بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-060-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٥٤

ووجه الاعتبار واضح ، لعدم دلالته معه على الاختصاص ، وبدونها لا يكاد يتوهم دلالته على المفهوم (١) ، فافهم (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان وجه اشتراط القائلين بمفهوم الوصف ان لا يكون واردا مورد الغالب ان الوصف الوارد مورد الغالب لا ظهور له في العلية المنحصرة ، فلا يدل على المفهوم وهو ما عن الفخر الرازي ، وحاصله :

ان معنى كونه واردا مورد الغالب ان الفرد الكثير الشائع للموصوف هو المتصف بذلك الوصف ، وغير المتصف بذلك من افراد الموصوف شاذ نادر والشاذ والنادر ملحق بالمعدوم ، فكأن الوصف الوارد مورد الغالب يكون مساويا في الوجود للموصوف ، ومن الواضح انه لا دلالة للوصف على المفهوم لأنه بانتفاء الوصف المساوي ينتفي الموضوع ، وانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ليس من الدلالة المفهومية ، والى هذا أشار بقوله : «ووجه الاعتبار واضح» أي وجه اعتبار كون الوصف غير وارد مورد الغالب في دلالته على المفهوم واضح «لعدم دلالته معه على الاختصاص» أي لعدم دلالة الوصف مع كونه واردا مورد الغالب على انه إنما ذكر لكونه علة منحصرة للحكم يختص الحكم بها دون غيرها ، فان كونه غالبا يجعله كالوصف المساوي وهو لا دلالة له على المفهوم كما عرفت ولذا قال : «وبدونها» أي وبدون الاختصاص المستفاد من العلية المنحصرة «لا يكاد يتوهم دلالته» أي دلالة الوصف «على المفهوم».

(٢) لعله إشارة الى ما يرد على ما ذكره الرازي ، فانه يرد عليه :

أولا : انه لا ملازمة بين كونه شاذا نادرا ملحقا بالمعدوم وبين كونه وصفا غير غالب ، لأنه يكفي في كونه غالبا ان يكون أكثر ، وليست القلة دائما ملازمة للندرة الملحقة بالعدم.

وثانيا : انه مع تسليم كونه شاذا نادرا يكون كالوصف المساوي إلّا ان هذا انما يمنع عن الدلالة على المفهوم حيث يكون المناط في دلالة الوصف على المفهوم هو لزوم

٤١

تذنيب : لا يخفى أنه لا شبهة في جريان النزاع ، فيما إذا كان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه ، في مورد الافتراق من جانب الموصوف ، وأما في غيره ، ففي جريانه إشكال أظهره عدم جريانه ، وإن كان يظهر مما عن بعض الشافعية ، حيث قال : قولنا في الغنم السائمة زكاة ، يدل على عدم الزكاة في معلوفة الابل جريانه فيه (١) ، ولعل وجهه

______________________________________________________

اللغوية ، فانه اذا كان الوصف واردا مورد الغالب لا يكون ذكره لغوا ، لأنه يكون كإعادة وتأكيد الموضوع ، وقد عرفت ان بعض القائلين بالمفهوم يقولون به لتبادر العلية المنحصرة منه ومع كونه متبادرا اليه ، والدلالة فيه وضعية لا يختلف حالها في الوصف الوارد مورد الغالب وغيره.

وثالثا : انه لو كان الورود مورد الغالب موجبا لكونه كالوصف المساوي والحاق النادر بالمعدوم ، لكان ذلك موجبا للانصراف الى خصوص الوصف الوارد مورد الغالب ، ولازمه اختصاص الحكم به وهذا ينافي ما أراده المشترطون له ، فانهم يقولون انه لا مفهوم له والحكم يعم الوصف وغيره ، فتأمل.

(١) ينبغي بيان النسبة بين الوصف والموصوف ليتبين ما هو داخل في النزاع وما هو خارج عنه.

فان كانت النسبة بينها التساوي كالضاحك والانسان ، أو كان الوصف أعم كالماشي بالنسبة الى الانسان ، فان الماشي أعم من الانسان لعدم صدق الانسان من دون الماشي وصدق الماشي من دون الانسان. ولا ينبغي دخول هذين في محل النزاع لأن المفهوم انتفاء سنخ الحكم عن الموضوع ، فلا بد اذا من ثبوت الموضوع وانتفاء الوصف لظهور ثمرة النزاع في دلالة القضية الوصفية على انتفاء سنخ الحكم عن الموضوع ـ بناء على المفهوم ـ وعدم دلالتها على الانتفاء عند انتفاء الوصف ، وفيما اذا كان الوصف مساويا أو اعم لا ثبوت للموضوع عند انتفاء الوصف حتى يكون داخلا في محل النزاع.

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

واما اذا كان الوصف أخص من الموصوف كالكريم بالنسبة الى الانسان ، فلا اشكال في دخوله في محل النزاع لثبوت الموضوع من دون الوصف وهو الانسان غير الكريم. واما اذا كان بين الوصف والموصوف عموم من وجه كالغنم السائمة ، فانه تارة يصدق السوم وهو الوصف من دون الغنم كما في الابل السائمة ، وأخرى يصدق الموصوف من دون الوصف كما في الغنم المعلوفة ، وثالثة ينتفي الوصف والموصوف كما في الابل المعلوفة.

فان كان الافتراق من جانب الوصف كما في الابل السائمة فليس من المفهوم. نعم اذا قلنا بأن العلة للحكم المستقلة في العلية من دون دخالة للموضوع فيه هو السوم ، فتدل القضية على ثبوت الزكاة في الابل السائمة ، وتدل القضية أيضا على انتفاء الزكاة في الابل المعلوفة كما سيأتي بيانه في وجه ذهاب بعض الشافعية الى دلالة القضية المذكورة على انتفاء الزكاة في الابل المعلوفة.

