بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : ان مصلحة التكليف الواقعية لما اقتضت جعله واقتضت ايضا فعليته وايصاله ولو بجعل الاحتياط في مقام الشك فيه ، والمؤاخذة من آثار التكليف العامة للتكليف الفعلي واقعيا كان او ظاهريا أو ثابتا بجعل الاحتياط في مورده ، فيكون رفع المؤاخذة برفع موضوعها في عدم جعل الاحتياط في مورد الشك مما بيد الشارع ، لامكان رفعها برفع موضوعها لا برفعها بنفسها ، وليس هذا من قبيل وساطة الامر الشرعي لترتب الاثر العقلي حتى يقال : ان الامر الشرعي ان كان من قبيل الامارة يصح كونه واسطة لترتيب الاثر العقلي ، وان كان من قبيل الاصل فلا يترتب عليه الاثر العقلي ، لما سيأتي في عدم حجية الاصل في ترتيب الآثار العقلية ، ولما كانت البراءة ورفع الحكم في المقام من الاصول فلا يترتب عليه رفع الآثار العقلية.

فانه يقال : ان ارتفاع الأثر في المقام ليس من باب كون الاصل واسطة لترتبه حتى يأتي التوهم المذكور ، فان الأثر العقلي تارة يكون من الآثار المختصة بالتكليف الواقعي كانتزاع الشرطية مما هو شرط واقعا ، أو من الآثار الخارجية المترتبة على وجود الشيء واقعا ككون زيد البالغ سن العشرين مما تنبت له لحية خارجا ، وفي مثل هذين الأثرين يأتي الفرق فيها بين الاصل والامارة على ما سيأتي تفصيله في باب الاستصحاب.

واخرى يكون الأثر من آثار التكليف الاعم من التكليف الواقعي والظاهري بمرتبته الفعلية ، كمثل المؤاخذة فانها من آثار التكليف سواء كان واقعيا او ظاهريا ، ومثل هذا الاثر العقلي لا يكون ثبوت موضوعه الذي هو التكليف بالاصل من اثبات الاصل للأثر العقلي ، ولا ارتفاعه برفع التكليف بالاصل من ترتيب عدم الأثر العقلي بالاصل ، ولا يفرق في مثل هذا بين الامارة والاصل ، فان ثبوت التكليف سواء كان بالامارة أو بالاصل مما يصح المؤاخذة على تركه وثبوت عدمه سواء كان بالامارة او بالاصل مما يترتب عليه عدم صحة المؤاخذة.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : ان الأثر الاعم للتكليف واقعيا كان او ظاهريا يثبت بثبوت موضوعه ويرتفع بارتفاع موضوعه ، وليس هو من ترتيب الأثر العقلي وعدمه بالاصل حتى يفرق فيه بين الامارة والاصل ، والى ما ذكرنا أشار بقوله : «فانه يقال انها» أي المؤاخذة «وان لم تكن بنفسها أثرا شرعيا إلّا انها» لما كانت «مما يترتب عليه» أي على التكليف «بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه من ايجاب الاحتياط شرعا» لما عرفت من ان ايجاب الاحتياط من آثار مصلحة التكليف المقتضية لجعله ولإيصاله ولو بجعل الاحتياط في مورده ، فايجاب الاحتياط من آثار التكليف بما له من المصلحة المقتضية لإيصاله ، وحينئذ «فالدليل» الدال على ايجاب الاحتياط مثبتا لموضوع المؤاخذة ، والدليل الدال «على رفعه» أي على رفع التكليف ظاهرا في مورد الشك «دليل» واضح «على عدم ايجابه» أي على عدم ايجاب الاحتياط في مورد الشك «المستتبع ل» ارتفاع حق المؤاخذة و «عدم استحقاق العقوبة على مخالفته» أي على مخالفة التكليف المشكوك ، فهي من باب رفع الشيء برفع موضوعه لا لرفعه بنفسه ، فالمؤاخذة لما كانت من الآثار العامة وكان موضوعها بيد الشارع رفعها برفع موضوعها واثباتها باثبات موضوعها ، وليس هو من باب اثبات الاصل للأثر العقلي كما عرفت.

فتحصل مما ذكرنا : ان الأثر العقلي العام مما بيد الشارع رفعه ووضعه برفع موضوعه ووضع موضوعه ، لا لتعلق الرفع والوضع بنفس الأثر العقلي.

ولا يخفى انه قد اتضح مما ذكرنا : ان الرفع في المقام من قبيل الدفع ، فالمراد من الرفع ظاهرا بحسب لسان الحديث هو الدفع لبا ، لان الرفع لغة هو ازالة الموجود ومحو أثر المقتضي الموجود ، والدفع منع المقتضي عن تأثيره ، ولما كانت البراءة في المقام مانعة عن تأثير المصلحة لايجاب الاحتياط في مورد الشك فالبراءة مانعة عن التأثير لا رافعة لأثر المقتضي الموجود ، فان المصلحة الواقعية لم تؤثر أثرا فعليا قد ارتفع بالبراءة ، بل البراءة منعت عن تأثيرها لايجاب الاحتياط في مورد الشك ، فهي

٣٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مانعة عن تأثير المقتضي أثره لا رافعة لأثره الموجود ، ولذا كان المراد من الرفع في الحديث هو الدفع لبا.

وما يقال : من ان الرفع لأثر المقتضي بعد تاثيره هو دفع لتأثيره ايضا فالرفع دفع ورفع ، فلذا صح اطلاق الرفع في مقام الدفع على الدفع وكان اطلاقا صحيحا من غير حاجة الى عناية.

ففيه أولا : ان اشتمال الرفع على الدفع انما هو بحسب الخارج لا بحسب المفهوم ، فان لازم رفع اثر المقتضي المؤثر هو ايجاد المانع عن استمرار تاثيره.

