بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

فإنه يقال : حيث أنه بذاك العنوان لاختصّ بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ، ولا يكاد يعمّ ما إذا ورد النهي عنه في زمان ، وإباحة في آخر ، واشتبها من حيث التقدّم والتأخر (١).

______________________________________________________

مجهول الحرمة» سواء «كان» اثبات ذلك له بهذا «العنوان» الذي هو عنوان لم يصدر فيه نهي الذي محموله هو الاباحة الواقعية «او» كان «بذاك العنوان» وهو الاباحة الظاهرية الثابتة له بعنوان انه مشكوك الحرمة.

(١) توضيحه : ان اصالة العدم لا تجري في الحادثين المشكوك تقدم كل واحد منهما على الآخر وتأخره عنه كما سيأتي بيانه مفصلا في باب الاستصحاب ان شاء الله تعالى ، ففيما اذا ورد نهي عن شيء ووردت اباحة فيه ايضا ولم يعلم المتقدم منهما والمتأخر ، فان كان المتقدم النهي والمتأخر الاباحة كان مباحا بالفعل ، وان كان المتقدم الاباحة والمتأخر النهي كان منهيا عنه بالفعل ، فهو في هذا الحال مشكوك الحرمة للشك في تقدم النهي وتأخره ، وفي مثل هذا لا تجري اصالة العدم ، فلا يحرز موضوع الاباحة فيما اذا كان الثابت بالرواية هو الاباحة الواقعية التي موضوعها عدم الصدور للنهي ، اما اذا كان الورود بمعنى الوصول الذي هو الموضوع للاباحة الظاهرية الثابتة لمشكوك الحرمة فانه يصح التمسك بها في هذا الفرض الذي كان الشك فيه للتقدم والتأخر.

فالمتحصل من هذا الجواب : هو ان الاباحة الواقعية اخصّ من المدعى ، والى هذا اشار بقوله : «فانه يقال حيث انه بذاك العنوان» وهو عنوان عدم الصدور المستلزم للاباحة الواقعيّة تكون اخصّ من المدعى ، فانه لو كان كذلك «لاختص» مورد الرواية «بما لم يعلم ورود النهي عنه اصلا» لجريان اصالة العدم المثبتة لموضوع الاباحة في الرواية «ولا يكاد يعم ما اذا ورد النهي عنه في زمان و» وردت «اباحة» له «في» زمان «آخر واشتبها من حيث التقدم والتأخر» لما سيأتي من عدم جريان اصالة العدم في مشكوك التقدم والتأخر.

٣٤١

لا يقال : هذا لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته (١).

فإنه يقال : وإن لم يكن بينها الفصل ، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها الدليل ، لا الاصل (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه ايضا لا يهمّ ذلك ايضا فيما هو المهمّ ، فان اصالة العدم وان كان لا تجري إلّا ان هناك اجماعا على تساوي افراد مجهول الحرمة ، سواء ورد فيه نهي واباحة وشك في المتقدم منهما ، او كان اصل ورود الحرمة فيه غير معلوم ، والعبارة واضحة.

(٢) حاصله : ان اصالة العدم فيما اذا جرت لا داعي لان تكون مثبتة لموضوع كل شيء مطلق لان يرفع به العقاب ، بل هي تكون دالة على انه لا مانع من ارتكاب مجهول الحرمة ولا عقاب عليه ، فيكون المثبت لما هو الغرض المهمّ من عدم العقاب هو الاصل دون الدليل الذي هو الرواية المذكورة ، وسيأتي في باب الاستصحاب اثبات ان الاستصحاب اذا جرى فلا مجال لغيره من القواعد الأخر كالبراءة وقاعدة الحلّ ، ومع كون الدليل في المقام حقيقة هو الاصل أي اصالة العدم لا مجال لدعوى عدم الفصل في افراد المشتبه ، لان عدم الفصل فيه انما هو فيما كان الدليل على عدم المانع من ارتكاب المشتبه هو دليل الحلّ وقاعدته دون الاستصحاب ، والى هذا اشار بقوله : «فانه يقال وان لم يكن بينها الفصل» وان الاباحة اذا ثبتت لافراد المشتبه تثبت لجميع افراده «إلّا انه انما يجدي» عدم الفصل «فيما كان المثبت للحكم بالاباحة في بعضها» أي في بعض الافراد هو «الدليل» كقوله كل شيء مطلق «لا الاصل» الذي هو اصالة العدم ، لان عدم الفصل انما هو بين افراد المشتبه الذي ثبت اباحته بعنوان كونه مشكوك الحرمة لا بعنوان انه لم يصدر فيه نهي.

(٣) يمكن ان يكون اشارة الى ما ذكره سابقا : من ان اصالة العدم تثبت موضوع الاباحة الواقعية ، والحال ان الموضوع للاباحة الواقعية هو الذي لم يصدر فيه نهي واقعا ، واما اثبات عدم صدور النهي بالاستصحاب فلازمه كون الثابت به اباحة

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهرية ايضا كما سيأتي بيانه في ان الاستصحاب احد موارد الحكم الظاهري ، إلّا ان اثبات الموضوع بالاستصحاب لا ينافي كون الحكم واقعيا لا ظاهريا ، كما يثبت باستصحاب الخمر ثبوت الخمر فيثبت لها الحكم الواقعي للخمر الواقعية ، والمقام من هذا القبيل.

