بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

المقصد السابع

في

الاصول العملية

٢٨١
٢٨٢

المقصد السابع

في الاصول العملية

وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل ، مما دل عليه حكم العقل أو عموم النقل (١) ، والمهم منها

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه قد تقدم في أوّل الجزء الاول : ان علم الاصول هو عبارة عن القواعد التي تقع في طريق الاستنباط ، والقواعد التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الدليل الدال على ان مؤدّاه هو الحكم الواقعي ، وبعد الكلام فيما سبق عمّا يقع في طريق الاستنباط ... شرع في الكلام عن القواعد التي ينتهي اليها في مقام العمل ، وهي التي اطلق عليها اسم الاصول العمليّة.

والكلام فيها من جهات : الاولى : في تسميتها بالاصول العمليّة او بالدليل الفقاهتي كما في رسائل الشيخ الاعظم (قدس‌سره).

وتوضيح ذلك : ان الدليل المعتبر شرعا ، تارة يكون اعتباره بلسان انه دليل على الحكم الواقعي ، ويطلق عليه مرة الدليل مجردا ، وثانية : انه الدليل الاجتهادي ، وثالثة الامارة ، وان كان يظهر من الشيخ في الرسائل بان ما كان منه دليلا في الاحكام يسمى بالدليل الاجتهادي ، وما كان في الموضوعات يسمى بالامارة.

واخرى يكون اعتباره لا لانه دليل على الحكم الواقعي ، بل لانه هو المرجع في حال الشك سواء كان له بذاته حكاية عن الواقع ناقصة كالاستصحاب بناء على انه مما يفيد الظن ، أو لا كالبراءة مثلا ، وهذا هو المسمى بالاصول العمليّة المبحوث عنه في هذا المقصد السابع ، وانما سمّى بالاصول لان الاصل لغة ما يبتنى عليه الشيء ، وهذا مما يبتنى عليه في حال الشك ، وبالعمليّة لانها هي التي يكون العمل على طبقها في حال الشك.

لا يقال : ان هذا موجود في الأمارة ايضا ، فانها مما يبتنى عليها في حال الشك والعمل على طبقها ايضا في حاله.

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب عنه أولا : ان هذا وان كان موجودا في الامارة الّا انه لما كان المهمّ هو معرفة الحكم الواقعي وكانت الامارة لسان اعتبارها انها الموصلة اليه ، كان تسميتها بالدليل وبالامارة على الحكم الواقعي اولى من تسميتها لكونها يبنى عليها في مقام الشك ، او لان العمل يكون على طبقها في حال الشك ، وبقى هذا السبب للاصول لانها لم يكن اعتبارها لجهة ايصالها اليه ، ولا يلزم في المناسبات الاسمية اختصاص السبب بالمسمى بحيث لا يمكن تحققه في غيره.

وثانيا : ان تسمية الشيء انما هي بعد تمييز ماهيته عن بقية الماهيات ، وبعد امتياز هذه عمّا يقع في طريق الاستنباط ، وانها هي التي ينتهي اليها في مقام العمل بعد الفحص واليأس سميت بالاصول العملية ، فالمسمى بالاصل العملي هو المرجع بعد الفحص واليأس ، ومن الواضح ان الذي يبنى عليه بعد الفحص واليأس مما لا يعم الامارة ، وكذلك كونه مرجعا للعمل بعد الفحص واليأس فانه ايضا مما يختص بها ولا يعم الامارات.

واما السبب في تسميتها بالدليل الفقاهتي والامارة بالاجتهادي ، فلما اشار اليه الشيخ في الرسائل انه مأخوذ من تعريف الاجتهاد ، فانهم بعد ان عرفوا الاجتهاد وبانه استفراغ الوسع لتحصيل الفقيه الظن بالحكم ، وكانت الامارة مما تفيد الظن بالحكم للفقيه اختصت باسم الامارة عليه ، والدليل الاجتهادي للفقيه على ذلك ، والاصل لما لم يكن مما يفيد الظن بالحكم الواقعي ، وكان مرجعا للفقيه بالخصوص لانه في مقام الشبهة الحكمية المختصة به ناسب ان يسمى بالدليل الفقاهتي.

الجهة الثانية ان توصيف هذه القواعد المسماة بالاصول العمليّة بانها هي التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص واليأس انما هو لإدراجها في المسائل الاصولية ، واخراج القواعد الفقهية عنها.

اما وجه ادراجها بهذا العنوان في مسائل الاصول ، فلانها لما كانت من القواعد المختصة بالمجتهد لان موردها الشبهة الحكمية ، فان المجتهد هو الذي يشك في اصل

٢٨٤

أربعة (١) ، فإن مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية ، وإن كان مما ينتهي إليه فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلا أن البحث عنها ليس بمهم ، حيث إنها ثابتة بلا كلام ، من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الاربعة ، وهي : البراءة والاحتياط ، والتخيير والاستصحاب : فإنها محل الخلاف بين الاصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم

______________________________________________________

الحكم بعد الفحص عن الدليل ، وهو الذي يشك في المكلّف به ، وهو الذي يكون عنده الدوران بين المحذورين ، وهو الذي يعتبر يقينه السابق وشكه اللاحق في الحكم الكلي ، ولما كانت عامة لجميع ابواب الفقه كانت مما ينبغي ان يبحث عنها في الامور العامة التي يبنى عليها العمل في جميع الفقه ، فلذلك كانت من مسائل الاصول دون الفقه.

