بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-060-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيحه : انه اذا ثبتت الملازمة بين جواز التخصيص به وجواز النسخ به فلا يعقل ان يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ ، لان تحقق احد المتلازمين بعد ثبوت الملازمة بينهما دون الآخر من المحال البين ، لانه مع تسليم الملازمة يستلزم الخلف وانكارها انكار للبرهان من دون برهان ، واذا ثبت عدم جواز النسخ به فلا بد وان لا يجوز التخصيص به أيضا ، لما ذكرنا من لزوم التلازم بين المتلازمين ، وبطلان النسخ للكتاب بالخبر الواحد مسلم وثابت لا اشكال فيه بل من مسلمات المسلمين.

ويبقى اثبات الملازمة بينهما ، والبرهان عليها هو ان اللازم الثابت للماهية لا بد وان يثبت لجميع افرادها ، وإلّا لم يكن لازما للماهية وهو واضح ، والنسخ فرد من افراد التخصيص لان التخصيص بحسب معناه اللغوي هو الاخراج من العام ولكن الاصطلاح قام على تسمية إخراج بعض الأفراد من العام عن حكمه بالتخصيص ، وعلى إخراج بعض الأزمنة عن استمرار حكم العام بالنسخ ، فان التخصيص المصطلح تخصيص في الافراد والنسخ تخصيص في الأزمان ، فان للعام ظهورين : ظهور في شمول حكمه لجميع افراده وظهور في استمرار حكمه الى الابد ، ولازم تخصيص العام حصر حكمه وتحديده ببعض افراده ولا يكون شاملا لجميعها ، ولازم النسخ تحديد العام بحسب الزمان بحيث لا يكون شاملا لجميع الازمان ، فاخراج بعض الافراد تخصيص واخراج بعض الازمنة تخصيص أيضا ، فاذا ثبتت الملازمة بينهما بحسب هذا البرهان وثبت عدم جواز النسخ للكتاب بالخبر فلا بد وان لا يجوز التخصيص للكتاب بالخبر ، لعدم امكان التفكيك بين المتلازمين.

ويردّه ، اولا : ان جواز التخصيص بالخبر وعدم جواز النسخ به حكمان كل واحد منهما ثابت للفرد بعنوانه الخاص لا للفرد بما هو فرد للجامع بينهما ، فان الجامع بين التخصيص المصطلح والنسخ هو عنوان الاخراج ، ولم يثبت للاخراج بما هو اخراج حكم حتى يجب ان يشملهما معا ، بل الجواز ثابت للاخراج الافرادي بما هو اخراج افرادى لا بما هو اخراج ، وعدم الجواز ثابت للاخراج الازماني بما هو

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

اخراج ازماني لا بما هو اخراج ، فثبوت جواز التخصيص لا يستلزم جواز النسخ ، وعدم جواز النسخ لا يستلزم عدم جواز التخصيص.

وقولهم ان النسخ من افراد التخصيص ان كان مرادهم انه فرد من التخصيص بمعنى الاخراج فهو صحيح ، ولكنه لا يقتضي ان يكون الاخراج الازماني فردا من الاخراج الافرادي ، وان كان مرادهم ان النسخ فرد من التخصيص المصطلح فهو واضح البطلان ، لعدم معقولية ان يكون قسيم الشيء قسما منه.

فاتضح ان الملازمة المدعاة بين النسخ والتخصيص ممنوعة.

وثانيا : فرق واضح بين التخصيص والنسخ ، فان التخصيص لازمه بقاء حكم العام ولكنه يختص ببعض افراده ، والنسخ رفع للعام من رأس ، فدعوى ان كليهما تخصيص فلا فرق بينهما واضحة الفساد ، فان التحديد الذي لا يرفع حكم العام من رأس غير التحديد الذي يرفعه من رأس ، ولعله اشار الى هذين الايرادين معا بقوله : «والملازمة بين جواز التخصيص» للكتاب بالخبر «وجواز النسخ» للكتاب «به ممنوعة».

وثالثا : لو سلمنا التلازم بينهما ولكن المتلازمين انما لا يجوز التفكيك بينهما في الاحكام العقلية دون الاحكام الشرعية ، فنحن نقول انه حيث كان كلا من التخصيص والنسخ اخراجا غايته ان احدهما في الافراد والآخر في الأزمان فالقاعدة الاولية تقتضي جواز النسخ للكتاب بالخبر الواحد أيضا ، اذ لا يرى العقل مانعا من ان يثبت بالخبر الواحد التحديد للعام بحسب الازمان كما ثبت بالخبر الواحد تحديد العام بحسب الافراد ، إلّا ان الحكم الشرعي فرق بينهما ، فان الاجماع قام على عدم جواز النسخ به ولم يقم الاجماع على عدم جواز التخصيص به ، فهو باق على القاعدة الاولية مضافا الى ما عرفت من قيام الادلة الخاصة على جواز تخصيص الكتاب به ، فالقاعدة العقلية في جانب الجواز لا في جانب عدم الجواز ، ولكن الاجماع فرق بينهما ، والى هذا اشار بقوله : «وان كان مقتضى القاعدة جوازهما»

٢٤٢

فصل

لا يخفى أن الخاص والعام المتخالفين (١) ، يختلف حالهما ناسخا

______________________________________________________

اذ العقل لا يرى مانعا عن جواز النسخ بالخبر كما لا يرى مانعا عن التخصيص به ، ولكنه خرج النسخ «لاختصاص النسخ بالاجماع على المنع» به.

