بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

اليه تعالى توجب ظهور الحديث في التكليف الذي لم يرد اظهاره ، وليس مثل هذا التكليف محل الكلام في المقام ، بل محل الكلام هو التكليف الذي لم يستند الحجب فيه الى الله وكان مستندا الى اخفاء الظالمين ، فالحديث بظاهره اجنبي عمّا هو محل البحث.

ثم لا يخفى ان قوله (قدس‌سره) : «ربما» يمكن ان يكون اشارة الى منع هذه الدعوى ، وان اسناد الحجب اليه لا ظهور فيه بلزوم اختصاص الحديث بما هو خارج عن محل الكلام ، لانه تعالى هو الذي اليه تنتهي سلسلة العلل والمعلولات ، فالتكاليف التي خفيت باخفاء الظالمين لها بسوء باختيارهم وارادتهم لإخفائها يصح نسبة حجبها اليه تعالى ايضا ، لان المفيض للصور بعد تمامية عللها من جانب الممكنات هو الله تعالى ، فانه هو الذي يتوفى الانفس عند موتها وان كانت بالقتل ظلما بعد حصول تمام ما هو العلة للموت من القاتل ، ومثله الحجب الذي تمت علته من جانب الظالمين يصح نسبته اليه تعالى ايضا.

هذا مضافا الى ان الظاهر من الموصول هو التكليف الذي له حظّه من الوجود اللائق لماهية التكليف ، فالمحجوب تكليف موجود اما إنشاء في طريقه الى الفعلية او فعليا ايضا ، لان من الواضح ان انشاء التكليف الذي لم يرد الله اظهاره اصلا لغو لا يصدر منه ، فالتكليف المنشأ هو التكليف الذي يمكن ان يقع في شأن الفعليّة التامة بوصوله تماما ، وعلى هذا فلا يكون المحجوب هو التكليف في مرحلة الاقتضاء والمصلحة ، فان وجوده في تلك المرحلة من باب وجود المقتضى بوجود مقتضيه ، لا بوجود يخصّه في نظام الوجود ، والظاهر من الحديث ان المحجوب ما له وجود يخصّه بحيث لو لم يحجب لتعلق العلم به بوجوده لا بمصلحته ، لان تعلق العلم به في دور مصلحته لا يصحح اطلاق التكليف عليه الّا بنحو من العناية.

إلّا انه مع ذلك كله فان المنصرف من الحديث هو غير التكليف الذي خفي باخفاء الظالمين ، فان التكليف الذي خفي باخفاء الظالمين يصدق عليه مما لم يحجب الله

٣٢١

ومنها : قوله عليه‌السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه .. الحديث ، حيث دلّ على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقا ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته (١) وبعدم الفصل

______________________________________________________

علمه عن العباد. واما انتهاء سلسلة الممكنات اليه لا يمنع من الانصراف الى خصوص ما كان الحجب مستندا اليه تبارك وتعالى ، واما كون انشاء التكليف الذي لا يبلغ الفعلية لغوا فهو غير صحيح ، لانه لا يلزم ان يبلغ الى الفعلية في زمان مخصوص ، ويكفي ان يبلغ الى الفعلية في عصر الحجة عليه‌السلام فيكون من التكاليف المخزونة.

ويحتمل ان يكون قوله «ربما» اشارة الى انه ليس المهم في المقام الكلام في خصوص الشك في الحكم لإخفاء الظالمين ، بل مورد البراءة : تارة يكون فقد النص لإخفاء الظالمين ، واخرى يكون اجمال النص ، وثالثة تعارض النصين ، ورابعة يكون لعدم وجوده في عصر الحجج (ص) حتى يقع موردا للسؤال والجواب كالتتن وامثاله. ونسبة الحجب اليه تعالى في الاحتمالات الثلاثة ما عدا الاول ظاهرة.

(١) توضيح دلالة هذه الرواية على البراءة في الشبهة الحكمية : ان الغاية وهي قوله : (حتى تعرف انه حرام بعينه) هي غاية للمحمول ، وهو حلال في قوله : (كل شيء لك حلال) ، فيكون معناها ان كل شيء بما له من العنوان سواء كان غير حرام واقعا او حراما واقعا هو فعلا حلال حتى تعرف انه حرام ، فالمستفاد منها جعل حلية ظاهرية الى زمان العلم بالواقع بما هو عليه من عدم الحرمة او الحرمة الواقعية.

ويحتمل ان تكون الغاية غاية للموضوع وهو الشيء ، فيكون تقدير الرواية : كل شيء حتى تعرف انه حرام بعينه لك حلال.

وقد يقال : لا ينبغي ان تكون الغاية غاية للموضوع وهو الشيء ، لان كون الغاية قيدا يدل على انتهاء أمد المقيّد بها ، واذا كان الموضوع الذي هو الشيء هو المقيّد بها فمعناه انتهاء امده الى زمان معرفة انه حرام ، وانتهاء أمد المقيّد اما بانتهاء امد ذاته أو بانتهاء امد وصفه ، ولا معنى لانتهاء امد ذاته أو بما له من عنوانه الذاتي له ، لان

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

انتهاء امد ذاته إما بانتهاء وجوده او بانتهاء عنوانه الذاتي له ، ومن الواضح ان المائع المشكوك والتتن المشكوك حكمه لا ينتهي امد وجوده ولا امد خمريته او تتنيّته بمعرفة انه حرام ، فلا بد وان يكون الانتهاء فيه بانتهاء امده بوصفه ، واذا كان المراد انتهاءه بوصفه فهو يرجع الى كونه قيدا للمحمول لا للموضوع ، وعلى كل فالغاية قيد وغاية للمحمول في الرواية وهي الحليّة ، ولكن الكلام في المستفاد منها.