ويمكن ان يكون اشارة الى ان المشكوك تقدمه وتأخره كما لا مجرى للاستصحاب فيه كذلك لا مجرى فيه ايضا لكل شيء مطلق فيما اذا كان المراد به عدم الصدور ، لان المفروض ان حكم الاطلاق فيه لما لم يصدر فيه بيان ولو باصالة العدم لا لما صدر فيه بيان واباحة ولم يعلم المتقدم من المتأخر.

ويحتمل ان يكون اشارة الى ان اصالة العدم في المقام هي الاستصحاب للعدم الازلي ، وجريان الاستصحاب به في العدم الازلي محل كلام.

ويمكن ان يقال ايضا ان هناك ما يدل على ان المراد بالرواية هي البراءة فيما هو المهم في المقام : أي ان المراد من الورود هو الوصول ، بان نقول ان المراد بقوله مطلق اذا لم يكن هو الاباحة الظاهرية حيث لا وصول للنهي ، فلا بد ان يكون المراد من الاطلاق هو إمّا عدم الحكم وعليه فيكون المتحصّل من الرواية انه لا حكم قبل ورود النهي ، وهذا من الامور التي لا مجال للشك فيها ، فان كل شيء قبل ورود الحكم فيه لا حكم له ، واما ان يراد من الاطلاق هو انه لا عقاب قبل ورود النهي وهكذا كالسابق ، فان السبب للعقاب هو الورود ، وحيث لا ورود للحكم من الشارع لا عقاب عليه عند الشارع ، هذا مضافا الى ان الظاهر ان الرواية قد جاءت من الشارع بما هو شارع ، والحكم بالاباحة على الاحتمالين الأولين عقلي لا شرعي ، فالظاهر من الرواية هو بيان الاباحة الشرعية التي تكون من الشارع بما هو شارع ، وعليه فيتعيّن ان يكون المراد من الورود هو الوصول ، والله العالم.

٣٤٣

وأما الاجماع فقد نقل على البراءة ، إلا أنه موهون ، ولو قيل باعتبار الاجماع المنقول في الجملة ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ، ومن واضح النقل عليه دليل ، بعيد جدا (١).

وأما العقل : فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه ،

______________________________________________________

(١) حاصله : ان الاجماع المدعى في المقام على البراءة في الشبهة الحكمية هو الاجماع المنقول ، ولا يخفى انه لا بد وان يكون اجماعا بمسلك لا يضره خلاف المخالف ، او يكون تحصيله لمن حصّله بنحو التقدير والتعليق ، بدعوى ان المخالفين في المقام القائلين بالاحتياط انما قالوا لقيام الدليل عندهم على الاحتياط ، والّا فهم يقولون بالبراءة فيما اذا لم يقم دليل على الاحتياط ، فمن لا تكون ادلة الاحتياط ثابتة عنده ينتفع بهذا الاجماع ولو كان من البعض تعليقيّا ، وعلى كل فقد ناقش المصنف فيه من وجهين :

الاول : عدم حجيّة الاجماع المنقول كما تقدم ذكره في فصل الاجماع ، واليه اشار بقوله : «ولو قيل باعتبار الاجماع المنقول ... الى آخر الجملة».

الثاني : ان هذا الاجماع محتمل المدرك لاحتمال كون المدرك للقول بالبراءة هو الادلة الدالة على البراءة من الآيات والاخبار والعقل دون الاجماع نفسه ، والى هذا اشار بما ذكره تعليلا لقوله : «انه موهون» وهو قوله : «فان تحصيله» أي تحصيل الاجماع بان يكون بما هو اجماع في هذه المسألة مما لا وجه لا دعائه ، لانه محتمل المدرك ، لان الحكم بالبراءة «في مثل هذه المسألة مما للعقل اليه سبيل» كقاعدة قبح العقاب بلا بيان «ومن واضح النقل عليه دليل» كالآيات والروايات ، ومع وفور هذه المدارك فتحصيل الاجماع فيها «بعيد جدا».

٣٤٤

فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان (١).

ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك ، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته ، فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، كي

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان العقل يحكم بان العقاب على مخالفة التكليف المجهول مع فرض عدم وصول الحجة عليه عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان : أي ان العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان قبيحان ، ومع حكم العقل بقبح المؤاخذة والعقاب على التكليف المجهول مع عدم وصوله أو عدم وصول الحجة عليه يأمن المكلف من العقوبة على مخالفته ، لوضوح انه مع حكم العقل بقبح العقاب عليه لا يعقل ان يعاقب المولى عبده على مخالفته ، لبداهة محالية ان يرتكب العادل ما هو قبيح ارتكابه ، ولعل السبب في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو ان العقلاء قد تطابقت آراؤهم حفظا للنظام وابقاء للنوع على مدح العدل وقبح الظلم ، وانهم كما يحكمون بقبح مخالفة العبد لمولاه في التكليف الواصل الى العبد لانه من ظلم العبد مولاه ، لان خروجه عن زي الرقية ورسم العبودية وطغيانه على مولاه ظلم منه لمولاه ، فانهم يحكمون ايضا بان مخالفة العبد لتكليف مولاه غير الواصل اليه ليس من ظلم العبد لمولاه ، ومن الواضح انهم يحكمون ايضا ان العقاب من المولى لعبده حيث لا يكون العبد ظالما له يكون ظلما من المولى لعبده ، ومن البديهي ايضا قبح الظلم عند العقلاء ، فاتضح استقلال العقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على التكليف المجهول حيث لم يصل بنفسه ولا بقيام حجة عليه وعبارة المتن واضحة ، ولعلّ مراده من شهادة الوجدان على ذلك هو شهادة الوجدان بحكم العقلاء على ان عقاب المولى على التكليف المجهول غير الواصل لا بنفسه ولا بالحجة عليه هو من مصاديق قاعدة القبح العقلي ، الذي بنى العقلاء على ذم فاعله كما بنوا على الحسن العقلي ومدح فاعله ، وعلى كل فقاعدة قبح العقاب بلا بيان من المسلمات عند العقلاء.