ورابعا : الفرق بينهما أيضا فان النسخ حيث كان إسقاطا للعام من رأس فهو امر له اهميته ، ومن الواضح ان ما كان له الاهمية تتوفر الدواعي لنقله ويكون الناقل له اجماعات لا واحد ، ويمتنع عادة ان يكون النسخ مدلولا عليه بخبر الواحد ، بخلاف التخصيص حيث انه من الامور المتعارفة المعتادة فلا مانع من ان يكون مدلولا عليه بالخبر الواحد ، والدليل على أهمية النسخ وتوفر الدواعي لنقله انه ليست موارد النسخ من محل الخلاف بل هي مضبوطة معينة لان النسخ تتوفر الدواعي لنقله فينقله كثيرون ولا يكون الناقل له واحدا ، ومرجع هذا الفرق ان النسخ يمتنع ان ينقل بخبر الواحد عادة بخلاف التخصيص ، فقولهم لو جاز التخصيص به لجاز النسخ به دعوى ملازمة بين ما له وجود وما ليس له وجود ، فدعوى بطلان التالي وهو عدم جواز النسخ به باطلة ، اذ ليس هناك خبر واحد ناسخ حتى تكون بينه وبين الخبر الواحد المخصص ملازمة فيكون بطلان احدهما مستلزما لبطلان الآخر ، وهذا مراده من قوله : «مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي الى ضبطه» فيمتنع عادة ان يكون منقولا بخبر الواحد ويكثر الناقل له ، لذا : «قل الخلاف في تعيين موارده بخلاف التخصيص».

(١) لا يخفى ان ظاهر العنوان مما لا يشمل العامين من وجه بل هو يختص بما كانت النسبة بينهما هو العموم المطلق من جهة العام والخصوص من جهة الخاص ، ولكن الكلام تقسيما ودليلا مما يشمل العموم من وجه ، فيكون داخلا ملاكا.

٢٤٣

ومخصصا ومنسوخا (١) ، فيكون الخاص : مخصصا تارة ، وناسخا مرة ، ومنسوخا أخرى ، وذلك لان الخاص إن كان مقارنا مع العام ، أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصصا وبيانا له (٢). وإن كان بعد حضوره كان ناسخا لا مخصصا ، لئلا يلزم تأخير

______________________________________________________

وعلى كل فالعام والخاص المتخالفان بحسب السلب والإيجاب كأكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم يمكن ان يكون كل واحد منهما ناسخا ومنسوخا ، والخاص يمكن ان يكون مخصصا والعام مخصّصا ـ بالفتح ـ كما سيأتي تفصيل ذلك.

(١) من الواضح ان قوله ناسخا ومخصصا ومنسوخا هو حال من ضمير حالهما ، وكان ينبغي ان يضم اليها مخصصا ـ بالفتح ـ لوضوح ان قوله مخصصا اما ان يكون بالكسر كما يشعر به ذكر احوال الخاص بعده فهو مما يختص بالخاص دون العام ، كما انه لو كان بالفتح فهو يختص بالعام دون الخاص ، فلا يصلح ان يكون مخصصا بما له من الهيئة ان يقع حالا منهما معا ، كما يصلح ان يكون (ناسخا ومنسوخا) حالا منهما معا لان كل واحد منهما يقع ناسخا ومنسوخا. وحيث كانت هذه الاقسام حالا من الضمير وهو تثنية فلا بد وان يكون حالا بلحاظ المجموع للمجموع.

ولعله انما لم يضم مخصصا ـ بالفتح ـ اليها لان لازم كون الخاص مخصصا هو كون العام مخصصا. واما كون الخاص ناسخا وان استلزم كون العام منسوخا إلّا انه لا يستلزم كون العام ناسخا المستلزم لكون الخاص منسوخا ، فلذا ذكر الناسخ والمنسوخ معا.

(٢) الفرق بين التخصيص والنسخ هو ان الافراد الخارجة عن العام على التخصيص لا تكون مرادة بالارادة الجدية واقعا ولا يكون حكم العام مما يشملها واقعا ، وان كان قبل التخصيص كان شاملا لها ظاهرا.

٢٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

واما على النسخ فان الافراد الخارجة تكون مما يشملها حكم العام واقعا ومرادة بالإرادة الجدية فيه قبل النسخ ثم تخرج بالنسخ فيكون النسخ رافعا وماحيا للحكم الثابت للافراد الخاص واقعا.

اذا عرفت هذا ـ فاعلم ان الخاص يكون مخصصا وناسخا ومنسوخا ، لانه اذا وقع الخاص مقارنا للعام زمانا اما بورودهما من امام واحد بان يكون احدهما باللفظ والآخر بالإشارة مثلا ، وانما لا يعقل ان يكونا واردين في كلام واحد لان المفروض ان التنافي بين الحجتين ، ولا يكون العام حجة اذا ورد الخاص معه في كلام واحد.

وربما يقال بعدم امكانه من امام واحد لعدم الفرق في عدم تمامية حجية ظهور العام اذا اقترن بالخاص سواء كان الخاص مبينا باللفظ او بالاشارة ، فبعد فرض كون الكلام في العام والخاص الحجتين لا يمكن فرض الاقتران في زمان واحد من امام واحد.

إلّا ان الانصاف امكان فرض اقترانهما في زمان واحد من امام واحد ، بل لشخص واحد لوضوح اقترانهما في زمان واحد من امام واحد لشخصين بان يلقى العام ـ مثلا ـ باللفظ لشخص ويكتب بالخاص لشخص آخر في وقت واحد ، بحيث يكون كل واحد منهما غير مطلع بالفعل على ما فهمه الآخر وان كانا في مجلس واحد ، ثم بعد انقضاء المجلس يطلع كل واحد منهما على ما وصل الى الآخر. واما بالنسبة الى شخص واحد فهو بان يكتب الى شخص واحد بكتابين احدهما فيه حكم العام والآخر فيه حكم الخاص ، والظاهر انه في مثل هذا يكون كلا منهما قد اكتسب صفة الحجية ، وعلى هذا فاقترانهما من امامين بمكان من الامكان : بان يكون احدهما صادرا من الحسن عليه‌السلام ، والآخر من الحسين عليه‌السلام وهما ـ معا ـ امامان قاما او قعدا ، غايته ان التصرف في الامور العامة هي للحسن عليه‌السلام وحده ، واما