ويظهر من المصنف هنا استفادة دلالتها على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعيّة ، وسيأتي منه في الاستصحاب استفادة الاستصحاب منها ، ويأتي بيان ذلك في مقامه ان شاء الله تعالى ، واما استفادة دلالتها على الشبهة الحكمية الذي هو المهم المبحوث عنه في المقام هو ان المراد من الشيء الذي قد جعلت الحلية في ظرف عدم حصول الغاية هو الشيء الذي لم يعلم حرمته بدلالة الغاية على ذلك ، وهي قوله : (حتى تعرف انه حرام بعينه) ، فان قوله : (حتى تعرف انه حرام) يدل على ان الشيء الذي هو حلال هو الذي لم يعرف انه حرام ، وتستمر حليّته الى ان يعرف انه حرام ، وبضميمة ان لهذا اطلاقا يشمل عدم العلم بالحرمة فيما كان عدم العلم بها لاشتباه ما هو حرام بما هو حلال ، بان يكون هناك حرام وحلال ولم يعلم حال هذا المشكوك المشتبه انه من الحرام او الحلال وهو الشبهة المصداقية ، وما كان عدم العلم بالحرمة لعدم الاحاطة بواقعية الشيء وانه هل هو حرام واقعا او حلال واقعا وهي الشبهة الحكمية ، فاطلاق عدم العلم من كلتا هاتين الجهتين يوجب شمول الرواية للشبهتين الموضوعيّة والحكميّة ، والى هذا اشار بقوله : «حيث دلّ» قوله عليه‌السلام : كل شيء حلال «على حليّة ما لم يعلم حرمته مطلقا ولو كان» عدم العلم «من جهة عدم الدليل على حرمته» الذي هو منشأ الشك في الشبهة الحكمية ، كما ان منشأ الشك في الشبهة المصداقية هو اشتباه ما هو حرام بما هو حلال كما مرّ بيانه.

٣٢٣

قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، يتم المطلوب مع إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته ، فهو حلال (١) ،

______________________________________________________

(١) هذا جواب سؤال في المقام ، وهو انه لو سلّمنا دلالة الرواية على الشبهة الحكمية ، ولكنها انما تدل على الشبهة الحكمية التحريمية : أي التي كان الشك فيها من جهة كون الشيء حلالا أو حراما ، ولا دلالة للرواية على الشبهة الحكمية الوجوبية التي كان الشك فيها من جهة كون الشيء حلالا أو واجبا ، فتكون الرواية دالة على بعض ما هو المهمّ في المقام ... فاشار الى الجواب عنه ، وقد اجاب بجوابين :

الاول : عدم الفصل بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبيّة ، فاذا وجد الدليل على عدم الاحتياط في الشبهة التحريمية كان دليلا ايضا على عدم الاحتياط في الشبهة الوجوبية ، لما عرفت من عدم الفصل بينهما ، وبقوله : «قطعا» يشير الى انه قول بعدم الفصل ، لا انه من عدم القول بالفصل ، وقد اشار الى هذا الجواب بقوله : «وبعدم الفصل قطعا بين اباحته» أي اباحة مشكوك الحرمة «وعدم وجوب الاحتياط فيه» أي في مشكوك الحرمة والحليّة «وبين عدم الاحتياط في الشبهة الوجوبية» المشكوك فيها وجوب الشيء واباحته أي عدم وجوبه «يتم المطلوب» أي بعدم الفصل بين الشبهتين التحريمية والوجوبية يتم المطلوب.

الجواب الثاني : ما أشار اليه بقوله : «مع امكان ... الى آخره» وحاصله : ان نفس هذه الرواية الدالة على الحلية في الشبهة التحريمية تدل ايضا على الحليّة في الشبهة الوجوبية ، لان ما احتمل وجوبه فلا بد وان يكون تركه محتمل الحرمة ايضا ، لوضوح كون ترك الواجب حراما ، فكل شيء قد احتمل وجوب فعله فقد احتمل ايضا حرمة تركه ، فالرواية الدالة على الترخيص في محتمل الحرمة تشمل ترك الواجب لانه محتمل الحرمة ، ولازم جعل الترخيص لتركه جعل الترخيص لفعله

٣٢٤

تأمل (١).

______________________________________________________

ايضا ، لان معنى جعل الترخيص هو ارخاء العنان فعلا وتركا ، فجعل الترخيص في ترك الواجب لازمه عدم لزوم فعله.

فالحاصل : ان شمول الرواية لترك الواجب الذي هو محتمل الحرمة لازمه عدم لزوم فعل ما احتمل وجوبه ، وكونه مباحا من ناحية لزوم الفعل المحتمل لزومه ووجوبه ، وذلك فما دلّ على الحليّة في الحرام المشكوك يدل على الحليّة ايضا في الوجوب المشكوك ، وهذا هو مراده من قوله : «مع امكان ان يقال» ان ما دل على الحلية في الفعل المشكوك وحرمته يدل على الحلية في المشكوك وجوبه ، لان «ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال».

(١) يمكن ان يكون أمره بالتأمل اشارة الى الخدشة في جوابه الثاني ، من دلالة الاباحة في مشكوك الحرمة على الاباحة في مشكوك الوجوب ، لان ترك الواجب حرام لما مرّ غير مرة من عدم انحلال التكليف الى تكليفين ، فان الحرمة التي هي في قبال الوجوب هي ما كانت عن المفسدة الملزمة ، لا ما كانت عن ترك المصلحة الملزمة ، فترك الواجب حرام لانه ترك المصلحة الملزمة لا لمفسدة في نفس ترك الفعل ، ومثله ترك الحرام فانه واجب لانه ترك المفسدة الملزمة لا لان في الترك مصلحة ملزمة وراء مفسدة الفعل ، فلا يكون ما دلّ على الحلّ في الشبهة التحريمية شاملا لترك الواجب ، لعدم الشك من ناحية المفسدة الملزمة فيه ، بل من ناحية ترك المصلحة الملزمة.

