بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-060-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٥٤

المقصد الرابع

في العام والخاص

فصل

قد عرف العام بتعاريف ، وقد وقع من الاعلام فيها النقض بعدم الاطراد تارة والانعكاس أخرى بما لا يليق بالمقام ، فإنها تعاريف لفظية ، تقع في جواب السؤال عنه ب (ما) الشارحة ، لا واقعة في جواب السؤال عنه ب (ما) الحقيقية (١) ، كيف وكان المعنى المركوز منه في الاذهان أوضح

______________________________________________________

(١) الظاهر أن مرادهم من العام والخاص كونهما اسمين للفظ الدال على العموم والخصوص لانهم اخذوا اللفظ في مقام تعريفهما ، ولو كانا اسمين للمعنى من دون مدخلية للفظ لما حسن اخذ اللفظ في تعريفهما.

ثم انه هل التعاريف المذكورة في كتب القوم للعام والخاص هي تعاريف حقيقية يراد بها شرح الحقيقة اما بالحد التام المشتمل على الجنس والفصل ، او بالرسم المحدد للمعرف بحيث لا يشذ عنه فرد ولا يعم غير افراده ، او انها تعاريف لفظية ليست بالحد ولا بالرسم يراد بها الاشارة الى المعرف بوجه.

وبعبارة اخرى : انه هل هي ما يراد ب (ما) الشارحة او ب (ما) الحقيقية ، فان الواقع في جواب السؤال عنه ب (ما) الحقيقية هو التعريف الحقيقي ، والواقع في جواب السؤال عنه ب (ما) الشارحة هو التعريف اللفظي ، وتوضيح ذلك ما ذكره اهل المعقول انه اذا سمع السامع لفظا فأوّل ما يتوجه اليه هو السؤال عنه لغرض تمييزه بوجه ما وهو المسمى ب (ما) الشارحة التي لا يراد منها سوى شرح الاسم وتمييزه بوجه ما ، ولا يطلب تعريفه بالحد ولا بالرسم ، ثم بعد معرفته بوجه ما يسأل السامع عن انه موجود ام لا؟ وهو المسمى بهل البسيطة ، ثم بعد معرفة وجوده يسأل عن ان هذا الموجود ما حقيقته؟ فيجاب بحده او برسمه وهو المسمى ب (ما) الحقيقية ، ثم بعد معرفة وجوده حقيقة يسأل عما يلحقه من عوارضه واوصافه وهو المسمى بهل

٨١

مما عرف به مفهوما ومصداقا ، ولذا يجعل صدق ذاك المعنى على فرد وعدم صدقه ، المقياس في الاشكال عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة تعتريه من أحد ، والتعريف لا بد أن يكون بالاجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

فالظاهر أن الغرض من تعريفه ، إنما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنها أفراد العام ، ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الاحكام ، لا بيان ما هو حقيقته وماهيته ، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الاحكام من أفراده ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلا لحكم من الاحكام (١).

______________________________________________________

المركبة ، ثم بعد معرفة وجوده وحقيقته وعوارضه يسأل عن علة وجوده ، فيجاب بأنه اما ان وجوده ضروري لذاته فهو واجب ، او انه موجود لعلة وهو الممكن ويسمى ب (لم) الثبوتية ، ثم بعد ذلك يسأل عن الدليل على كونه ـ مثلا ـ واجبا او ممكنا ويسمى ب (لم) الاثباتية.

وقد جمعها المحقق السبزواري بقوله :

أسّ المطالب ثلاثة علم

مطلب ما مطلب هل مطلب لم (١)

وعلى كل فقد تبين ان المقصود في ما الشارحة هو تعريف اللفظ بوجه من الوجوه وليس المراد في السؤال عنه حده او رسمه ، بخلاف ما الحقيقية فان المطلوب فيها السؤال عن حقيقته بحده او برسمه والى هذا اشار بقوله : «فانها تعاريف لفظية تقع في جواب السؤال عنه» أي عن الشيء «ب (ما) الشارحة لا واقعة في جواب السؤال عنه ب (ما) الحقيقية».

(١) لقد ذكر المصنف دليلين على كون تعاريف القوم لفظية لا حقيقية :

__________________

(١) منظومة السبزواري ، قسم المنطق : ص ٣٢ (حجري).

٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الاول : انه لا بد في التعريف ان يكون اجلى من المعرف واذا كان المعرف واضحا بحيث انه اجلى واوضح من كل ما ذكر له من التعاريف فلا بد وان يكون الغرض في تعريفه هو شرح اسمه لا تعريفه الحقيقي ، والعام والخاص من هذا القبيل فانهما من الوضوح بحد يجعل ما يفهم منهما هو المقياس في صحة التعريف وعدم صحته ، ولو لم يكونا جليين وواضحين الى هذا المقدار لما كان صحة صدقهما وعدم صحة صدقهما مقياسا لصحة التعريف وعدمه ، والى هذا اشار بقوله : «وكان المعنى المركوز منه في الاذهان اوضح مما عرف به ... الى آخر الجملة».