وان كان الافتراق من جانب الموصوف كما في الغنم المعلوفة فلا اشكال في دخولها في محل النزاع لثبوت الموضوع وانتفاء الوصف ، والحال فيه كالحال في الوصف الأخص مطلقا في انه ان قلنا بالمفهوم فيدل على انتفاء الحكم عن الغنم المعلوفة ، وان قلنا بعدم المفهوم فلا دلالة على انتفاء الحكم عنها وتكون القضية الوصفية ساكتة عن ذلك.

وان كان الافتراق من جانب الوصف والموصوف كما في الابل المعلوفة ففي دخوله في محل النزاع خلاف ، الاقوى عدم دخوله في محل النزاع ، لأنه مع انتفاء الموضوع والوصف معا لا يكون انتفاء الحكم مسببا عن انتفاء الوصف ، بل من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، وذهب بعض الشافعية الى دخوله في محل النزاع ، فيدل قوله في الغنم السائمة زكاة على انتفاء الزكاة عن الابل المعلوفة بناء على دلالة القضية الوصفية على المفهوم ، وقد أشار المصنف الى جريان النزاع في الوصف الأخص من الموصوف كأكرم العالم ، والوصف الأخص منه من وجه فيما اذا كان

٤٣

استفادة العلية المنحصرة منه. وعليه فيجري فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا ، فيدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه (١) ،

______________________________________________________

الافتراق من جانب الموصوف كما في الغنم المعلوفة بقوله : «انه لا شبهة في جريان النزاع فيما اذا كان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف» وهذه العبارة تشمل القسمين الأخص مطلقا ومورد الافتراق من جانب الموصوف ، وقد أشار بقوله : «وأما في غيره ففي جريانه اشكال» الى ان مورد الافتراق من جانب الوصف والموصوف كالإبل المعلوفة الأظهر عدم جريان النزاع فيه ، ولذا قال : «أظهره عدم جريانه» والى ان بعض الشافعية يقول بدخوله في محل النزاع بقوله : «وان كان يظهر مما عن بعض الشافعية حيث قال قولنا في الغنم السائمة زكاة يدل على عدم الزكاة في معلوفة الابل جريانه فيه» وقوله : «جريانه فيه» هذا فاعل يظهر : أي يظهر جريان النزاع في معلوفة الابل.

(١) قد عرفت ان انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ليس من محل النزاع ، ولكن يمكن ان يكون وجه قول بعض الشافعية بدلالته في الغنم السائمة زكاة على انتفاء الزكاة عن معلوفة الابل هو استفادة كون السوم علة مستقلة منحصرة للحكم ، فانه اذا كانت العلة المستقلة المنحصرة للحكم هو السوم فلا بد من دلالة ذلك على انتفاء الزكاة عن الابل المعلوفة.

والفرق بين هذا وبين القول بالمفهوم في الأخص مطلقا هو انه في الاخص مطلقا الوصف علة منحصرة لثبوت الحكم للموضوع ، وفي هذا الوصف علة منحصرة للحكم من دون مدخلية اضافته الى الموضوع ، فاذا كان الوصف هو العلة المستقلة المنحصرة للحكم من دون دخالة اضافته الى الموضوع ، فتكون القضية دالة على المفهوم في حال انتفاء الموضوع ، ويكون من انتفاء سنخ الحكم لعدم دخالة الموضوع في الحكم أصلا ، وعلى هذه الاستفادة فيكون انتفاء الحكم في الوصف المساوي كالمتعجب والوصف الأعم من موصوفه كالماشي عند انتفاء الوصف كما في الحيوان

٤٤

فلا وجه للتفصيل بينهما وبين ما إذا كان أخص من وجه ، فيما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، بأنه لا وجه للنزاع فيهما ، معللا بعدم الموضوع ، واستظهار جريانه من بعض الشافعية فيه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

والحجر من الدلالة المفهومية ، والانتفاء عند الانتفاء لان لازم كون الوصف بنفسه من دون دخالة الموضوع علة مستقلة منحصرة للحكم هو ثبوت المفهوم ، ودلالته على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ولو انتفى الموضوع ، والى هذا اشار بقوله : «ولعل وجهه استفادة العلية المنحصرة منه» بالنحو الذي ذكرنا من كون الوصف هو العلة المنحصرة للحكم بنفسه من دون دخالة للموضوع أصلا ، وعلى هذا فيكون الوصف دالا على المفهوم ولو كان مساويا أو أعم من الموصوف ، ولذا قال : «وعليه فيجري» أي فيجري النزاع حتى «فيما كان الوصف مساويا أو أعم مطلقا أيضا فيدل على انتفاء سنخ الحكم عند انتفائه» أي عند انتفاء الوصف بناء على القول بالمفهوم ولا اختصاص لانتفاء الحكم في المقام وهو انتفاء الوصف في العموم من وجه في مورد الافتراق من جانب الوصف والموصوف كما في الابل المعلوفة.

(١) هذا تعريض لما يظهر من صاحب التقريرات من تفصيله بين الوصف المساوي والوصف الأعم مطلقا ، وبين مورد الافتراق من جانب الوصف والموصوف كالابل المعلوفة ـ باختيار خروج الاولين عن محل النزاع معللا للخروج بكون انتفاء الحكم فيهما لأجل انتفاء الموضوع وهو ليس من الدلالة المفهومية.

واما في الافتراق من جانب الوصف والموصوف كانتفاء الزكاة عن الابل المعلوفة فلم يظهر منه خروجه عن محل النزاع بل ظاهره دخوله في محل النزاع ، لأنه قال يظهر من بعض الشافعية جريان النزاع فيه ، ولو كان يرى خروجه لصرح بعدم صحة دخوله في محل النزاع.