ويمكن ان يكون اشارة الى ما ذكره من القول بعدم الفصل ، فان القول بعدم الفصل الذي اشار اليه هو عدم الفصل بين القول بالبراءة في الشبهة التحريمية والشبهة الوجوبية : أي ان كل من قال بالبراءة في مشكوك الحرمة يقول بها في مشكوك الوجوب ، ومرجع هذا الى دعوى قيام الاجماع على التلازم بين القول بالاباحة في الشبهة التحريمية والاباحة في الشبهة الوجوبية ، فيكون الدليل الدال على الحليّة في

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الشبهة التحريمية دليلا عليها في الشبهة الوجوبيّة ، لان الدليل على الملزوم دليل على اللازم.

ولكنه لا يخفى ان الاجماع المدعى ان قام على ملازمة واقعية بين القول بالحليّة في الشبهة التحريمية والقول بها في الشبهة الوجوبية كان موجبا لان يكون الدليل على حليّة الشبهة التحريمية دليلا على الشبهة الوجوبية ، واما اذا كان الاجماع المدعى والقول بعدم الفصل انما هو لقيام الدليل الخاص او العام على حليّة الشبهتين عند من يقول بالحلية في الشبهة التحريمية ، فلا يكون الدليل في الشبهة التحريمية دليلا في الشبهة الوجوبية ، لانه ليس هناك تلازم بين الشبهتين ليكون الدليل على الملزوم دليلا على اللازم.

ويمكن ان يكون اشارة الى اصل دعوى دلالة الرواية على الشبهة الحكميّة حتى التحريمية فضلا عن الوجوبية ، لانه قد ورد بلسان هذه الرواية روايات اخرى صريحة في الشبهة الموضوعيّة صدرا وذيلا وموردا ، كمثل ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن ابي جعفر عليه‌السلام بعد السؤال منه عن الجبن ، (فقال عليه‌السلام ساخبرك عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه) (١) فان صدر هذه الرواية مما يدل على الاختصاص بالشبهة الموضوعية ، لان قوله : (فيه حلال وحرام) يدل على ان الشيء فيه حرام وحلال ، فالمشكوك منقسم الى الحرام والحلال بالفعل ، وانقسامه بالفعل الى الحرام والحلال لازمه كون الشك فيه ناشئا من عدم العلم بانطباق ما هو حرام أو ما هو حلال على المشكوك ، فهو صريح في الشك في الانطباق ، ومن الواضح ان ما كان الشك فيه من جهة الانطباق هو الشبهة الموضوعية دون الشبهة الحكمية ، لان الشبهة الحكمية هي التي كان الشك فيها في اصل الحكم واقعا وانه الحلّ او الحرمة. واما ذيلها فلقوله : (بعينه) وسيأتي بيانه.

__________________

(١) الكافي ج ٦ : ص ٣٣٩.

٣٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

واما موردا فلان موردها الجبن المشكوك كونه من الميتة او من غيرها ، وهو ظاهر في كون الشك فيه من الشك في الشبهة الموضوعيّة ، ومثل هذه الرواية روايات اخرى صريحة ايضا في الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة.

واما الرواية التي ذكرها المصنف وهي الرواية الوحيدة التي ليس في صدرها تقسيم الى الحلال والحرام فهي ما رواه في الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة عن ابي عبد الله عليه‌السلام : (قال سمعته عليه‌السلام يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه او خدع فبيع أو قهر او امرأة تحتك وهي اختك او رضيعتك ، والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك او تقوم به البينة) وهذه الرواية وان لم يكن في صدرها تقسيم الى الحرام والحلال ، لكن قوله (بعينه) فيه ظهور في ان الشك قد نشأ من ناحية كون المشكوك هل هو عين الحرام او عين الحلال؟ أي ان سبب الشك هو عدم العلم بكونه عينا ومصداقا للحرام والحلال ، لا من ناحية الشك في اصل الحرمة او الحلية واقعا ، لانه لو كان الشك من هذه الجهة لما كان لقوله : (بعينه) خصوصية ، ولكان امد الحليّة ينتهي بمحض معرفة انه حلال او حرام واقعا ، ولا مزية ولا خصوصية للفظة (بعينه) ، بل تكون فضلة في الكلام ، ومهما امكن ان يكون اللفظ قد ذكر لخصوصية فيه اولى من ان يكون قد ذكر لا للخصوصية ، وكون لفظة (بعينه) لها خصوصية في الذكر يقتضي ان يكون الشك ناشئا من حيث العينية لما هو الحرام والحلال المعلومين ، ولازم ذلك ظهور الرواية في الشبهة الموضوعية دون الحكمية.

مضافا الى قوله : (مثل الثوب ...) الى آخر الامثلة التي كلها من مورد الشبهة الموضوعيّة ، مضافا الى ذيلها وهو قوله عليه‌السلام : (والاشياء كلها على هذا حتى تستبين او تقوم به البينة) فان مورد قيام البينة هي الشبهة الموضوعية دون الحكمية ، لانها مما

٣٢٧

ومنها : قوله عليه‌السلام الناس في سعة ما لا يعلمون فهم في سعة ما لم يعلم ، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته (١) ، ومن الواضح أنه لو كان

______________________________________________________

يقوم لها بيان الشارع دون البيّنة ، وعلى كل فلم يوجد في روايات قاعدة الحلّ رواية مطلقة مجردة عن قرينة تقتضي اختصاصها بالشبهة الموضوعيّة ، والله العالم.

(١) لا بد من بيان معنى هذه الرواية بحسب ما تقتضيه القواعد العربية قبل الكلام من ناحية دلالتها على البراءة ، وحاصل معناها ان الناس داخلون في سعة ما لا يعلمونه ، بان تكون لفظه (سعة) مضافة الى لفظة (ما) التي هي اما موصولة او موصوفة ، وعلى الاول فالمعنى الناس في سعة الذي لا يعلمونه ، وعلى الثاني فالمعنى الناس في سعة الشيء غير المعلوم ، ولا بد من هذه الاضافة لان عدم اضافة لفظ السعة يوجب كون جملة ما لا يعلمون اجنبية ، وتكون جملة ابتدائية من غير خبر حيث تكون لفظة (ما) اما موصولة او موصوفة.