الثاني : انه لا غرض ولا ثمرة تترتب على تعريفهما بالحد او بالرسم ، بل الغرض منهما الاشارة الى افرادهما ليترتب على الفرد ما للفرد من الحكم ، فان الغرض من عموم الحكم وعدم عمومه ما يترتب على كونه واردا بلفظ كل او بلفظ بعض لا على لفظ العام ولفظ الخاص ، فالغرض في تعريف العام هو الاشارة الى : كل ، وما والجمع المحلى باللام كالعلماء وغير ذلك ، وفي تعريف الخاص هو الاشارة الى لفظ بعض وامثاله مما لا يكون مدلوله شاملا لجميع الافراد ، واذا كان الغرض منهما هو الاشارة الى الحكم المترتب على فرده دون نفس معناه فلا داعي لتعريفه تعريفا حقيقيا ويكتفى بتعريفه بوجه ما بحيث يشار به الى افراده فقط ، والى هذا اشار بقوله : «فالظاهر ان الغرض من تعريفه» أي تعريف لفظ العام «انما بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة فيه في انها افراد العام» ككل وامثالها «ليشار به» أي بلفظ العام «اليه» أي الى ما لا شبهة انه من افراده «في مقام اثبات ما له من الاحكام» أي ما للفرد من الاحكام «لا بيان ما هو حقيقته وماهيته» اي لا بيان حقيقة العام وماهيته «لعدم تعلق غرض به» أي لعدم تعلق غرض ببيان حقيقة لفظ العام «بعد وضوح ما هو محل الكلام بحسب الاحكام من افراده ومصاديقه حيث» انه «لا يكون بمفهومه العام» وهو المفهوم من لفظ العام «محلا لحكم من الاحكام».

٨٣

ثم الظاهر أن ما ذكر له من الاقسام : من الاستغراقي والمجموعي والبدلي إنما هو باختلاف كيفية تعلق الاحكام به ، وإلا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه ، غاية الامر أن تعلق الحكم به تارة بنحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم ، وأخرى بنحو يكون الجميع موضوعا واحدا ، بحيث لو أخل بإكرام واحد في أكرم كل فقيه مثلا ، لما امتثل أصلا ، بخلاف الصورة الاولى ، فإنه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو يكون كل واحد موضوعا على البدل ، بحيث لو أكرم واحدا منهم ، لقد أطاع وامتثل ، كما يظهر لمن أمعن النظر وتأمل (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه ان للعام اقساما لانه :

اما ان يكون الحكم قد لحظ بنحو يكون كل فرد من افراد العام موضوعا على حدة : بمعنى ان ينحل الحكم بعدد افراد العام فيكون لكل فرد حكم يخصه ويكون له اطاعة وعصيان وهو المسمى بالكل الافرادي والاستغراقي.

واما ان يكون الحكم قد لحظ بنحو يكون المجموع من افراد العام بما هي مجموع لها حكم واحد ولا ينحل الحكم في هذا الى احكام ، بل هو حكم واحد غير منحل موضوعه مجموع الافراد بحيث لو تخلف واحد منها لا يكون المكلف ممتثلا ، فليس له إلّا اطاعة واحدة وعصيان واحد تحصل اطاعته باتيان المجموع من الافراد ، وعصيانه بعدم الاتيان بالمجموع بحيث لو تخلف واحد لما حصل الامتثال وهو المسمى بالكل المجموعي او العام المجموعي.

واما ان يكون ملحوظا بنحو يكون كل واحد موضوعا للحكم على البدل : بمعنى ان يكون مجموع الافراد ملحوظا لكن لا بنحو ان يكون لكل فرد حكم اطاعة وعصيان ولا بنحو ان يكون للمجموع اطاعة واحدة وعصيان واحد ، بل بنحو يكون كل فرد ملحوظا على البدل بحيث لو اتى بفرد من هذه الافراد لحصلت الاطاعة

٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وسقط الامر المتعلق بهذا العام وعصيانه بترك جميع الافراد ، فهو وان انحل الى احكام لكل فرد من افراد العام إلّا انه ليس لكل واحد اطاعة وعصيان ، بل كل حكم من هذه الاحكام يسقط باتيان فرد منها وهو المسمى بالعموم البدلي او الكل البدلي ، وهذا ما لا اشكال فيه.

وانما الاشكال في انه هل بين هذه الاقسام جامع بلحاظه يطلق عليها لفظ العام ، او ان العام مشترك لفظي بينها؟ فاذا تصورنا الجامع كان العام مشتركا معنويا لهذه الاقسام ، وتحقيق ذلك الجامع هو ان العام واحد مفهوما وكثير خارجا فله وحدة مفهومية وكثرة عددية ، وهذا المعنى محفوظ في الاقسام الثلاثة.

فانه في العام الافرادي قد لحظ مفهوم واحد ولكن في مقام تعلق الحكم قد اخذت كثرته موضوعا للحكم.

وفي العام المجموعي لم نلحظ كثرته في مقام تعلق الحكم بل لحظ هذا الكثير بما هو واحد متعلقا للحكم.

وفي العام البدلي مثل العموم الاستغراقي قد لحظ مفهوم واحد وفي مقام تعلق الحكم قد اخذت كثرته موضوعا للحكم ولكن على البدل كالاستغراقي في ان يكون لكل واحد اطاعة وعصيان ، فالعام بوحدته وكثرته ملحوظ في الاقسام ولكن نحو تعلق الحكم به مختلف كما عرفت ، وقد اتضح ان الاختلاف فيها من ناحية لحاظ الموضوع في مقام تعلق الحكم به ، لا ان الاختلاف منتزع من كيفية تعلق الحكم فانها متأخرة عن الحكم.

وبعبارة اوضح : ان العموم والشمول لجميع الافراد هو الموضوع الذي يتعلق به الحكم ، فان الموضوع في هذه الاقسام العام بما هو واحد مفهوما وكثير مصداقا ، ولكنه قد لحظ في مقام تعلق الحكم : تارة بنحو الاستغراق ، واخرى بنحو لحاظ هذا المجموع موضوعا واحدا للحكم ، وثالثة بنحو البدل ، فالعموم هو الموضوع الملحوظ في جميع هذه الاقسام بوحدته مفهوما وكثرته مصداقا وهذه الاقسام منتزعة من كيفية

٨٥

وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغيرها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيتها بمفهومها للانطباق على كل واحد منها (١) ،

______________________________________________________

تعلق الحكم به وليس العموم والشمول لجميع الافراد منتزعا من كيفية تعلق الحكم ، ولا يعقل ان يكون العموم منتزعا من كيفية تعلق الحكم لبداهة ان الموضوع له التقدم على الحكم فلا يعقل ان يكون متأخرا عن الحكم ، واذا كان منتزعا عن الحكم كان متأخرا عن الحكم لتقدم منشأ الانتزاع على ما ينتزع منه ، وما ذكرنا هو مراده من قوله : «انما هو باختلاف كيفية تعلق الاحكام».