٣٤٥

يتوهم أنها تكون بيانا (١) ، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب

______________________________________________________

(١) قد عرفت استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولا يرتفع القبح الّا بالبيان الواصل ... ولذلك فقد ادعي ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تصلح لان تكون بيانا ، ومع صلاحيتها للبيان لا يكون مجال للتمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لارتفاع موضوعها ، لان موضوعها هو عدم البيان ، ومع فرض كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا لا يبقى وجه بصحة التمسك بها.

والحاصل : ان العقلاء كما بنوا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان كذلك قد بنوا على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، فالعقل كما يحكم بقبح العقاب بلا بيان يحكم ايضا بوجوب دفع الضرر المحتمل ، ومن الواضح ان العبد المحتمل للتكليف الالزامي المجهول يحتمل في ترك الاتيان به للضرر المترتب على تركه ، ومع احتماله للضرر في تركه يلزمه العقل بوجوب الاتيان به دفعا للضرر المحتمل ، ومع حكم العقل بوجوب اتيان التكليف المجهول المحتمل لا يصح التمسك لرفع استحقاق العقاب بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لبداهة كون حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل يصح ان يكون بيانا ، ومع صحة كونه بيانا يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وحاصل الجواب عن هذه الدعوى : هو ان الضرر المحتمل اما ان يكون هو الضرر الاخروي وهو العقاب في الآخرة ، او يكون هو الضرر الدنيوي والابتلاء بالمفاسد الدنيوية المترتبة على ترك التكاليف الالزامية ، فان كان الاول وهو ان الضرر المحتمل احتمال العقاب في ترك الاتيان بالتكليف الالزامي المجهول.

فالجواب عنه : ان العقاب غير محتمل على التكليف المجهول ، فلا مورد لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حتى تكون بيانا لقاعدة قبح العقاب ، لوضوح كون موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل هو احتمال العقاب ، ومع استقلال العقل بقبح

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

العقاب بلا بيان لا يكون العقاب محتملا حتى يكون المورد من موارد قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

لا يقال : ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان موضوعها عدم البيان ، والعقل انما يحكم بقبح العقاب حيث يتمّ الموضوع وهو عدم البيان ، ومن الواضح ان البيان الذي عدمه موضوع لقاعدة قبح العقاب هو البيان الاعم من البيان للتكاليف بعناوينها الخاصة كوجوب الصلاة وحرمة الخمر ، ومن البيان لها ولو بالعناوين العامة ولو مثل قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لان المراد من البيان هو مطلق الحجة وما يصح به الاحتجاج من المولى على عبده ، وكما يصح الاحتجاج من المولى على عبده ببيان الوجوب والحرمة له كذلك يصح الاحتجاج منه عليه ايضا في وصول البيان العام للعبد ، فقاعدة قبح العقاب بلا بيان انما يتم موضوعها مع الغض عن قاعدة وجوب دفع الضرر ، واما مع ملاحظة قاعدة وجوب دفع الضرر فلا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لان العقاب محتمل مع الغض عن قاعدة قبح العقاب ، وقد عرفت انه مع وصول قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا يبقى مجال لقاعدة القبح.

فانا نقول : ان هذا توهّم باطل ، لانه فيه ـ مضافا الى لزوم الدور من كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل موضوعها احتمال الضرر : أي احتمال العقاب ، وتحقق هذا الاحتمال يتوقف على عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لانه مع جريانها يقطع بعدم العقاب ، فلا يكون احتماله متحققا الذي هو الموضوع لقاعدة وجوب الدفع للضرر ، وعدم جريان قاعدة القبح موقوف على جريان قاعدة وجوب الدفع للضرر ، فيتوقف جريان قاعدة وجوب الدفع على نفسها ، لان جريانها بتحقق موضوعها وهو الاحتمال للعقاب المتوقف على عدم جريان قاعدة القبح ، المتوقف عدم جريانها على جريان قاعدة وجوب الدفع ، فجريانها متوقف على عدم جريان قاعدة القبح المتوقف على جريانها ، فجريانها يتوقف على جريانها وهو الدور ـ ان

٣٤٧

دفع الضرر المحتمل (١).

______________________________________________________

قاعدة وجوب دفع الضرر لا تصلح لان تكون بيانا لقاعدة القبح ، لانها إمّا تكون قاعدة نفسية بمعنى ان وجوبها وجوب نفسي ، فالعقاب يكون على مخالفتها لا على مخالفة الواقع ، وعلى هذا لا تصلح لان تكون بيانا لقاعدة قبح العقاب الذي كان العقاب فيها عقابا على الواقع ، فان ما يكون بيانا لها هو الحجة التي كان العقاب فيها عقابا على الواقع ، وذلك في فرض المصادفة ، وما كان العقاب فيه على كل تقدير لا يصلح بيانا لما كان العقاب فيه على فرض المصادفة.