واما اخراج القواعد الفقهية عنها كقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ، وقاعدة الزموهم بما الزموا به انفسهم ، فلأنها ليست مرجعا بعد الفحص واليأس ، بل هي قواعد مجعولة ابتدائية في مواردها ، مضافا الى ما سيذكره في الجواب عن قاعدة الطهارة في كونها ليست عامة ، وانما هي قواعد مختصة بأبواب خاصة ، لو تمّ هذا الجواب عنده.

(١) هذه الجهة الثالثة ، ولا يخفى ان حصر الاصول في هذه الاربعة استقرائي ، لإمكان ان يكون في مقام الشك في اصل التكليف لا يرجع الى البراءة ، بل يكون المرجع الاحتياط أو التخيير ، وكذلك في مقام اليقين السابق والشك اللاحق المرجع البراءة لا الاستصحاب.

واما طريق الحصر في هذه الاربعة فعقلي كما تقدم بيانه في أوّل هذا الكتاب ، وعلى كل فالاصول الاربعة هي : البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب.

٢٨٥

النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة وبرهان هذا مع جريانها في كل الابواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها (١) ،

______________________________________________________

(١) هذه الجهة الرابعة ، وحاصلها : ان التعريف المذكور للاصول العملية بانها التي ينتهي اليها المجتهد بعد الفحص واليأس مما ينطبق على قاعدة الطهارة الجارية في الشبهة الحكمية ، كما لو شككنا في طهارة حيوان متولد من نجس العين وطاهر العين ، فان المرجع في الحكم بطهارته قاعدة الطهارة وهي مما تختص بالمجتهد لانها من الشبهة الحكمية ، والرجوع اليها لا يكون إلّا بعد الفحص واليأس ، فانه لو وجد نص دال على طهارته او نجاسته كان هو المرجع دون قاعدة الطهارة ، فما الوجه في اخراجها من الاصول العملية وادراجها في القواعد الفقهية؟ والى هذا الاشكال اشار بقوله : «فان مثل قاعدة الطهارة ... الى آخر الجملة» وقد أجاب عنها بجوابين :

الاول : ان البحث انما يكون في الامور غير المسلمة عند الكل ، لوضوح انه لا وجه للبحث عما هو مسلم عند الكل ، ولما كانت هذه الاصول الاربعة غير مسلمة عند الكل اختصت بالإفراد لأجل البحث ، بخلاف قاعدة الطهارة فانها من الامور المسلمة عند الكل ، ولذا لم تدرج في هذه الاصول المبحوث عنها ، ومرجع هذا الجواب الى تسليم كونها من الاصول العملية وليست من مسائل الفقه ، وانما لم تدرج لانه لا مجال للبحث عنها لتسليمها ، واليه اشار بقوله : «إلّا ان البحث عنها ليس بمهم حيث انها ثابتة بلا كلام ... بخلاف الاربعة ... الى آخر الجملة».

الثاني : ان السبب في كونها ليست من الاصول العملية هو عدم عمومها لجميع ابواب الفقه لاختصاصها بباب الطهارة ، بخلاف هذه الاربعة فانها عامة لجميع ابواب الفقه ، واليه اشار بقوله : «هذا مع جريانها» أي جريان الاصول الاربعة المذكورة «في كل الابواب» الفقهية «واختصاص تلك القاعدة» أي قاعدة الطهارة «ببعضها» أي ببعض ابواب الفقه.

٢٨٦

فافهم (١).

فصل

لو شك في وجوب شيء أو حرمته ، ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا ترك الاول وفعل الثاني ، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته ، كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النصّ أو إجماله ، واحتماله الكراهة أو الاستحباب ، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما ترجيح ، بناء على التوقّف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.

وأما بناء على التخيير ـ كما هو المشهور ـ فلا مجال لاصالة البراءة وغيرها ، لمكان وجود الحجة المعتبرة ، وهو أحد النصين فيها (٢) كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) الظاهر انه يشير الى ما يرد على الوجه الثاني ، من ان كون المسألة عامة لجميع الابواب ليس هو الملاك في كونها اصوليّة ، بل الملاك في كونها اصولية هو كونها مما تختص بالمجتهد وانه هو الذي ينتهي اليها ، وان الانتهاء اليها يكون بعد الفحص واليأس ، وهذا الملاك موجود في قاعدة الطهارة.

ولعله يشير الى المناقشة في الجواب الاول ايضا ، وهو ان الملاك في البحث عن هذه الاصول معرفتها لا كونها مسلّمة او غير مسلّمة ، فكونها مسلّمة عند الكل لا يقتضي خروجها ، مضافا الى ما يقال من انها غير مسلمة الجريان عند الكل.

(٢) لا يخفى ان الشيخ (قدس‌سره) قسّم الشك في المقام الى اقسام :

أولا : الى الشك في التكليف ، تارة مع العلم بنوع التكليف والشك في المكلف به ، واخرى مع عدم العلم به والشك في اصل التكليف.