وثانيا : انه لو كان كذلك بحسب المفهوم فانه ايضا لا يصحح الاطلاق من دون عناية ، لان الرفع موضوع لمعنى لازمه الدفع لا يوجب كون الموضوع له فيه امرا عاما يكون الدفع احد مصاديقه حتى يصح استعماله فيه من دون عناية.

وثالثا : ان استعمال اللفظ الموضوع لمعنى عام في احد مصاديقه انما يكون من غير عناية فيما اذا استعمل في المعنى الجامع ، وكان اطلاقه على المحمول عليه باعتبار فرديته لذلك ، واما استعمال المعنى العام في خصوص الخاص بخصوصه فهو ايضا مما يحتاج الى عناية ايضا.

هذا كله في الاشكال في المؤاخذة من ناحية كونها أثرا عقليا.

واما الاشكال بالنحو الثاني من جهة ان المؤاخذة ليست من آثار التكليف الواقعي او الظاهري وان لم يصل ، بل هي من آثار التكليف الواصل ، والمفروض في البراءة عدم وصول البيان ، فما لم يصل البيان لا مؤاخذة ، فلا حاجة لرفعها حتى تكون مرفوعة برفع عدم ايجاب الاحتياط.

والجواب عنه يظهر ايضا مما ذكره المصنف في الجواب عن الاشكال بالنحو الاول ، وهو ان المؤاخذة وان كانت من آثار التكليف الواصل ، ولم ترفع المؤاخذة في المقام برفع التكليف المجهول واقعا حتى يقال انها ليست من آثار التكليف الواقعي وان كان مجهولا حتى نحتاج الى رفع برفع موضوعها ، بل المؤاخذة لما كانت من آثار التكليف

٣٠٣

لا يقال : لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول ، بل على مخالفته نفسه ، كما هو قضية إيجاب غيره (١).

______________________________________________________

العامة للواقعي الظاهري ومن الآثار الثابتة لايجاب الاحتياط ايضا وكانت مصلحة التكليف الداعية لجعله المقتضية لثبوته واقعا ولإيصاله ولو بالاحتياط ، كان للتكليف اقتضاء الثبوت والتاثير لايجاب الاحتياط بداعي ايصال التكليف الواقعي ، وقد عرفت ايضا ان الرفع في المقام رفع بلسان الدليل ودفع لبا كان رفع الاحتياط في مقام وجود المقتضي له الموجب لثبوت المؤاخذة لو جعل الاحتياط في مقام الشك رفعا للمؤاخذة برفع موضوعها ، وهو ايجاب الاحتياط بجعل المانع عن تأثير المقتضي لايجاب الاحتياط ، فالرفع في المقام رفع لأثر التكليف الواقعي الذي ترتفع برفعه المؤاخذة.

وبعبارة اخرى : انه لو لا البراءة لأثر المقتضي لايجاب الاحتياط فجعل الشارع للمانع عن هذا التأثير رفع للأثر ، ولما كان بهذا الرفع ـ الذي هو دفع لبا ـ ترتفع المؤاخذة كان رفعا للمؤاخذة بهذا الاعتبار.

والحاصل : ان الامر في مقام الشك في الحكم الواقعي دائر بين جعل الاحتياط الموضوع للمؤاخذة لثبوت المقتضي له ، وبين جعل عدم الاحتياط لمصلحة مانعة عن تأثير المقتضي المستلزم لرفع المؤاخذة ، ولما جعل الشارع عدم الاحتياط كان قد جعل ما به يرتفع موضوع المؤاخذة وصح نسبة رفع المؤاخذة الى الشارع بهذا الاعتبار ، وان كانت المؤاخذة عقلا من آثار التكليف المنجز بوصوله ، لان الشارع لو لم يجعل عدم الاحتياط في المقام لجعل الاحتياط ، فصح ان يقال ان الشارع رفع المؤاخذة في المقام بايجاده المانع عما يقتضي ثبوت ما هو موضوع المؤاخذة.

(١) توضيحه : ان رفع المؤاخذة على التكليف الواقعي على ما مر منه انما كان تبعا لرفع ايجاب الاحتياط ، لأن ايجاب الاحتياط من آثار التكليف الواقعي بداعي ايصاله

٣٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

والمحافظة عليه ، وهذا انما يتم حيث لا يكون ايجاب الاحتياط ايجابا نفسيا ، بل يكون اما مقدميا أو إرشاديا.

واما اذا كان نفسيا فان العقاب انما يكون على تركه لا على ترك التكليف المحتمل ، مضافا الى انه اذا كان نفسيا لا يكون منجزا للواقع ، فان منجز الواقع ما كان بداعي الواقع لا بداعي نفسه.

واما ان ايجاب الاحتياط لو كان موجودا لكان نفسيا لا مقدميا ولا إرشاديا ...

اما انه ليس بوجوب مقدمي فلان وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها ومترشح منه ، فلا يعقل ان يكون وجوب المقدمة منجزا ووجوب ذي المقدمة غير منجز ويكون المنجز له هو ايجاب مقدمته.

واما عدم كونه ارشاديا فلوضوح ان الارشاد الى العقاب على التكليف الواقعي لا يمكن ، لعدم العقاب على التكليف غير المنجز ، والارشاد الى غيره لا يكون لازمه وضع المؤاخذة حتى تكون مرفوعة برفع الايجاب الاحتياطي.

فايجاب الاحتياط لا يعقل ان يكون وجوبه وجوبا مقدميا ، لعدم امكان كونه منجزا مع كون ذي المقدمة وجوبا غير منجز ، لان تنجزه يكون معلولا بلا علة ، ولا وجوبا ارشاديا لعدم صحة إرشاده الى العقاب الذي هو المهم في وضع المؤاخذة على التكليف لترتفع برفعه ، فيتعين ان يكون وجوبه وجوبا نفسيا لو كان ، وحينئذ يكون رفعه مستلزما لرفع المؤاخذة عليه لا على التكليف الواقعي الذي هو المهم في المقام اثباته بدليل رفع المؤاخذة.