واما ان يكون وجوبها ارشاديا ، ولازمها حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، وقد عرفت ان العقل مستقل بعدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، فلا ينبغي توهم كون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بيانا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيما اذا كان المراد من الضرر المحتمل هو احتمال العقاب ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ولا يخفى انه مع استقلاله» أي مع استقلال العقل «بذلك» أي بقبح العقاب بلا بيان «لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته» أي مخالفة التكليف المجهول ، بل عدم العقاب على مخالفته مقطوع به ، واذا كان عدم العقاب مقطوعا به «فلا يكون مجال هاهنا» أي في مورد التكليف المجهول غير الواصل بنفسه ولا بحجة عليه كالخبر أو وجوب الاحتياط «لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل كي يتوهم» انها تكون بيانا لقاعدة القبح المذكورة.

(١) حاصله : ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل عند من يقول بها قاعدة عقلائية بها يستحق الثواب والعقاب على ترك محتمل الضرر وفعله ، ومن الواضح ان العقاب على فعل محتمل الضرر انما هو العقاب على مخالفة الواقع ، ولو كان السبب في استحقاق العقاب هو قاعدة وجوب دفع الضرر لكان العقاب للقاعدة لا على الواقع ، فاذا احتملنا العقاب على مخالفة التكليف المجهول عند المصادفة فلا حاجة لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، اذ لا يترتب على مخالفة الواقع الا العقاب على

٣٤٨

وأما ضرر غير العقوبة ، فهو وإن كان محتملا ، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا ، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا (١) ، مع أن

______________________________________________________

مخالفته ، ولا يعقل الالتزام بالعقاب على الواقع وعلى مخالفة القاعدة ، واذا لم يكن هناك الا العقاب على الواقع فلا داعي للقاعدة ، لانه لو لم نقل بها لكان العقاب مترتبا على مخالفة الواقع عند المصادفة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لا» يبقى «حاجة الى القاعدة» أي قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل «بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل» وهذا دليل كما عرفت على عدم الحاجة اليها.

ويظهر من المصنف استفادته كون الوجوب في القاعدة وجوبا ارشاديا عقليا لا نفسيا ، واما مع كونه نفسيا فلا يكون العقاب فيها مبنيّا على صورة مصادفة المخالفة للواقع ، بل العقاب يكون على مخالفتها سواء أصادفت الواقع ام لا ، ويكون هناك امران : استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول بما هو مجهول يكون العقاب فيه في صورة المصادفة للواقع ، وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل والعقاب فيها على مخالفتها نفسها لا على صورة مصادفة المخالفة للواقع ، ولا ربط لاحدى القاعدتين بالاخرى ، ومع فرض عدم الربط بينهما لا وجه لاحتمال الحاجة الى قاعدة وجوب الدفع للضرر المحتمل للعقاب على التكليف المجهول بعنوان كونه مجهولا ، ولكن لازم كون الوجوب في القاعدة نفسيّا لازمه ان يكون عند المصادفة عقابان ، والالتزام به بعيد جدا.

(١) لا يخفى انه قد ذكرنا في صدر المسألة ان احتمال الضرر اما ان يراد منه احتمال العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، وما مرّ من الكلام كله مبني على ذلك وهو فرض كون الضرر المحتمل هو ضرر العقاب.

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

واما اذا كان المراد منه هو ضرر غير العقوبة كالمفسدة الملزمة والمصلحة الملزمة اللتين هما الملاك للوجوب والحرمة ، ففي مورد احتمال التكليف اللزوميّ لا مناص من احتمال ترك المصلحة الملزمة واحتمال الوقوع في المفسدة ، فيما اذا لم يأت المكلف ما احتمل وجوبه أو أتى ما احتمل حرمته ، وعلى هذا فقد ادعي ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تكون بيانا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والوجه في ذلك هي ان موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل اذا لم يكن الضرر المحتمل هو العقاب ، بل كان هو المفسدة او ترك المصلحة المحتمل تحققها في مقام احتمال التكليف المجهول بالضرورة ، ومن الواضح اذا كان الموضوع فيها ذلك لا يتوهم كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان رافعة لموضوعها ، لوضوح ان استحقاق العقاب على التكليف المجهول سواء كان قبيحا او حسنا لا يرتفع به احتمال الوقوع في المفسدة ، واحتمال الابتلاء بترك المصلحة في ارتكاب ما احتمل حرمته وترك ما احتمل وجوبه ، فموضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل متحقق على كل حال ، ومع تحقق موضوع هذا القاعدة يحكم العقل بوجوب الدفع ، ومع حكمه بوجوب الدفع تصلح القاعدة لان تكون بيانا لاستحقاق العقاب على التكليف المجهول بعنوان كونه محتمل الضرر ، ومع صحة كونها بيانا لاستحقاق العقاب عليه يرتفع بها موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والجواب عنه : ان المسلّم هو ان احتمال التكليف يستلزم احتمال الوقوع في المفسدة واحتمال الابتلاء بترك المصلحة ، ولكنّا لا نسلّم اولا ، ان كل احتمال للضرر يجب دفعه ، ولو سلّمنا ذلك فلا نسلّم ثانيا ان احتمال الوقوع في المفسدة وترك المصلحة مما يستلزم احتمال الضرر.

وعلى كل ، فالقاعدة لا تصلح ان تكون بيانا رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح ذلك : ان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ليست قاعدة عقلية برأسها عند من يقول بها ، بل هي من متفرعات قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، بدعوى ان دفع الضرر المحتمل حسن وارتكاب محتمل الضرر قبيح ، وكون مورد احتمال التكليف من مصاديق ما هو القبيح عقلا غير مسلّم ، ومع فرض تسليمه فلا نسلّم ان احتمال التكليف مما يستلزم احتمال الضرر ، فهذه الدعوى غير مسلّمة كبرى وصغرى.