٤٥

فصل

هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية ، بناء على دخول الغاية في المغيى ، أو عنها وبعدها ، بناء على خروجها ،

______________________________________________________

وبعد الاحاطة بما ذكرناه يظهر بوضوح عدم صحة هذا التفصيل من التقريرات ، لأنه ان كان الوصف علة مستقلة ومنحصرة لثبوت الحكم من دون دخالة لأضافته للموضوع ، فلا فرق بين الوصف المساوي والأعم والافتراق من جانب الوصف والموصوف ، ويدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف وهو من انتفاء سنخ الحكم بناء على دلالته على المفهوم ، ولا فرق بين الاقسام الثلاثة أصلا وان كان الوصف علة منحصرة لثبوت الحكم لموضوعه ، وان انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ليس من الدلالة المفهومية ، فكما يخرج عن محل النزاع الوصف المساوي والأعم من موصوفه لكون انتفاء الحكم فيه بانتفاء الموضوع لا للمفهوم ، كذلك يخرج مورد افتراق الوصف والموصوف عن محل النزع أيضا لنفس العلة المذكورة ، ولا يكون انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه من الدلالة المفهومية فلا وجه للتفصيل بين المساوي والاعم ومورد الافتراق من جانب الوصف والموصوف ، والى هذا اشار بقوله : «فلا وجه في التفصيل بينهما» أي بين الوصف المساوي والاعم مطلقا «وبين ما اذا كان الافتراق من جانب الوصف» والموصوف كالابل المعلوفة «بأنه لا وجه للنزاع فيهما» أي في الوصف المساوي والاعم «معللا» لخروجها عن محل النزاع «بعدم الموضوع» عند انتفاء الوصف المساوي والاعم ، ولكنه مع هذا التعليل ذكر «استظهار جريانه» أي جريان النزاع عن «بعض الشافعية فيه» أي في مورد الافتراق من جانب الوصف والموصوف ، وكلامه هذا ظاهر في الفرق بينهما وبين مورد الافتراق من الوصف والموصوف ، وقد عرفت عدم الفرق بينهما ، فاما ان تدخل الانحاء الثلاثة جميعها في محل النزاع ، واما ان تخرج كلها عنه.

٤٦

أولا (١)؟ فيه خلاف ، وقد نسب إلى المشهور الدلالة على الارتفاع ، وإلى جماعة منهم السيد والشيخ ، عدم الدلالة عليه.

والتحقيق : إنه إذا كانت الغاية بحسب القواعد العربية قيدا للحكم ، كما في قوله : كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام ، وكل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، كانت دالة على ارتفاعه عند حصولها ، لانسباق ذلك منها ، كما لا يخفى ، وكونه قضية تقييده بها ، وإلا لما كان ما جعل غاية له بغاية ، وهو واضح إلى النهاية (٢).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الغاية ربما تكون لتحديد المسافة كقولنا سار الجيش ستين فرسخا من البصرة الى الكوفة ، وربما تكون لتحديد السير كقولنا سار الركب الى ان كلّت آباط الابل ، وثالثة يكون المراد من الغاية متلوّها الذي هو قيد للحكم او الموضوع والظاهر ان محل الكلام في الدلالة على المفهوم وعدمه هو المعنى الثالث.

ثم لا يخفى ان البحث في هذا الفصل المعقود للغاية في موردين :

الأول : في دلالتها على المفهوم وعدمه.

الثاني : في ان الغاية هل هي داخلة في المغيّى او لا؟ أي ان متلوّ الغاية هل يكون مشمولا للحكم المنطوقي او خارجا عنه وقد اشار اليهما ، فاشار الى كونها دالة على المفهوم أولا بقوله : «هل الغاية في القضية تدل على ارتفاع الحكم عما بعد الغاية» أو لا؟ وأشار الى كون الغاية داخلة في المغيا او لا بقوله : «بناء على دخول الغاية في المغيا» لأنه بناء على دخولها في المغيا تكون داخلة في المنطوق ، ويكون الكلام في دلالة القضية الغائية على انتفاء الحكم عما بعد الغاية وعدم الدلالة ، وبناء على خروج الغاية عن المغيا تكون خارجة عن المنطوق وتكون مما تدل القضية الغائية على انتفاء الحكم عنها بناء على دلالتها على المفهوم ، ولذا قال : «أو عنها وبعدها بناء على خروجها».

(٢) الأقوال في المسألة ثلاثة :

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ الأول : دلالة القضية الغائية على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم عما عدا الغاية مطلقا وهو المنسوب الى المشهور.

ـ الثاني : عدم دلالة القضية على الانتفاء مطلقا ، وهو المنسوب الى السيد والشيخ.

ـ الثالث : التفصيل وهو مختار المصنف ، في ان الغاية ان كانت غاية للحكم دلت على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم ، وان كانت غاية للموضوع فليس لها دلالة على الانتفاء فلا مفهوم لها ، وقد اشار الى التفصيل بقوله : «والتحقيق ... الى آخر كلامه».

وتوضيحه : ان الغاية في القضية ربما تكون بحسب القواعد العربية المتبعة غاية وقيدا للحكم كقوله كل شيء حلال لك من النساء والطيب حتى تعقد الاحرام ، وعبارة المتن خالية عن قيد لك ، وسيأتي في باب الاستصحاب ان قوله كل شيء حلال حتى تعرف او كل شيء طاهر حتى تعلم فيه اشكال ، من حيث كون الغاية فيه غاية للحكم أو الموضوع ، فلذلك زدنا قيد لك ، فانه مما لا اشكال فيه عندهم انه قيد للحكم دون الموضوع.

وعلى كل فالغاية المتصلة بالحكم بعد تمام موضوعه فان ظاهرها في القواعد العربية كونها قيدا للحكم كالمثال المذكور ، واذا كانت متصلة بالموضوع فظاهر القواعد العربية انها من قيوده لا من قيود الحكم ، واذا كانت الغاية قيدا للحكم فلا بد من ارتفاعه بارتفاع غايته وقيده ، ولازم هذا انتفاء الحكم عما عدا المغيّى.

فان قلت : ان المنشأ شخص الحكم وتقييده لا يقتضي إلّا ارتفاعه لا ارتفاع سنخ الحكم ، وقد عرفت ان المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه.

