بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-060-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٥٤

ونظيره من غير الطلب إنشاء التمليك في الوقف على البطون ، فإن المعدوم منهم يصير مالكا للعين الموقوفة ، بعد وجوده بإنشائه ، ويتلقى لها من الواقف بعقده ، فيؤثر في حق الموجود منهم الملكية الفعلية ، ولا يؤثر في حق المعدوم فعلا ، إلا استعدادها لان تصير ملكا له بعد وجوده (١) ، هذا إذا أنشئ الطلب مطلقا.

______________________________________________________

(١) أي ونظير الطلب في عدم صحته فعلا للمعدومين هو التمليك الفعلي لهم ، وانما الصحيح هو انشاء التمليك لهم لا فعلية التمليك كما في الوقف على البطون ، فانه تسبيل العين وتمليك المنفعة.

ولا يخفى ان الملكية من الاعتبارات والاعتبار خفيف المئونة كالانشاء ، ولكنه مع ذلك لا يصح اعتبار الملك بالفعل لهم ، إلّا انه اختلف تعليلهم لذلك.

فبعضهم علله بان اعتبار الملكية بالفعل للمعدوم لغو ولا فائدة فيه.

وبعضهم علله بان الملكية الاعتبارية بازاء مقولة الجدة ، وان مقولة الملك والجدة عرض خارجي والملكية اعتبار هذا العرض. ومن الواضح عدم معقولية كون العرض المقولي فعليا من غير موضوع ، لوضوح تقوم العرض في مقام وجوده بوجود موضوعه ، واعتبار العرض كالعرض الخارجي لا يعقل من غير وجود موضوعه فلا معنى لكون الملك فعليا والمالك معدوما بالفعل.

وبعضهم علل عدم معقولية الملك الفعلي في الوقف على البطون هو انه يلزم منه اجتماع مالكين استقلالين على مملوك واحد ، فان المفروض انه ملك للطبقات وان كل طبقة متأخرة تملك ما تملكه الطبقة المتقدمة عليها ، فاعتبار الملكية الفعلية للطبقة المعدومة المتأخرة مع ملك الطبقة الموجودة بالفعل يلزم منه اجتماع مالكين وملكيتين استقلاليتين على مملوك واحد.

وعلى كل فلا يصح اعتبار الملك الفعلي للمعدومين وانما يملكون العين الموقوفة عليهم بعد وجودهم ، ويكون عقد الوقف بالنسبة اليهم انشاء تمليك فقط يكون فعليا

١٨١

وأما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجدانه الشرائط ، فإمكانه بمكان من الامكان (١).

وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة ، وعدم إمكانه ، ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة إلا إذا كان موجودا ، وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ، ويلتفت إليه (٢).

______________________________________________________

بعد وجودهم ، وفائدة هذا الانشاء هو انه لا يحتاج بعد الى انشاء آخر في ملكية المعدومين للوقف ، وتأثير هذا الانشاء فعلا بالنسبة الى المعدومين هو استعداد الملكية لان تكون ملكا بالفعل عند وجود المعدومين ، ولازم هذا البيان ان يكون المعدومون قد تلقوا الملك من الواقف لا من الموقوف عليهم ، فليس من ملكيتهم بالفعل هو تلقيهم للملك من الموقوف عليهم ، بل مع تلقيهم له من الواقف مع ذلك لا يصح اعتبار الملك الفعلي لهم لما ذكرنا ، وعبارة المتن واضحة.

(١) حاصله : ان الكلام في صحة تكليف المعدوم وعدم صحته وانه بعد البرهان المتقدم اتضح عدم صحته بمرتبته الفعلية ، وصحته بمرتبته الانشائية لعدم المانع من كونه بمرتبة جعل القانون يعم المعدومين ، وانما المانع كونه فعليا في حقهم هذا كله في انشاء الطلب مطلقا.

واما اذا انشئ مقيدا بوجود المعدومين فلا شبهة في امكانه ، فانه يكون حال عدمهم انشائيا محضا لتقييد فعليته بوجودهم.

واما الانشاء المطلق غير المقيد بوجودهم فحيث ان ظاهره الفعلية فلا بد من حمله على مرتبة الانشاء في حق المعدومين ، لما مر من امتناع كون الحكم فعليا في حق المعدومين ، والى هذا اشار بقوله : «هذا اذا انشئ الطلب مطلقا واما اذا انشئ مقيدا بوجود المكلف ... الى آخر الجملة».