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

كون الحسين عليه‌السلام مبلغا لاحكام الله معصوما ملهما لا ينطق عن الهوى معلما عن امير المؤمنين عن رسول الله فهو مما لا اشكال فيه ، فان الامام امام وليدا وشابا وكهلا وشيخا لا يختلف حاله ادراكا وعصمة وتبليغا أصلا كما هو مبرهن عليه في محله تفصيلا ، ومؤيدا بما في كتب الرجال عن سؤال موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن الاحكام وهو في سن الطفولة ، وسؤال الحجة المنتظر وهو في المهد فيجيبون بما لا يستطيع ان يجيب به اعلم العلماء المحققين ، مما يدل على انهم ملهمون وان علمهم من الله.

وعلى كل حال فاذا اقترن الخاص بالعام زمانا فلا بد وان يكون الخاص مخصصا لا غير ، لعدم معقولية النسخ به حتى لو قلنا بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، اذ النسخ كما عرفت لا بد وان يكون رافعا للحكم الثابت واقعا للافراد الخارجة من العام ، واذا اقترن العام والخاص في الزمان لا يكون للعام حكم واقعي ثابت للافراد الخارجة عنه بالخاص ، فلذا لا يمكن ان يكون الخاص في الاقتران ناسخا ويتعين للتخصيص.

واما اذا لم يقترنا في الزمان ، فتارة : يرد الخاص بعد الزمان الذي ورد فيه العام ولكنه قبل حضور وقت العمل بالعام ، فبناء على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالعام فانه أيضا على هذا يتعين الخاص للتخصيص لعدم جواز كونه ناسخا ، لانه وان تاخر زمانا عن العام إلّا ان المفروض كونه قبل حضور وقت العمل ، والنسخ بناء على هذا انما يصح بعد حضور وقت العمل فلا بد وان يكون الخاص متعينا للتخصيص أيضا كما لو اقترنا ، والى الاقتران اشار بقوله : «وذلك لان الخاص ان كان مقارنا مع العام» والى الثاني اشار بقوله : «او وارد بعده» أي ان الخاص يكون واردا بعد زمان العام ولكنه «قبل حضور وقت العمل به» أي بالعام «فلا محيص» في هذين الفرضين «عن كونه» أي الخاص «مخصصا وبيانا له» أي للعام لما عرفت من عدم معقولية النسخ عند اقترانهما في الزمان او مع تأخر الخاص زمانا ، ولكنه كان قبل حضور وقت العمل بالعام بناء على عدم امكان

٢٤٦

البيان عن وقت الحاجة فيما إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي ، وإلا لكان الخاص أيضا مخصصا له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات. وإن كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فكما يحتمل أن يكون الخاص مخصصا للعام ، يحتمل أن يكون العام ناسخا له (١) ، وإن كان الاظهر أن يكون الخاص

______________________________________________________

النسخ قبل حضور وقت العمل ، إلّا انه ستأتي المناقشة في هذا البناء وان النسخ ممكن حتى قبل حضور وقت العمل.

(١) لا يخفى انه قد علمت ان الخاص ، تارة يكون متعينا في كونه مخصصا لا ناسخا ، وثانية يتعين الخاص في كونه ناسخا لا مخصصا ، وثالثة يكون منسوخا. ولما ذكر في الفرضين المذكورين تعين كون الخاص مخصصا لا ناسخا اشار الى ما يتعين فيه ان يكون الخاص ناسخا لا مخصصا بقوله : «وان كان بعد حضوره ... الى آخره».

وتوضيحه : ان النسخ كما عرفت هو رفع الحكم الثابت واقعا وحيث لا يكون الحكم له ثبوت واقعي لا يتاتى النسخ ، فحينئذ يكون المورد المتفق عليه في كون الخاص متعينا لان يكون ناسخا لا مخصصا هو ما اذا ورد الخاص بعد زمان العام وبعد حضور وقت العمل بالعام ، وان يكون العام واردا لبيان الحكم الواقعي للافراد التي كان شاملا لها قبل ورود الخاص ، ومع تمامية هذه الشروط الثلاثة يتعين الخاص لان يكون ناسخا لا مخصصا ، لانه اذا كان مقارنا له يكون مخصصا وكذلك اذا كان قبل حضور وقت العمل به ، لما عرفت من عدم معقولية النسخ قبل حضور وقت العمل بناء على المشهور ، بخلاف ما اذا كان الخاص واردا بعد حضور وقت العمل بالعام فانه لو كان مخصصا للزم منه تاخر البيان عن وقت الحاجة التي سيأتي شرحه في الشرط الثالث وانه من الاغراء المحال على الشارع ، فاتضح ان العلة في الشرط الثاني.

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الشرط الاخير فتوضيحه يحتاج الى تمهيد مقدمة ، حاصلها : ان حكم العام الذي اكتسب ظهوره ما له من الحجية بعد ورود الخاص وكشفه عن اخراج افراد منه عن حكمه.