واتضح أيضا معنى قوله : «وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه» فان العموم الذي هو المحفوظ في الاقسام الثلاثة وهو ان الملحوظ فيها مفهوم واحد يشمل جميع ما يصلح ان ينطبق عليه ذلك المفهوم ، فان الرجل ـ مثلا ـ الموضوع للطبيعة المهملة قد لحظ في الاستغراقي بنحو يشمل جميع ما يصلح ان ينطبق عليه لكن بنحو يكون كل فرد ينطبق عليه له اطاعة وعصيان ، وفي العام المجموعي قد لحظ ـ ايضا ـ بنحو يشمل جميع ما يصلح ان ينطبق عليه لكن بنحو ان يكون المجموع ما ينطبق عليه اطاعة واحدة باتيان جميع ما انطبق عليه وعصيان واحد يحصل ولو بترك واحد من الافراد ، وفي العام البدلي ـ أيضا ـ قد لحظ بنحو يشمل جميع ما يصلح ان ينطبق عليه لكن بنحو تكون اطاعته باتيان واحد مما ينطبق عليه وعصيانه بترك جميع ما ينطبق عليه ، وقد اشار الى الاختلاف فيها في مقام تعلق الحكم بقوله : «غاية الامر ... الى آخر العبارة».

(١) لقد وقع الاشكال في كون مثل العشرة وامثالها مما له وحدة مفهومية وكثرة عددية في انه هل هو من اقسام العام أم انه خارج عن العام ومن الاسماء الفردية؟

ولا يخفى انه وان كان بين العشرة والعام باقسامه الثلاثة المذكورة فرق من ناحية ان العام باقسامه ليس فيه احصاء للكثرة العددية فيه ، بخلاف العشرة والمائة فانه فيهما احصاء لمقدار الكثرة ، وليس في واحد من اقسام العام احصاء لمقدار الكثرة الا

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ان هذا لا يمنع من ان يكون من اقسام العام ، وليكن قسما رابعا بعد ان انطبق عليه لازم العام من الوحدة المفهومية والكثرة خارجا.

لا يقال : ان اقسام العام الثلاثة لا تخرج عن العموم بخروج فرد من افرادها والعموم فيها محفوظ ولو بعد الخروج ، بخلاف العشرة وامثالها فانها بخروج فرد واحد تخرج العشرة عن كونها عشرة وتكون تسعة ، بخلاف العموم بدليا او استغراقيا او مجموعيا فانه بعد خروج فرد أو افراد عنه يبقى على ما هو عليه من العموم ، غاية الامر انه يكون بدليا او استغراقيا او مجموعيا بالنسبة الى ما عدا ما خرج.

فانه يقال : ان هذا أيضا لا يجعل العشرة خارجا عن العموم غايته ان هذا القسم له لازم يخصه دون الاقسام الأخر.

والحاصل : ان الذي ينبغي ان يكون مخرجا للعشرة عن ان تكون من العام هو ان العموم حقيقة هو الشمول الحاصل من تسرية الماهية المهملة لان تكون شاملة وعامة لجميع افراد تلك الطبيعة المهملة ، فالكثرة في العام حاصلة من تسرية الماهية المهملة لان تكون شاملة وعامة بسبب لحاظها بنحو من انحاء العموم الثلاثة ، بخلاف العشرة فانه ليس فيها طبيعة مهملة قد حصلت تسريتها بواسطة العموم بل هي موضوعة ابتداء لمقدار من الكثرة المحدودة.

وبعبارة اخرى : ان العموم هو تسرية الماهية المهملة الصالحة للانطباق على كل فرد فرد من افراد العام ، غايته انه قبل التسرية للماهية المهملة صلاحية الانطباق ولكن بعد التسرية يكون ما لها بالقوة لها بالفعل بواسطة ما دل على تسريتها كلفظ (كل) فان لفظة رجل موضوع للماهية المهملة الصالحة للانطباق وبواسطة (كل) تكون منطبقة على جميع افرادها بالفعل ، بخلاف لفظ العشرة فانها ليس لها صلاحية الانطباق على كل واحد من آحادها ، وانما كل واحد من آحادها بعض ما هو الموضوع له لفظ العشرة ، فليس شمولها للتسرية وانما كان شمولها لان منطبق

٨٧

فافهم (١).

فصل

لا شبهة في أن للعموم صيغة تخصه ـ لغة وشرعا ـ كالخصوص كما يكون ما يشترك بينهما ويعمهما ، ضرورة أن مثل لفظ (كل) وما يرادفه

______________________________________________________

مدلولها هو هذه الآحاد فشمولها ذاتي لمدلولها لا انه حاصل بالتسرية كما في (كل رجل) والى هذا اشار بقوله : «وقد انقدح ... الى آخره».

وحاصله : انه بعد ما عرفت ان العموم هو شمول المفهوم وتسريته لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه فان مثل رجل ماهية مهملة صالحة لان تنطبق على جميع افراد الرجل بواسطة التسرية الحاصلة لها من لفظ (كل) يحصل العموم ، وكذلك في العموم البدلي فان رجل أيضا هو الماهية المهملة الحاصل لها العموم والشمول بواسطة (أي) في قول القائل : اكرم أي رجل ـ تعرف الفرق بين العموم والعشرة ، وهذا مراده من قوله : «لعدم صلاحيتها» أي العشرة «بمفهومها للانطباق على كل واحد منها».