اما الكبرى وهي دعوى وجوب دفع الضرر المحتمل عند العقلاء ، ففيه :

اولا : انه ليس كل ضرر معلوم فضلا عن ان يكون محتملا مما يجب دفعه عند العقلاء ، بل الضرر الذي عملهم على دفعه هو الضرر الذي لا يكون هناك داع لارتكابه يكون ذلك الداعي اهم في نظر المرتكب للضرر المعلوم ، ويدل على ذلك انا نرى العقلاء بما هم عقلاء يرتكبون المضار المعلومة ويتحملون المشاق لدواع في نظرهم اهم من المضار ومن المشاق ، فليس كل ضرر قبيحا حتى يكون واجبا دفعه عند العقلاء ، ولا عند الشرع ايضا فانا لم نجد الشارع قد نهى عن ارتكاب المضار المحتملة ، ولا يتوهّم ان الروايات الناهية عن الاقتحام في المهلكة تدل على ذلك ، لوضوح ان المراد من المهلكة فيها هي العقاب الاخروي ، مضافا الى انه لو كانت المهلكة مما تشمل الضرر الدنيوي فليس كل ضرر مهلكة دنيويّة ، وهو واضح.

وثانيا : انا لا نسلّم ان دفع الضرر المقطوع به فضلا عن المحتمل من القواعد العقلائية التي للعقلاء حكم فيها بوجوب دفعه ، بل هي من الامور الطبيعية ، وان كل ذي شعور يفرّ بطبعه عن اقتحام الضرر ، واذا كان الفرار من الضرر من طبع كل ذي شعور فلا داعي للعقلاء في الحكم بوجوب دفعه ، فان الضرر ان لم يترتب عليه داع اهم منه في نظر المقتحم فبالطبع لا يقتحم فيه ، وان ترتب عليه غرض اهم منه فلا مانع من ارتكابه ويكون الضرر مندكا في جانب الغرض المترتب عليه ، وقد اشار الى المناقشة الاولى في الكبرى بقوله : «واما ضرر غير العقوبة فهو وان كان محتملا»

٣٥١

احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة ، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام ، وقد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد ، ليست براجعة إلى المنافع والمضار ، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر ، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا (١).

______________________________________________________

فسلّم اولا الصغرى وهو كون احتمال التكليف المجهول المستلزم لاحتمال الوقوع في المفسدة او ترك المصلحة من الضرر المحتمل ، الّا انه لم يسلّم وجوب دفع كل ضرر ، ولذا قال : «إلّا ان المتيقن منه» وهو الضرر المعلوم «فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا» لما عرفت من انه لم يرد فيه نهي من الشارع «ولا عقلا ضرورة عدم القبح» عند العقلاء بما هم عقلاء «في تحمل بعض المضار» اذا كان ذلك «ببعض الدواعي» للمرتكب له تكون عنده اهم من تحمل الضرر ، وحيث كان عمل العقلاء بما هم عقلاء على ارتكابه فلا بد ان لا يكون ذلك قبيحا «عقلا» وإلّا لما كان عملهم على ارتكابه بما هم عقلاء.

(١) لما اشار الى المناقشة في الكبرى اشار بقوله هذا الى المناقشة في الصغرى ، وحاصله : انا لو سلّمنا الكبرى لكنا لا نسلّم الصغرى ، وهي ان احتمال الحرمة والوجوب مما يستلزم احتمال الضرر ، وانما المسلّم هو استلزامه لاحتمال الوقوع في المفسدة وترك المصلحة ، ولا يخفى ان الضرر في هذه القاعدة الذي يجب دفعه المراد منه هو الضرر الشخصي دون النوعي ، فالضرر النوعي ليس من مصاديق هذه القاعدة ، ومن الواضح ايضا ان جلّ التكاليف مصالحها ومفاسدها نوعية كالزكاة والخمس وحرمة الربا ، وان كان بعض التكاليف مصالحها ومفاسدها شخصية كالصلاة وكحرمة أكل الميتة ، لان معراجيّة المؤمن بها من المصالح الشخصيّة ، والظاهر ان مفسدة اكل الميتة من المفاسد الشخصية ايضا ، لكن جلّ التكاليف

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مناطاتها المصالح والمفاسد النوعية ، والمصالح والمفاسد النوعية ليست من المضار والمنافع المشمولة لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لما عرفت من ان المراد بها المنافع والمضار الشخصية.