(٢) لا يخفى ان الخطاب الحقيقي سواء كان مستفادا من اللفظ او من غيره كالاجماع او العقل هو كون الكلام ملقى الى السامع : بان يكون هو المعني بالكلام ليسمعه

١٨٢

ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء ، لو كان موضوعا للخطاب الحقيقي ، لا وجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين ، كما أن قضية إرادة العموم منه لغيرهم استعماله في غيره (١) ، لكن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم يكن موضوعا لذلك ، بل

______________________________________________________

ويفهمه ، فاذا كان الخطاب الحقيقي كون السامع هو المعني بالكلام ليسمع ويفهم استحال خطاب غير المشافه بالكلام ، لعدم امكان ان يكون الغائب فضلا عن المعدوم معنيا بالكلام لان يسمع ويفهم ، لعدم امكان ان يسمع فضلا عن ان يفهم من السماع.

ومن هذا اتضح ان الكلام في هذه الجهة الثانية يشمل الغائبين والمعدومين ، بخلافه في الجهة الاولى ، فقد عرفت اختصاص استحالة عدم شمول التكليف انما هو للمعدومين فقط دون الغائبين ، ولذا ادرج الغائبين في هذه الجهة دون الاولى ، فقال : «لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقيقة وعدم امكانه» واشار الى وجه ذلك بقوله : «ضرورة عدم تحقق توجيه الكلام نحو الغير حقيقة» بان يكون معنيا بالكلام ليسمع ويفهم «إلّا اذا كان موجودا» لا معدوما «وكان بحيث يتوجه الى الكلام» وهو خصوص المشافه فانه هو الذي يمكنه ان يتوجه الى الكلام «ويلتفت اليه» دون الغائب فضلا عن المعدوم.

(١) لا يخفى ان الجهة الثالثة ، وهو كون الالفاظ الواقعة في تلو الخطاب هل المراد منها خصوص المشافهين او يعم الغائبين والمعدومين؟ يتبين مما استعمل فيه ادوات الخطاب اصطلاحا كالكاف وانتم او مما هو بمنزلتها كادوات النداء ، فانها لو كانت مستعملة في الخطاب الحقيقي الذي هو كون السامع معنيا بالكلام ليسمع ويفهم فلا محالة يكون المراد بالالفاظ الواقعة بعده كالذين آمنوا الواقع بعد يا ايها والناس والمؤمنون هو خصوص المشافهين وتكون القضية قضية خارجية ، واذا كان الخطاب ليس مستعملا في الحقيقي ، بل في غيره كان المراد بالالفاظ الواقعة بعده ما يعم

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الحاضرين والغائبين بل والمعدومين ايضا ، لوضوح عدم اختصاص نفس العام الواقع بعد هذه الادوات بالمشافهين ، فان الذين آمنوا والمؤمنون والناس مما يمكن ان يعم كل مؤمن وكل انسان سواء كان حاضرا او غائبا او معدوما ، وتكون القضية قضية حقيقية لا خارجية ، وانما تكون قضية خارجية مختصة بالمشافهين حيث يكون الخطاب خطابا حقيقيا ، كما انه لو علمنا ان العام الواقع تلو ادوات الخطاب هو على عمومه وشموله للحاضرين والغائبين والمعدومين فلا محالة تكون ادوات الخطاب غير مستعملة في الخطاب الحقيقي.

والحاصل : ان ادوات الخطاب اذا كانت موضوعة للخطاب الحقيقي فلا محالة يختص تلوها بالمشافهين ، لان الادوات الموضوعة للخطاب الحقيقي تكون قرينة على ان العمومات مختصة بالمشافهين ، ومثله ما اذا قلنا بان ادوات الخطاب لم توضع للخطاب الحقيقي ، ولكنها منصرفة الى الخطاب الحقيقي اذا لم تقم قرينة تمنع عن الانصراف.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «ومنه قد انقدح ان ما وضع للخطاب مثل ادوات النداء لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي لا وجب استعماله فيه تخصيص ما يقع في تلوه بالحاضرين» أي لا وجب استعمال ما وضع للخطاب الحقيقي في معناه الحقيقي ان يكون العموم الواقع بعدها مختصا بالمشافهين بالخطاب ، لوضوح محالية ان تكون ادوات الخطاب مستعملة في ما وضعت له وهو الخطاب الحقيقي ، ويكون العموم الواقع بعدها مما يعم الغائبين والمعدومين ، لبداهة لزوم كون المراد من المؤمنين مثلا حيث انهم هم الذين عنوا بالخطاب لان يسمعوا ويفهموا ان يكونوا هم خصوص المشافهين دون الغائبين والمعدومين ، للزوم حمل اللفظ على المعنى الحقيقي ما لم تقم قرينة على خلافه.