قلت : لا شبهة في ان المنشأ هو شخص الحكم ، لان الحكم المنشأ هو الحكم المضاف الى موضوع ما فانه من الأمور النسبية التعلّقية ، فتصوره تصور ما هو مضاف ومقيد فتشخصه لا ينفك عنه ، والمنشأ هو هذا الحكم المتشخص المضاف الى شيء

٤٨

وأما إذا كانت بحسبها قيدا للموضوع ، مثل سر من البصرة إلى الكوفة ، فحالها حال الوصف في عدم الدلالة ، وإن كان تحديده بها بملاحظة حكمه وتعلق الطلب به ، وقضيته ليس إلا عدم الحكم فيها إلا

______________________________________________________

والمنسوب الى موضوع ما ، الّا ان المدعي للمفهوم يقول : ان الغاية لم تكن قيدا له بما هو متشخص بل هي قيد له بما هو طبيعة الحكم وسنخه ، وهذه هي دعوى المفهوم في القضية الشرطية ، فان الوجوب المنشأ فيها وان كان متشخصا إلّا ان مدعي المفهوم فيها يقول في ان الحرف دال على العلية المنحصرة للوجوب بما هو وجوب وهو السنخ ولازمه ثبوت المفهوم ، فان العلية المنحصرة لشخص الحكم لا تستلزم المفهوم بل لا فائدة في بيان كونها منحصرة أو غير منحصرة له ، لأن انتفاءه بانتفاء موضوعه المتشخص به عقلي لا ريب فيه ، فاذا كان الوضع او الاطلاق مفيدا للعلية المنحصرة فلا بد وان تكون لطبيعي الحكم وسنخه لا لذات الحكم المضاف وشخصه.

وقد أشار المصنف الى دليلين على ثبوت المفهوم للغاية التي هي غاية للحكم :

الأول : التبادر وان المتبادر من الغاية التي هي قيد للحكم هو انتفاء سنخ الحكم عما عدا المغيى ، والى هذا اشار بقوله : «كانت دالة» أي الغاية «على ارتفاعه» أي على ارتفاع الحكم «عند حصولها» أي عند حصول الغاية ، فان الحلية الظاهرية المقيدة بأن غايتها هي المعرفة ترتفع بحصول المعرفة ، وكذلك الطهارة المقيدة بحصول العلم ترتفع بحصول العلم بالقذارة «لانسباق ذلك منها» أي لانسباق ارتفاع الحكم بالحلية وبالطهارة بمجرد المعرفة والعلم فان العرف يتبادر من قوله كل شيء حلال لك حتى تعرف أو كل شيء طاهر لك حتى تعلم ارتفاع الحلية بالمعرفة والطهارة بالعلم.

الثاني : الخلف ، وحاصله : انه اذا كانت الغاية غاية لطبيعي الحلية والطهارة فلا بد من ارتفاع هذا الطبيعي عند حصول الغاية ، ولو كان الطبيعي ثابتا مع حصول الغاية لما كانت الغاية غاية ونهاية لامد تحققه ، والى هذا اشار بقوله : «وكونه قضية تقييده بها ... الى آخر الجملة».

٤٩

بالمغيا ، من دون دلالة لها أصلا على انتفاء سنخه عن غيره (١) ، لعدم ثبوت وضع لذلك ، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا ، دلت على

______________________________________________________

(١) حاصله : ان الغاية اذا كانت بحسب القواعد العربية من قيود الموضوع كقوله السير من البصرة الى الكوفة واجب أو سر من البصرة الى الكوفة ، فان الغاية في المثالين من قيود الموضوع دون الحكم لأنها متصلة به. أما في المثال الأول فواضح ، وأما في المثال الثاني فان الوجوب المستفاد من الهيئة متعلق بالسير الذي هو من البصرة الى الكوفة ، وهذا يقتضي كون الابتداء والانتهاء من قيود السير دون الوجوب ، واذا كانت الغاية قيدا للموضوع فلا تزيد على كونها وصفا وقيدا له ، وان الحكم متعلق بهذا الموضوع الموصوف والمقيد بهذه الغاية ، وقد تقدم عدم دلالة الوصف على المفهوم وانه لا دلالة له على انتفاء سنخ الحكم بانتفاء هذا الموضوع الموصوف بالغاية ، وان هذا التحديد انما يوجب ثبوت الحكم لهذا المحدود ولا دلالة له على أكثر من ذلك ، وهو ساكت عن انتفاء طبيعي الحكم عن غير هذا الموضوع ولا دلالة له على انتفاء طبيعي الحكم عن غير هذا الموضوع.

وبعبارة اخرى : ان تحديد الموضوع بالغاية انما يدل على ان شخص هذا الحكم ثابت لهذا المعنى بهذه الغاية ، فان الوجوب المتعلق بالسير قد دل تقييده بالغاية على ان هذا الوجوب ثابت للسير المحدود بالحدين ، فالغاية قد حددت المتعلق لهذا الوجوب وان شخص هذا الوجوب ثابت للمغيا بهذه الغاية دون غيره ، إلّا ان المفهوم انما هو انتفاء سنخ الوجوب ، فشخص هذا الوجوب الثابت لهذا الموصوف بالغاية وان كان ينتفي بانتفاء الغاية إلّا انه ليس من المفهوم في شيء كما عرفت ، لان المفهوم هو انتفاء السنخ دون الشخص فما لم يكن التحديد لنفس الوجوب كما في الغاية الراجعة الى الحكم لا تدل القضية الغائية على انتفاء سنخ الوجوب عما عدا المغيى ، بل يكون حكم الغاية الراجعة الى الموضوع حكم الوصف المضيق لدائرة الموضوع ولا تزيد على الوصف بشيء أصلا ، والقضية الوصفية لا تدل على المفهوم

٥٠

اختصاص الحكم به ، وفائدة التحديد بها كسائر أنحاء التقييد ، غير منحصرة بإفادته كما مر في الوصف (١).