وثانيا : باعتبار كون المشكوك ، تارة هو الوجوب ، واخرى التحريم.

وثالثا : باعتبار كون الشبهة تكليفية تارة ، واخرى موضوعيّة.

ورابعا : باعتبار كون الشبهة الحكمية ناشئة من جهة فقد النص مرة ، واخرى من جهة اجمال النص ، وثالثة من جهة تعارض النصين.

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والمختار للمصنف هو صحة التقسيم من الناحية الاولى فقط ، واليه اشار بقوله : «لو شك في وجوب شيء او حرمته ولم تنهض عليه حجة» ، وبقوله : «ولم تنهض عليه حجة» اشار الى التقسيم من ناحية العلم بالنوع والشك في المكلف به ، فان العلم الاجمالي حجة ، فالشك في الوجوب والحرمة تارة فيما لم تنهض حجة وهو مورد الكلام فعلا ، واخرى فيما نهضت حجة على نوع التكليف وهو العلم الاجمالي به وشك في المكلف به ، وسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

واما التقسيم من ناحية كون المشكوك وجوبا او حرمة فلا فرق فيه من ناحية صحة جريان البراءة وعدمها الذي هو المهمّ في البحث فعلا على ما هو الصحيح ، وان خالف بعض الاخباريين في خصوص ما شك في حرمته.

ومثله التقسيم من جهة كون الشبهة تكليفية او موضوعية ، لأن الشبهة الموضوعية داخلة في الفقه وخارجة عما يبحث عنه في الاصول.

وكذلك التقسيم من ناحية منشأ الشبهة ، لان المدار على عدم قيام الحجة الفعلية سواء كان ذلك للفقد او للاجمال او للتعارض.

ثم اشار الى ما هو الصحيح المختار له ولعامة الاصوليين بقوله : «جاز شرعا» لاجل البراءة الشرعية كقوله : رفع ما لا يعلمون «وعقلا» لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهي البراءة العقلية «ترك الاول» وهو عدم الاتيان بما شك في وجوبه «وفعل الثاني» وهو الاتيان بما شك في حرمته «وكان» المكلف «مأمونا» من جهة «عقوبة مخالفته» للتكليف المشكوك فلا عقاب عليه في مخالفته للوجوب المشكوك بترك اتيانه ، ولا في مخالفته للتحريم المشكوك باتيانه.

ثم اشار الى انه لا وجه لعقد البحث في فصول متعددة لاجل فقدان النصّ ، ولاجل اجماله تارة من ناحية الوجوب والاباحة أو الحرمة والاباحة ، واخرى مع احتمال الكراهة والاستحباب ، وثالثة لاجل تعارض النصين كما فعله الشيخ الاعظم في الرسائل بقوله : «كان عدم نهوض الحجة لاجل فقدان النص او» لاجل

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

«اجماله» وبقوله : «واحتماله» أي احتمال المجتهد الباحث «للكراهة او الاستحباب» اشار الى ما ذكرنا من ان الطرف المشكوك الوجوب والحرمة تارة هو الاباحة فقط ، واخرى بضمّ الكراهة في مورد كون المشكوك هو الحرمة ، وبضمّ الاستحباب في مورد كون المشكوك هو الوجوب «او» كان عدم نهوض الحجة لاجل «تعارضه» أي تعارض النص.

ثم اشار الى ان الجواز المذكور تركا وفعلا في مقام تعارض النصين مشروط بشيئين :

الاول : ان لا يكون احد النصين ارجح من الآخر ، فان الحجة القائمة الفعلية تكون هي النص الراجح.

والثاني : كونه مبنيا على التوقف في النصين المتعارضين ، اما بناء على التخيير في المتعارضين فلا وجه للجواز المذكور لقيام الحجة الفعلية وهو وجوب العمل باحدهما بقوله : «فيما لم يثبت بينهما ترجيح» وبه اشار الى الشرط الاول ، والى الثاني اشار بقوله : «بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين».

ثم اشار الى الوجه في عدم الرجوع الى البراءة بناء على التخيير بقوله : «واما بناء على التخيير كما هو المشهور» في النصين المتعارضين «فلا مجال لاصالة البراءة» التي هي الجواز المذكور «و» لا مجال ل «غيرها» ايضا كالاحتياط كما هو رأي بعض الاخباريين ، ثم اشار الى السبب في عدم صحة الرجوع الى البراءة ولا الى غيرها بقوله : «لمكان وجود الحجة المعتبرة وهو احد النصين فيها» أي في مسألة تعارض النصين ، ومع وجود النصّ الشرعي على الحكم الشرعي لا وجه للرجوع الى الاصول ، لما عرفت من انها مشروطة بعدم الدليل.

٢٨٩

وقد استدل على ذلك بالادلة الاربعة : اما الكتاب فبآيات اظهرها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) وفيه : إن نفي

______________________________________________________

(١) اما كونها اظهر فلأن هذه الآية المباركة بعد تمامية مقدماتها يكون لها ظهور واضح على البراءة في مقام الشك في اصل التكليف.