نعم ، لو كانت لفظة (ما) مصدرية لامكن عدم اضافة لفظة السعة ، الّا ان كونها مصدرية غير صحيح ، لان (ما) المصدرية الداخلة على الفعل المضارع لا بد وان يكون مساوقا للفعل الماضي ، وذلك حيث تدخل عليه (لم) دون (لا) والمفروض كون لفظ الرواية ما لا يعلمون لا ما لم يعلموا ، فالظاهر هو اضافة لفظ السعة الى (ما) التي هي اما موصولة او موصوفة.

فالمتحصّل من الرواية هو كون الناس مشمولين لسعة ما لا يعلمون ، ولا شبهة في شمولها للشبهة الحكميّة ، لاطلاق ما لا يعلمون الشامل لعدم العلم لعدم البيان ، كما انه شامل لعدم العلم من جهة عدم العلم بالانطباق ، ولا اشكال في شمولها للشبهة التحريمية والوجوبية ، لوضوح اطلاق عدم العلم من حيث الجهتين ايضا.

وحاصلها بما لها من الاطلاق : هو ان الناس لا ضيق عليهم من جهة عدم العلم سواء كان الذي لا يعلمونه الحكم الكلي المشكوك ثبوته واقعا ، أو كان الذي

٣٢٨

الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، فيعارض به ما دل على وجوبه ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

لا يعلمون هو عدم العلم بانطباقه ، وسواء كان الحكم الذي لا يعلمونه حكما تحريميا او وجوبيا ، وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «فهم في سعة ما لم يعلم».

ولا يخفى ان المصنف في عبارته جعل بدل لفظة (لا) لفظة (لم) فصح ان تكون (ما) مصدرية ايضا ، ولذا فمراده من قوله فهم في سعة ما لم يعلم هو كون (ما) اما موصولة أو موصوفة لإشارته الى كونها مصدرية بقوله : «او ما دام لم يعلم» ، واشار الى الاطلاق فيها الشامل للشبهة الحكمية الوجوبية والتحريمية بقوله : «وجوبه او حرمته».

(١) لما كان لسان هذه الرواية لسان السعة من جهة التكليف غير المعلوم ، وأدلة الاحتياط الآتية ـ بناء على دلالتها على وجوب الاحتياط ـ لسانها لسان الضيق من جهة التكليف المجهول كان المهمّ في هذه الرواية هو الكلام من ناحية معارضتها لأدلة الاحتياط.

وتوضيحه : انه اذا كان المراد من مما لم يعلم هو التكليف المجهول وكان لسان ادلة الاحتياط اثبات الوجوب الطريقي لاجل المحافظة على الواقع كان بين الدليلين تعارض ، لان لسان دليل السعة هو كون الواقع ليس فيه ضيق حال عدم العلم به ، فلا ضيق على الناس من جهته وانه ما لم يعلم الناس به هم في سعة من جانب فعله وتركه ، فاحتماله لا يوجب ضيقا وان كان احتمال تكليف لزومي ، ولسان ادلة الاحتياط هو كون احتمال التكليف اللزومي في حال عدم العلم به موجبا للاحتياط والضيق من جهته ، فالناس ليسوا في سعة من جانب فعله وتركه.

وتعارض هذين الدليلين حيث يكون لسانهما ذلك واضحا ، فان الاول مفاده كون الناس في سعة من ناحية التكليف المحتمل ، ومفاد الثاني كون الناس في ضيق من ناحية التكليف المحتمل ، وهما متعارضان لا ورود لأحدهما على الآخر ، لان

٣٢٩

لا يقال : قد علم به وجوب الاحتياط (١).

______________________________________________________

الموضوع في كل منهما هو احتمال التكليف حال الجهل به ، لكن احدهما يدل على السعة من جانبه والآخر يدل على الضيق من جانبه ، هذا اذا كان الموضوع في دليل البراءة هو التكليف المحتمل ، واما اذا كان الموضوع فيها هو التكليف الذي لم تقم حجة على تنجيزه ، فدليل الاحتياط وان كان طريقيا يكون واردا عليه ، لان الموضوع في البراءة اذا كان هو التكليف غير المنجّز يكون دليل الاحتياط رافعا لموضوعه ، لانه منجّز للواقع وحجة عليه فيرتفع به الموضوع في البراءة حقيقة ، لان موضوعه التكليف غير المنجّز والذي لم تقم حجة عليه منجّزة له ، ومن الواضح ان ادلة الاحتياط منجّزة للواقع وحجة عليه.

ولكن المصنف لما كان يرى ان الموضوع فيهما هو التكليف المجهول المحتمل على السواء فيهما ، وليس الموضوع في البراءة هو التكليف غير المنجّز بعدم قيام حجة عليه اصلا ، لذا اشار الى كونهما متعارضين ولا تكون ادلة الاحتياط واردة على دليل السعة ، ولذلك اشار الى تعارضهما بقوله : «ومن الواضح انه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة اصلا» حيث يكون الموضوع في البراءة ما أشار اليه في عبارته السابقة وهو ما لم يعلم وجوبه او حرمته ، وليس الموضوع فيها التكليف غير المنجّز ، وعلى هذا «فيعارض به» أي فيعارض بما دلّ على السعة وعدم الضيق «ما دل على وجوبه» أي وجوب الاحتياط ، لانها تدل على ان الناس ليسوا في سعة من ناحية التكليف المجهول.

(١) حاصله : ان دليل السعة محصله ان الناس في سعة حيث لم يعلموا ، اما اذا علموا فليسوا في سعة ، وادلة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط ، فتكون واردة على دليل السعة ولا معارضة بينهما ، لان دليل السعة موضوعه عدم العلم وادلة الاحتياط توجب العلم ، فيرتفع به موضوع دليل السعة حقيقة ، وكل دليل رفع موضوع الآخر حقيقة يكون واردا عليه لا معارضا له ، والى هذا اشار بقوله : «لا

٣٣٠

فإنه يقال : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد (١) ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله (٢)؟ نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم

______________________________________________________

يقال قد علم به» أي قد علم بدليل الاحتياط «وجوب الاحتياط» فيكون واردا على دليل السعة لتقيّد موضوعه بعدم العلم.