والحاصل : ان الاحكام وان قلنا انها تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، والعقل بحكم بحسن الافعال ذات المصالح وقبح الافعال ذات المفاسد ، لبداهة ان الشارع لا يكلف إلّا بايجاد الحسن وترك القبيح فتكاليفه تابعة لحسن الفعل وقبحه ، الّا ان المصالح النوعية الحسنة والمفاسد النوعية القبيحة ليست مما تشملها قاعدة وجوب دفع الضرر ، لان المراد بها المنافع والمضار الشخصية دون النوعية. نعم ربما يوجد بعض التكاليف مناطاتها المصالح والمفاسد الشخصية ، لان المنافع والمضار فيها شخصية كما مرّ مثاله ولكنها قليلة ، وهي التي يكون احتمال التكليف فيها مستلزما لاحتمال النفع واحتمال الضرر دون جلّ التكاليف.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «مع ان احتمال الحرمة او الوجوب لا يلازم احتمال المضرة» ، فالصغرى غير مسلمة ايضا «وان كان» احتمالها «ملازما لاحتمال المفسدة او ترك المصلحة لوضوح ان المصالح والمفاسد التي تكون» هي «مناطات الاحكام» الشرعية «و» هي المناطات ايضا لحكم العقل بالحسن والقبح فيها لانه «قد استقل العقل بحسن الافعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان» منها «ذات المفاسد» إلّا ان هذه المصالح والمفاسد «ليست براجعة الى المنافع والمضار» الشخصية التي هي المناط في وجوب دفع الضرر المحتمل «و» لذلك «كثيرا ما يكون محتمل التكليف مامون الضرر» الشخصي ، كما اذا علم بان مصلحته ومفسدته نوعية لا شخصية «نعم ربما» يكون المفسدة والمصلحة في التكليف شخصية وحينئذ «يكون المنفعة او المضرة مناطا للحكم شرعا و» حيث كان مما لا بد وان يكون التكليف حسنا عقلا فالمنفعة والمضرة تكون مناطا للحكم «عقلا» ايضا.

٣٥٣

إن قلت : نعم ، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته ، كما استدل به شيخ الطائفة (قدس‌سره) ، على أن الاشياء على الحظر أو الوقف (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه انه قد تقدم الاستدلال بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، ولكن الظاهر من شيخ الطائفة دعوى استقلال العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة ، فيكون ـ على هذا ـ احتمال المفسدة موضوعا لحكم العقل بالقبح.

والحاصل : ان ما تقدم كان مبنيا على ان محتمل الحرمة والوجوب محتمل الضرر ، وقد عرفت الايراد عليه سواء كان المراد من الضرر هو العقوبة الاخروية او الدنيوية ، ومبنى الاستدلال في ان قلت هو كون حكم العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة ، لا من ناحية احتمال الضرر ، بل هو بنفسه مما يحكم العقل بقبح الاقدام عليه ، وعلى هذا المبنى قال الشيخ (قدس‌سره) بان الاشياء على الحظر أي حكمها المنع او الوقف حتى يتبيّن أمرها.

والحاصل : ان الظاهر من كلامه (قدس‌سره) ان هناك حكمين للعقل مستقلين : حكم بالقبح على نفس الاقدام في محتمل المفسدة بعنوان كونه محتمل المفسدة ، وحكم بالقبح على الاقدام على معلوم المفسدة ، وان الظاهر منه ايضا دعوى استقلال العقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته هي الاعم من المفسدة النوعية والشخصية ، والّا لو كانت هي خصوص المفسدة الشخصية لما صح ان يكون نقضا في المقام لما مرّ من ان جلّ التكاليف مصالحها ومفاسدها نوعية ، فلا يكون من مصاديق هذه القاعدة الشك في محتمل الوجوب والحرمة كما عرفت ، ولا يخفى انه قد مر الكلام في هذه الدعوى في مباحث الظن ايضا ، وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «ان قلت نعم ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام» أي يستقل بالقبح على نفس الاقدام «على ما لا يؤمن من مفسدته» وان ظاهره انها قاعدة في قبال قاعدة القبح على معلوم المفسدة ، ولذا قال : «وانه كالاقدام على ما علم مفسدته كما استدل به» أي كما استدل باستقلال

٣٥٤

قلت : استقلاله بذلك ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والاديان ، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته ، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته (١) ، كيف؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح (٢) ،

______________________________________________________

العقل بقبح نفس الاقدام «شيخ الطائفة (قدس‌سره) على ان الاشياء على الحظر او الوقف» فلا وجه للحكم بالبراءة والاباحة في محتمل الوجوب والحرمة لاستلزام احتمالها لاحتمال المفسدة وترك المصلحة ، والعقل مستقل بقبح الاقدام على ذلك : أي بعنوان احتمال المفسدة واحتمال ترك المصلحة ، لا لان احتمال المفسدة ترك المصلحة من جهة احتمال الضرر حتى يكون الاستدلال عليه بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، بل هو لان نفس احتمال المفسدة مورد حكم العقل بقبح الاقدام عليها ، ولذلك قال ان الأشياء كلها على الحظر او الوقف دون الترخيص ، فلا مجال للبراءة بعد حكم العقل بقبح الاقدام على محتمل المفسدة.

(١) لا يخفى ان المصنف قد ناقش في الكبرى وانكر نفس استقلال العقل بقبح نفس الاقدام ، وسنده شهادة الوجدان من حال العقلاء واهل الاديان ، انهم لا يعاملون مع محتمل المفسدة كمعاملتهم مع معلوم المفسدة : أي لا يعاملون محتمل الوجوب والحرمة معاملة مقطوع الوجوب والحرمة ، واليه اشار بقوله : «حيث انهم لا يحترزون ... الى آخر الجملة».

وينبغي ان لا يخفى ان المناقشة هنا تنحصر في الكبرى ، لوضوح ان مورد احتمال الحرمة او الوجوب مما لا ريب في كونه مورد احتمال المفسدة وترك المصلحة.

(٢) حاصله : دليل آخر إنّي على عدم صحة الدعوى المذكورة ، وان العقل غير مستقل بقبح نفس الاقدام على ما لا يؤمن مفسدته ، وهي انه لا يعقل ان يرخص الشارع في فعل ما هو قبيح عقلا ، وقد عرفت مما سبق دلالة الروايات على اذن

٣٥٥

فتأمل (١).

واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة ، بالادلة الثلاثة :

أما الكتاب : فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم ، وعن الالقاء في التهلكة ، والآمرة بالتقوى.

والجواب : إن القول بالاباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا ، ليس قولا بغير علم ، لما دلّ على الاباحة من النقل وعلى البراءة من حكم

______________________________________________________

الشارع في ارتكاب ما هو محتمل الحرمة او الوجوب ، فاذن الشارع كاشف عن عدم قبح ذلك عند العقل.

(١) لعله اشارة الى ان الشيخ انما استدل بهذه الدعوى لبيان حال الاشياء قبل ان يرد فيها من الشرع شيء ، لا في قبال ما ورد فيها من الشرع شيء.

وبعبارة اخرى : هو كأصل عقلي يلزم بالاحتياط والتوقف حيث لا يصدر من الشارع اذن في الترخيص وعدم الاحتياط.

او يكون اشارة الى ما ذكرناه من المناقشة في الصغرى ، وانه لو سلّمنا استقلال العقل بقبح نفس الاقدام إلّا انه على المفسدة الشخصية دون النوعية.

ويمكن ان يكون اشارة الى المناقشة في الدليل ، وهو ان الشارع لا يعقل ان يأذن ويرخص في فعل ما هو قبيح عقلا ، وقد مرّ دلالة الروايات على جواز ارتكاب محتمل الحرمة وترك محتمل الوجوب فيستكشف من ذلك عدم قبحه عقلا ، وحاصل المناقشة انه لعل الوجه في ترخيص الشارع هو انه قد زاحم ذلك مصلحة اهم من المفسدة في محتمل الحرمة وأهم من ترك المصلحة في محتمل الوجوب ، كمصلحة التسهيل على الامة ، فالشارع لم ياذن في ارتكاب القبح بل أذن في ارتكاب ما فيه المصلحة الغالبة ، فلا يكون اذن الشارع دليلا إنيّا على ان ارتكاب محتمل الحرمة ليس بقبيح ، والله العالم.

٣٥٦

العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) استدل القائلون بالاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بالكتاب والاخبار والعقل :

اما من الكتاب : فبالآيات الدالة على النهي عن اتباع غير العلم ، وبالآيات الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة ، وبالآيات الآمرة بالتقوى.

وبيان الاستدلال بالطائفة الاولى ، وهي الآيات الناهية عن اتباع غير العلم ، ان هذه الآيات قد دلّت على النهي عن القول بغير العلم ، والقول بالبراءة والأمن من العقوبة او بالاباحة الشرعية في مورد احتمال الحرمة الواقعية من القول بغير العلم ، فمرجع الاستدلال الى صغرى وكبرى.

اما الصغرى فهي ان القول بالبراءة وعدم استحقاق العقوبة او بالاباحة الشرعية من القول بغير العلم ، لوضوح انه مع احتمال الحرمة لا علم بعدم الحرمة وعدم استحقاق العقوبة ، والاباحة من لوازم عدم الحرمة ، فلا ينبغي القول بهما الّا في مقام العلم بعدم الحرمة ، فالقول بهما مع احتمال الحرمة من القول بغير العلم.

واما الكبرى فهي ما دلّ من الآيات على حرمة القول بغير العلم.

والجواب عنها ، أولا : بان عدم استحقاق العقوبة والأمن منها والاباحة كما انهما من لوازم عدم الحرمة الواقعية ، كذلك هما من لوازم الحكم بعدم الحرمة ظاهرا ، وقد عرفت دلالة الادلة شرعا وعقلا على عدم الحرمة ظاهرا.

وثانيا : ان استحقاق العقاب وعدم الأمن منه ليس من آثار الحرمة الواقعية ، بل هو من آثار الحرمة المعلومة كما مرّ بيانه ، وكذلك الاباحة فان الاباحة الواقعية هي من لوازم عدم الحرمة الواقعية ، واما الاباحة الظاهرية فموردها محتمل الحرمة.

وثالثا : انه يرد ما ذكروه من القول بغير العلم على القول بالاباحة وبالأمن في الشبهة التحريمية على القائلين بالأمن وبالاباحة في مورد الشبهة الوجوبية ، مع ان

٣٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

جلّ القائلين بالاحتياط في الشبهة التحريمية يقولون بالترخيص والأمن في الشبهة الوجوبيّة ، مع ان نفس القول بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية هو ايضا من القول بغير العلم.

ورابعا : انه بعد دلالة الادلة عقلا وشرعا على الأمن من استحقاق العقاب وعلى الاباحة الشرعية لا يكون القول بها من القول بغير العلم.

الطائفة الثانية هي الآيات الناهية عن الإلقاء في التهلكة كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١) وطريق الاستدلال بها ان الظاهر من هذه الطائفة هو ما يعم التهلكة المعلومة والتهلكة المحتملة ، لان الظاهر من الالقاء في التهلكة هو التعرّض للتهلكة ، ولا ريب في اقتحام التهلكة المحتملة من التعرّض للتهلكة ، ولا ريب ايضا ان محتمل الحرمة محتمل التهلكة ، فالاقتحام فيه اقتحام في التهلكة المحتملة وهو من التعرّض للتهلكة وقد دلّت هذه الطائفة على النهي عنه.