واما المقدمات التي يبتني عليها الاستدلال بها للبراءة فثلاث :

الاولى : كون المراد من العذاب المنفي فيما هو ما يعمّ العذاب الاخروي ، لانه لو كان المراد منه هو العذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة تكون اجنبية عما نحن فيه ، لانه كان ذلك لعدم تصديق الامم المبعوث لها الانبياء وتكذيبهم لهم وجرأتهم على ايذائهم أو قتلهم ، لا لمخالفتهم للتكاليف الفرعية مع وصول بيانها لهم.

الثانية : ان المراد من الرسول هو الاعم من الرسول الظاهري وهم الانبياء والرسول الباطني وهو البيان ، فانه لو كان المراد بها خصوص الرسول الظاهري ايضا تكون اجنبية عن المقام ، لان مدلولها يكون هو ان نفي العذاب وان كان اخرويا منوط بالرسول الظاهري ، وهذا المعنى اجنبي عما هو المطلوب اثباته بها في البراءة ، من كون نفي العذاب منوطا بعدم وصول البيان ، فالاستدلال بها للبراءة يتوقف على كون المراد من الرسول البيان ، وانما كني به عن البيان لملازمة البيان للرسول غالبا ، لان البيان من الله لأحكامه انما يكون على لسان رسله ومن طريقهم.

الثالثة : ان يكون المراد من نفي العذاب هو نفي استحقاق العذاب لا نفي فعلية العذاب ، لان المبحوث عنه في البراءة هو نفي استحقاق العقاب عند عدم البيان ، ولا ملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، لوضوح ان الله تعالى فضله ربما لا يعاقب من استحق العقاب ، فاذا كانت الآية المباركة في مقام رفع استحقاق العقاب عند عدم البيان ـ المكنى عنه بالرسول ـ كانت مربوطة بمحل الكلام ودالة على البراءة الشرعيّة عند عدم البيان الواصل ، واذا كان المنفي فيها فعلية العقاب لا تنفع دليلا في ما نحن فيه ، لاحتمال كون من لم يصله البيان مستحقا للعقاب بمجرد احتماله لذلك وقد

٢٩٠

التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده ، مع استحقاقهم لذلك (١) ، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين

______________________________________________________

رفع الله عنه بفضله ومنّته فعلية العقاب ، فلا تصلح دليلا لمن كانت دعواه عدم استحقاق العقاب عند عدم البيان.

فاتضح : ان الاستدلال بها يتوقف على هذه المقدمات الثلاث ، وبعد تماميتها تدل على البراءة الشرعية فيما لو شك في وجوب شيء او حرمته بعد الفحص واليأس من البيان.

(١) لم يشر المصنف الى المناقشة في المقدمة الاولى بكون السياق ظاهرا في نفي العذاب الدنيوي الذي حدث في الأمم السابقة ، ومنه يظهر المناقشة في المقدمة الثانية بان ظاهرها كون المراد من الرسول هو الرسول الظاهري وهم الانبياء لتكون اجنبية باحد هذين الظهورين عن المقام ، بل يمكن دعوى ان احتمال كون المراد من الرسول هو خصوص الرسول الظاهري كاف في عدم صحة الاستدلال بها لإجمالها.

وعلى كل ، فقد اشار الى المناقشة في المقدمة الثالثة فقط ، وهو كون الآية المباركة اما ظاهرة في نفي فعلية العذاب ، أو لا أقل من اجمالها من ناحية كون المنفي فيها هو الاستحقاق او الفعليّة ، والاستدلال انما يتم فيها على البراءة حيث يكون لها ظهور في نفي الاستحقاق فيكفي الاجمال من هذه الناحية في عدم تمامية الاستدلال بها ، وفي مثل هذا يقال اذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، لان معنى الاحتمال في المقام هو الاجمال ، وقد عرفت ان الاستدلال بها يتوقف على ظهورها في نفي الاستحقاق.

ويظهر من المصنف دعوى اجمال الآية من ناحية المرفوع والمنفي فيها ، وانها لا ظهور لها في نفي الاستحقاق لاحتمال كون المرفوع فيها هو الفعليّة ، ومع هذا الاحتمال لا ظهور لها في نفي الاستحقاق حتى يصح الاستدلال ، لانه قال (قدس‌سره) : «وفيه» أي وفي الاستدلال بهذه الآية المتوقف على ظهورها في رفع الاستحقاق «ان نفي التعذيب» أي نفي فعلية التعذيب «قبل اتمام الحجة» المكنى

٢٩١

الاستحقاق والفعلية (١) ، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا ، مع وضوح منعه ، ضرورة أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم

______________________________________________________

عنه «ببعث الرسل لعله كان منّة منه تعالى» وفي تعبيره بلفظ لعل دلالة على احتمال كون المنفي هي الفعليّة ، وعلى كل فيحتمل كون المنفي هي فعلية التعذيب قبل البيان منة منه تعالى «على عباده مع استحقاقهم لذلك» أي العقاب ، وعلى هذا فلا دلالة لها على ما هو المدعى في المقام من عدم الاستحقاق عند عدم البيان.

ويحتمل ان يشير المصنف بقوله : «لعله كان منّة منه تعالى» الى ان احتمال ورودها مورد المنة هو الموجب لاحتمال كونها في مقام رفع الفعليّة ، لان رفع العقاب حيث لا استحقاق فيه لا يكون فيه منّة ، وانما تكون المنّة في رفع الفعلية مع الاستحقاق ، وحيث يحتمل كون ورودها مورد المنّة لذا كان المحتمل ايضا ان تكون في مقام رفع الفعليّة دون الاستحقاق.