نعم لو علمنا كون العام الواقع تلوها قد اريد به ما يعم الحاضرين وغيرهم ، فلا محالة تكون ادوات الخطاب مستعملة في غير معناها الحقيقي ، والى هذا اشار بقوله :

١٨٤

للخطاب الايقاعي الانشائي ، فالمتكلم ربما يوقع الخطاب بها تحسرا وتأسفا وحزنا مثل : يا كوكبا ما كان أقصر عمره أو شوقا ، ونحو ذلك ، كما يوقعه مخاطبا لمن يناديه حقيقة ، فلا يوجب استعماله في معناه الحقيقي ـ حينئذ ـ التخصيص بمن يصح مخاطبته ، نعم لا يبعد دعوى الظهور ، انصرافا في الخطاب الحقيقي ، كما هو الحال في حروف الاستفهام والترجي والتمني وغيرها ، على ما حققناه في بعض المباحث السابقة ، من كونها موضوعة للايقاعي منها بدواع مختلفة مع ظهورها في الواقعي منها انصرافا ، إذا لم يكن هناك ما يمنع عنه ، كما يمكن دعوى وجوده غالبا في كلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم في مثل (يا أيها الناس اتقوا) و (يا أيها المؤمنون) بمن حضر مجلس الخطاب ، بلا شبهة ولا ارتياب. ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالادوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية ، ولا للتنزيل والعلاقة رعاية (١).

______________________________________________________

«كما ان قضية ارادة العموم منه لغيرهم» أي ان ارادة العموم من العام لغير الحاضرين بحيث يشمل الغائبين والمعدومين يستلزم «استعماله» أي استعمال ما وضع للخطاب الحقيقي «في غيره» أي في غير معناه الحقيقي.

(١) قد مر في مبحث الاوامر في ذيل بحث اتحاد الطلب والارادة فيما وضع له هذه الادوات كالتمني والترجي والاستفهام والخطاب ، وانها لم توضع للحقيقي منها ، وانما وضعت للمعنى الانشائي الايقاعي منها ، فادوات الخطاب مثلا لم توضع للخطاب الذي يكون بقصد ان يفهم المخاطب ما سمعه مما وقع بعد أداة ، بل كثيرا ما يقع الخطاب والمخاطب مثل الديار والرسوم وهي لا تسمع ولا تفهم بقصد التحسر او التأسف ، ولو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي لكان استعمال ادوات

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الخطاب في مثل هذا من المجاز المحتاج الى لحاظ العلاقة ، ونحن لا نجد في هذا الاستعمال لحاظ علاقة وعناية.

ولا يخفى انها لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي لوجدنا في انفسنا في مثلها لحاظ عناية وعلاقة.

والحاصل : ان مدلول هذه الادوات هو الخطاب ، واما كونه مشروطا بنحو شرط الوضع لخصوص الخطاب الذي يفهمه المخاطب بسماعه له فلا دليل عليه ، بل البرهان قائم على خلافه وهو عدم لحاظ العناية والعلاقة في استعمال الخطاب مع كون المخاطب مثل الديار والرسوم ، فاذا قلنا ـ مثلا ـ الا انعم صباحا ايها الطلل البالي لا نجد في انفسنا انا قد استعملنا النداء في غير ما وضع له.

نعم قد مر في ذلك المبحث دعوى عدم بعد الانصراف في هذه الادوات الى خصوص ما كان منها بداعي الحقيقي منها ، ولكنه لا وجه له لوضوح عدم تحقق الانصراف فيما كان الواقع بعد هذه الادوات مما لا يختص بالغائبين ، لتوقفه على عدم ما يصلح للقرينة على خلافه ، وعموم العام وشموله للغائبين والمعدومين يصلح للقرينة فيمنع الانصراف في ادوات الخطاب الى كون الداعي فيها خصوص الخطاب الحقيقي.