فتحصل مما ذكرنا : ان الوجوب اما نفسي أو مقدمي أو إرشادي ، وحيث ينتفي الاثنان يتعين الثالث وهو الوجوب النفسي ، والى هذا اشار بقوله : «لا يقال لا يكاد يكون ايجابه» أي ايجاب الاحتياط «مستتبعا لاستحقاقها» أي لاستحقاق المؤاخذة «على مخالفة التكليف المجهول» لانه انما يكون حيث يكون وجوب الاحتياط مقدميا أو ارشاديا ، وقد عرفت عدم امكان ذلك فيتعين ان يكون وجوبا نفسيا ، وهو

٣٠٥

فإنه يقال : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا ، وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ، كما هو الحال في غيره من الايجاب والتحريم الطريقيين ، ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به ، ويقال : لم أقدمت مع إيجابه؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، كما يخرج بهما (١).

______________________________________________________

مستتبع لاستحقاق العقاب على نفسه لا على التكليف الواقعي ، ولذا قال (قدس‌سره) : «بل على مخالفة نفسه كما هو قضية ايجاب غيره» من الواجبات النفسية ، ويكون حينئذ اجنبيا عما هو المهم اثباته.

(١) حاصله : ان وجوب الاحتياط في المقام الذي هو بداعي تنجز الواقع وايصاله وجوب رابع ، غير الوجوب النفسي والمقدمي والارشادي ، وهو المسمى بالوجوب الطريقي ، لان المصلحة اذا اقتضت التكليف الواقعي كانت مقتضية لايصاله اما بنفسه او بايجاب الاحتياط ، فايجاب الاحتياط من آثار التكليف الواقعي ، لانه بداعي ايصاله ، وليس وجوبه مقدميا ولا إرشاديا ولا وجوبا نفسيا منبعثا عن مصلحة في ذات وجوب الاحتياط. نعم يصح ان يكون وجوبا نفسيا لمصلحة في غيره ، وقد مر في باب الواجب النفسي ان النفسية لا تلازم كون المصلحة الداعية اليه في ذات الواجب.

وعلى كل ، فهذا وجوب اما في قبال النفسي ، او فرد من افراده ، ولكنه بداعي المصلحة في غيره ، ولذا لا يترتب على مخالفته شيء غير مخالفة الواقع ، ولا يكون العقاب عليه الا عقابا على الواقع ، ويصح ان يحتج به المولى على عبده في مخالفته له اذا كان مخالفة للواقع.

وبالجملة : ان ايجاب الاحتياط الطريقي حاله حال التكليف الواقعي ، لانه به يصل الواقع لو كان كما يصل بوصوله بنفسه ، وبه يصح الاحتجاج وهو موجب لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، كما يصح العقاب على مخالفة

٣٠٦

وقد انقدح بذلك ، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الامة ، حيث كان له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط ، فرفعه (١) ،

______________________________________________________

التكليف لو كان واصلا بنفسه ، وهذا الامر جار في كل ايجاب وتحريم طريقي ، فثبت ان المؤاخذة عليه هي المؤاخذة على التكليف الواقعي ، وحينئذ يكون رفعها برفع ايجاب الاحتياط ، والى هذا اشار بقوله : «ضرورة انه كما يصح ان يحتج بهما» أي بالايجاب والتحريم لو كانا واصلين كذلك «صح ان يحتج به» أي صح ان يحتج بايجاب الاحتياط «ويقال لم اقدمت» على مخالفة التكليف «مع ايجابه» أي مع ايجاب الاحتياط ، ويكون ايجاب الاحتياط بيانا «و» لذلك به «يخرج عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان كما يخرج بهما» أي كما يخرج بوصول التكليف الايجابي والتحريمي عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

(١) لا يخفى ان من جملة الاشكالات على هذا الحديث فيما كان المرفوع هي المؤاخذة على التكليف المجهول هو ان الحديث وارد مورد المنة على أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيرها من الامم ، ولا منة في رفع المؤاخذة على التكليف المجهول ، لوضوح ان المفروض فيه عدم وصوله وعدم قيام البيان عليه ، والعقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان ، ومع حكم العقل بذلك لا منة في رفع العقوبة على التكليف المجهول.

والجواب عنه قد ظهر مما مر من انه بعد ان كانت المصلحة مقتضية لإيصاله بايجاب الاحتياط ، فالأمر فيه دائر بين جعل الاحتياط إيصالا للتكليف الواقعي ، وبين رفع الاحتياط لمصلحة المنة ، وبه ترتفع المؤاخذة لرفع موضوعها ، فلا يكون الرفع في المقام من غير منة بعد ان كانت المصلحة التكليفية تدعو الى ايجاب الاحتياط ، ومن هذا ظهر وجه الانقداح ايضا ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وقد انقدح بذلك» أي بما مر من الكلام «ان رفع التكليف المجهول» برفع ايجاب الاحتياط بعد ان كانت مصلحة التكليف تدعو الى ايجابه «كان منة على الامة حيث كان له تعالى وضعه» أي وضع التكليف المجهول وايصاله وتنجيزه «بما هو قضيته من ايجاب الاحتياط»

٣٠٧

فافهم (١).

ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في (ما لا يعلمون) (٢) ، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في

______________________________________________________

فان ايجاب الاحتياط وضعا للتكليف الواقعي وإيصالا له وتنجيزا له بنحو من أنحاء الوضع والايصال والتنجيز ، ولما كان له تعالى ذلك بايجاب الاحتياط «فرفعه» كان منه منة على عبادة وانه بينه.

(١) لعله اشارة الى انه رفع بلسان الدليل وهو دفع واقعا كما مر بيانه ، او انه رفع للتكليف واقعا باعتبار ثبوته في غير أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفعه عنهم حقيقة ، فيكون رفعا في لسان الدليل ورفعا واقعا ايضا.