لا يقال : لا يحتمل ورودها مورد المنّة حتى يكون رفع الفعلية محتملا لتصريحها برفع العقاب قبل اتمام الحجة ببعث الرسل ، وحيث لا تتم الحجة لا بد وان يكون المرفوع هو الاستحقاق لعدم احتمال كون احتمال البيان منجزا.

فانه يقال : ليست المنّة المحتملة لدعوى كون الاحتمال بنفسه منجزا ، بل المنّة انما هي في مورد الاحتمال حيث يمكنه تعالى ان يجعل الاحتياط في هذا المقام ، فتكون المنّة في رفع الاحتياط في مورد امكان جعله ، فيكون المراد من الآية بناء على ارادة نفي الفعلية فيها انا رفعنا فعلية العقاب عنهم في مورد عدم البيان ، لانه يمكننا جعل الاحتياط في هذا المقام فلم نجعله منّة منّا على عبادنا ، فما لم يصل البيان منّا اليهم ففعلية العذاب عنهم مرفوعة منّة منّا عليهم ، لامكان ان نجعل الاحتياط في هذا المقام فلم نجعله لاجل المنّة ، وكانت فعلية عذابنا لهم منوطة بوصول البيان.

(١) توضيحه : ان الشيخ (قدس‌سره) في رسائله قال في كلامه على دلالة هذه الآية المباركة : انها وان كانت غير ظاهرة في نفي الاستحقاق حتى تكون دليلا لنا على

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

البراءة ، إلّا انه مع ذلك يصح الاستدلال بها في قبال الاخباريين المدعين الاحتياط في مقام الشك في اصل التكليف ، لانهم معترفون بالملازمة بين نفي الفعلية في المقام وبين نفي الاستحقاق ، فالآية لو كانت ظاهرة في نفي الفعلية لدلت بالملازمة على نفي الاستحقاق ، وحينئذ تكون دليلا على البراءة.

وقبل الشروع في الجوابين اللذين اشار اليهما المصنف عن صحة الاستدلال بها في قبال الاخباريين ـ نقول : ان توهم الملازمة بين الفعلية وبين الاستحقاق في المقام منشؤه اما ما يظهر من ادلة الاخباريين على الاستحقاق بما دلّ على الفعليّة ظاهرا مثل روايات التثليث الدالة على ان اقتحام الشبهة موجب للوقوع في الهلكة ، بدعوى ان المراد من الهلكة هي العقاب ، فمدلول الروايات على هذا ان اقتحام الشبهة يترتب عليه الهلكة الفعليّة ، فلو لم يكن تلازم عندهم بين الفعلية والاستحقاق لما صح الاستدلال بما يدل على الفعلية على الاستحقاق.

وفيه اولا : ان استدلال الاخباريين على الاستحقاق بفعلية العقاب في مورد الشبهة لا يدل على الملازمة مطلقا بينهما ، لوضوح ان فعلية العقاب لا بد وان تكون مسبوقة باستحقاقه ، بخلاف نفي الفعلية فانه لا يقتضي نفي الاستحقاق ، لان وجود الاخص ولو موردا يستلزم وجود الاعم ، بخلاف نفي الاخص فانه لا يستلزم نفي الاعم ، وفعلية العقاب اخص من الاستحقاق اذ قد يكون استحقاق ولا فعلية ، ولكنه لا يعقل ان تكون فعلية للعقاب من دون استحقاق ، فاستدلالهم بها من جهة الاحتياط لا يستلزم قولهم بالملازمة حتى في مورد نفي الفعلية.

وثانيا : ما سيأتي من ان لازم الملازمة عدم الاثر للتوبة وللشفاعة ، واما ان يكون منشأ الملازمة الذي اعترف بها الاخباريون هي دعوى الاجماع في خصوص المقام ، على ان نفي الفعلية فيه يستلزم نفي الاستحقاق : أي قيام الاجماع في مورد عدم البيان الواصل على ان نفي الفعلية فيه تلازم نفي الاستحقاق. ولا وجه لدعوى الاجماع في المقام ، فان العقاب الفعلي امر تكويني واستحقاقه امر عقلي ، ولا وجه

٢٩٣

بحكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه (١) ،

______________________________________________________

للاجماع على الملازمة شرعا بين امرين احدهما تكويني والآخر عقلي ، لان الاجماع انما يصح قيامه على مجعول تشريعي ولا مجعول تشريعي في المقام ، فلا ينبغي ان يقول الاخباريون بهذا الاجماع ليكون كاشفا عن اعترافهم بهذه الملازمة ، وعلى كل فلم يظهر الوجه واضحا في دعوى اعترافهم بهذه الملازمة.