اما ان يكون ثابتا واقعا لهذه الافراد الخارجة الى حين ورود الخاص ، وفي هذا لا بد وان يكون الخاص ناسخا ، لانه لو لم يكن ناسخا للزم الخلف لفرض كون حكم العام كان ثابتا لهذه الافراد التي اخرجها الخاص عنه ، مضافا الى ان الخاص لو لم يكن ناسخا لكان مخصصا للعام ، ومعنى كونه مخصصا هو كونه بيانا لما اريد من الحكم في العام ، والمفروض ان هذا البيان قد ورد بعد العمل بالعام أي بعد ما عمل بالعام في الافراد التي دل الخاص على خروجها عنه ، فكون الخاص بيانا للعام بعد هذا يلزم ان يكون هذا البيان قد تأخر عن وقت الحاجة فان الحاجة تقتضي بيان كون المراد في العام من الحكم الذي هو المراد بالارادة الجدية هو ما عدا الافراد الخارجة بالخاص ، واذا تاخر هذا البيان عن زمان وقت العمل بالعام كان تاخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، وكون الخاص مخصصا معناه كونه بيانا للعام فلا بد وان لا يتأخر عن وقت العمل بالعام ، ويكون السبب في العمل بالعام في هذه الافراد الخارجة قد تسبب من عدم بيان الخاص قبل العمل ، وهذا من الاغراء المحال وقوعه من الشارع اللطيف بعباده فيما يوصلهم الى احكامهم الواقعية ، بخلاف ما اذا كان الحكم في العام ثابتا لهذه الافراد الى زمان ورود الخاص ولكنه ينتهى امد المصلحة فيه الى هذا الزمان فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

واما اذا كان الحكم في العام ليس بثابت واقعا للافراد الخارجة عنه وان ما عدا الخاص هو المراد بالارادة الجدية في هذا الحكم ، فان كان الداعي لاظهار الحكم بنحو العام هو ضرب القاعدة او ان لا يكون العام معنونا بعنوان خاص من العناوين الداخلة تحته ، وفي مثل هذا يكون هناك مصلحة واقعية واحدة قائمة بمتعلق الحكم للافراد الباقية تحت العام ، فان الحكم فيها لمصلحة واقعية قائمة بمتعلق الحكم. واما

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الحكم بالنسبة الى الافراد التي خرجت عنه وكشف عن خروجها الخاص فهو حكم صوري لا واقعي ، وفي مثله لا يكون تاخير الخاص لو كان مخصصا موجبا لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فان المراد من لزوم كون الخاص بيانا للعام انما هو كونه بيانا لما هو المراد من حكم العام الواقعي الناشئ عن مصلحة في متعلق الحكم وقد صار الخاص بيانا لهذا الحكم. واما حكم العام الصوري للافراد التي خرجت عنه بالتخصيص فليس حكما واقعيا فلا يكون تأخير الخاص بالنسبة اليه من تاخير البيان عن وقت الحاجة وتنتهي فائدة هذا الاظهار بورود الخاص.

فاتضح : ان الخاص انما يتعين ان يكون ناسخا انما هو فيما كان الحكم في الافراد الخارجة عنه حكما واقعيا لا انه كان حكما صوريا ناشئا عن داع لاظهاره اما لضرب القاعدة ، او لان لا يكون العام معنونا بعنوان من العناوين الداخلة تحته ، لانه لو كان الحكم في العام بالنسبة الى الافراد الخارجة حكما واقعيا فكون الخاص مخصصا يلزم منه الخلف وتاخير البيان عن وقت الحاجة.

اما لو كان حكما صوريا لداعي ضرب القاعدة او غيرها فلا يلزم من تأخير الخاص بعد العمل تاخير البيان عن وقت الحاجة القبيح على الحكيم او الخلف المحال وقوعه ، والى هذا اشار بقوله : «وان كان» أي الخاص واردا «بعد حضوره» أي بعد حضوره وقت العمل بالعام «كان الخاص ناسخا لا مخصصا لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة» إلّا ان هذا مشروط بشرط وهو «فيما كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي» فانه اذا كان الحكم في العام في الافراد الخارجة عنه حكما واقعيا فلا يعقل ان يكون الخاص بيانا لكون المراد بالارادة الواقعية الجدية في الحكم هو ما عدا الافراد الخارجة لفرض كون الافراد الخارجة أيضا مرادة بالارادة الجدية الواقعية الى مدة من الزمان وهو خلف ، مضافا الى لزوم تاخير البيان عن وقت الحاجة القبيح صدوره من الحكيم كما عرفت.

٢٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

واما اذا كان الحكم بالنسبة الى الافراد الخارجة حكما صوريا لا واقعيا فلا يستلزم خلفا ولا تاخيرا للبيان فلا مانع من كون الخاص مخصصا ، ولذا قال : «وإلّا كان الخاص أيضا مخصصا له» أي للعام «كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات» فان حكم العام فيها ليس حكما واقعيا بالنسبة الى الافراد الخارجة بالخاص بل حكما صوريا لداعي ضرب القاعدة او غيره ، بل يمكن ان يقال انه حكم واقعي أيضا ولكن مصلحته قائمة بنفس الحكم لا بمتعلق الحكم.

فيتبين من مجموع ما مر الموارد التي يتعين كون الخاص فيها مخصصا والتي يتعين كونه ناسخا.

وبقي المورد الذي يكون الخاص فيه منسوخا واليه اشار بقوله : «وان كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص».

اذا ورد الخاص اولا ، ثم بعد حضور وقت العمل به ورد العام فيحتمل ان يكون الخاص مخصصا للعام وبيانا سابقا له فيكون المراد من العام ما عدا افراد الخاص ، فاذا قال لا تكرم فساق العلماء ثم بعد حضور وقت العمل بهذا الخاص ورد اكرم العلماء ، فانه من المحتمل ان يكون الخاص بيانا للعام ومخصصا له ، فيكون المراد من اكرم العلماء وجب اكرام ما عدا فساقهم ويبقى حكم حرمة اكرام فساق العلماء على حاله ، ويحتمل ان يكون العام ناسخا للخاص لعدم المانع عن كونه كذلك ، لانه ورد بعد حضور وقت العمل به ، ولازم هذا عدم بقاء حكم الخاص وارتفاعه وانه يجب اكرام العلماء جميعا عدولهم وفساقهم.