(١) لعله اشارة الى ما يمكن ان يقال ان العام بما هو عام : أي مثل قولنا : كل رجل بعد افادة العموم بواسطة كل أيضا هو غير صالح للانطباق على واحد من افراد الرجل ، فانه لا يصدق كل رجل على الرجل الواحد من افراد هذه الماهية المهملة ، والغرض هو الفرق بين العام بما هو عام والعشرة ، لا بين الماهية المهملة والعشرة ، وما ذكره من صلوح الانطباق انما هو فرق بين الماهية المهملة والعشرة لا بين العام بما هو عام والعشرة.

والجواب عنه : ان نسبة الفرد الى العام ليس كنسبة الواحد الى العشرة ، فان الفرد في العام هو فرد للمادة التي كان لها السريان بواسطة العموم ، بخلاف الواحد من العشرة فانه ليس فردا لمادة العشرة ، بل مادة العشرة ليس لها إلّا فرد واحد هو مجموع آحاد هذا المقدار المحدود.

٨٨

في أي لغة كان يخصه ، ولا يخص الخصوص ولا يعمه (١) ، ولا ينافي اختصاصه به استعماله في الخصوص عناية ، بادعاء أنه العموم ، أو

______________________________________________________

(١) لا يخفى انهم اختلفوا في انه هل للعموم صيغة تخصّه لغة وشرعا أم لا؟ بعد اتفاقهم على انه للخصوص ما يخصه كالاعلام ، فانه من الواضح ان مدلولها امر خاص شخصي.

واتفاقهم على انه من الصيغ ما هو مشترك بين افادة العموم مرة والخصوص اخرى كالمعرف بالألف واللام ، فانه اذا كان قد سبق العهد به في الخاص يكون مدلوله خاصا كقولنا جاءني رجل واكرمت الرجل ، واذا كان المعهود عاما ما يكون مدلوله عاما كقولنا : جاءني علماء واكرمت العلماء.

وعلى كل فقد اختلفوا في انه هل العموم كالخصوص له صيغ تخصّه ام لا؟

وبعضهم فصّل بين اللغة والشرع ، وانه ليس له في اللغة صيغ تخصّه ولكنه في الشرع له صيغ تخصّه كما هو المنسوب الى السيد (قدس‌سره) وقد اشار الى هذا اجمالا بقوله : «لغة وشرعا» ولم يتعرض المصنف لتفصيل السيد صريحا لأنه في الشرع موافق لمختاره ، وفي اللغة ما يذكره دليلا لكونه في اللغة أيضا له صيغ دالة على العموم كاف في ردّه. وذهب بعضهم الى التوقف.

والمختار للمصنف هو ان للعموم صيغا تخصّه تدل على العموم لغة وشرعا.

واستدل عليه بالتبادر فان المتبادر من (كل رجل) هو العموم واستيعاب جميع افراد الرجل ، فلفظة (كل) من صيغ العموم لتبادر العموم منها ، ضرورة ان لفظ الرجل لا يتبادر منه العموم فلا بد وان يكون العموم المتبادر مستندا الى لفظة (كل) ، وهذا التبادر لا يختص بأهل اللسان العربي لان للفظة (كل) مرادفات في سائر اللغات ، والمتبادر من مرادفاتها في بقية اللغات هو العموم ، والى هذا اشار بقوله : «ضرورة ان مثل لفظ (كل) وما يرادفه في أي لغة كان يخصه» أي يخص العموم «ولا يخص الخصوص ولا يعمه» أي ولا يعم الخصوص.

٨٩

بعلاقة العموم والخصوص (١). ومعه لا يصغى إلى أن إرادة الخصوص متيقنة ، ولو في ضمنه بخلافه ، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أولى ، ولا

______________________________________________________

(١) هذا كتتميم لدليل التبادر ، وحاصله : انه لا ينبغي ان يتوهم انه كيف يدعي انها موضوعة لخصوص العموم مع انها تستعمل في الخصوص كثيرا ، فبناء على ان الاستعمال علامة للحقيقة يكون مشتركا بينهما ، وبناء على بطلانه وانه أعم من الحقيقة والمجاز تكون كثرة الاستعمال في الخصوص مانعة عن دعوى اختصاص وضعه لخصوص العموم ، لاحتمال ان هذا الاستعمال استعمال حقيقي أيضا فيمكن ان يكون استعماله في الخصوص لانه حقيقة فيه لا غير ، ويحتمل ان يكون مشتركا بينهما ، ويحتمل ان يكون حقيقة في العموم فقط ، لكنه محتمل في عرض هذه الاحتمالات فلا وجه للجزم به دون غيره من المحتملات.

ودفع هذا التوهم بان استعمالها في الخصوص انما هو بنحوين ـ وكلا النحوين لا ينافي المدعى الذي اخترناه من كونها موضوعة لخصوص العموم ـ :

النحو الاول : استعمالها في الخصوص بادعاء ان ذلك الخصوص عموم ، تنزيلا له منزلة العموم ، والادعاء انما يكون في غير ما وضع له اللفظ حقيقة ، وإلّا فما الداعي للتنزيل والادعاء ، فهذا اذا لم يكن دليلا بنفسه على انها موضوعة للعموم دون الخصوص فلا اقل من كونه لا ينافي دعوى انها موضوعة للعموم فقط.