(٢) توضيحه : ان الرفع في غير فقرة (ما لا يعلمون) قد كان في ظاهر الحديث واقعا على نفس الفعل ، فان ما اضطر الى ارتكابه وما اكره عليه وما لا يطيقه المكلف هو نفس الفعل لا حكم الفعل ، ومثلها سائر الفقرات ، فان الذي وقع الخطأ والنسيان فيه هو نفس الفعل ايضا ، وكذلك الطيرة والحسد فان الطيرة هي الخوف من نفس الشيء الذي يتطير منه كنعيب الغراب وامثاله ، والحسد انما هو حب زوال نفس نعمة الغير ، وكذلك الوسوسة فانها نفس التفكير فيما يؤثر الوسوسة ، فالرفع فيها ايضا قد وقع على نفس الشيء لا على حكمه ، لوضوح انه لا وجه معقول للاضطرار الى نفس الحكم ، ولا وجه للإكراه على نفس الحكم ، فان معنى الاضطرار الى الشيء هو الاضطرار الى ايجاد ما لم يوجد ، والحكم في هذه الاشياء قد وجد مضافا الى انه ليس مما يوجده المكلف او لا يوجده بل الموجد له الشارع ، فلا وجه لان يكون المكلف ممن اضطر الى ايجاده.

فاتضح مما ذكرنا : ان المراد بالموصول في فقرات الحديث المبارك هو الفعل ، وحيث ان الفعل لم يتسلط عليه رفع لوقوعه في الخارج ، فلا بد وان يكون اضافة الرفع اليه باعتبار كون المرفوع غيره ، اما خصوص المؤاخذة او جميع الآثار أو الاثر

٣٠٨

الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا ، وإن كان في غيره لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه ، فإنه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة (١).

______________________________________________________

الظاهر في كل واحدة منها فيختلف حاله بنسبة الفقرات المذكورة ، فالمرفوع في ما اضطر اليه بحسب المناسبة هو حرمة شربه أو اكله ، والمرفوع في المكره عليه ان كان من المحرمات هي حرمته ايضا ، وان كان من المعاملات هو صحته او لزومه على المكلف ، كما لو اكره على البيع او على الطلاق وهكذا في بقية الفقرات ، وعلى كل فإسناد الرفع الى الفعل لا بد وان يكون اما بنحو المجاز في الاسناد ، او بنحو التقدير وتسليط الرفع اما على المؤاخذة أو على جميع الآثار او على الاثر الظاهر لكل واحدة منها.

اما في فقرة (ما لا يعلمون) فان كان المراد بالموصول فيها هو الفعل فحاله حال الفقرات الأخر ، من توقف صحة الرفع فيها اما على المجاز في الاسناد او على التقدير ، واما اذا كان المراد منها هو الحكم فلا حاجة الى مجاز ولا الى تقدير لصحة اسناد الرفع اليه حقيقة فانه بنفسه مما يرفع ويوضع ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ثم لا يخفى عدم الحاجة الى تقدير المؤاخذة» بناء على تصحيح تسلط الرفع بنحو التقدير لا بنحو المجاز في الاسناد بلحاظها ، فان المصحح فيها كان هو المجاز في الاسناد لا بد وان يكون لحاظ المؤاخذة او جميع الآثار أو الاثر الظاهر.

وعلى كل ، فبناء على التقدير لا وجه الى تقدير المؤاخذة «ولا غيرها من الآثار الشرعية» جميعها او الظاهرة منها «في» خصوص «فقرة ما لا يعلمون».

(١) لا يخفى ان لكون (ما لا يعلمون) شاملا للشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية مسالك :

الاول : ان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) هو الفعل لوحدة السياق ، لكنه بما هو حرام او واجب لا بعنوانه الاولي بل بما هو واجب أو حرام ، فانه لو كان

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المراد منه هو الفعل بعنوانه الاولي لاختص بالشبهة الموضوعية ، لان عدم العلم اللاحق للفعل بعنوانه الاولي هو الجهل به من حيث كونه خمرا أو خلا ، فان العنوان الاولي للفعل هو عنوان ذاته وهو الخمرية والخلية ، فاذا كان عدم العلم من ناحية عدم معرفة كونه خلا أو خمرا كان فقرة (ما لا يعلمون) مختصا بالشبهة الموضوعية ، لكون السبب في الشك فيها هو عدم العلم بانطباق ما هو الحرام والحلال عليه ، لا كون السبب فيه هو الشك في اصل الحكم بعد معرفة الفعل بعنوانه الذي هو له كما في الشبهة الحكمية ، فان التتن بعنوان كونه تتنا معلوم ، ولكن الشك فيه من جهة انه هل هو بما هو تتن حرام واقعا او حلال واقعا؟ ، ولكنه لما كان الحديث واردا مورد المنة ، وكما ان المنة في رفع المؤاخذة أو الآثار الآخر في الشك من ناحية الشبهة الموضوعية ، كذلك المنة متحققة في رفعها من جهة الشك من حيث الشبهة الحكمية ايضا ، ولذلك لا بد لاجل التعميم ان يكون المراد الفعل بما هو حرام أو حلال ، وهو عنوان ثانوي للفعل ، فان عنوان كونه حلالا او حراما يلحق الفعل بعد عنوانه الاولى ، ولما كان الشك في الفعل من جهة كونه حراما او حلالا له سببان : السبب فيه من جهة عنوانه الاولي وحيثية انطباق ما هو الحرام او الحلال عليه ، كالمشكوك فيه من جهة كونه خمرا أو خلا وهي الشبهة الموضوعية ، فانه يصدق عليه انه مشكوك فيه من جهة كونه حراما او حلالا ، والسبب الثاني للشك فيه من ناحية كونه حراما او حلالا هو الشك فيه من ناحية حكمه الواقعي وانه هل هو حرام واقعا او حلال واقعا؟ كالتتن ـ مثلا ـ فانه يصدق عليه ايضا انه مشكوك فيه من ناحية كونه حراما او حلالا ، ولذلك اذا اريد من الموصول الفعل لكنه بما هو واجب او حرام كان عاما لكلا الشبهتين.