(١) حاصل الجواب الاول عن صحة الاستدلال بها في قبال الاخباريين مع انه لا ملازمة واقعا بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق ان الاستدلال بها لا يصح الّا على نحو الجدل ، والمراد بالاستدلال الجدلي هو الاستدلال بما هو غير صحيح عند المستدل ، ولكنه حيث انه يعترف به خصمه فيستدل به كإلزام به ، والمهمّ لنا في المقام ليس هو مجرد إلزام الاخباريين ، بل ما يكون لنا دليل وحجة واقعا في مقام عملنا على البراءة في مقام الشك في اصل التكليف فلا تكون الآية حجة لنا واقعا على البراءة ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «لما صح الاستدلال بها» أي بهذه الآية «الّا جدلا» لا واقعا.

الجواب الثاني : انا نمنع اصل صحة نسبة الملازمة عند الاخباريين ، فانه لا يعقل ان يقول الاخباريون بالملازمة بين استحقاق العقاب وفعليته ، اذ لا يعقل ان يكون الاقتحام في مورد الشك اعظم من الاقتحام مع القطع بالحكم ، فان من ترك الواجب المقطوع بوجوبه او فعل الحرام المقطوع بحرمته لا ملازمة فيه بين استحقاق المقتحم وفعلية العقاب ، والّا للزم ارتفاع أثر التوبة ولزم الالتزام بانه لا تنفع في رفع السيّئة فعل أي حسنة ، مع ان الاخبار متواترة بان التوبة وفعل بعض الحسنات كزيارة سيد الشهداء مثلا يرفعان أثر الذنوب مهما كانت ، هذا مضافا الى ان لازم دعوى الملازمة المذكورة انكار الشفاعة من اهلها ، وانكار الرحمة التي وسعت كل شيء ، فلا يعقل ان يقول الاخباريون ومنهم اعظم علمائنا الاعلام بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ليكون نفي الفعلية مستلزما لنفي الاستحقاق ، واليه اشار بقوله : «مع وضوح

٢٩٤

فافهم (١).

وأما السنة : فبروايات منها : حديث الرفع (٢) ، حيث عد (ما لا يعلمون) من التسعة المرفوعة فيه ، فالالزام المجهول مما لا يعلمون ، فهو مرفوع فعلا وإن كان ثابتا واقعا ، فلا مؤاخذة عليه قطعا.

______________________________________________________

منعه» أي مع وضوح منع اصل دعوى اعتراف الخصم بالملازمة من جهة «ان ما شك في وجوبه او حرمته ليس عنده» أي ليس عند من نسب اليه الاعتراف «باعظم مما علم بحكمه» وقطع به وعصى المكلف واقتحم متعمدا عاصيا ، فانه لا ينبغي لاحد ان يلتزم بالملازمة فيه بين الاستحقاق والفعلية ، فكيف يمكن ان يلتزم احد بالملازمة بينهما في مقام الاقتحام فيما شك في اصل التكليف فيه ، وعلى كل فلو ثبت وعيد للمقتحم في الشبهة فلا يكون الّا كالوعيد على من اقتحم مع القطع بالحكم ، وسيأتي في مقامه انه لم يثبت وعيد للمقتحم في الشبهة ، والى هذا اشار بقوله : «وليس حال الوعيد بالعذاب فيه» أي في ما شك في وجوبه او حرمته «الّا كالوعيد به» أي بالعذاب «فيه» أي فيما علم بحكمه.

(١) لعله اشارة الى ان جوابه الثاني غاية ما يدل عليه انه لا ينبغي ان يقال بالملازمة ، لا ان من نسب اليه القول بها لم يقل بها ، والصحيح في مقام ردّ دعوى النسبة هو نقل كلام من نسب اليه الملازمة بالتصريح بعدم الملازمة.

(٢) المراد منه الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رفع عن امتي تسعة اشياء الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا اليه والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الانسان بشفته) (١).

ومحل الاستدلال منه هي فقرة ما لا يعلمون ، وبيان الاستدلال بها هو ان الاحتمالات في المراد من كلمة الموصول وهي (ما) كثيرة ، اهمها ثلاثة :

__________________

(١) التوحيد : ص ٣٥٣ بتفاوت يسير.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاول : ان يكون المراد منه هو الحكم المطلق الشامل للحكم الكلي ككلي الوجوب او التحريم المشكوكين ، والحكم الجزئي كحكم المائع المشكوك خمرا أو خلا.

فالمتحصل من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رفع ما لا يعلمون) هو رفع الحكم غير المعلوم ، وباطلاقه يشمل الحكم الكلي والجزئي ، وفي كون الحكم المرفوع جزئيا في المائع المشكوك كونه خمرا أو خلا اشكال ، لوضوح كونه كليا لشموله لكل حكم شك فيه من جهة اشتباه عنوانه الذاتي ككونه خمرا أو خلا ، فلا بد وان يكون المراد من الحكم الكلي هو الحكم المشكوك فيه من ناحية الشبهة الحكميّة ، كالحكم في التتن المشكوك حرمته ، فان عنوانه الذاتي معلوم وهو كونه تتنا ، والمجهول فيه حكمه الواقعي من ناحية حرمته واباحته ، فالشك فيه من ناحية حكمه لعدم بيان واصل فيه يدل على حرمته او على حليته.

والمراد من الحكم الجزئي هو الشك في حكم الشيء لاجل اشتباه عنوانه الموضوع للحكم المعلوم ، فان الخمر معلوم حكمه والخلّ معلوم حكمه ، فاذا شك في مائع كونه خمرا أو خلا فالشك فيه من ناحية حكمه نشأ من جهة عدم معلومية ما هو موضوع الحكم ، وهي المسماة بالشبهة الموضوعية.