وقد ظهر الفرق بين المورد الذي يكون الخاص فيه منسوخا وبين الموردين من كونه ناسخا للعام تارة ومخصصا اخرى ، فانه في الموردين اللذين ذكرناهما يتعين فيهما كون الخاص ناسخا مرة ومخصصا اخرى ، بخلاف كونه منسوخا فانه لا يتخطى مرتبة الاحتمال ولا يتعين ان يكون منسوخا إلّا بقرينة خاصة تدل على كون العام

٢٥٠

مخصصا ، كثرة التخصيص ، حتى اشتهر ما من عام إلّا وقد خص مع قلة النسخ في الاحكام جدا ، وبذلك يصير ظهور الخاص في الدوام ـ ولو كان بالاطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع ، كما لا يخفى (١) ، هذا فيما علم تاريخهما.

______________________________________________________

ناسخا له ، ولذا قال : «وان كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص فكما يحتمل ان يكون الخاص مخصصا للعام يحتمل ان يكون العام ناسخا له».

(١) وتوضيحه : ان الخاص اذا كان متقدما والعام واردا بعد حضور وقت العمل به ـ قد عرفت انه يحتمل كونه مخصصا للعام ويحتمل ان يكون منسوخا به ، فهنا ظهوران متنافيان ظهور الخاص في كون حكمه مستمرا لا الى امد ، وظهور العام في الشمول لجميع افراده.

والمعروف في هذا المقام وفي كل مقام يدور الامر بين النسخ والتخصيص تقديم احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، وان كان الظهور الذي يستلزم التخصيص بالاطلاق والظهور الذي يستلزم النسخ بالوضع كما في المقام ، فان ظهور الخاص في الاستمرار اطلاقي وظهور العام في الشمول وضعي ، كما لو كان العموم مستفادا من لفظ كل. والسبب في هذا التقديم هو شهرة التخصيص وندرة النسخ ، ولذا قال : «ما من عام إلّا وقد خص» فالعمومات الواردة لبيان الاحكام في الكتاب والسنة هي واقعة في معرض التخصيص ، فقد جرى ديدن الشارع على بيان الاحكام بنحو التعميم والتخصيص بخلاف النسخ فانه نادر جدا ، فالظهور الاطلاقي وان كان بذاته اضعف من الظهور الوضعي إلّا ان شهرة التخصيص وندرة النسخ تجعل الظهور الاطلاقي اقوى من الظهور الوضعي ، والى هذا اشار بقوله : «وبذلك» أي وبواسطة شهرة التخصيص وندرة النسخ «يصير ظهور الخاص في الدوام ولو كان بالاطلاق اقوى من ظهور العام ولو كان بالوضع».

٢٥١

وأما لو جهل وتردد بين أن يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الاصول العملية. وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا ، وإن كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا ، وأنه واجد لشرطه إلحاقا له بالغالب ، إلا أنه لا دليل على اعتباره ، وإنما يوجبان الحمل عليه فيما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصيرورة الخاص بذلك في الدوام اظهر من العام ، كما أشير إليه ، فتدبر جيدا (١).

______________________________________________________

ولا يخفى ان كون الخاص في هذا المقام مخصصا وكونه منسوخا يترتب عليه ثمرة عملية كما عرفت : من بقاء حرمة اكرام فساق العلماء على حاله بناء على التخصيص ، ومن ارتفاعه ووجوب اكرامهم كالعدول منهم بناء على النسخ.

واما فيما مر مما اذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فانه فيما لو علمنا بكون العام واردا لبيان الحكم الواقعي يكون الخاص ناسخا ، وفيما لو علمنا بانه كان حكما صوريا يكون الخاص مخصصا.

اما اذا لم نعلم بكيفيته فيدور الامر بين النسخ والتخصيص ، وقد عرفت انه كلما دار الامر بين النسخ والتخصيص فالمعروف تقديم التخصيص على النسخ ، إلّا انه لا ثمرة عملية تترتب عليه للقطع بعدم شمول العام للافراد الخارجة بالخاص اما بالنسخ او بالتخصيص.

(١) قد عرفت الحال فيما علم زمان ورودهما وانه فيما اذا اقترنا يتعين التخصيص ، وفيما اذا تقدم العام وكان لبيان الحكم الواقعي يتعين النسخ ، وفيما اذا لم يكن لبيان الحكم الواقعي يتعيّن التخصيص ، وفيما لم يعلم بالكيفية يتقدم احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، واذا تقدم الخاص وتأخر العام أيضا يتقدم احتمال التخصيص على احتمال النسخ.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد عرفت أيضا ان النسخ على المشهور انما يكون بعد حضور وقت العمل فحضور وقت العمل شرط في النسخ.

فاذا جهل التاريخ في كيفية زمان ورودهما بان لا نعلم ان ورودهما كان بنحو الاقتران او كان قبل حضور وقت العمل بناء على المشهور أيضا من عدم معقولية النسخ قبل حضور وقت العمل فيتعيّن التخصيص ، او كان بعد حضور وقت العمل ، وهو تارة يتعيّن فيه النسخ ، واخرى يتعيّن التخصيص ، وثالثة يدور الامر بين النسخ والتخصيص.

وعلى كل حال ففيما اذا جهل تاريخ زمانهما من كونهما واردين بنحو الترتيب وان يكون بعد حضور وقت العمل او انهما ليسا كذلك فالنتيجة هو الدوران بين كون الخاص مخصصا او ناسخا. وفي هذا المقام لا يتقدم احتمال التخصيص على احتمال النسخ كما مر ـ فيما سبق ـ من تقديم احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، والسبب في ذلك هو ان شهرة التخصيص وندرة النسخ ليست دليلا خاصا شرعيا او قاعدة عقلائية برأسها ، وانما هي موجبة لتقوية الظهور المقتضي للتخصيص على الظهور المقتضي للنسخ ، فهي مرجحة حيث يكون للخاص ظهور قد شك فيه انه قد جاء للتخصيص او للنسخ.