______________________________________________________

كما مر والى هذا اشار بقوله : «واما اذا كان بحسبها» أي بحسب القواعد العربية «قيدا للموضوع مثل سر من البصرة الى الكوفة فحالها» أي فحال هذه الغاية «حال الوصف في عدم الدلالة» على انتفاء سنخ الحكم عما عدا المغيى بها «وان كان تحديده» أي الموضوع «بها» أي بالغاية «بملاحظة حكمه وتعلق الطلب به» أي بملاحظة الحكم الشخصي والطلب الخاص المتعلق به «وقضيته» أي وقضية تحديد الموضوع بالغاية وان كان بملاحظة الحكم والطلب المتعلق به إلّا انه هو الحكم الشخصي دون سنخ الحكم فلا يقتضي «الا عدم الحكم فيها» أي في هذه الملاحظة «الا بالمغيا» وانتفاء هذا الحكم الشخصي عن غير المغيى «من دون دلالة لها» أي لهذه الملاحظة «أصلا على انتفاء سنخه» اي سنخ الحكم «عن غيره» أي عن غير هذا الموضوع المحدود.

(١) لا يخفى ان القائلين بثبوت مفهوم الغاية مطلقا استدلوا عليه بمثل ما استدلوا على دلالة الوصف على المفهوم ، وحيث انا نقول بالتفصيل وان الغاية اذا كانت قيدا للحكم كان للقضية مفهوم ، فلذلك جعل ادلتهم في النحو الذي قلنا بعدم الدلالة فيه على المفهوم ، وهو ما اذا كانت الغاية من قيود الموضوع.

وعلى كل فقد استدلوا على كون الغاية دالة على المفهوم ، بأنها موضوعة لبيان سنخ الحكم عما عدا المغيى.

ويرد عليه : ان الغاية اذا كانت من قيود الموضوع فلا يتبادر منها ذلك ، ولم ينص أهل اللغة على افادتها المفهوم لو كان قول اللغوي حجة لافادة الوضع ، فان الغاية التي هي من قيود الموضوع لا يزيد على افادة وصف مقيد ومحدد للموضوع ، وقد عرفت عدم وضع للدلالة على المفهوم وانتفاء سنخ الحكم بانتفائه ، والى هذا اشار بقوله : «لعدم ثبوت وضع لذلك».

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

واستدلوا أيضا بان الاطلاق يقتضي كون الغاية دالة على المفهوم ، فان المولى حيث كان بصدد البيان لجميع ما له دخل في ثبوت الحكم له ، فلو كان الحكم ثابتا لغير المغيى لكان ناقضا لغرضه.

ويرده اولا : انه يتوقف على اثبات كون المولى بهذا الصدد : أي بصدد بيان جميع ما له دخل في سنخ الحكم لا محض شخص الحكم.

وثانيا : ان الاطلاق غاية ما يثبت بان شخص هذا الحكم يختص بالمغيا ولا دلالة فيه على ان سنخ الحكم منحصر فيه ، والى هذا اشار بقوله : «وعدم قرينة ملازمة لها ... الى آخر الجملة».

واستدلوا ثالثا : بان الغاية لو لم تدل على المفهوم للزم اللغوية ، بما حاصله : انها اذا كانت لا تفيد انحصار سنخ الحكم بالمغيا وان الحكم يمكن ان يكون ثابتا للمغيا وغيره لكان ذكر الغاية للمغيا لغوا ، ولا يعقل اللغوية في كلام الحكيم.

وبعبارة اخرى : ان الفائدة للتحديد بالغاية تنحصر في كون ذلك لبيان انحصار سنخ الحكم ، واذا كانت الغاية المحددة للموضوع تقيد انحصار سنخ الحكم فيه فلا بد من ثبوت المفهوم وانتفاء الحكم عما عدا المغيى.

والحاصل : ان الغاية المحددة ان افادت ان الحكم ينحصر في ما له الحد افادت المفهوم ، وان لم تفد ذلك ولا يكون الحكم منحصرا في المحدود بالغاية وهو المغيى بان امكن ان يثبت لغير المغيى لم يكن للتحديد بالغاية فائدة ، وتكون لغوا واللغوية محال على الحكيم.

ويرده : ان فائدة التحديد لا تنحصر في كون الحكم بسنخه منحصرا في المحدود لجواز ان تكون فائدته انحصار شخص الحكم بالمغيا ، فان قوله السير من البصرة الى الكوفة واجب يدل على انحصار هذا الوجوب بهذا السير بين الحدين ، ولا يدل هذا على كون سنخ الوجوب منحصرا فيه ، وكذلك قوله : سر من البصرة الى الكوفة فانه لا يدل على أكثر من ذلك.

٥٢

ثم إنه في الغاية خلاف آخر ، كما أشرنا إليه ، وهو أنها هل هي داخلة في المغيى بحسب الحكم؟ أو خارجة عنه؟ والاظهر خروجها ، لكونها من حدوده ، فلا تكون محكومة بحكمه ، ودخولها فيه في بعض الموارد إنما يكون بالقرينة ، وعليه تكون كما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الاول ، كما أنه على القول الآخر تكون محكومة بالحكم منطوقا (١).

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان التحديد بالغاية لا تزيد على توصيف الموضوع بالوصف ، والى هذا اشار بقوله : «وفائدة التحديد بها» أي بالغاية «كسائر انحاء التقييد غير منحصرة بإفادته» أي ان فائدة التحديد بالغاية مثل الوصف لا تنحصر بافادة انحصار سنخ الحكم بالمغيا كما ان التوصيف بالوصف لا تنحصر فائدته في ذلك بمعنى ان الغاية اذا لم تكن لانحصار سنخ الحكم لا يلزم اللغوية.

(١) هذا هو المبحث الثاني في الغاية ، وهو انه هل الغاية داخلة في المغيى أم لا؟

وملخص الكلام انه لا اشكال في ان اول الشيء وآخره داخل في الشيء وما يبتدئ منه الشيء وما ينتهي اليه خارج عن شيء ، فان كان المستفاد من الغاية انها آخر الشيء المغيى كانت داخلة في المغيى ، وان كان المستفاد منها انها ما ينتهي اليه الشيء المغيى بها كانت خارجة عن المغيى ، وقد استظهر المصنف انها بمعنى ما ينتهي اليه الشيء ، ولذا قال : «والأظهر خروجها» أي الغاية عن المغيى «لكونها من حدوده» أي من حدود المغيى التي اليها تنتهي.