والجواب عنه اولا : منع كون محتمل الحرمة من محتمل التهلكة اذا كان المراد من التهلكة هي العقاب الاخروي ، لما دلّ من الادلة نقلا وعقلا على عدم العقاب في محتمل الحرمة ، فتكون تلك الادلة رافعة للموضوع في هذه الادلة الناهية عن الالقاء في التهلكة ، لوضوح ان موضوع النهي فيها هو التعرّض للتهلكة ، وبعد قيام الدليل على عدم العقاب في محتمل الحرمة ، فتكون التهلكة فيه مقطوعا بعدمها لا محتملة ، فلا موضوع لها.

وثانيا : انه لا يعقل ان يكون المراد من التهلكة في هذه الآيات الناهية عنها هو العقاب ، لان المستفاد منها حكم لموضوع ، والحكم فيها هو النهي والموضوع له هو التهلكة ، ومن الواضح انه لا بد من فرض تحقق الموضوع ليلحقه الحكم ، ولما كان الموضوع لهذا النهي هو التهلكة فلا بد من فرض تحقق التهلكة لان تكون منهيا عنها ،

__________________

(١) البقرة : الآية ١٩٥.

٣٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى هذا فلا يعقل ان يكون المراد بالتهلكة هو العقاب ، لان النهي اللاحق للتهلكة اما ان يكون نفسيا او طريقيا او ارشاديا ، ولا يعقل ان يكون نفسيا ولا طريقيا ولا ارشاديا اذا كان المراد من التهلكة هي العقاب ، لان لازم كون النهي نفسيا فيها تحقق عقابين على مرتكب محتمل الحرمة ، العقاب على مخالفة النهي النفسي ، والعقاب المفروض كونه موضوعا لهذا النهي ، ولا يصح الالتزام بعقابين لمرتكب محتمل الحرمة.

ولا يعقل ان يكون النهي طريقيا ايضا ، لان معنى كونه طريقيا كونه منجزا لما قام عليه ، وفرض تحقق

العقاب الذي هو الموضوع فرض تنجزه ايضا ، ومن الواضح ان المنجّز لا ينجّز ، فمع كون فرض العقاب منجزا لا يعقل ان يكون النهي الطريقي منجزا له ايضا.

وكذلك فيما اذا كان النهي ارشاديا فان لازم فرض تحقق الموضوع وكون النهي ارشادا اليه هو كون العقاب منجزا بغير هذه الآيات لتكون هذه الآيات مرشدة الى تنجزه ، لان تنجزه بنفس هذه الآيات غير معقول لعدم معقولية كون الارشاد فيه ارشادا الى نفسه ، وكونه هو المنجّز لازم كون ارشاده ارشادا الى نفسه.

هذا كله اذا كان المراد من التهلكة في هذه الآيات هي العقاب الاخروي ، واما اذا كان المراد من التهلكة فيها هي التهلكة الدنيوية : أي المفسدة ، فالجواب عنها ما مرّ في الجواب عن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، فيما اذا كان المراد هو ضرر غير العقوبة الاخروية من المفسدة او ترك المصلحة فراجع.

ويظهر من المصنف ان مبنى استدلال القائلين بدلالة هذه الآيات على النهي عن الاقتحام في محتمل الحرمة هي التهلكة الاخروية والعقاب الاخروي ، لعدم اشارته الى الجواب عنها فيما اذا كان المراد بها هي التهلكة الدنيوية.

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

واما الآيات الآمرة بالتقوى فالوجه في الاستدلال بها هو ان هذه الطائفة من الآيات كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(١) وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢) وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ)(٣) قد دلّت على الامر بالتقوى لله حق التقوى وبمقدار المستطاع منها وبالجهاد حق الجهاد ، فهي تدل على لزوم التورّع في اوامر الله ، ومن الواضح ان الاقتحام في محتمل الحرمة مناف للتورّع ، وليس من التقوى لله حق تقاته ولا الجهاد له ـ عزوجل ـ بقدر المستطاع.

والجواب عنه اولا : ان الظاهر من الامر في هذه الآيات الآمرة بالتقوى هو الامر الاستحبابي ، لوضوح شمول التقوى الى محتمل الوجوب والكراهة والاستحباب ، ولذا استدل بها الشهيد في الذكرى على استحباب اعادة ما ادى من الصلاة اذا احتمل انه اخلّ بشيء من اجزائها او شرائطها.

وثانيا : ان المراد من التقوى المأمور بها ، اما هي التورّع عن العقاب المقطوع والمحتمل ، وعلى هذا فلا تكون شاملة للمقام ، لان مورد الشبهة التحريمة العقاب فيها مقطوع العدم بواسطة ما دلّ على عدم العقاب فيها شرعا وعقلا ، وينحصر مورد العقاب المحتمل في المنجّز بالعلم الاجمالي في مقام الارتكاب لاحد اطرافه ، وفي المنجّز بالخبر الواحد فيما اذا قلنا بالطريقية فيه.

واما ان يكون المراد بها هو التورع عن محتمل الوجوب والحرمة ، ولا بد وان يكون الامر استحبابا لما عرفت من شموله للمكروه والمستحب ، وقد اشار (قدس‌سره) الى هذه الطوائف الثلاث بقوله : «اما الكتاب فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم» كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٤) «و» بالآيات الناهية «عن الالقاء في التهلكة» كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٥) وبالآيات «الآمرة بالتقوى» كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٦)

__________________

(١) آل عمران : الآية ١٠٢.

(٢) التغابن : الآية ١٦.

(٣) الحج : الآية ٧٨.

(٤) الاسراء : الآية ٣٦.

(٥) البقرة : الآية ١٩٥.

(٦) آل عمران : الآية ١٠٢.

٣٦٠