وبعبارة اخرى ، انه تارة : نشك في ان الخاص قد أراده الشارع خاصا او ناسخا.

واخرى الشك بعد ما قد اراده الشارع وتعيّن حاله ولكن شكّنا انما كان لجهلنا بأنه كيف كان قد اريد ، فالشك من قبيل الشك في الشبهة المصداقية ، بخلاف الشك الأول فانه من قبيل الشبهة المفهومية ، ومجرى القاعدة في تعيين انه كيف اريد لا في تعيين ما اريد.

وحيث قد عرفت انه من جملة الموارد ما اذا كان العام واردا قبل الخاص وكان لاجل بيان الحكم الواقعي ، وكان الخاص واردا بعد حضور وقت العمل به ، وفي

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مثل هذا يكون الخاص قد ورد متعينا في الناسخيّة وهذا من جملة المحتملات في مقام جهل التاريخ فلا يكون من موارد تقديم التخصيص على النسخ.

وعلى كل فمورد الترجيح بشهرة التخصيص وندرة النسخ هو فيما اذا كان للخاص ظهور شككنا في كونه قد اورده الشارع مخصصا للعام او ناسخا ، لا فيما اذا كان للخاص ظهور قد تعيّن حاله اما في التخصيص او في النسخ ولكن جهلنا به اوجب شكنا في انه كيف كان تعيينه ، وفي مثل هذا لا مجرى للترجيح بشهرة التخصيص وندرة النسخ ، ففيما اذا كان هناك ثمرة عمليّة كما في اكرم العلماء ولا تكرم فساقهم وشككنا في تاريخ ورودها ويدور الامر بين النسخ والتخصيص ، ومن المحتمل ان يكون الخاص متقدما ومنسوخا فيجب اكرام الفساق منهم ، ويحتمل ان يكون مخصصا وحرمة اكرامهم باقية والنتيجة ان يكون حكمهم غير معلوم ، وحيث لا مجرى للقاعدة فلا بد من الرجوع الى الاصول العملية في تعيين ما لهم من الحكم بحسبها ، والى هذا اشار بقوله : «واما لو جهل وتردد بين ان يكون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام» فيكون ناسخا «وقبل حضوره» أي مثل حضور وقت العمل بالعام فيكون مخصصا ، لما عرفت في ان المشهور بناؤهم على التخصيص فيما كان الخاص واردا قبل حضور وقت العمل ، وعلى النسخ فيما كان واردا بعد حضور وقت العمل ، وسيأتي ما يمكن ان يقال في كل من المقامين ، الّا انه بناء على المشهور «فالوجه» فيما اذا جهل التاريخ بين كونه قبل حضور وقت العمل او بعده «هو الرجوع الى الاصول العملية» في مثل المثال المتقدم مما كان هناك ثمرة عملية لا فيما اذا كان العام متقدما وشككنا في النسخ والتخصيص ، فان الخاص على كل حال خارج عن العام ، فلو تقدم اكرم العلماء وشككنا في كون لا تكرم الفساق المتأخر عن العام هل كان واردا قبل حضور وقت العمل فيكون مخصصا للعام او بعد حضوره فيكون ناسخا فلا يرجع الى الاصول العملية ، لمعلومية الحكم في الخاص وهو حرمة اكرامهم سواء كان مخصصا للعام او ناسخا له.

٢٥٤

ثم إن تعيّن الخاص للتخصيص ، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به ، إنما يكون مبنيا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل (١) ، وإلا فلا يتعين له ، بل

______________________________________________________

وقد اشار الى ان كثرة التخصيص وندرة النسخ لا تفيد في مقام جهل التاريخ بقوله : «وكثرة التخصيص وندرة النسخ هاهنا وان كانا يوجبان الظن بالتخصيص أيضا وانه واجد لشرطه» وهو كون العام المتقدم ليس واردا لبيان الحكم الواقعي «الحاقا له بالغالب إلّا انه لا دليل على اعتباره» أي لا دليل على اعتبار هذا الظن كقاعدة برأسها اما شرعية او عقلائية ، وانما هي موجبة لقوة الظهور وترجيح جانب التخصيص على جانب النسخ ، فيكون مجراها وفائدتها فيما اذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، وقد عرفت انها توجب قوة ظهور الخاص في الدوام على ظهور الخاص في الشمول لشهرة التخصيص وندرة النسخ ، والى هذا اشار بقوله : «وانما يوجبان» أي شهرة التخصيص وندرة النسخ «الحمل عليه» أي الحمل على التخصيص «فيما اذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص لصيرورة الخاص لذلك» أي بالشهرة والندرة كون الخاص «في الدوام أظهر من العام كما اشير اليه».

(١) قد عرفت ان المعروف ان شرط النسخ هو كون الناسخ واردا بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ ، اما اذا ورد قبل ذلك بان ورد قبل حضور وقت العمل فلا بد على ما هو المعروف من الحمل على التخصيص ، وسيأتي الكلام فيه ، ولكنه على كل بناء على هذا يتعيّن الخاص للتخصيص فيما اذا ورد الخاص بعد زمان ورود العام ، وقبل حضور وقت العمل به يتعيّن ان يكون الخاص مخصصا لا ناسخا ، وكذا اذا ورد العام بعد زمان ورود الخاص ولكنه قبل حضور وقت العمل بالخاص لا بد أيضا ان يكون الخاص مخصصا للعام ، ولا يجوز ان يكون العام ناسخا له لعدم تحقيق

٢٥٥

يدور بين كونه مخصصا وناسخا في الاول ، ومخصصا ومنسوخا في الثاني ، إلا أن الاظهر كونه مخصصا ، وإن كان ظهور العام في عموم الافراد أقوى من ظهور الخاص في الخصوص ، لما أشير اليه من تعارف التخصيص وشيوعه ، وندرة النسخ جدا في الاحكام (١).