النحو الثاني : استعمالها في الخصوص بلحاظ العلاقة مجازا وهذا دليل على انها موضوعة لخصوص العموم لعدم معقولية ملاحظة العلاقة المجازية في ما هو المعنى الحقيقي ، فهو دليل على الدعوى المذكورة لا انه ينافيها ، والى هذا اشار بقوله : «ولا ينافي اختصاصه به» أي لا ينافي اختصاص مثل لفظ (كل) في الوضع لخصوص العموم «استعماله في الخصوص عناية ... الى آخر الجملة».

٩٠

إلى أن التخصيص قد اشتهر وشاع ، حتى قيل ما من عام إلا وقد خص ، والظاهر يقتضي كونه حقيقة ، لما هو الغالب تقليلا للمجاز (١) ، مع أن

______________________________________________________

(١) استدل القائلون بانها موضوعة للخصوص وليست بموضوعة لخصوص العموم وليس للعموم صيغ تخصه كما في الخصوص بدليلين :

الأول : مؤلف من كبرى ، وهي انه اذا دار أمر اللفظ بين كونه حقيقة في القدر المتيقن او انه موضوع لما يعم القدر المتيقن وغيره ، فالاولى كونه موضوعا لخصوص القدر المتيقن للعلم بأنه مراد على كل حال.

وبعبارة أخرى : ان غرض المستدل اما ان يكون ان الخصوص حيث انه هو القدر المتيقن فيما لو شككنا في وضع اللفظ له او للاعم فلا بد من الاقتصار عليه دون الاعم لان الاعم يحتاج الى دليل ، اما القدر المتيقن فحيث انه مراد قطعا فلا يحتاج الى دليل لاثبات وضع اللفظ له.

او ان غرض المستدل بكون القدر المتيقن اولى في كونه هو الحقيقة دون الاعم ، لأن الغرض من وضع الالفاظ انما هو لبيان ما يراد من مداليلها واذا كان الخصوص مرادا على كل حال سواء اريد هو أو اريد الاعم منه فينبغي ان يكون هو الذي يوضع له اللفظ لان الغرض فيه أتم من الوضع للاعم.

واما الصغرى : فهي كون الخصوص هو القدر المتيقن من اللفظ المدعى وضعه للعموم فهذا مما لا ريب فيه.

ويرده اولا : ان الوضع لا يتعين بالاصول العقلائية ، لان الاصول العقلائية لاحراز المراد لا لاحراز الوضع ، فالاقتصار على القدر المتيقن انما هو في مقام الاخذ بالمراد لا في تعيين ما وضع له اللفظ.

كما ان كون القدر المتيقن هو المراد لا يستدعي وضع اللفظ له لان الغرض كما يتعلق بخصوص القدر المتيقن يتعلق ـ أيضا ـ بالاعم منه.

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وكون الوضع للقدر المتيقن أتم لانه مراد على كل حال ممنوع ، لان الغرض في وضع الالفاظ لبيان المداليل وكما ان الغرض يتعلق بالقدر المتيقن يتعلق ـ أيضا ـ بالاعم منه.

وثانيا : انه مع التبادر الذي هو من العلائم المسلمة لتعيين ما وضع له اللفظ لا يبقى مجال للشك ولا لهذه الاستحسانات.

الدليل الثاني : هو ان الوضع للعموم يستلزم كثرة المجاز ولا ينبغي ان يوضع اللفظ لمعنى يكون استعمال اللفظ فيه نادرا ، بل الاولى ان يوضع اللفظ لما هو الغالب ارادته في مقام الاستعمال تقليلا للمجاز.

ومن الواضح ان ارادة الخصوص بخصوصه هو الغالب في مقام الاستعمال ، ولذا تسمعهم يقولون : ما من عام إلّا وقد خص ، فارادة الخصوص هو الشائع المشتهر دون ارادة العموم فالاولى كون الخصوص هو الموضوع له دون العموم.

ويرده ، اولا : ان التخصيص لا يوجب المجازية لما سيأتي من انه يرجع الى التخصيص في الارادة اللبية دون الارادة الاستعمالية ، والمجاز انما يلزم اذا كان التخصيص راجعا الى الارادة الاستعمالية دون اللبية.

وثانيا : ان كثرة المجاز لا مانع منها لان البلاغة المأثورة في الاستعمالات العربية أكثرها يحصل بالاستعمال المجازي ، فالمجاز بما هو مجاز لا ينبغي تقليله. نعم الاستعمال المجازي الممنوع في البلاغة هو الاستعمال المجازي من دون قرينة على المجازية لاستلزامه حمل اللفظ الحقيقة غير المرادة للبليغ.

وثالثا : انه بعد دلالة التبادر لا وجه لهذه الاستحسانات كما يشير اليه بقوله : «مع ان تيقن ... الخ».

قوله (قدس‌سره) : «ان ارادة الخصوص» هذا هو الدليل الاول الذي مر ذكره.

قوله (قدس‌سره) : «ولا الى ان التخصيص» هذا هو الدليل الثاني المشار اليه.

٩٢

تيقن إرادته لا يوجب اختصاص الوضع به مع كون العموم كثيرا ما يراد (١) ، واشتهار التخصيص لا يوجب كثرة المجاز ، لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية ، كما يأتي توضيحه ، ولو سلم فلا محذور فيه أصلا إذا كان بالقرينة ، كما لا يخفى (٢).

فصل

ربما عدّ من الالفاظ الدالة على العموم ، النكرة في سياق النفي أو النهي ، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا ، لضرورة أنه لا يكاد يكون طبيعة معدومة ، إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود ، وإلا كانت

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه بعد ان كان الدليل على وضع بعض الالفاظ للعموم هو التبادر الذي هو العلامة التامة لتعيين ما وضع له لا ينبغي ان يصغى الى هذه الادلة لانها لا تزيد على انها استحسان ، والاستحسان مع انه لا مجال له مع قيام ما يوجب العلم بالوضع انه لا يثبت به الوضع ، وهذا رد لكلا الدليلين ، وقد اشار اليه بقوله : «ومعه لا يصغي» ثم اشار الى ما يرد على الدليل الاول بالخصوص : وهو كون الخصوص قدرا متيقنا لا يقتضي وضع اللفظ له ، وقد مرّ مفصلا بقوله : «مع ان تيقن ارادته ... الى آخر الجملة».