الثاني : ان يكون المراد من الموصول هو الفعل الذي لا يعلم حكمه ، سواء كان عدم معلوميّة حكمه لاجل الشك في اباحته وحرمته ، أو لاجل الشك في عنوانه من حيث كونه خمرا أو خلا ، وعلى هذا فيشمل الحديث الشبهة الحكمية والموضوعية ايضا ، فانه كما يصدق على المشكوك عنوان انه مجهول لعدم العلم بكونه خمرا أو خلا ، كذلك يصدق على المعلوم العنوان كالتتن انه مجهول من جهة كونه مباحا أو حراما ، غايته ان السبب في الجهل في الاول هو عدم العلم بعنوانه الاولي الذاتي السابق على الحكم وهو الخمرية والخلية ، والسبب في الجهل في الثاني هو عدم العلم بالعنوان الثانوي غير الذاتي المتأخر عن الحكم وهو كونه مباحا أو حراما ، ولا مانع

٢٩٦

لا يقال : ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية ، كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا ، فلا دلالة له على ارتفاعها (١).

______________________________________________________

من ناحية هذا الفرق بعد ان كان عنوان ما لا يعلمون شاملا لكل شك في الحكم المتعلق بالفعل.

الثالث : ان يراد من الموصول هو خصوص الفعل المشكوك من ناحية عنوانه الاولي ، وحينئذ لا يشمل الحديث الشبهة الحكمية ويختص بالشبهة الموضوعية.

والمختار للمصنف هو الاحتمال الاول من الاحتمالات الثلاثة ، واليه اشار بقوله : «فالالزام المجهول مما لا يعلمون» سواء كان الزاميا وجوبيا أو تحريميا «فهو مرفوع فعلا وان كان ثابتا واقعا» ، وفي تعبيره بالالزام دلالة واضحة على ان المرفوع عنده هو الحكم ، وفي قوله فعلا دلالة ايضا على ان المرفوع هي رتبة الحكم الفعلية على ما اختاره في مراتب الحكم : من الاقتضائية والإنشائية والفعلية والتنجز ، ولا يخفى ان لازم رفع الحكم بمرتبته الفعلية هو عدم المؤاخذة عليه لو كان حراما واقعا ففعله المكلف أو كان واجبا واقعا فتركه ، ولذا فرع عليه بقوله : «فلا مؤاخذة عليه قطعا».

(١) قد استشكل في دلالة الحديث على كون المرفوع فيه هو الحكم بوجوه :

منها : ان الرفع يناسب كون المرفوع ثقيلا ولا ثقل في نفس الحكم ، وانما الحكم سبب للثقل في نفس الفعل ، ومن الواضح ان السبب لا يوصف بمسببه ، فلا يوصف سبب البياض بانه ابيض ، وانما الموصوف بالابيض هو البياض نفسه او الجسم الابيض دون سبب البياض ، فلا بد وان يكون المرفوع هو الفعل لانه هو الموصوف بالثقل المناسب للرفع دون الحكم لانه سبب لما فيه الثقل ، واذا كان المراد منه الفعل فيضم اليه ما سيأتي من دعوى كون الظاهر من عدم العلم بالشيء هو عدم العلم بنفسه وبعنوانه الاولي فيختص بالشبهة الموضوعية.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب عنه أولا : انه فرق بين مسبب السبب وبين آثار المسبب ، فان السبب وان كان لا يوصف ولا يحمل عليه مسببه ولكنه يوصف ويحمل عليه آثار السبب ، فان من أوجد الماء فروى به العطاشى لا يوصف بانه ماء ، ولكنه يوصف بانه روى العطاش ، وكذلك من اوجد البياض لا يوصف بانه ابيض ولا يحمل عليه الابيض ، ولكنه يحمل عليه آثار البياض ، فيقال لمن أوجد البياض انه فرق البصر.

وثانيا بان الحكم نفسه قد ورد وصفه بالثقل كما في قوله تعالى : (سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(١)(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً)(٢) الخ. ومن الواضح ان المراد من القول الثقيل هو الحكم بناشئة الليل.

وثالثا : ان الحكم والفعل من قبيل المتعلق والمتعلق به ، ويوصف المتعلق بوصف متعلقه ، فيقال الحكم سهل والحكم صعب اذا كان متعلقه سهلا أو صعبا.

ومنها : ان وحدة السياق في بعض فقرات الحديث تقضي بان المراد من الموصول هو الفعل دون الحكم ، لان المراد من ما استكرهوا عليه وما اضطروا اليه وما لا يطيقون هو الفعل الذي اكرهوا عليه والفعل الذي اضطروا الى ارتكابه والفعل الذي لا يطيقون الاتيان به ، وكذلك المراد من الخطأ فانه هو الفعل الذي كان خطأ ، وكذلك النسيان فان المراد منه هو الفعل الذي وقع من الشخص نسيانا ، والظاهر من عدم العلم به هو عدم العلم بنفسه وبذاته ، فينحصر في الشبهة التي كان الجهل فيها مستندا الى الجهل بعنوانها الذاتي الاولي ، وهي مثل المائع غير المعلوم كونه خمرا أو خلا ، وهذه الشبهة هي الشبهة الموضوعية دون الحكمية ، فالمستفاد ـ على هذا ـ منه رفع الذي لا يعلم من حيث عنوان ذاته مثل المثال المذكور وهو خصوص الشبهة الموضوعية.