______________________________________________________

شرط النسخ فيهما وهو الورود بعد حضور وقت العمل ، والى هذا اشار بقوله : «ثم ان تعيّن الخاص للتخصيص اذا ورد ... الى آخر الجملة».

واشار الى السبب في الحمل على التخصيص وعدم جواز كونه ناسخا انما هو لعدم شرط النسخ فالتعيين للتخصيص انما هو لعدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ عندهم بقوله : «انما يكون مبنيّا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل».

(١) بناء على ما سيأتي من التحقيق من جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ ، ففي الاول وهو ما اذا ورد العام وتأخر الخاص وكان قبل حضور وقت العمل بالعام فكما يمكن ان يكون الخاص مخصصا للعام كذلك يحتمل كونه ناسخا للعام ، وفي الثاني وهو ما اذا ورد الخاص وتأخر العام ولكنه كان قبل حضور وقت العمل الخاص فكما يحتمل ان الخاص مخصص للعام كذلك يحتمل ان يكون العام ناسخا للخاص ، ولكنه في هذين الموردين مما يدور الامر بين النسخ والتخصيص ، وقد عرفت انه كلما دار الامر بين النسخ والتخصيص فيما اذا شك في كون الخاص قد جاء مخصصا ام لا ، فالبناء على تقديم احتمال التخصيص على النسخ لشهرة التخصيص وندرة النسخ ، وان الظهور في التخصيص وان كان اطلاقيا فهو مقدم على الظهور في النسخ وان كان وضعيا ، وان كان لو لا هذه الشهرة في جانب التخصيص والندرة في جانب النسخ لكان ظهور العام في العموم الافرادي اقوى من ظهور الخاص في الدوام والاستمرار ، لان الاول وضعي والثاني اطلاقي ، فاذا تقدم الخاص وتأخر العام فظهور العام في عمومه الافرادي وان كان وضعيا لا يتقدم على

٢٥٦

ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ (١) ، فاعلم أن النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلا أنه في الحقيقة دفع الحكم

______________________________________________________

ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وان كان بالاطلاق ، لانه لازم الاخذ بعموم العام الوضعي النسخ والاخذ بظهور الخاص الاطلاقي التخصيص ، فيتقدم الظهور الموجب للتخصيص لشهرته على الظهور الموجب للنسخ لندرته ، والى هذا اشار بقوله : «وإلّا فلا يتعين له» أي وان لم نبن على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بان بنينا على جوازه قبل حضور وقت العمل فلا يكون الخاص متعينا للنسخ ، ولذا قال : «فلا يتعيّن له» أي للنسخ «بل يدور امره بين كونه مخصصا وناسخا في الاول» أي فيما اذا ورد العام وتاخر الخاص وكان قبل حضور وقت العمل فانه مع جواز النسخ قبل حضور وقت العمل يكون النسخ كالتخصيص كلا منهما محتملا «ومخصصا ومنسوخا في الثاني» وهو ما اذا ورد الخاص ثم ورد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص فانه يحتمل ان يكون الخاص مخصصا للعام وبيانا متقدما له ، ويحتمل ان يكون العام ناسخا له وهو منسوخ بالعام «إلّا ان الاظهر كونه مخصصا» في كلا الموردين لما عرفت انه كلما دار الامر بين النسخ والتخصيص يتقدم التخصيص على النسخ «وان كان ظهور العام في عموم الافراد» لكونه وضعيا «اقوى من ظهور الخاص في الخصوص لما اشير اليه من تعارف التخصيص وشيوعه وندرة النسخ جدا في الاحكام» فلا بد من تحقيق الحال في النسخ ليتضح انه هل يجوز قبل حضور وقت العمل ام لا؟ ولذا عقبة بتحقيق النسخ.

(١) لا يخفى ان للقوم كلامين : الاول في الورود بعد حضور وقت العمل فانهم بنوا على لزوم كون الوارد بعد حضور وقت العمل ناسخا ، ولم يقيّدوه فيما اذا كان العام متقدما بان يكون الحكم فيه لبيان الحكم الواقعي للافراد الخارجة عنه بالخاص ، وقد عرفت انه لا بد في كون الخاص ناسخا من ذلك ، لانه فيما اذا لم يكن الحكم في العام لبيان الواقع بل كان بداعي ضرب القاعدة مثلا فلا مانع من ان يكون الخاص

٢٥٧

ثبوتا (١) ، وإنما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ، مع أنه بحسب الواقع ليس له قرار ، أو ليس له دوام

______________________________________________________

مخصصا للعام ، ولو كان واردا بعد حضور وقت العمل بالعام لعدم لزوم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا الخلف كما تقدم بيانه.

الثاني : بناؤهم على لزوم كون الخاص مخصصا فيما اذا كان قبل حضور وقت العمل سواء كان العام متقدما والخاص متأخرا او كان الخاص متقدما والعام متأخرا وكان قبل حضور وقت العمل بالخاص.

وفي تحقيق حقيقة النسخ يتضح انه لا مانع من كون الخاص ناسخا فيما اذا تقدم العام ، ومنسوخا فيما اذا تقدم الخاص. وعلى كل فالنسخ ممكن قبل حضور وقت العمل.

(١) لا يخفى ان النسخ لا يعقل ان تكون حقيقته رفع الحكم الثابت واقعا ، لانه يستلزم محالات ثلاثة :

الاول : ان النسخ لو كان رفعا للحكم واقعا فلازمه ان يكون الحكم قبل نسخه قد كان مرادا له ـ تبارك وتعالى ـ واقعا وقد ارتفع بالنسخ ، لانه قد تغيرت ارادته في الحكم فنسخ لما بدا له نسخه ، وهو محال لان تغير ارادته مستلزم للتغير في ذاته لان صفاته عين ذاته ، والتغير في ذاته محال لبساطة ذاته وقدمها ، وتغير البسيط محال وتغير القديم بالذات محال ، كما هو مبرهن عليه في محله.