الثاني : ان يكون المراد من الموصول في فقرة (ما لا يعلمون) هو الفعل ايضا ولكن التعميم من جهة عدم العلم ، وان عدم العلم والجهل من ناحية الحرمة والحلية

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

مطلقا ، سواء كانتا من ناحية الجهل بالعنوان الاولي ، أو من ناحية الجهل بأصل التكليف فيه.

والفرق بينه وبين الاول ان التعميم والاطلاق في الاول للشبهتين من ناحية الموصوف وهو الفعل بما هو حرام او حلال ، فيكون عدم العلم وصفا للفعل المطلق من ناحية كونه حلالا او حراما ، بخلاف الثاني فان الاطلاق والتعميم فيه من ناحية الوصف ، وهو عدم العلم المطلق من حيث الحرمة والحلية الذي يكون السبب فيهما تارة الجهل بالعنوان الاولي ، واخرى الشك في اصل التكليف.

ويرد عليهما : ان كونه واردا مورد المنة لا يقتضي مخالفة الظهور ، والمدعي لاختصاص الفقرة بالشبهة الموضوعية يدعي ان الظاهر من (ما لا يعلمون) بعد ان يكون المراد منه الفعل هو الفعل الذي لا يعلم حرمته وحليته من حيث كونه فعلا لا عدم العلم به من ناحية عدم العلم بحكمه ، فان الظاهر من (ما لا يعلمون) هو الفعل الذي لا يعلمونه لا الفعل الذي لا يعلمون حكمه.

وبعبارة اخرى : ان الظاهر منه عدم العلم به من ناحية ذاته وكونه فعلا من الافعال المباحة والمحرمة ، لا عدم العلم به من ناحية وصفه وهو الشك فيه من ناحية اصل التكليف العارض له ، ولذلك كان (ما لا يعلمون) مختصا عنده بالشبهة الموضوعية ، وفي هذا الرفع بهذا المقدار ايضا منة ، غايته انها اخص من المنة العامة للشبهتين.

الثالث : ان يكون المراد من الموصول في الفقرات جميعا ليس هو الفعل ولا الحكم ، بل المراد منه هو الشيء ، والموضوع المتلبس بهذه العناوين الموجودة في الفقرات جميعها ، فان المراد من الموصول في ما اضطروا اليه وما اكرهوا عليه وما لا يطيقون هو الشيء الذي صار مضطرا اليه ومكرها عليه وكان مما لا يطاق ، ولا وجه لان يراد به خصوص عنوان الفعل ، فانه تخصيص لا وجه له بعد ان كان (ما) من المبهمات التي ينبغي ان يشار بها الى اعم المفاهيم وهو الشيء مثلا ، ولا يختص

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

بعنوان من العناوين الخاصة الا لدلالة بالخصوص تدل عليه والمفروض عدمها ، وكون منطبق عنوان ما اضطروا اليه وما اكرهوا عليه وما لا يطيقون هو الفعل لا يوجب ان يكون المراد به خصوص عنوان الفعل ، وحينئذ اذا كان المراد من (ما لا يعلمون) هو الشيء الذي لا يعلم به كان عاما للشبهتين ، فان الشيء الذي لا يعلم به ، تارة يكون هو الفعل بعنوانه الاولي ، واخرى يكون هو الحكم.

ولا يرد عليه ما اورد على الاولين ، فانه انما يرد حيث يكون المراد منه هو الفعل فيختص بالشبهة الموضوعية ، لان الظاهر من عدم العلم هو عدم العلم بالفعل كما مر بيانه ، اما اذا كان المراد به الشيء ـ مثلا ـ فان ظاهر عدم العلم بالشيء محفوظ سواء كان منطبقه الفعل او الحكم.

الرابع : ما اختاره المصنف من ان المراد بالموصول في الفقرة هو الحكم ، ويكون شموله لكلتا الشبهتين واضحا ، فان الحكم في الشبهة الموضوعية غير معلوم وفي الشبهة الحكمية غير معلوم ، لان الاطلاق في الموصول المراد به الحكم يعم باطلاقه التكليف المشكوك فيه من ناحية عنوان الفعل ، والتكليف المشكوك فيه من ناحية الشك فيه من أصله ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فان ما لا يعلم من التكليف مطلقا» سواء «كان» التكليف غير المعلوم «في الشبهة الحكمية او» كان التكليف غير المعلوم في الشبهة «الموضوعية».

وقد ظهر مما مر : انه لا حاجة الى التقدير فيه لانه «بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا وان كان في غيره لا بد من تقدير الآثار او المجاز في اسناد الرفع اليه» أي وان كان في غير (ما لا يعلمون) من الفقرات الباقية لا بد اما من المجاز او التقدير بلحاظ خصوص المؤاخذة او جميع الآثار أو الاثر الظاهر.

ثم اشار الى السبب في لزوم احد الامرين من التقدير او المجاز حيث لم يكن المرفوع فيها هو الحكم بقوله : «فانه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا الى آخر التسعة بمرفوع حقيقة» لان المراد من الموصول فيها هو ما لا يصح تسلط الرفع عليه حقيقة ،

٣١٢

نعم لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه ، لكان أحد الامرين مما لا بد منه أيضا (١).

ثم لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها ، فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الاثر الظاهر في كل منها ، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها ، كما أن ما يكون بلحاظه الاسناد إليها مجازا ، هو هذا ، كما لا يخفى.

فالخبر الدال على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الامة ، كما استشهد الامام عليه‌السلام بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق (٢) ، ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما

______________________________________________________

لوضوح كون الفعل وهو اكل الميتة في المخمصة اضطرارا وفي غير المخمصة اكراها لم يرفع ، بل هو قد وقع من المضطر اليه والمكره عليه ، فلا بد وان يكون اسناد الرفع اليه في قوله رفع ما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه إما باعتبار المجاز في الاسناد ، وان رفع الحكم في ذلك هو رفع له ادعاء او يكون الرفع مسندا الى المحذوف المقدر ، وهو احد الاحتمالات الثلاثة من المؤاخذة ، أو جميع الآثار ، أو الاثر الظاهر.