__________________

(١) المزمل : الآية : ٥.

(٢) المزمل : الآية ٦.

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب عنه أولا : ان العنوان المنظور اليه في هذه الفقرات هو مفهوم ما استكرهوا عليه ومفهوم ما اضطروا اليه وهكذا ، وانما يكون المراد منه الفعل باعتبار ان منطبق هذا العنوان في ما اضطروا وما استكرهوا وامثالها منحصر في الفعل ، لا أن المنظور اليه بدوا هو نفس الفعل ، وكون منطبق هذه المفاهيم هو الفعل لا يكون من السياق الذي هو قرينة عرفية على ارادة مثله من مفهوم ما لا يعلمون بعد ان كان من الممكن انطباقه على الحكم العام لتكون المنة فيه اعم واشمل.

وثانيا : ان كون المراد من الموصول هو الفعل لا يجعله منحصر الدلالة في الشبهة الموضوعية ، بعد ما عرفت من صدق ما لا يعلمون على الفعل المجهول من حيث عنوانه الاولي كما في الشبهة الموضوعية ، وعلى الفعل المجهول من حيث عنوانه الثانوي وهو كونه مباحا أو حراما.

ودعوى ان الظاهر منه هو خصوص الفعل المجهول بعنوانه الاولي ممنوعة ، بل الظاهر منه هو الفعل المجهول حكمه سواء كان السبب في الجهل بالحكم عدم العلم به من حيث معلومية كونه خمرا أو خلا ، او عدم العلم به للجهل بنفس حكمه كالتتن.

ومنها : ما اشار اليه بقوله : «لا يقال ليست المؤاخذة ... الى آخره» وتوضيحه : انه قد تقدم منه ان المهم في المقام هو رفع الاستحقاق في مخالفة التكليف المجهول ، فالمصنف لما ذكر ان حديث الرفع دال على رفع فعلية التكليف فرع عليه برفع المؤاخذة بقوله : «فلا مؤاخذة عليه قطعا» وهذا الاشكال مربوط بهذه الجهة لا كما مر من الاشكالين ، فانه منوط بمتعلق الرفع.

وعلى كل ، فحاصل هذا الاشكال يمكن ان يكون بنحوين :

الاول : ما اشار اليه في المتن من ان الرفع انما يتعلق بالمجعول الشرعي وبالآثار الشرعية لانها مجعولة ولو بالواسطة ، والمؤاخذة ليست من الآثار الشرعية للتكاليف الشرعية ، لان المراد من المؤاخذة هو حق المؤاخذة ، وحق المؤاخذة هي الطرف الثاني لاستحقاق العقاب ، والحاكم به العقل في مخالفة التكاليف ، فهي من الآثار

٢٩٩

فإنه يقال : إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا ، إلا أنها مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه ، من إيجاب الاحتياط شرعا ، فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته (١).

______________________________________________________

العقلية ، وليست من المجعولات الشرعية حتى يكون امر رفعها ووضعها بيد الشارع ، بل العقل في مخالفة التكليف يحكم باستحقاق العقاب على العبد وبحق المؤاخذة عليه للمولى ، فلا تكون المؤاخذة من المرفوع برفع التكليف لانها ليست من الآثار الشرعية المجعولة للتكليف حتى يكون رفع التكليف رفعا لها ، والى هذا اشار بقوله : «لا يقال ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية» ولو بالواسطة «كي ترتفع بارتفاع التكليف المجهول ظاهرا» واذا لم تكن من الآثار الشرعية له فلا تكون مما يرفع برفعه.

ومن الواضح ان رفع الشارع ووضعه بما هو شارع مما يختص بمجعولاته الشرعية ، وقد عرفت ان المؤاخذة وعدمها من الآثار العقلية وليست من الآثار الشرعية ، فلا وجه لدعوى رفعها.

(١) توضيح هذا الجواب : ان رفع الشيء تارة يكون برفعه بنفسه وهذا مما يختص بالمجعولات الشرعية ، واخرى يكون رفع الأثر برفع موضوع الاثر وهذا لا يختص بالآثار الشرعية بل يعم الآثار العقلية ايضا ، ومن الواضح ان المؤاخذة موضوعها التكليف المجعول شرعا في مرتبته الفعلية ، فاذا رفع الشارع الحكم في مرتبته الفعلية فترتفع المؤاخذة لرفع موضوعها ، لا لان الرفع قد تعلق بها ، ففي الحقيقة انه بالنسبة الى المؤاخذة ارتفاع ، فالشارع وان لم يكن له رفع المؤاخذة بنفسها لانها اثر عقلي ، إلّا انه لما كان ما هو الموضوع لها رفعه ووضعه بيده فيكون رفع المؤاخذة بواسطة رفع الشارع لما هو الموضوع له مما هو بيد الشارع ، فالرفع يكون رفعا حقيقة لموضوعها وارتفاعا بالنسبة اليها.

٣٠٠