(١) بيانه ما عرفت من ان موضوع دليل السعة هو عدم العلم بالتكليف لا عدم العلم بالمنجّز له ، ودليل الاحتياط ـ بناء على الطريقية ـ منجّز للتكليف الواقعي لا انه موجب للعلم به ، فان الواقع بعد على جهالته وانما كان دليل الاحتياط منجّزا له ، فدليل السعة ودليل الاحتياط متعارضان ، لان المستفاد من دليل السعة عدم تنجز الحكم الواقعي في حال الجهل به ، والمستفاد من دليل الاحتياط تنجز الواقع به ، والواقع بعد باق على جهالته ولم يعلم به حتى يرتفع موضوع دليل السعة به ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لم يعلم الوجوب والحرمة بعد» أي عند قيام دليل الاحتياط لم يعلم الوجوب والحرمة الواقعيين به ، وهما باقيان بعد على الجهالة فلا يرتفع بدليل الاحتياط موضوع دليل السعة ليكون واردا عليه.

(٢) توضيحه : ان دليل السعة بعد ان كان موضوعه هو التكليف المجهول وعدم العلم بالواقع ، فهو يدل على انه ما لم يعلم التكليف فالناس في سعة من جانبه ، وانما يكونون في ضيق من جهته فيما اذا علم به ، وقد عرفت ان دليل الاحتياط لا يوجب العلم بالواقع وانما ينجّزه والواقع بعد على الجهالة وان قام دليل الاحتياط على تنجزه ، ففي حال قيام دليل الاحتياط موضوع دليل السعة موجود وهو عدم العلم بالواقع ، ومع قيام موضوعه فمحصله نفي الضيق من جانب الواقع ، فلا ينبغي ان يقع الناس في ضيق الاحتياط من اجل التكليف الواقعي المجهول مع قيام الاحتياط الطريقي عليه ، لان دليل السعة قد نفى الضيق من جانبه حيث يكون مجهولا ويكون المتحصّل من الدليلين هو تعارضهما ، لان دليل السعة ينفي الضيق من جانب الواقع ودليل الاحتياط يقتضي الضيق بالوقوع في كلفة امتثال الواقع.

٣٣١

في ضيقه بعد العلم بوجوبه (١) ، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا ، لاجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا (٢) ،

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان الناس لا يقعون في ضيق الواقع بحيث يرتفع موضوع دليل السعة إلّا اذا علم به ، اما مع عدم العلم به فلا يقع الناس في ضيق الواقع وان قام دليل الاحتياط الطريقي على تنجزه ، فان غاية ما يقتضيه هو الضيق من جانب الواقع لا العلم به حتى يرتفع به موضوع دليل السعة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فكيف يقع في ضيق الاحتياط من اجله» أي من اجل الوجوب او الحرمة مع عدم العلم بالوجوب او الحرمة ، ودليل السعة ينفي الضيق ما دام لم يعلم بالوجوب او الحرمة ، وغاية ذلك هو وقوع المعارضة بينهما كما عرفت.

(١) حاصله : ان ما مر من وقوع المعارضة بين دليل السعة ودليل الاحتياط مبني على ان لسان دليل الاحتياط هو الوجوب الطريقي لداعي تنجيز الواقع ، واما لو كان المستفاد من دليل الاحتياط هو الوجوب النفسي لمصلحة فيه نفسه لا لداعي مصلحة الواقع وتنجيزه بالاحتياط ، فان دليل الاحتياط يكون واردا على دليل السعة ، لان الاحتياط يكون تكليفا واقعيا معلوما فهو كسائر التكاليف المعلومة ، ومع العلم به يرتفع موضوع السعة لما مر من ان موضوعه عدم العلم ، فلا بد من وقوع الناس في ضيق دليل الاحتياط لحصول العلم بالتكليف به ، لفرض كون المستفاد من دليل الاحتياط هو الوجوب النفسي ، والى هذا اشار بقوله : «نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان» واردا على دليل السعة لا معارضا ، لوضوح «وقوعهم في ضيقه» أي في ضيق الاحتياط «بعد» قيام الدليل عليه الذي حصل منه «العلم بوجوبه» أي بوجوب الاحتياط.

(٢) حاصله : ان الظاهر من لسان دليل الاحتياط هو الوجوب الطريقي وانه بداعي تنجز الواقع لا ان وجوبه نفسي ، كما هو الظاهر جليا من ادلة الاحتياط الآتية المعللة لوجوب الاحتياط بأنه مما يأمن به المكلف من الوقوع في هلكة مخالفة الواقع ، ولو كان

٣٣٢

فافهم (١).

ومنها : قوله عليه‌السلام : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه ، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل غير واحد (٢) ، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه

______________________________________________________

وجوبه نفسيا لما كان لهذا التعليل موقع ، لان الاحتياط انما وجب لمصلحة في نفسه لا لان يأمن به من الوقوع في هلكة مخالفة الواقع ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لكنه قد عرفت ان وجوبه» أي وجوب الاحتياط «كان طريقيا لاجل ان لا يقعوا في مخالفة الواجب والحرام احيانا» وذلك فيما اذا كان الحكم واقعا هو الوجوب او الحرمة.