لكنه لا يخفى ان هذا انما يلزم حيث يكون الحكم هو الارادة والكراهة ، واما اذا كان الحكم ليس هو إلّا البعث بداعي التحريك فلا يستلزم تغيره تغيرا في ارادته.

الثاني : انه لو كان النسخ رفعا للحكم الثابت واقعا فالحكم قبل نسخه كان ثابتا ثبوتا استمراريا ، لوضوح ان الرفع واقعا يستلزم ثابتا ، لو لا الرفع لبقى على ثبوته ، فقبل نسخه كان علمه ـ تبارك تعالى ـ قد تعلق بثبوته واستمراره ثم نسخه فتغير علمه الذي كان متعلقا به ، لانه كان عالما باستمراره واقعا ثم تغير ذلك العلم حيث يرى له

٢٥٨

واستمرار ، وذلك لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصادع للشرع ، ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال ، وأنه ينسخ في الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلك ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ، ومن هذا القبيل لعله يكون أمر إبراهيم بذبح إسماعيل (١). وحيث عرفت أن النسخ بحسب

______________________________________________________

نسخه فقبل ان يبدو له ـ تعالى ـ نسخه لم يكن له علم بان امد الحكم ينتهي الى زمان النسخ ويكون قبل البداء في نسخه جاهلا بما يصير اليه الحكم من النسخ تعالى قدسه عن ذلك علوا كبيرا.

الثالث : ان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وحينئذ فان كان ملاك الحكم موجود فلا يعقل نسخه وان كان غير موجود فلا يعقل ان يكون منسوخا ، لان النسخ هو الرفع واقعا والرفع واقعا يستلزم مرفوعا واقعا ، فهذه المحالات الثلاثة انما تلزم حيث يكون النسخ هو رفع الحكم الثابت واقعا.

واما اذا كان النسخ ليس رفع الحكم واقعا وثبوتا وانما هو رفع له اثباتا ودفع ثبوتا : أي انه حيث كان الظاهر هو استمرار الحكم فالدليل الناسخ قد دل على رفع ما كان ظاهره الاستمرار ، ولكنه في الواقع حيث كان امد الحكم منتهيا فالنسخ في مرحلة الواقع والثبوت دفع لما كان ظاهره الاستمرار لا رفع للحكم الثابت ، لانه في الحقيقة لا حكم واقعا لانتهاء امده ، والى هذا اشار بقوله : «فاعلم ان النسخ وان كان رفع الحكم الثابت اثباتا» بحسب مقام الاثبات «إلّا انه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا».

(١) حاصله : انه يبقى السؤال بانه اذا لم يكن الحكم ثابتا واقعا لمصلحة مستمرة في متعلق الحكم فلم اظهره بعنوان الدوام والاستمرار؟

والجواب عنه ان اظهار الدوام والاستمرار لمصلحة وحكمة قد اقتضت ذلك ، وهذا الاظهار ربما يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبلغ لاحكامه تعالى مطلعا على انتهائه ، ولكنه

٢٥٩

الحقيقة يكون دفعا ، وإن كان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقا ولو كان قبل حضور وقت العمل (١) ، لعدم لزوم البداء المحال في حقه

______________________________________________________

اوحى اليه باظهار الاستمرار والدوام مع علمه بانه سينسخ في الاستقبال ، وربما تقتضي المصلحة اظهار ثبوت الحكم واستمراره حتى للنبي الملهم بالحكم او الموحى اليه به كما في الحكم بامر ابراهيم بذبح ولده اسماعيل ، فان الحكمة اقتضت ان لا يطلع حتى ابراهيم على نسخ هذا الحكم ، والى هذا اشار بقوله : «وانما اقتضت الحكمة اظهار دوام الحكم واستمراره» وقد تقتضي الحكمة اظهار ثبوت اصل الحكم واظهار تعلق الحكم بايجاد متعلقه خارجا واظهار ان الغرض متعلق بذلك ، لا ان الغرض منه قد كان في صرف اظهاره وانشائه لا لان يتحقق متعلقه خارجا ، والى هذا اشار بقوله : «أو اصل انشائه واقراره مع انه بحسب الواقع ليس له دوام واستمرار» واشار الى ان النبي ربما يكون مطّلعا وربما لا يكون مطّلعا عليه بقوله : «وذلك لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادع للشرع ربما يلهم او يوحى اليه ان يظهر الحكم او استمراره مع اطلاعه على حقيقة الحال وانه ينسخ في الاستقبال او مع عدم اطلاعه على ذلك لعدم احاطته بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ومن هذا القبيل لعله يكون امر ابراهيم بذبح اسماعيل» وانما قال لعله لاحتمال ان الامر بالذبح كان امتحانا لاسماعيل وحده فلا مانع من ان يطلع ابراهيم على انه سوف ينسخ في الاستقبال ، اما اذا كان امتحانا لهما معا فلا بد وان لا يكون ابراهيم مطّلعا على نسخه وإلّا لم يكن امتحانا له.

(١) لما عرفت ان النسخ واقعا هو رفع اثباتا ودفع ثبوتا ، وكونه رفعا اثباتا لا يستلزم إلّا اظهار ان الحكم بعنوان انه لبيان الواقع وليس هو رفع الحكم الثابت في الواقع فهو متقدم بهذا الاظهار فقط ـ يتضح انه لا مانع من النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ حيث يكون قد ظهر الحكم بعنوان انه هو الواقع ، نعم لو كان النسخ متقوما برفع الحكم الثابت لما امكن النسخ قبل حضور وقت العمل لعدم معقولية ثبوت

٢٦٠