(١) حاصله : انه لو قلنا بوحدة السياق وان المرفوع في (ما لا يعلمون) لا بد ان يكون على نحو المرفوع في الفقرات الأخر ، فيكون المرفوع في (ما لا يعلمون) هو الفعل الذي «اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه» من ناحية كونه حراما او حلالا «لكان احد الامرين» من المجاز في الاسناد والتقدير «مما لا بد منه» فيما لا يعلمون «ايضا» لان الفعل فيما لا يعلمون مثل فيما اضطروا اليه ليس بمرفوع حقيقة ... وكيف يكون مرفوعا والحال ان عدم العلم بالفعل من جهة كونه حراما او حلالا متحقق خارجا؟

(٢) أي بعد البناء على وحدة السياق وان الحال في فقرة (ما لا يعلمون) على نحوه في غيرها من الفقرات ، وان يكون المراد به الفعل ـ مثلا ـ ولا بد فيه اما من التقدير أو المجاز في الاسناد بلحاظ المقدر ، ولكنه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة في خصوص

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فقرة (ما لا يعلمون) مع وضوح ان المقدر في غيرها من الفقرات او الذي كان المجاز في الاسناد بلحاظه هو غير المؤاخذة.

وتوضيح ذلك : انه بناء على التقدير أو المجاز بلحاظ المقدر ، اما ان يكون المقدر خصوص المؤاخذة ، أو الاثر الظاهر لكل واحد مما يناسبه ، او ان المقدر جميع الآثار ، والمختار للمصنف هو الاخير لوجهين اشار اليهما في المتن :

الاول : انه لا وجه لتقدير المؤاخذة في فقرة (ما لا يعلمون) مع ان المقدر في بقية الفقرات غير المؤاخذة ، لاقتضاء ورود الحديث : أي حديث الرفع في مورد المنة رفع جميع الآثار ، أو لا اقل من رفع الاثر الظاهر لكل بما يناسبه ، ولا وجه لان يختص بخصوص رفع المؤاخذة ، فان المنة كما تقتضي رفعها تقتضي رفع غيرها مما يكون في رفعه منة من الله على الامة.

الثاني : استشهاد الامام على رفع غير المؤاخذة في رفع الآثار المترتبة على الاكراه وعدم الطاقة وما أخطئوا فيه يدل عليه الخبر المروي في المحاسن بسند صحيح عن ابي الحسن عليه‌السلام : (في الرجل يستحلف على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقه ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال عليه‌السلام : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن امتي ما اكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا الخبر) (١).

وتوضيح دلالة الخبر ان الامام يسأل عن الحلف بالطلاق والعتاق وصدقه ما يملك حيث يحلف المستحلف فيحلف كاذبا ، فهل يلزمه ما حلف عليه فيتحقق طلاق زوجته وعتق عبده وصدقه ما يملكه؟ ولما كان مورد ورود الخبر هو الحلف مكرها لان حلفه لتحليف العشارين له ، فهو مكره على الحلف لان يتخلص منهم فيحلف لهم الرجل كاذبا ، فيجيب الامام بانه لا يلزم الرجل الحالف كاذبا هذه الامور التي حلف بها ، ومن الواضح ان لزومها من آثار الحلف الكاذب ، ويستشهد الامام

__________________

(١) المحاسن ، ص ٣٣٩ (ط. طهران ـ ١٣٧١).

٣١٤

اضطر إليه وغيره ، مما أخذ بعنوانه الثانوي ، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الاولي ، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع للاثر مستدع لوضعه ، فكيف يكون موجبا لرفعه (١)؟

______________________________________________________

عليه‌السلام على عدم لزومها له بالحديث في رفع الاكراه لها ، ومن الواضح انها من الآثار الوضعية التي المهم فيها لزومها وعدم لزومها ، وليست من التكاليف التي المهم فيها هو رفع المؤاخذة عليها ، ومن الواضح ايضا انه لا يتوهم احد رفع خصوص هذه الثلاثة : أي الطلاق والعتاق وصدقه ما يملك في مورد الاكراه وعدم الطاقة والخطأ ، فيتعين ان يكون المرفوع جميع الآثار وان تنزلنا عن جميع الآثار ، فلا بد وان يكون المرفوع هو الاثر الظاهر لكل بما يناسبه لا خصوص المؤاخذة.

وقد اشار الى الوجه الاول بقوله : «التي يقتضي المنة رفعها» ، والى الوجه الثاني اشار بقوله : «فالخبر دل على رفع كل اثر تكليفي» كان المهم فيه هو رفع المؤاخذة «او وضعي» كان المهم فيه رفع غير المؤاخذة وقد «كان في رفعه منة على الامة» ، نعم لو اكره او اضطر الى فعل ولم يكن في رفعه منة لم يكن مرفوعا بهذا الحديث ، لانه وارد مورد المنة ، كما لو اكره على الصلاة مثلا في ما لا يوكل لحمه ، فحيث لا بد من اعادة الصلاة لا يكون الحديث شاملا لانه خلاف المنة ، ولذا قيده بقوله : وقد «كان في رفعه منة».

(١) توضيحه : ان الشيء تارة تكون له آثار بعنوانه الاولي كالحرمة المترتبة على شرب الخمر ، والخمر هو العنوان الاولي الذاتي للمائع الخاص المسكر ، واخرى تكون له آثار بواسطة عنوانه الثانوي العارض الطارئ عليه كاعادة الصلاة في الثوب النجس في حال نسيانه ، وثالثة يكون الاثر مترتبا على الشيء بأي عنوان كان أوليا أو ثانويا كالضمان المترتب على الاتلاف لمال الغير سواء كان في مورد العلم أو الخطأ أو النسيان.