قوله : «مع كون العموم» حاصله : انه كثيرا ما يراد افادة العموم بعمومه ومع كثرة ارادة افادة العموم لا تقتضي الحكمة وضع اللفظ لخصوص القدر المتيقن.

(٢) هذا اشارة الى ما يرد على الخصوص الدليل الثاني وهو ايرادان كما عرفت اشار الى الاول بقوله : «اشتهار التخصيص ... الى آخره» ، واشار الى الثاني بقوله : «ولو سلم ... الى آخره».

٩٣

موجودة (١) ، لكن لا يخفى أنها تفيده إذا أخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقييد ، وإلا فسلبها لا يقتضي إلا استيعاب السلب ، لما أريد منها يقينا ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الكلام في هذا الفصل لبيان مصاديق ما اثبته في الفصل السابق ، فانه بعد ان ثبت ان للعموم صيغا تخصّه عقد هذا الفصل لتعيين تلك الصيغ وقد ذكر بعضها ولم يستوفها.

ـ منها النكرة الواقعة في سياق النفي كقولنا : لم يكرم زيد رجلا او النهي كقولنا : لا تكرم رجلا.

والظاهر انه الاشكال في استفادة الشمول لجميع افراد طبيعة الرجل من النكرة الواقعة في سياق النفي او النهي ، ولكن الاشكال في ان الدلالة على العموم فيها هل هي للنفي المسلّط على الطبيعة بوضعه لذلك ، او ان الدلالة على العموم مستفادة من العقل؟

ومختار المصنف هو الثاني ، أما نفي الدلالة اللفظية الوضعية فلوضوح ان النهي والنفي وضعا للسلب ولم يوضعا لامرين السلب واستيعاب افراد المسلوب وهو واضح ، والطبيعة المسلوبة موضوعة للماهية لا بشرط ولا وضع للجملة غير وضع مفرداتها.

واما كون استفادة العموم منها عقلي فلانه بعد ان كان السلب قد تسلط على الطبيعة وهو اما اخبار عن عدمها او طلب عدمها ، ومن الواضح انه لا تعدم الطبيعة الّا بعدم جميع افرادها ، ولو تحقق فرد واحد منها لما صحّ الاخبار عن عدم الطبيعة ، ولما حصل امتثال ما طلبه المولى من اعدام الطبيعة بما هي طبيعة ، فالعموم منها مستفاد من ناحية هذه الدلالة وهي عقلية ، وليست الدلالة لفظية لعدم وجود ما يدل على الاستيعاب بالوضع في مفردات هذه الجملة ، وقد اشار المصنف الى كون دلالتها عقلية بقوله : «ودلالتها» أي دلالة الجملة التي هي النكرة الواقعة في سياق النفي او النهي على الاستيعاب «لا ينبغي ان تنكر عقلا» أي ان هذه الدلالة مستفادة من

٩٤

لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها (١) ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فإنها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها ، لا الافراد

______________________________________________________

العقل دون وضع اللفظ لذلك «لضرورة» هذا تعليل لكون الدلالة عقلية ولم يتعرض للجهة الاولى وهي عدم كونها دلالة لفظية لوضوح انه علل ذلك بقوله : «انه لا يكاد ... الى آخر الجملة» وهو بيان لكيفية استفادة العقل من هذه الجملة الاستيعاب.

(١) حاصله : انه هل يغني الدلالة على استيعاب جميع الافراد عن اعمال الاطلاق في الطبيعة المتعلق بها السلب؟ وقد نبه المصنف على ان الدلالة على استيعاب جميع الافراد لا يغني عن اعمال مقدمات الحكمة لاحراز كون الطبيعة المسلوبة قد اخذت بنحو الارسال دون الابهام ، لان الدال على الاستيعاب انما يدل على استيعاب جميع افراد المسلوب ، وحيث ان المسلوب هو الطبيعة المهملة فلا تتم الدلالة على استيعاب جميع افراد الطبيعة بحيث لا يشذ عنها فرد إلّا باحراز ان المراد من الطبيعة هو الطبيعة المطلقة لا المهملة لان المهملة في قوة الجزئية ، ولا ريب ان تعيين كونها ماخوذة بنحو لا يشذ عنها فرد انما يتحقق باعمال مقدمات الحكمة لاحراز ان الطبيعة قد اخذت مرسلة ومطلقة حتى يكون الدال على استيعاب جميع الافراد شاملا لجميع افراد الطبيعة بحيث لا يشذ عنها فرد.

وبرهان ذلك : ان الاستيعاب المستفاد من السلب انما هو لجميع افراد ما يراد من المدخول واذا لم يتعين ان المراد من المدخول ، هو الطبيعة المرسلة السارية في جميع افرادها فلا تتم الدلالة على استيعاب جميع افراد الطبيعة بحيث لا يشذ عنها فرد ولا تكفي محض الدلالة على الاستيعاب للدلالة على تعيين ما اريد من المدخول ، ولو كان الدال على محض الاستيعاب دالا على ان المراد من المدخول هو جميع افراد الطبيعة لكان تقييد الطبيعة بقيد ـ كقولنا : لا تكرم رجلا عالما ـ منافيا لما دل على استيعاب جميع افراد طبيعة الرجل بما هي سارية في جميع افرادها ، مع انه

