان الامر فيه للارشاد ، فلا بد من المحافظة على الامرين الآخرين ، اما الاطلاق فلانه لا وجه لرفع اليد عن الاطلاق من دون وصول المقيد له ، واما التعليل فهو كنص في ان مورد الشبهة من الاقتحام في الهلكة ، ومع المحافظة على هذين الظهورين ، وهما الاطلاق الشامل للشبهة البدوية ، والتعليل بان الاقتحام فيها من الاقتحام في الهلكة لا مناص من الالتزام بذلك ، وهو ان هناك امرا فعليا بالاحتياط منجزا فيها ، وهو غير هذا الامر الاحتياطي ، فيستكشف بطريق الإن وهو الانتقال من المعلول الى العلة ومن اللازم الى الملزوم تحقق الامر الفعلي المنجز في الشبهة البدوية ، وان هناك امرا بالاحتياط فيها غير هذه الاوامر لتصح العقوبة على مخالفتها ، واليه اشار بقوله : «نعم ولكنه يستكشف عنه» أي عن هذا الامر بالوقوف «على نحو الإنّ» لاجل المحافظة على الامور الثلاثة ، او الأمرين الاخيرين ـ المتقدم ذكرها ـ انه قد صدر من الشارع «ايجاب الاحتياط فيها من قبل» أي من قبل هذه الاخبار الدالة على الاحتياط

٣٧٥

فإنه يقال : إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة ، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

والوقوف ، فهو احتياط سابق غير هذا الوقوف والاحتياط «ليصح به» أي ليصح بواسطة الامر الاحتياطي السابق «العقوبة على المخالفة» في الشبهة البدوية.

(١) توضيحه : انه لا يعقل كون الامر الواقعي غير الواصل فعليا منجزا لملازمة الفعلية المنجزة للوصول ، فمع عدم الوصول وبقاء الامر الواقعي على حده غير الواصل لا يعقل ان يكون فعليا منجزا ، ومن الواضح ان العقاب لا يصح إلّا على الفعلي المنجز.

اذا عرفت هذا فنقول : الامر الاحتياطي الآخر المدعي استكشافه ان كان غير واصل فلا يكون مستند الصحة العقوبة على المخالفة في الشبهة البدوية ، وان كان واصلا فحاله حال هذه الاخبار اذا لم يكن فيه اشارة الى انه قد صدر ليكون مصححا للعقوبة على الشبهة البدوية ، ولم نجد في اخبار الاحتياط ما فيه هذه الدلالة ، فلا بد من حمل هذه الاوامر الاحتياطية والاوامر الدالة على وجوب الوقوف على ما كان الامر في مورد الشبهة فعليا منجزا ، وذلك في مثل الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ، فان العقاب فيها يكون مفروضا ، ومثله العقاب في الشبهة البدوية قبل الفحص ، واليه اشار بقوله : «فانه يقال ان مجرد ايجابه» أي ان مجرد ايجاب الاحتياط «واقعا ما لم» يكن واصلا و «يعلم» به «لا يصحح العقوبة» على المخالفة في الشبهة البدوية بعد الفحص «ولا يخرجها عن انها» من العقاب «بلا بيان ولا برهان» وهو قبيح غير معقول من الشارع «فلا محيص عن اختصاص مثله» أي مثل ما ورد من الاحتياط والوقوف «بما يتنجز فيه المشتبه لو كان» وذلك «كالشبهة

٣٧٦

وأما العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ، مما لم يكن هناك حجة على حكمه ، تفريغا للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الاصحاب (١).

______________________________________________________

قبل الفحص مطلقا» وان كانت بدوية وجوبية او تحريمية «او الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي».

(١) لا يخفى ان هذا العلم الاجمالي في المقام وان كان يمكن ادعاؤه في الواجبات والمحرمات كما اشار اليه المصنف ، الّا انه لما كان محل البحث والنزاع بين الاصوليين والاخباريين هو الشبهة التحريمية دون الوجوبية ـ لانهم يقولون في الشبهة الوجوبية بالبراءة كالاصوليين ـ فينبغي حصره في المحرمات ، لانها هي محل النزاع.