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى ايضا ان عنوان (ما لا يعلمون) وعنوان (ما اضطروا) وساير عناوين الفقرات المذكورة هي من العناوين الثانوية الطارئة على الشيء ، لوضوح كون الخمر ـ مثلا ـ هي العنوان الاولي المترتب عليه بهذا العنوان حرمة الشرب ، وعلى الخمر بما لها من هذا العنوان يعرض الاضطرار والاكراه وعدم العلم ، فاتضح انها عناوين ثانوية تعرض على الشيء بما له من العنوان الاولي.

اذا عرفت هذا ، تعرف ان هذه العناوين الثانوية التي بواسطة عروضها على الشيء بعنوانه الاولي هي التي أوجبت رفع الاثر ، فلا بد وان يكون المرفوع بها غير الآثار التي كانت العناوين الثانوية موضوعا لها ، بل المرفوع بها الآثار التي كان الموضوع لها هو العنوان الاولي ، فان الخمرية ـ مثلا ـ المترتبة على الخمر هي المرفوعة بالاضطرار او بالاكراه وبعدم العلم ، دون الأثر المترتب على هذه الاشياء بعناوينها الثانوية ، فمن نذر إن نسى أو أخطأ فشرب الخمر تصدق بشيء لا يكون حديث الرفع مقتضيا لرفعه ، فان الظاهر منها ان المنظور فيها آثار عنوان ذلك العنوان غير عنوان نفسها ، فعنوان (ما اضطروا اليه) لا ينظر الى رفع الاثر المترتب على نفس الاضطرار ، وليس غير العنوان الثانوي العنوان الاولي ، فلذلك تكون رافعة لآثار الشيء الثابتة له بعنوانه الاولي ، فلو قلنا بان حديث رفع النسيان دال على رفع أثر الجزء أو الشرط المنسي لا يكون دالا على رفع الاثر المترتب على نفس النسيان ، فلا يكون رافعا لإعادة الصلاة الثابتة لمن صلى في النجس نسيانا.

والحاصل : ان الآثار المترتبة على الشيء بعنوانه الثانوي معناه كون العنوان الثانوي موجبا لوضع ذلك الاثر ، وان ما كان نفس العنوان الثانوي موجبا لوضعه لا يكون هو ايضا موجبا لرفعه ، لاستحالة ان يكون الشيء الواحد بما هو واحد موجبا لأثرين متناقضين ، وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «ثم لا يذهب عليك ان المرفوع فيما اضطر اليه وغيره» كعنوان ما استكرهوا عليه وما لا يعلمون «مما اخذ بعنوانه الثانوي» كما عرفت من ان هذه العناوين عناوين ثانوية ، وعلى كل ،

٣١٦

لا يقال كيف؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان ، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها (١).

______________________________________________________

ف «انما» المرفوع بها «هو الآثار المترتبة عليه» أي على الشيء «بعنوانه الاولي» ، واشار الى الوجه في ذلك وهو الذي ذكرناه أخيرا بقوله : «ضرورة ان الظاهر ان هذه العناوين» الثانوية هي التي «صارت موجبة للرفع و» الآثار المترتبة على نفس هذه العناوين الثانوية تكون هذه العناوين الثانوية هي «الموضوع» لثبوت «الاثر» المترتب عليها ، وما هو الموضوع للاثر هو «مستدع لوضعه» أي لوضع الاثر «فكيف يكون» هو «موجبا لرفعه» فانه من تأثير الشيء الواحد اثرين متناقضين.

(١) توضيحه : ان ما ذكر هو ان المرفوع في هذا الحديث هي آثار العناوين الاولية لا آثار هذه العناوين الثانوية بنفسها ، فالمرفوع بما اضطروا اليه اثر الخمر وهو الحرمة لا اثر الاضطرار ، ولكن هذا مناف لما بنى عليه الاستدلال في إفادة هذا الحديث للبراءة ، وانه يدل على رفع استحقاق العقاب في مخالفة التكليف المجهول ، لان صحة الرفع شرعا كان برفع ايجاب الاحتياط في ما لا يعلمون ، وبرفع ايجاب التحفظ في ما أخطئوا فيه ، وبرفعه ايضا في مورد النسيان ، والموضوع لايجاب الاحتياط هو عدم العلم ، والموضوع لايجاب التحفظ هو الخطأ والنسيان ، فالمرفوع بالحديث هو اثر عدم العلم واثر الخطأ والنسيان ، وهذا مناف لما مر من ان حديث الرفع لا يرفع آثار هذه التسعة وانما يرفع آثار العناوين الاولية ، وانه منة منه على هذه الامة المرحومة رفع ايجاب الاحتياط فيما لا يعلم وايجاب التحفظ في مورد الخطأ والنسيان ، ومن الواضح ان السبب في الاحتياط في مورد عدم العلم هو نفس عنوان عدم العلم ، والسبب في ايجاب التحفظ هو نفس عنوان الخطأ أو النسيان ، اذ لا معنى لجعل الاحتياط في مورد العلم ، ولا معنى لجعل ايجاب التحفظ في غير الخطا والنسيان ، فايجاب الاحتياط وايجاب التحفظ آثار لنفس هذه العناوين الثانوية وهي المرفوعة بهذا الحديث ، وعلى هذا فتكون دعوى كون المرفوع فيه هي خصوص آثار العناوين

٣١٧

فإنه يقال : بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما ، لئلا يفوت على المكلف ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

الاولية منافية لنفس مورد الرفع في هذا الحديث ، فان المرفوع فيه هي آثار العناوين الثانوية ، وإلّا لما تم الاستدلال على البراءة في المقام بهذا الحديث ، والى هذا اشار بقوله : «لا يقال كيف» يكون المرفوع بهذا الحديث هي خصوص الآثار للعناوين الاولية «و» الحال ان «ايجاب الاحتياط فيما لا يعلم وايجاب التحفظ في» مورد «الخطأ والنسيان يكون اثرا لهذه العناوين» الثانوية «بعينها» لوضوح عدم معنى جعل الاحتياط في مورد العلم ، وجعل التحفظ في غير مورد الخطأ والنسيان ، وان من الواضح ان ايجاب الاحتياط وايجاب التحفظ لو كانا لكانا «باقتضاء نفسها» أي باقتضاء نفس هذه العناوين ، وكل ما كان له اقتضاء لشيء كان ذلك الشيء من آثاره ، لوضوح كون المقتضى من آثار مقتضيه.