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بالوجدان لا نجد في التقييد منافاة للدلالة على الاستيعاب ، وهذا يدل على ان الدال على الاستيعاب انما يدل على استيعاب جميع افراد ما يراد من المدخول للسلب ، ولا شك ان تعيين ان المدخول بأي نحو اريد يحتاج الى دال عليه ، وحيث ان الكلام لم يكن فيه سوى اللفظ الموضوع للطبيعة المهملة فلا بد من تعيين ارسالها واطلاقها بحيث لا يشذ عنها فرد الى اعمال مقدمات الحكمة وانها قد اخذت بنحو الارسال لا الإهمال ، والى هذا اشار بقوله : «لا يخفى انها تفيده اذا اخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقييد» أي ان النكرة الواقعة في سياق النهي أو النفي انما تدل على انها لا بد وان تكون معدومة بعدم جميع افرادها بحيث لا يشذ عنها فرد وانها اذا وجد منها ولو فرد واحد لم تكن كذلك حيث تكون الطبيعة المسلوبة بما هي مرسلة لا مبهمة ، لان لازم الابهام عدم كونها مأخوذة بما هي متعينة في السريان لجميع الافراد ، فالطبيعة المبهمة بما هي مبهمة قابلة للتقييد لتعيين المبهم وقد اشار الى ان السلب انما يدل على استيعاب جميع أفراد ما يراد من المسلوب ، ولا دلالة له على انه قد اريد من المسلوب هو جميع افراده فلا بد من اعمال معين لمقدار ما اريد من المدخول ، وحيث ان الكلام خال عن المعين فاعمال مقدمات الحكمة يعين الارسال ، وان الطبيعة قد اخذت مرسلة لا مبهمة ، وقد اشار الى ذلك بقوله : «وإلّا فسلبها لا يقتضي إلّا استيعاب السلب لما اريد منها يقينا» ولا دلالة للسلب على استيعاب جميع افراد هذه الطبيعة فيكون هو الدال على الارسال فيها ، وانها مسلوبة بما هي صالحة للانطباق على جميع ما يصلح انطباقها عليه فيكون الدال على الاستيعاب المطلق بحيث يعين سعة المسلوب هو نفس السلب ، وانما يدل على سعة السلب لما اريد من المدخول ، ولا بد لتعيين نحو ما اريد من المدخول من احراز ارسالها بمقدمات الحكمة ، والى هذا اشار بقوله : «لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من افرادها».

٩٦

التي يصلح لانطباقها عليها (١) ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كل) على العموم وضعا كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لا يقال : ان الدلالة حيث كانت عقلية وانه انما تدل على الاستيعاب لان العقل قد حكم بان الطبيعة لا تكون معدومة الا بعدم جميع افرادها ، واذا كان العقل يرى ان سلب الطبيعة لا يكون إلّا بسلب جميع افرادها فلا بد وان يكون المستفاد من هذه الدلالة العقلية هو الاستيعاب لجميع الافراد وتكون هذه الدلالة منافية لما ذكرتم : من انه لا بد من اعمال مقدمات الحكمة لتعيين الارسال في الطبيعة حتى يكون السلب عاما لجميع الافراد.

وجوابه : ما عرفت من ان العقل انما يحكم باستيعاب السلب لجميع افراد ما يراد من الطبيعة لا لجميع افراد الطبيعة ، فلو فرضنا ان المراد من الطبيعة هو طبيعة مقيدة فتكون دلالته على ان هذه الطبيعة المقيدة لا تكون معدومة الا بعدم جميع افراد هذه الطبيعة المقيدة دون الطبيعة المطلقة ، فحينئذ السلب لا يدل إلّا على الاستيعاب لما يراد من المدخول ، والى هذا الجواب اشار بقوله : «فانها بالاضافة الى افراد ما يراد منها» وليست الدلالة العقلية معينة لكون المسلوب هو جميع الافراد التي تصلح الطبيعة لانطباقها عليها والى هذا اشار بقوله : «لا الافراد التي يصلح لانطباقها عليها».

(٢) لا يخفى ان الفرق بين دلالة كل رجل على الاستيعاب ودلالة النكرة الواقعة في سياق النهي عليه : هو ان الدلالة في النكرة على الاستيعاب عقلية ، وفي كل رجل لفظية ولكن (كل) لا تدل الا على استيعاب جميع افراد ما يراد من المدخول ولا دلالة لكل على استيعاب جميع افراد الطبيعة ، وانما تدل على تعيين الارسال في الطبيعة بحيث لا يشذ عنها فرد ، واشار الى البرهان المتقدم : وهو انه لو كان لكل دلالة على ذلك لكان منافيا لهذه الدلالة تقييد المدخول بقيد من القيود ولا نرى منافاة

٩٧

نعم لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها (١) ، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعا كان أو مفردا ـ بناء على إفادته للعموم ـ ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره (٢) ، وإطلاق التخصيص على تقييده ، ليس إلا من قبيل ضيق فم الركية (٣) ،

______________________________________________________

لو قيد مدخول (كل) بأي قيد من القيود بقوله : «ولذا لا ينافيه تقييد المدخول» بقيود كثيرة.

(١) لا يخفى انه ليس مراده انه لا يبعد ان يكون لها ظهور في الاستيعاب ان ذلك الظهور لتحقق مقدمات الحكمة لظهور قوله عند اطلاقها انه ظهور لفظي أي لقرينة لفظية لا عقلية ، هذا اولا.

وثانيا : ان الاطلاق ومقدمات الحكمة حيث لا قرينة على خلافه فثبوته لا تردد فيه فلا ينبغي ان يعبر عنه بلا يبعد ، ولا يعقل ان يكون مراده ان (كل) دالة على استيعاب جميع افراد المدخول لمنافاته لما حققه من انها انما تدل على استيعاب افراد ما يراد من المدخول وانه لا بد من احراز ارسالها بغير (كل).