قوله (قدس‌سره) : «وعليه يكون كما بعدها» أي ان الغاية بناء على خروجها عن المغيا تكون داخلة في محل النزاع ، فان قلنا بالمفهوم وانتفاء الحكم عما عدا المغيى كان الحكم منتفيا عنها ، وان لم نقل بالمفهوم لا تكون القضية الغائية نافية الحكم عنه ، بل تكون ساكتة عن ذلك ، فبناء على خروجها يكون قوله سر من البصرة الى الكوفة بناء على المفهوم دالا على ان السير الواجب هو الى الحد الذي يطلق عليه اسم الكوفة والسير فيما يطلق عليه الكوفة غير واجب ، لدلالة القضية على ان غير المغيى

٥٣

ثم لا يخفى أن هذا الخلاف لا يكاد يعقل جريانه فيما إذا كان قيدا للحكم ، فلا تغفل (١).

فصل

لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم ـ سلبا أو إيجابا ـ بالمستثنى منه ولا يعم المستثنى ، ولذلك يكون الاستثناء من النفي إثباتا ، ومن الاثبات نفيا ، وذلك للانسباق عند الاطلاق قطعا (٢) ، فلا يعبأ بما

______________________________________________________

الذي هو ما عدا أول الكوفة منتف عنه وجوب السير واذا لم يكن للقضية الغائية مفهوم يكون السير في ما يطلق عليه اسم الكوفة مسكوتا عنه. كما انه قد تبين ان الغاية اذا كانت داخلة في المغيى بان تكون هي منتهى الشيء تكون داخلة في المنطوق فيجب السير فيها قطعا سواء قلنا بالمفهوم او لم نقل به.

(١) حاصله : ان الكلام في ان الغاية داخلة في المغيى ام لا انما يتأتى حيث تكون الغاية غاية للموضوع ، فان كان المغيى هو الموضوع فيتأتى ان يقال : ان الغاية هل تكون داخلة في ما ثبت له الحكم ام انها خارجة؟ واما اذا كانت الغاية غاية وقيدا للحكم فالمغيا هو الحكم ، ولا معنى لان يقال هل الغاية للحكم هي من الحكم أو خارجة عنه. نعم يمكن ان يتأتى الكلام فيها بتغيير العنوان المذكور ، بأن نقول : هل ينتهي الحكم بغايته ام يمتد الى ما بعدها؟ وهذا غير العنوان المتقدم الذي هو هل الغاية داخلة في المغيى ام لا؟

(٢) حاصله : ان الجملة الاستثنائية تدل على المفهوم ، وتوضيح ذلك : ان قولنا قام القوم الا زيد وما جاء القوم الا زيد لها دلالة منطوقية ، وهي ثبوت القيام للقوم وخروج زيد عنه ، ونفي المجيء عن القوم وخروج زيد عن نفي المجيء ، ودلالة مفهومية وهي عدم قيام زيد في القضية الاولى ، ومجيء زيد في القضية الثانية ، فالمنطوق فيها هو خروج المستثنى عن الحكم الثابت للمستثنى منه ، ومفهومها ثبوت نقيض الحكم للمستثنى ، فالخصوصية التي تفيد المفهوم في القضية الاستثنائية هو

٥٤

عن أبي حنيفة من عدم الافادة ، محتجّا بمثل لا صلاة إلا بطهور ضرورة ضعف احتجاجه أولا : يكون المراد من مثله أنه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لاجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة ، إلا إذا كانت واجدة للطهارة ، وبدونها لا تكون صلاة على وجه ، وصلاة تامة مأمورا بها على آخر.

وثانيا : بأن الاستعمال مع القرينة ، كما في مثل التركيب ، مما علم فيه الحال لا دلالة له على مدّعاه أصلا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

دلالتها على ان الحكم يختص بالمستثنى منه ولا يعم المستثنى ، ولازم هذا كون المستثنى مسلوبا عنه الحكم الايجابي الذي هو للمستثنى منه ، وثانيا للمستثنى حكم ايجابي هو المسلوب عن المستثنى منه ، وقد اشار المصنف الى الخصوصية في المنطوق بقوله : «لا شبهة في دلالة الاستثناء ... الى آخر الجملة» والى المفهوم اللازم لهذه الخصوصية بقوله : «ولذلك يكون الاستثناء من النفي اثباتا ومن الاثبات نفيا» والدليل على افادة الجملة الاستثنائية للمفهوم هو التبادر وانسباق ذلك منها ، مضافا الى ان الاستثناء هو في مقام اخراج المستثنى ، وحيث لا يعقل ان يخرج حال المستثنى بالنسبة الى الحكم الثابت للمستثنى منه ، من انه اما ان يكون متلبسا به او بنقيضه ، فان زيدا بالنسبة الى القيام ـ مثلا ـ اما ان يكون متلبسا به او غير متلبس به ، فاذا دل المنطوق على خروج زيد عن التلبس بالقيام فلا بد عقلا ان يكون زيد غير متلبس به وليس المفهوم الا هذا ، وعلى كل فقد اشار المصنف الى دلالة التبادر على المفهوم بقوله : «وذلك للانسباق عند الاطلاق قطعا».

(١) أنكر أبو حنيفة دلالة الاستثناء على المفهوم مدعيا ان القضية الاستثنائية لا تدل على اكثر من خروج زيد ـ مثلا ـ عن القيام المنسوب الى القوم ، واما كون زيد لم يقم فلا تدل القضية الاستثنائية عليه ، وقد احتج على هذا بقوله لا صلاة إلّا بطهور بما حاصله : ان هذه القضية تدل بمنطوقها على نفي حقيقة الصلاة الصحيحة الخارج

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

عنها الصلاة مع الطهور فالصلاة مع الطهور ، خارجة عن حقيقة الصلاة المنفية ، واما كون الصلاة تثبت بثبوت الطهور فلا تدل القضية عليه ولا يعقل ان تدل عليه ، لان لازمه ان يكون بتحقق الطهور وحده تتحقق الصلاة الصحيحة ، ومن الواضح ان الصلاة الصحيحة لا تتحقق بمجرد تحقق الطهور وحده ، بل لا بد في تحققها من تحقق جميع اجزائها وشرائطها.