(١) لعله اشارة الى انه بناء على استفادة الوجوب النفسي من ادلة الاحتياط يكون واردا على دليل السعة ، لكنه من ناحية العلم بنفس وجوب الاحتياط النفسي ، ومحل الكلام هو وروده على دليل السعة من ناحية التكليف الواقعي ، ووروده على دليل السعة من ناحية وجوبه النفسي لا ربط له بما هو المدعى من وروده على دليل السعة من ناحية التكليف الواقعي المجهول ، فالناس انما وقعوا في ضيق وجوب الاحتياط النفسي ولم يقعوا في ضيق التكليف المجهول ، ولا يعقل ان يكون وجوب الاحتياط النفسي منجزا للواقع لو كان للزوم اجتماع منجزين على منجز واحد الراجع الى اجتماع تكليفين فعليين منجزين على شيء واحد ، لان الواقع يكون منجزا بالوجوب الاحتياطي النفسي ، ويكون منجزا بوجوبه الواقعي الذي فرض كون الاحتياط منجزا له ، فمع كون الاحتياط واجبا نفسيا لا بد من بقاء الواقع على حاله ، وان كان لا فائدة في شمول دليل السعة له لفرض وقوع الناس في ضيق امتثاله من ناحية وجوب الاحتياط النفسي.

(٢) توضيح الكلام في هذه الرواية الواردة عن الصادق عليه‌السلام وهي قوله : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) (١) بحيث تكون دليلا على البراءة تتوقف على كون

__________________

(١) الفقيه ، ج ١ ، ص ٣١٧.

٣٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المراد من الورود فيها هو الوصول ، وان يكون الظاهر من قوله : (مطلق) هو الاباحة الشرعيّة ، فيكون المتحصّل منها بعد تمامية هذين الامرين : ان كل شيء هو مباح بالاباحة الشرعية الى ان يصل فيه النهي ، ومن الواضح دلالتها حينئذ على البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.

اما اذا كان المراد من الورود هو صدور النهي من الشارع فلا تكون الرواية دليلا على الاباحة الشرعية في الشبهة الحكمية التحريمية ، بل يكون المراد منها هو الاباحة بمعنى اللاحرج المقابلة للحظر ، فيكون المتحصّل منها هو كون الاشياء باقية على اللاحرجية وعدم الحظر الى ان يصدر من الشارع فيها نهي ، ولا تكون نافعة في المقام ، لان المفروض فيه هو كون الشك في التحريم الصادر من الشارع لو كان ، وانما اختفى لإخفاء الظالمين ، فلا يكون ما دلّ على اللاحرجية من حيث الشك في أصل الصدور دليلا على الاباحة الشرعية المجعولة في مقام الشك في الصادر غير الواصل لإخفاء الظالمين.

وتوضيح ما ذكرنا يتوقف على بيان امرين : الاول : ان الاباحة لها معنيان :

الاول : الاباحة قبل صدور التكاليف المقابلة لاصالة الحظر وهي التي بمعنى اللاحرجية ، وهي بهذا المعنى ليست مجعولا شرعيا ، لان المفروض فيها كونها قبل صدور التكاليف ، والمجعول الشرعي من التكاليف الشرعية.

المعنى الثاني : هي الاباحة الشرعيّة ، وهي الاباحة المجعولة من قبل الشارع في مقام الشك ، وهي تارة تكون لا اقتضائية وهي إباحة واقعية ناشئة من عدم وجود ما يقتضي طلب الفعل ، وعدم ما يقتضي طلب الترك ، وهي حكم واقعي لا ظاهري.

واخرى اباحة ظاهريّة ناشئة من الاقتضاء لمصلحة اقتضتها ، كالمنّة على الأمّة دعت الشارع لجعلها في مقام الشك ، وهي حكم ظاهري.

ومن الواضح ان الورود اذا كان بمعنى الصدور لا يعقل ان يكون غاية للاباحة الشرعية الواقعيّة لفرض كونها ناشئة عن عدم الاقتضاء للنهي ، فجعل ورود النهي

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

غاية لها خلف ، لان النهي لا يكون إلّا لما فيه اقتضاء النهي ، ولا غاية للاباحة الظاهرية لان الاباحة الظاهرية لا بد وان يكون غايتها هو العلم بالحكم لا صدور الحكم واقعا ، فتعيّن ان يكون المراد من الاطلاق هو الاباحة اللاحرجية المقابلة للحظر ، لا الاباحة الشرعية الواقعية ولا الاباحة الشرعية الظاهرية.

الثاني : ان الورود يستعمل تارة بمعنى الصدور وهو ورود الشيء في نفسه ، ويصح قطعا ان يقال للحكم الصادر من الشارع انه حكم ورد من الشارع ، وبرهانه انه يصح أن يقال ان الحكم ورد من الشارع واختفى.

واخرى يستعمل بمعنى الوصول وهو ورود الشيء على الشيء ، كقوله تعالى (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ)(١) وبهذا المعنى يقال ورد الحكم على المكلّف : أي وصل اليه ، وهذا ما ذكروه في معنى الورود.

والذي اظنه ان الورود ليس بمشترك لفظي في هذين المعنيين ، بل هو موضوع للبلوغ والوصول ، ولكن يراد تارة من وصول الحكم بلوغه الى تحققه وخروجه من العدم الى الوجود ، ولما كان الحكم مما لا بد له من المتعلق فيكون وصوله الى متعلقه مما به يتم وجوده وتحققه ، وبهذا المعنى يكون الوصول مساوقا للصدور حيث كان المتعلق بالنسبة الى الحكم كالمحل بالنسبة الى الحال صار الورود يتعدى اليه بفي ، فيقال ورد في هذا الشيء حكم من نهي أو امر ، وعلى كل فالمراد بالورود حينئذ وصول الحكم الى متعلقه ، ولذلك كان الوصول بهذا المعنى مساوقا للصدور.

واخرى يكون المراد من الورود وصول الشيء الى الشيء ، وبهذا المعنى يقال ورد الحكم على المكلّفين ، وكأنّه اخذ ايضا في معنى الورود الذي يراد منه وصول الشيء الى الشيء ما يساوق الاستعلاء ، ولذلك كان يتعدى بعلى ، فيقال ورد الحكم على المكلف ، ويقال ورد علينا ضيوف ، ويقال وردنا على البلد الفلاني ، وربما

__________________

(١) القصص : الآية ٢٣.