فالظاهر ان مراده هو ان العرف يرى ان كل قرينة على انه قد اريد من المدخول السعة والارسال فلا يحتاج الى اجراء مقدمات الحكمة لاحراز الارسال في مدخولها.

(٢) المحلى باللام يكون مفردا تارة كقوله : اكرم العالم ، وجمعا اخرى كاكرم العلماء ، وعلى فرض افادته للعموم فالكلام فيه من ناحية دلالته على الاستيعاب فهي كالنكرة ، وكل على رأيه في انه لا يدل على غير استيعاب ما يراد من المدخول ولا دلالة له على استيعاب المدخول ، واشار الى برهانه المتقدم بقوله : «ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره» من التقييدات.

(٣) ينبغي ان لا يخفى ان المصنف ذكر هذا في المحلى باللام ولكنه لا اختصاص له به.

وحاصله : انه ربما يطلق التخصيص على القيد اللاحق لمدخول (كل) او المحلى باللام كقولنا : اكرم كل رجل عالم ، او اكرم العلماء العدول ، او النكرة الواقعة في

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

سياق النفي كقولنا : لا رجل عالم في الدار ، او النهي كقولنا : لا وضوء مبيح بعد غسل الجنابة.

والظاهر من اطلاق التخصيص هو الاخراج من العام بعد تمامية عمومه ، والقيد اللاحق للعام يمنع من انعقاد العموم وانما ينعقد في خصوص المقيد فليس فيه اخراج بعد تمامية العموم.

وبعبارة اخرى : ان اطلاق التخصيص على المحلى باللام المقيد كاكرم الرجل العالم او مدخول (كل) او مدخول النكرة الواقعة في سياق النفي لا بد وان يكون باعتبار دلالة اللام و (كل) والنفي على الاستيعاب لجميع الافراد وعليه فالاطلاق صحيح ولكنه ينافي ما تقدم منه من انها انما تدل على الاستيعاب فيما اريد من المدخول ، والّا فلا يكون اطلاق التخصيص على المدخول المقيد صحيحا.

والجواب فيه ان اطلاق التخصيص على المقيد انما هو باعتبار انه ينعقد خاصا أي يتم ظهوره بعد الاخراج منه ، فهو من قبيل ضيق فم الركية : أي اوجدها ضيقة ، لا انه اوجدها واسعة ثم ضيقها ، والركية هي البئر وجمعها ركايا ، كهدية وهدايا وسرية وسرايا.

بقي شيء : وهو انه بعد فرض دلالة المحلى باللام على الاستيعاب فما الفرق بين المفرد المحلى به والجمع المحلى به.

قد يقال : ان الفرق بينهما هو ان المفرد يدل على الاستغراق في جميع الافراد التي يصدق عليها لفظ عالم ، والجمع يدل على الاستغراق في جميع مراتب الجمع ، فان للجمع مراتب وهي الثلاثة والأربعة والخمسة وهكذا الى جميع مراتب الجمع ، فهو يرجع الى اكرم كل جماعة جماعة من العلماء.

وهذا الفرق باطل لان مفهوم العلماء واحد لا ينحل الى مفاهيم متعددة ، وانما الفرق بينهما هو ان الجمع له مرتبة بدونها لا يصدق الجمع وهو الثلاثة ، والمفرد ينتهي الى الواحد ، فالجمع المحلى باللام يدل على الاستغراق لجميع افراد العلماء بعد

٩٩

لكن دلالته على العموم وضعا محل منع ، بل إنما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة أخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمركب منهما ، كما لا يخفى ، وربما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام (١).

______________________________________________________

هذه المرتبة الاخيرة ، فلو فرضنا عدم دلالته على الاستغراق وعدم الاطلاق لوجب الاقتصار على الثلاثة بخلاف المفرد المحلى باللام فانه يدل على الاستغراق مما فوق الواحد الى جميع الافراد ، فلو فرضنا عدم الدلالة على الاستغراق وعدم الاطلاق لوجب الاقتصار على الواحد ، وفي الجمع يجب الاقتصار على اول ما يصدق عليه الجمع.

(١) حاصله : ان كون المحلى باللام ـ مفردا كان او جمعا ـ دالا على الاستيعاب فيما يراد من مدخوله ممنوع ، بل لا دلالة للمحلى باللام على الاستغراق والاستيعاب اصلا ، لأن اللام لم توضع للدلالة على الاستيعاب كما وضعت (كل) لذلك ، بل اللام اما موضوعة لتعريف الجنس كما يدعيه المشهور ، او انها لمحض التزيين على رأي المصنف كما سيعرج به في المطلق والمقيد ولم يثبت وضع اللام للاستيعاب ، فاذا لم يكن للام وضع لذلك ، ومدخول اللام اما المفرد فهو موضوع للطبيعة المهملة ، واما الجمع فهو أيضا لطبيعة الجمع المهملة التي اول مراتبها في الاثنين او الثلاثة ، فلا دلالة للمدخول على الاستغراق والاستيعاب ولا وضع للمركب غير وضع مفرداته وهو اللام والمدخول ، فاذا لم تكن اللام موضوعة له ولا مدخولها ، فلا دلالة للمحلى باللام على الاستيعاب ، ويتوقف افادة الاستيعاب على جريان مقدمات الحكمة لافادة الاستيعاب ، وعدم تقييد المدخول بقيد او قرينة اخرى لفظية كقوله اكرم العلماء جميعا او اكرم العالم من غير استثناء واحد منهم ، والى هذا اشار بقوله : «محل منع بل انما يفيده ... الى آخر الجملة» ، وقد اشار الى الدليل على عدم دلالة المحلى على الاستيعاب بقوله : وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ... الى آخر كلامه».

١٠٠