وعلى كل ، فحاصل الدعوى ان العقل مستقل بلزوم الاحتياط في موارد الشبهة لما ثبت من منجزية التكاليف الواقعية بالعلم الاجمالي كالعلم التفصيلي ، ومن الواضح انا نعلم اجمالا بوجود احكام واقعية في ضمن الشبهات التي لم تقم حجة على الحكم الواقعي فيها ، واثر هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط فيها لتحصيل العلم اليقيني بفراغ الذمة التي اشتغلت بالتكاليف الواقعيّة المنجّزة بهذا العلم الاجمالي ، فان تنجيز العلم الاجمالي لها وتأثيره في لزوم تفريغ الذمة بالاحتياط في الشبهة لانها من اطرافه من المسلّم عند جلّ الاصحاب ، وان خالف فيه بعضهم ، وهو لا يضر لان المفروض ان القائلين بالبراءة فيها ممن يرى منجزيّة العلم الاجمالي وتأثيره.

وقد اشار الى هذا العلم الاجمالي بقوله : «حيث علم اجمالا ... الى آخر الجملة» واشار الى ان أثر هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط في الشبهة لانها من اطرافه بقوله : «ولا خلاف في لزوم الاحتياط ... الى آخر الجملة».

٣٧٧

والجواب : إن العقل وإن استقل بذلك ، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، وقد انحل هاهنا ، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا ، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة تكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد ، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والاصول العملية (١).

______________________________________________________

(١) هذا هو الجواب الاول ، وسيأتي منه جواب ثان حاصله : دعوى ان العلم الاجمالي مقيد من أصله بوجود الاحكام الواقعية في ضمن ما قامت عليه الطرق ، وفي غيرها من موارد الشبهة لا علم اجمالي لنا اصلا وانما هو احتمال محض.

وحاصل هذا الجواب الاول المبني على كون الشبهة من اطراف المعلوم بالاجمال ، والمتحصّل من مجموع كلامه في المقام هو : ان هذا العلم الاجمالي منحلّ لاحتمال انطباقه من الاول على الاحكام الثابتة بالامارات وبالاصول العملية المثبتة للتكاليف.

وتوضيح ذلك : ان انحلال العلم الاجمالي ، تارة يكون انحلالا تفصيلا حقيقة ، وذلك فيما اذا انحلّ الى علم تفصيلي وشك بدوي ، كما اذا علمنا اجمالا بوجود اناء نجس لزيد قطعا في ضمن اناءين او اكثر ، وكان الاناء الآخر محتمل النجاسة وذلك فيما اذا علمنا اجمالا بالنجس وكان اناء زيد هو المتيقن ، ثم علمنا تفصيلا باناء زيد النجس ، فان العلم الاجمالي ينحلّ الى علم تفصيلي وشك بدوي.

واخرى : يكون الانحلال تفصيليا ولكنه يكون حكما لا حقيقة ـ كما في المثال المذكور ـ الّا ان البيّنة تقوم على ان هذا الاناء المعيّن هو اناء زيد النجس ، فان العلم الاجمالي وان انحلّ تفصيلا الّا انه حكما لا حقيقة ، لبداهة عدم حصول العلم بالبينة ، ولكنه لما كانت حجيتها باعتبار ان ما تقوم عليه هو الواقع ، وكان قيامها بنحو ان يكون ذلك المعلوم بالاجمال الذي هو اناء زيد هو هذا الاناء الخاص ، كان العلم

٣٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجمالي منحلا تفصيلا الى ما هو الواقع تعبدا لا حقيقة ، فهو انحلال تفصيلي حكمي لا حقيقي ، اما كونه تفصيليا فلفرض كون البينة كانت بنحو التعيين لما هو المعلوم بالاجمال ، واما كونه حكميا فلانه تعبدي لا حقيقي لعدم حصول العلم بها وانما الحاصل بها هو الظن.