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يلاحظ فيه هذا المعنى ، ويراد منه محض وصول الشيء للشيء ، فيقال وردنا البلد الفلاني ، وبهذا اللحاظ جاء قوله تعالى : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) ، ولعله لما كان موسى عليه‌السلام في ذلك الوقت لم يكن نبيا قد كلمه الله وكان شعيب هو النبي الحال في مدين ناسب ان لا يكون لورود موسى استعلاء على المحل الذي فيه نبي مرسل ، مع ان موسى في ذلك الحين لم يكن بمرسل ولم يكلمه الله بعد برسالته ، فلذلك لم يلحظ ما في الورود من الاستعلاء ، وان يكون الغرض منه محض وصوله الى مدين.

وعلى كل ، فقد اتضح من جميع ما ذكرنا انه اذا اريد من الورود في هذه الرواية ما يساوق الصدور فلا يكون غاية الا للاطلاق الذي هو بمعنى الاباحة اللاحرجيّة المقابلة لاصالة الحظر ، وعلى هذا فتكون الرواية اذا اريد منها ذلك غير مرتبطة بما هو المهم المبحوث منه في المقام وهو جعل الاباحة الشرعية للشيء المشكوك حكمه لإخفاء المخفين ، واذا اريد من الورود الوصول الى المكلفين صحّ ان يكون غاية للاطلاق الذي هو بمعنى الاباحة الشرعية ، ولا يخفى انه يتعيّن ايضا ان تكون الاباحة هي الاباحة الظاهرية لانها هي التي ينتهي امد جعلها بالعلم بالنهي ووصوله دون الاباحة الواقعيّة كما مرّ بيانه ، وعلى هذا المعنى الاخير تكون مربوطة بالمقام ودليلا على جعل الاباحة الظاهرية لمشكوك الحرمة.

ثم لا يخفى ان كونها دليلا في المقام لا يكفي فيه إمكان كون المراد من الورود هو وصول الشيء الى الشيء ، بل لا بد له من ظهور في هذا المعنى ، واذا لم يكن له ظهور فيه كانت الرواية المشتملة على لفظ الورود ـ غير الظاهر في المعنى النافع في ما هو المهم ـ من المجملات.

وبعبارة اخرى : انه يكفي النافي لدلالتها في المقام عدم ظهورها في المعنى الثاني ، ولا يحتاج الى كونها ظاهرة في المعنى الاول ، لكفاية الاجمال فيها وترددها بين المعنيين لئلا تكون حجة في الاباحة الشرعية لمشكوك الحرمة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ودلالته تتوقف» أي دلالة قوله عليه‌السلام : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) على

٣٣٦

على صدوره عنه (١) سيما بعد بلوغه إلى غير واحد ، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره (٢).

______________________________________________________

الاباحة الشرعية لمشكوك الحرمة تتوقف «على» ظهوره في المعنى الثاني ، ولا يكون ذلك الا في «عدم صدق الورود» بحسب ظهوره على ما يساوق الصدور ، ولا يكون له ظهور «الا» في وصول الشيء الى الشيء ، وحيث كان الورود مسندا الى النهي فلا يكون للنهي وصول الا «بعد العلم» به «أو ما بحكمه» من وصوله بالعلمي بان يصل العلمي «بالنهي عنه» ، واذا كان للورود في الرواية ظهور فعلي في هذا المعنى فلا يكون الورود فيها صادقا على الورود المساوق للصدور ، فالحكم «وان صدر من الشارع ووصل» الى «غير واحد» إلّا انه لا يصدق عليه لفظ الورود في الرواية لظهور الورود فيها في معنى وصول الشيء للشيء فلا يصدق على الورود المساوق للصدور.

(١) أي دعوى ظهور الورود في الرواية في المعنى الثاني ، وانه لا ظهور له فيما يساوق الصدور ممنوعة.

ثم اشار الى وجه المنع وهو امكان ان يكون المراد من الورود فيها ما يساوق الصدور بقوله : «لوضوح» قابلية «صدقه» أي صدق الورود فيها «على صدوره» أي على صدور النهي «عنه» أي عن الشارع ، ومع امكان صدقه على ما يساوق الصدور لا يكون له ظهور فيما هو المهم من جعل الاباحة الشرعية لمشكوك الحرمة.

(٢) توضيحه : انه يمكن ان يقال : ان مشكوك الحرمة في المقام مما يحتمل صدور الحرمة فيه اصلا ، فتكون الرواية وان اريد من الورود فيها ما يساوق الصدور تكون نافعة لدلالتها على انها من المباحات وان كانت اباحتها لا حرجية ، فاشار الى الجواب بقوله : «سيما ... الى آخره» حاصله : انه يكون التمسك لذلك بالرواية من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لاحتمال ان يكون هذا المشكوك قد ورد فيه نهي

٣٣٧

لا يقال : نعم ، ولكن بضميمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به وتم (١).

______________________________________________________

ووصل الى غير واحد ، واختفى على من لا علم له بصدوره ، لانه اذا كان قد صدر فلا يكون الشيء مما لم يرد فيه ، ومع احتمال انه قد صدر واختفى فالتمسك بعدم الورود المساوق لعدم الصدور من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، ولذا قال (قدس‌سره) : «سيما» أي وبالاخصّ لا يمكن التمسك بهذه الرواية فيما اذا كان الورود فيها بما يساوق الصدور في مشكوك الحرمة الذي كان مورد الشك فيه الاختفاء بعد الصدور ، لاحتمال ان يكون الحكم المشكوك فيها قد صدر و «بعد بلوغه الى غير واحد» اخفاه المخفون «و» اذا كان «قد خفى على» خصوص «من لم يعلم بصدوره» كان التمسك بالرواية لاثبات اباحته مع انه يحتمل صدوره واختفاؤه علينا بالخصوص من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لان مضمون الرواية هو دلالتها على اطلاق الشيء الذي لم يصدر فيه نهي ، فلا بد من احراز انه لم يصدر فيه ، ومع احتمال انه قد صدر فيه نهي واختفى فلا يجوز التمسك بها لاحتمال كونه من مصاديق ما ورد فيه النهي ، ويكون حال التمسك بها حال التمسك باكرم العادل في اثبات الاكرام لمن شك في عدالته.