فاتضح مما ذكرنا : ان ادوات الخطاب موضوعة للخطاب الايقاعي الانشائي ، واذا كانت موضوعة له فاستعمالها في غير الخطاب الحقيقي لا يكون استعمالا لها في غير ما وضعت له كما لو استعملت في ما يعم خطاب الغائبين والمعدومين ، لانه عليه تكون مستعملة في معناها الحقيقي وهو الايقاعي الانشائي ، والى هذا اشار بقوله : «فلا يوجب استعماله» أي استعمال مثل ادوات النداء «في معناه الحقيقي حينئذ» وهو الايقاعي الانشائي لا يستلزم «التخصيص» فيما يقع تلوها كالمؤمنين «بمن يصح مخاطبته حقيقة» وهو خصوص المشافهين دون الغائبين والمعدومين ، لعدم وضعها لخصوص الخطاب الحقيقي حتى تكون قرينة على ان المراد بما وقع تلوها

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كالمؤمنين هو خصوص من يصح مخاطبته حقيقة وهم خصوص المشافهين ، وقد اشار الى دعوى الانصراف الى كونها بداعي الخطاب الحقيقي بقوله : «نعم لا يبعد دعوى الظهور» فيها «انصرافا في الخطاب الحقيقي» واشار بقوله : «كما هو الحال ... الى آخر الجملة» الى ان الحال في الاستفهام والترجي والتمني هو كالحال في ادوات الخطاب في ان جميعها موضوعة للمعاني الانشائية الايقاعية ، والمنصرف منها هو خصوص ما كان منها بدواعيها الحقيقية ، واشار الى ان ظهور العام في عمومه لما يشمل الغائبين والمعدومين يمنع عن الانصراف بقوله : «اذا لم يكن هناك ما يمنع عنه» واشار بقوله : «ضرورة وضوح ... الى آخر الجملة» ان حكم العمومات في لسان الشارع لوضوح عدم اختصاصه بالحاضرين هو قرينة تمنع الانصراف في مثل ادوات الخطاب الى الخطاب الحقيقي ، اما وضوح عدم اختصاص الحكم بالحاضرين فلأنه لو كان كذلك لما احتاج القائلون بان المراد منها هو خصوص المشافه الى دليل الاشتراك ، فان ذلك انما هو لعدم اختصاص الحكم قطعا بالحاضرين ، وانما اضطروا الى القول باختصاصه بالمشافهين واحتاجوا الى دليل الاشتراك لقولهم بوضع هذه الادوات لخصوص الخطاب الحقيقي ، وقد عرفت عدمه وان الانصراف مع قيام القرينة على عدمه لا تصح دعواه ، وقد اشار الى الدليل على كونها لم توضع للحقيقي ، بل هي موضوعة للمعنى الإنشائي الإيقاعي منها بقوله : «ويشهد لما ذكرنا صحة النداء بالأدوات مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها» بحيث يشمل الغائبين والمعدومين «بلا عناية» في استعمالها في النداء الذي لا يختص بمن خوطب ليسمع ويفهم «ولا للتنزيل والعلاقة رعاية» في مثل هذا الاستعمال ولو كانت موضوعة كما يدعي لخصوص ما كان بداعي الحقيقي منها لكان في استعمالها في ما يعم الغائبين والمعدومين لوجدنا في أنفسنا لحاظ علاقة ولحاظ رعاية لتنزيل الغائبين والمعدومين منزلة الحاضرين المشافهين.

١٨٧

وتوهم كونه ارتكازيا ، يدفعه عدم العلم به مع الالتفات إليه ، والتفتيش عن حاله مع حصول العلم به بذلك لو كان ارتكازيا ، وإلا فمن أين يعلم بثبوته كذلك كما هو واضح (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لا ينبغي ان يتوهم ان السبب في عدم لحاظ العلاقة والرعاية كون العلاقة ملحوظة ارتكازا ، فهي من الامور الارتكازية والارتكازيات تقتضي الاستعمال على وفق الامر الارتكازي ولا تحتاج الى الالتفات الى لحاظ العلاقة والرعاية.