وثالثة : ان يكون انحلال العلم الاجمالي لاجل احتمال الانطباق ، وذلك كما اذا علمنا بنجاسة احد الإناءين من دون عنوان كونه لزيد ، وتقوم البيّنة على ان هذا الاناء المعيّن نجس فقط من دون كونه هو الاناء المعلوم بالاجمال ، فان العلم الاجمالي ينحل بقيام هذه البيّنة لاحتمال انطباق النجس المعلوم بالاجمال عليه ، فانّا وان احتملنا ايضا ان يكون المعلوم بالاجمال غيره لاحتمال ان يكون هو الاناء الآخر ، الّا انه لما كانت منجزية العلم الاجمالي مشروطة بان يكون منجزا على أي تقدير ، ومع احتمال انطباقه على ما قامت عليه البينة لا يكون منجزا على أي تقدير ، لانه في فرض انطباقه على ما قامت عليه البيّنة لا يعقل ان يكون مؤثرا بما هو علم اجمالي ، للزوم اجتماع بعثين فعليّين على واحد ، احدهما من ناحية البيّنة والثاني من ناحية العلم الاجمالي ، والبعث الفعلي المنجز فيما قامت عليه البينة هو البعث الآتي من جانب البيّنة ، لان النجس الواقعي ـ بما هو واقعي ـ غير معلوم لا يعقل ان يكون منجزا لقيام التنجيز بالوصول ، وبما هو معلوم بالاجمال غير معقول ان يكون منجزا ايضا ، لما عرفت من لزوم اجتماع بعثين فعليين على واحد ، واذا لم يكن العلم منجزا في جميع الاطراف وعلى أي تقدير لا يكون مؤثرا في الطرف الآخر المقابل لما قامت عليه البينة ، فمع احتمال الانطباق لا علم بتكليف فعلي في غير ما قامت عليه البيّنة ، وحيث كان مشكوكا فهو مجرى للاصل.

وقد اتضح مما ذكرنا : ان هذا الانحلال ليس انحلالا تفصيليا لا حقيقة ولا حكما ، أما كونه ليس بحقيقي فواضح لعدم العلم ، واما انه ليس بانحلال تفصيلي حكما ، فلوضوح ان البيّنة لم تقم على ان هذا الاناء النجس هو المعلوم بالاجمال لتكون

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

تفصيليتها باعتبار حكايتها عن نفس المعلوم بالاجمال ، وحكميّتها باعتبار كونها تعبدية لا علمية حقيقة.

فاذا عرفت هذه المقدمة ، نقول : ان انحلال المعلوم بالاجمال من التكاليف الواقعية بالطرق والاصول المثبتة للتكاليف هو من قبيل الثالثة وهو الانحلال لاحتمال الانطباق ، لوضوح كونه ليس بانحلال تفصيلي حقيقة لعدم حصول العلم من الطرق والاصول المثبتة ، وليس بانحلال تفصيلي حكمي ايضا ، لان المجعول في الامارات اما هو محض حجيتها وانها منجزة لو اصابت ومعذرة لو اخطأت من دون جعل الحكم الطريقي فيها ، وسيأتي الكلام فيه من المصنف ، وان الانحلال فيه لاجل احتمال الانطباق ايضا ، بل هو اولى بالانحلال باحتمال الانطباق من الانحلال باحتمال الانطباق بناء على جعل الحكم الطريقي ، وان كان في دعوى هذه الاولوية من المصنف نظر سننبّه عليه ان شاء الله تعالى. واما ان يكون المجعول فيها هو الحكم الطريقي بلسان ان مؤدّاها حكم واقعي ، فلان لسان الجعل فيها وان كان هو كون مؤدّاها حكما واقعيا ، الّا انه لا دلالة فيها على انه لا حكم واقعي غير ما قامت عليه الامارة.

وبعبارة اخرى : ان الانحلال التفصيلي انما هو فيما اذا دلّ الدليل الحال للعلم الاجمالي على كون مؤدى الدليل الحال هو المعلوم بالاجمال ونفيه عن غير ما قام عليه الدليل الحال ، ومن الواضح ان لسان الجعل في الامارة لا يدل على اكثر من كون مؤدّاها حكما واقعيا ، وليس لها دلالة على ان الحكم المعلوم بالاجمال هو ما قامت عليه الامارة ولا على نفيه عن غيرها ، فيكون حالها بالنسبة الى الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال حال البيّنة القائمة على نجاسة اناء معين بالنسبة الى العلم الاجمالي بنجاسة احد الإناءين ، وقد عرفت ان الانحلال فيها لاحتمال الانطباق لا حقيقة لا حكما ، والامارات بالنسبة الى الاحكام الواقعية المعلومة بالاجمال كذلك ، فانه لا دلالة للسان الجعل فيها بان المعلوم بالاجمال هو مؤدّى الامارة ، بل

٣٨٠