واتضح مما ذكرنا أيضا ان الصلاة المنفيّة في قوله لا صلاة إلّا بطهور هي الصلاة الصحيحة ، ولا معنى لان تكون المنفية هي الصلاة الأعم من الصحيحة والفاسدة ، لوضوح ان هذه القضايا لغرض بيان مدخلية الطهور في الصلاة والغرض من مدخليته مدخليته في الصلاة الصحيحة ، ولا معنى لمدخلية الطهور في الصلاة التي هي أعم من الصحيحة والفاسدة ، خصوصا في مثل الطهور الذي هو شرط لتأثيرها أثرها ، مضافا الى انه لو كان المراد من الصلاة المنفية هي الاعم للزم انتفاء مسمى الصلاة ولو كانت فاسدة بانتفاء الطهور ، ولا ريب في عدم صحة هذه القضية.

ويرد عليه ، اولا : ان المراد من امتثال هذه التراكيب هو لزوم اقتران الصلاة الصحيحة بالوضوء ، فلا بد وان تكون الصلاة مفروضا وجدانها لسائر أجزائها وشرائطها ، وهذا مثل قولهم : لا علم إلّا بالعمل ، فان الغرض منه ان حقيقة العلم واقعا تثبت للعلم المقرون بالعمل ، وليس الغرض منه بيان ان العمل علم او ان كل مقرون بالعمل علم.

والحاصل : ان هذه التراكيب لبيان لزوم اقتران الصلاة بالطهور لا لأجل بيان ان الصلاة طهور ، ولا بيان ان العلة التامة للصلاة الصحيحة هو الطهور ، بل لبيان ان الطهور من شرائط الصلاة الصحيحة ، وعليه فلا بد من فرض الصلاة واجدة لجميع أجزائها وشرائطها ، وحيث أنه لا تأثير لها اذا لم تكن مقترنة بالطهور ، فلذا قال : انه لا حقيقة للصلاة في مقام التأثير الا للصلاة المقرونة بالطهور ، ولا فرق بين هذا وبين قولهم لا علم الا بعمل والى هذا أشار بقوله : «اولا بكون المراد من مثله ... الى

٥٦

ومنه قد انقدح أنه لا موقع للاستدلال على المدعى ، بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة التوحيد ، لا مكان دعوى أن دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال (١).

______________________________________________________

آخر الجملة» فظهر بناء على هذا انه لا مانع من ثبوت المفهوم في هذه ، فان منطوقها يدل على ان الصلاة المقرونة بالطهور خارجة عن نفي حقيقة الصلاة الصحيحة ، ومفهومها ان الصلاة المقرونة بالوضوء تثبت بها حقيقة الصلاة الصحيحة.

وثانيا : ان القائل بدلالة الاستثناء على المفهوم لا يمنع استعمال الاستثناء فيما لا مفهوم له ، فلو سلمنا ان هذه القضايا لا مفهوم لها لقيام القرينة الخارجية على ان الطهور ـ مثلا ـ ليس بصلاة وبتحققه وحده لا تتحقق الصلاة ، ولكنه في غير ما قامت عليه القرينة فالاستثناء يدل على المفهوم ، والى هذا اشار بقوله : «وثانيا بان الاستعمال مع القرينة» أي استعمال الاستثناء فيما لا مفهوم له مع القرينة «كما في مثل» هذا «التركيب مما علم فيه الحال» بواسطة القرينة انه لا مفهوم له «لا دلالة له على مدعاه» أي لا دلالة له على مدعى ابي حنيفة من كون الاستثناء مطلقا لا دلالة له على المفهوم.

ثم لا يخفى ان المصنف في هامش الكتاب قد اجاب بجواب ثالث (١) ، وحاصله : ان احتجاج ابي حنيفة انما يتم حيث يكون المقدّر في مثل هذا التركيب هو اما حاصل او موجود ، فان المفهوم حينئذ يكون هو ان الصلاة موجودة أو حاصلة بمجرد تحقق الطهور ، واما لو كان المقدر هو كلمة ممكن لثبت المفهوم ولا يلزمه تحقق الصلاة بمجرد تحقق الطهور ، فان القضية على هذا تكون انه لا صلاة ممكنة إلّا بالطهور ، ويكون المفهوم ان الصلاة مع الطهور ممكنة والامكان لا يلازم الوجود.

(١) حاصله : انه قد عرفت ان الدليل على دلالة الاستثناء على المفهوم هو التبادر ، وقد ظهر أيضا من الايراد الثاني على ابي حنيفة ، بان الاستعمال في غير المفهوم

__________________

(١) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس‌سره) : ج ١ ، ص ٣٢٦ (حجري).

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لقرينة لا يمنع كون الاستثناء ـ لو تجرّد عن القرينة ـ دالا على المفهوم ، ومن هذا يظهر فساد الاستدلال لدلالة الاستثناء على المفهوم بغير التبادر ، وهو قبول اسلام من قال كلمة التوحيد.

وتوضيح الاستدلال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبل اسلام كل من نطق بكلمة لا إله إلا الله ، فان الاسلام هو عبارة عن نفي الشركة والاعتراف بوجود الله تبارك وتعالى وحده ، فلو لم تدل كلمة التوحيد على نفي غير الله والاعتراف بوجوده عزوجل لما كان النطق بها كافيا في قبول اسلام المسلم ، فان المنطوق في كلمة التوحيد هو نفي وجود حقيقة الإله او نفي امكانها ، واخراج الله تبارك وتعالى من هذه الحقيقة المنفية اما بوجودها او بامكانها ، لان الخبر المقدّر اما موجود او ممكن ، وهذا وحده غير كاف في الاسلام ، بل لا بد مع اخراجه عزوجل عن الحقيقة المنفية من ضمّ الاعتراف بوجوده او امكانه ، وسيأتي ان الاعتراف بامكانه يساوق الاعتراف بوجوده ، والاعتراف بوجوده او امكانه هو المفهوم في هذه الكلمة المباركة ، فلو لم يكن الاستثناء دالا على المفهوم لما كان النطق بهذه الكلمة الطيبة كافيا في قبول اسلام المسلم.