(١) حاصله : انه اذا كان الورود هو ما يساوق الصدور انما لا يجوز التمسك بهذه الرواية لاثبات الاباحة في المشكوك ، لان المشكوك مما يحتمل صدور النهي فيه وموضوع الاباحة فيها هو الذي لم يصدر نهي عنه ، فلا بد من احراز ان هذا المشكوك مما لم يصدر نهي فيه ، ومع عدم احراز الموضوع لا يجوز التمسك بالحكم ، لوضوح ان التمسك بالحكم انما يكون بعد احراز موضوعه ، الّا ان هذا فيما لو اردنا التمسك بالرواية من دون ضم ضميمة اليها يحرز بها ما هو الموضوع في هذه الرواية.

وبعبارة اخرى : انه لا اشكال في صحة التمسك بهذه الرواية مع احراز الموضوع فيها ، وهو كون المشكوك مما احرز عدم صدور الحكم فيه ، وبواسطة الاستصحاب الذي هو من الاصول المحرزة يحرز كون المشكوك مما لم يصدر فيه نهي ، لوضوح كون

٣٣٨

فإنه يقال : وإن تم الاستدلال به بضميمتها ، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعا (١).

______________________________________________________

كل صدور هو مسبوق بعدم الصدور ، فعدم الصدور السابق على زمان صدور الحكم في مقام الشك في الصدور يستصحب هذا العدم ، ويحرز به ان المشكوك مما لم يصدر فيه نهي ، فبواسطة استصحاب عدم الصدور يتحقق الموضوع في هذه الرواية ، ومع تحقق موضوعها يتم الاستدلال بقوله عليه‌السلام : (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) لاثبات الاباحة لهذا المشكوك ، والى هذا اشار بقوله : «نعم) أي انه لا يصح الاستدلال ابتداء بقوله عليه‌السلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «ولكن بضميمة» المحرز للموضوع فيها وهي «اصالة العدم صح الاستدلال به» أي بقوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «وتمّ» المطلوب من اثبات الاباحة للمشكوك حرمته.

(١) توضيحه : ما عرفت من ان الاطلاق حيث يكون الورود بمعنى ما يساوق الصدور فالمراد منه هو الاباحة اللاحرجية العقلائية ، دون الاباحة الشرعيّة الظاهرية المجعولة لمشكوك الحرمة التي كان المهمّ في المقام اثباتها ، ومن الواضح ان الاباحة اللّاحرجيّة هي اباحة واقعيّة لا ظاهرية ، واصالة العدم وان كانت محرزة لعدم الورود الذي هو الموضوع للاباحة ، الّا ان هذه الاباحة اباحة واقعيّة لا ظاهريّة ، والفرض في المقام اثبات اباحة ظاهرية لمشكوك الحرمة ، فما يحرزه الاستصحاب من الموضوع محموله الاباحة الواقعية ، وما نحن بصدد اثباته والبحث عنه هو ما كان المحمول فيه هو الاباحة الظاهرية.

وبعبارة اخرى : ان الفرض اثبات الاباحة شرعا لمجهول الحرمة بما هو مجهول الحرمة ، لا اثبات اباحة لعنوان ما لم يصدر فيه نهي ، والفرق بين الاباحتين واضح ، فان الاولى ظاهرية والثانية واقعيّة ، فما هو المهمّ في البحث لا يثبت موضوعه باصالة العدم ، وما يثبت موضوعه باصالة العدم ليس هو المبحوث عنه في المقام ، فان المهمّ

٣٣٩

لا يقال : نعم ، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهمّ من الحكم بالاباحة في مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان (١).

______________________________________________________

بالبحث هو الاباحة الظاهرية دون الاباحة الواقعيّة ، والى هذا اشار بقوله : «وان تم الاستدلال به» أي بقوله كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي «بضميمتها» أي بضميمة اصالة العدم لإحرازها للموضوع وهو عدم صدور البيان ، وبعد احرازها للموضوع فيه يصح التمسك بقوله كل شيء مطلق «ويحكم باباحة مجهول الحرمة واطلاقه» هذا عطف تفسير للاباحة ، فان المراد من الاطلاق في الرواية هو الاباحة واذا احرز باصالة العدم موضوع الاطلاق فلا بد من ترتيب الاطلاق عليه الذي هو الاباحة ، «إلّا انه لا بعنوان انه مجهول الحرمة شرعا» أي ان هذا الاطلاق والاباحة التي احرز موضوعها باصالة العدم ليست هي الاباحة الظاهرية الشرعية المجعولة للشيء بعنوان انه مشكوك الحرمة بما هو مشكوك الحرمة «بل» هي اباحة واقعيّة ثبتت للشيء «بعنوان انه مما لم يرد عنه النهي واقعا» وليس محل البحث هو اثبات اباحة واقعية للشيء ، بل محل البحث اثبات اباحة ظاهرية للشيء بعنوان انه مشكوك الحرمة.

(١) حاصله : ان البحث في المقام وان كان عن الاباحة الظاهرية للمشكوك ، والثابت بواسطة الاستصحاب هو الاباحة الواقعية دون الظاهرية ، الّا ان الغرض من البحث عن اثبات الاباحة الظاهرية هو رفع العقاب ، ورفع العقاب يثبت بالاباحة الواقعية ايضا.

وبعبارة اخرى : ان المهمّ الاولي هو اثبات الاباحة لرفع العقاب عن مجهول الحرمة سواء كان ذلك للاباحة الواقعية الثابتة له بعنوان انه لم يصدر فيه نهي ، او للاباحة الظاهرية الثابتة له بعنوان انه مشكوك الحرمة ، الى هذا اشار بقوله : «نعم» أي انا نسلّم ان الثابت بضميمة اصالة العدم هو الاباحة الواقعية لمجهول الحرمة «ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالاباحة» لرفع استحقاق العقاب «في

٣٤٠