(١) حاصل الجواب عنه ما عرفت من ان ايجاب الاحتياط وايجاب التحفظ من آثار التكليف الواقعي باعتبار مصلحته ، فان المصلحة كما تدعو الى التكليف به تدعوا ايضا الى ايصاله والى التحفظ عليه ، لئلا تفوت في مقام عدم العلم بالتكليف وبعروض الخطأ والنسيان الحاصلين غالبا من التساهل. نعم مورد جعل الاحتياط وايجاب التحفظ هو حال عدم العلم والخطأ والنسيان ، ولكنه ليس من آثارها ، والى هذا اشار بقوله : «فانه يقال» انهما ليسا من آثار هذه العناوين الثانوية «بل انما يكون» ايجاب الاحتياط وايجاب التحفظ «باقتضاء» من «الواقع» الذي هو التكليف باعتبار مصلحته ، ولكن الجعل للاحتياط وللتحفظ يكون «في موردها» أي في مورد عدم العلم ومورد يمكن وقوع الخطا والنسيان فيه.

ثم اشار الى الدليل على انهما من مقتضيات الواقع دون هذه العناوين الثانوية بقوله : «ضرورة ان الاهتمام به» أي بالتكلف لما فيه من المصلحة الملزمة هو الذي

٣١٨

ومنها : حديث الحجب ، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع (١) ، إلا أنه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف ، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه ، لعدم أمر رسله بتبليغه ، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى (٢).

______________________________________________________

يوجب «ايجابهما» أي ايجاب الاحتياط وايجاب التحفظ «لئلا يفوت على المكلف».

(١) وهو قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) (١).

وتقريب الاستدلال بها على نحو ما مرّ في حديث الرفع ، والكلام فيه يمكن ان يأتي من ساير الجهات التي مرّت في حديث الرفع ايضا ، عدا وحدة السياق فانه لا سياق في هذا الحديث يقتضي كون الموضوع عن العباد والمرفوع عنهم هو الفعل دون الحكم.

وعلى كلّ ، فالحكم الذي لم يعلم به اما للجهل به من أصله كالتتن المجهول حكمه واقعا كما في الشبهة الحكمية ، او للجهل بانطباقه بالفعل على المائع المجهول كونه خمرا أو خلا كما في الشبهة الموضوعية ـ يصدق عليه انه مما حجب الله العلم به عن العباد فهو موضوع عنهم ، فالمراد من الموصول وهو ما في قوله عليه‌السلام : (ما حجب الله علمه) اما الحكم المطلق الشامل للشبهتين ، او الفعل المجهول حكمه تارة للجهل به نفسه ، واخرى للجهل بانطباقه وهو شامل ايضا للشبهتين.

والحاصل : ان كيفية الاستدلال به على نحو ما مرّ في حديث الرفع ، ولذا قال : «وقد انقدح ... الى آخر الجملة».

(٢) حاصله : ان الاشكال المختص بهذا الحديث في دلالته على البراءة هو ظهور الحجب المسند اليه تعالى في ان المحجوب هو التكليف الذي منع الله الاطلاع عليه ،

__________________

(١) التوحيد : ص ٤١٣.

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

اما بعدم تبليغه له لانبيائه واوصيائه وسائط التبليغ ، أو انه اطلعهم عليه ومنعهم من اظهاره ، ومن الواضح ان مورد الشك الذي هو المهم من محل الكلام في المقام هو الشك في التكليف المبلغ الذي اريد اظهاره واطلاع العباد عليه ، ولكنه اختفى لإخفاء المخفين له دون التكليف الذي اراد الله اخفاءه وحجبه ، فيكون لسان هذا الحديث لسان الحديث الوارد عن امير المؤمنين عليه‌السلام : (ان الله حدّد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم) (١) فان التكاليف التي سكت الله عنها ليست هي مورد الكلام في المقام ، ومثلها التكاليف التي حجب الله العلم عنها فانها ايضا ليست مورد الكلام ، بل مورد الكلام التكاليف التي ما سكت عنها واظهرها ولكنها اختفت باخفاء الظالمين وكتمانهم لها ، والى هذا اشار بقوله : «إلّا انه ربما يشكل» في دلالة هذا الحديث على البراءة فيما هو محل الكلام في المقام «بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف» الذي لم يحجب الله العلم عنه واظهره على لسان مصادر التبليغ ولكنه اختفى لإخفاء الظالمين «بدعوى ظهوره» أي بدعوى ظهور الحديث المزبور «في خصوص» التكليف الذي لم يرد اظهاره وهو «ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه» لمصلحة في اخفائه عنهم ، وقد اقتضت تلك المصلحة «لعدم امر رسله بتبليغه».

ثم اشار الى وجه هذا الظهور بقوله : «حيث انه بدونه لما صحّ اسناد الحجب اليه تعالى» أي لما كان الظاهر من هذا الحديث كون الحاجب عن العلم به هو الله ، فلذلك كان مختصّا بالتكليف الذي لم يرد اظهاره ومنع من اطلاع العباد عليه.

ومن الواضح : ان التكليف الذي اختفى لإخفاء المخفين له لم يكن السبب في حجب العلم به هو الله ، بل كان السبب في حجبه هو إخفاء الظالمين ، فنسبة الحجب

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكم ١٠٢.

٣٢٠