والحاصل : ان القائل بالمفهوم في الاستثناء يقول بدلالة القضية الاستثنائية على ثبوت حكم للمستثنى عكس الحكم الثابت للمستثنى منه ، والمنكر للمفهوم فيها يقول بان الاستثناء لا يدل على أكثر من خروج المستثنى عن حكم المستثنى منه ، ولا دلالة فيه على ثبوت حكم للمستثنى عكس الحكم الثابت للمستثنى منه ، ولما كان الاسلام هو نفي واجب وجود غير الله والاعتراف بوجوده ، فلو لم تكن هذه الكلمة الطيّبة دالة على ثبوت حكم للمستثنى عكس المستثنى منه لكانت دالة على محض نفي غير الله ، أي ان وجوب الوجود المنفي خارج عنه الله تعالى من دون دلالة للقضية على انه مع خروجه هو ثابت ، ولما كان الاسلام هو نفي وجوب الوجود عن غيره وثبوته وحده ، فقبول النبي للاسلام بمجرد النطق بهذه الكلمة انما هو لدلالتها على المفهوم

٥٨

والاشكال في دلالتها عليه بأن خبر لا اما يقدر ممكن أو موجود وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه ، أما على الاول : فإنه حينئذ لا دلالة لها إلا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى ، لا وجوده ، وأما على الثاني : فلانها وإن دلت على وجوده تعالى ، إلا أنه لا دلالة لها على عدم إمكان إله آخر (١) مندفع ، بأن المراد من الإله هو واجب الوجود ،

______________________________________________________

وهو نفي غيره وثبوته وحده ، والى هذا اشار «للاستدلال على المدعى» أي على دلالة الاستثناء على المفهوم «بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسلام من قال كلمة التوحيد» وقد عرفت ان دلالتها على توحيده وهو كونه هو الواحد الموجود لا تتم الا بالدلالة على المفهوم.

ويردّه ما تقدم من انه دعوى كون هذه الكلمة مستعملة في الدلالة على المفهوم للقرينة لا يضر بدعوى النافي لدلالة الاستثناء على المفهوم مع عدم القرينة ، والكلمة الطّيبة تدل على المفهوم لقرينة على ذلك ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء بنفي الشركة وتوحيد الله وحده واستعمل هذه الكلمة مع كون الحال منه او المقال منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه يريد بهذه الكلمة الدلالة على المفهوم ، والى هذا اشار بقوله : «لا مكان دعوى ان دلالتها على التوحيد» الذي لازمه الدلالة على المفهوم «كان بقرينة الحال او المقال».

(١) حاصله : انه قد استشكل في دلالة هذه الكلمة المباركة على التوحيد ، لان معنى التوحيد عبارة عن انه تبارك وتعالى هو الموجود المعبود بالحق ويمتنع ان يكون غيره موجودا معبودا بالحق ، وعلى هذا فيقال ان (لا) في هذا الكلمة هي النافية للجنس الداخلة على المبتدأ والخبر ، فالمبتدأ هو الإله والخبر اما ممكن او موجود ، فعلى فرض كون الخبر ممكنا يكون معناها لا معبود بالحق ممكن إلّا الله ، وحاصلها انها تسلب الامكان عن المعبود بالحق وتثبت له تبارك وتعالى نفس المحمول المسلوب في المنطوق وهو ممكن ، فيكون نتيجتها سلب الامكان عن المعبود غير الله وإثبات

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الامكان له ، وهذا المعنى أجنبي عن معنى التوحيد الذي عرفت هو وجوده تبارك وتعالى وامتناع وجود غيره ، فان هذه الكلمة اذا كان المحمول فيها هو الامكان فهي لا تثبت له تبارك وتعالى أزيد من الامكان ، والتوحيد اثبات الوجود له وامتناع وجود غيره ، لا نفي الامكان عن غيره واثبات الامكان له.

وان كان الخبر المقدر في الجملة هو موجود فيكون معناها نفي وجود إله غيره واثبات الوجود المنفي عن غيره له تبارك وتعالى ، وهذا المعنى أيضا لا يفيد التوحيد ، فانه وان دلت الكلمة المباركة على وجوده عزوجل ونفي وجود غيره إلّا انها لم تدل على امتناع غيره ، وعدم الموجود لا يستلزم الامتناع ، فالكلمة على كل حال لا يستفاد منها التوحيد تماما ، بل اما ان تدل على امتناع غيره ولكنها لا تدل على وجوده بل على امكانه ، واما ان تدل على وجوده ولكنها لا تدل على امتناع غيره ، والى هذا اشار بقوله : «والاشكال في دلالتها عليه» أي على التوحيد الذي هو عبارة عن وجوده عزوجل وامتناع إله غيره ، بما حاصله «ان خبر لا اما ان يقدر ممكن او موجود وعلى كل تقدير لا دلالة لها عليه» أي لا دلالة لها على التوحيد الذي هو عبارة عن الامرين المذكورين.

«اما على الاول» وهو ان يكون الخبر المقدر ممكنا «فانه حينئذ لا دلالة لها الا على إثبات امكان وجوده تبارك وتعالى لا وجوده» لأنها تدل على اثبات المحمول المسلوب في المستثنى منه للمستثنى ، والمحمول المسلوب هو الامكان لان حاصلها يكون انه لا إله ممكن إلّا الله فهو ممكن ، فهي وان دلت على امتناع غيره إلّا انها لا دلالة لها على وجوده ، فان المحمول الثابت له حينئذ هو الامكان دون الوجود.

«واما على الثاني» وهو ان يكون الخبر المقدر موجودا فلا دلالة لها أيضا على تمامية التوحيد «لأنها وان دلت على وجوده» لان المحمول المسلوب في المستثنى منه هو موجود وهو الثابت للمستثنى فهي تدل على وجوده عزوجل «إلّا انها لا دلالة

٦٠