وملخصه : ان كون الخطاب لا بداعي الحقيقي بل بداعي غير الحقيقي الذي اوجب استعمال ادوات الخطاب في غير ما وضعت له هو الارتكاز في كون الحكم المتكفل له الجملة الخطابية هو مما يعم الغائبين والمعدومين ، فهذا الامر الارتكازي هو الذي اوجب الاستعمال في غير ما وضع له ادوات الخطاب ، ومع تحقق الارتكازي الداعي الى هذا الاستعمال لا نجد في انفسنا الالتفات الى لحاظ العلاقة والرعاية ، بل العلاقة والرعاية يكون لحاظها ـ ايضا ـ لحاظا ارتكازيا.

والجواب عن هذا التوهم : ان الفرق بين الامر الارتكازي وغيره هو ان الارتكازي مع عدم التنبيه اليه يجري الانسان فيه على موجب طبعه الارتكازي ، ولكنه مع إلفات النظر اليه يخرج الارتكاز عن كونه علما بسيطا الى كونه علما مركبا وهو العلم بالعلم ، ونحن بعد التنبيه وإلفات النظر في مقام الاستعمال لا نجد في انفسنا لحاظ علاقة ورعاية ، ولو كان الارتكاز هو المصحح لهذا الاستعمال المجازي لأحسسنا به بعد التنبيه وإلفات النظر ، والى هذا اشار بقوله : «يدفعه عدم العلم به مع الالتفات اليه والتفتيش عنه» أي يدفع كون المصحح لهذا الاستعمال المجازي هو الارتكاز انه لا يحصل العلم بلحاظ العلاقة مع الالتفات في حال الاستعمال لاجل التفتيش عن انه هل هناك لحاظ للعلاقة بنحو الارتكاز ام لا؟ ومع هذا الالتفات لا نجد في انفسنا لحاظ علاقة او رعاية كان الاستعمال في غير الخطاب الحقيقي بلحاظها

١٨٨

وإن أبيت إلا عن وضع الادوات للخطاب الحقيقي ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأدوات الخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام بدون الأداة كغيرها بالمشافهين ، فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم (١).

______________________________________________________

مع انه لو كان ارتكازيا يحصل العلم به مع الالتفات اليه والتفتيش ، والى هذا اشار بقوله : «مع حصول العلم به بذلك لو كان ارتكازيا» لما علمت من ان الامور الارتكازية لا بد من خروجها من الارتكازيات الى الوجدانيات المحسوسات اذا التفت اليه وفتش عنه ، واذا كان مع الالتفات اليه لا يخرج الى العلم بالعلم فلا يكون هناك ارتكاز «وإلّا» لخرج من العلم بالعلم ، والى هذا اشار بقوله : «فمن اين يعلم بثبوته كذلك كما هو واضح».

(١) حاصله : انه مع القول بكون ادوات الخطاب موضوعة لخصوص الخطاب الحقيقي لا بد من ان يكون المراد بالالفاظ الواقعة بعدها ما يختص بخصوص المشافهين ، فيكون المراد بالمؤمنين ـ مثلا ـ في يا ايها المؤمنون هو خصوص المشافهين وتكون القضية خارجية ، لوضوح أن ظهور استعمال العام في عمومه لا يصلح ان يكون قرينة على المجاز لكثرة ما يراد بالعام غير عمومه الواسع ، بخلاف ما اذا قلنا بانها منصرفة الى خصوص الحقيقي منها فان ظهور استعمال العام في عمومه يمنع عن الانصراف ، لان الانصراف هو تخصيص لما وضع بغير ما وضع له اوجبه مقدار من كثرة الاستعمال فيه او مناسبات اخرى ، ومع قرينة الاستعمال في غيره لا يتحقق الانصراف المتوقف على عدم القرينة على خلافه ، ولذلك خص ذلك وهو لزوم كون المراد من المؤمنين المشافهين مختص بخصوص القول بكون الخطاب خطابا حقيقيا سواء كان الخطاب مدلولا عليه بالأداة او يكون مستفادا من نفس توجيه الكلام ، فانه يختص بخصوص المشافهين ولا يعم الغائبين والمعدومين ، وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «وان ابيت ... الى آخر الجملة».

١٨٩

وتوهم صحة التزام التعميم في خطاباته تعالى لغير الموجودين ، فضلا عن الغائبين ، لاحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال ، فاسد ، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى ، كما لا يخفى (١) ، كما أن خطابه اللفظي لكونه تدريجيا

______________________________________________________

(١) حاصل هذا التوهم : ان استحالة تعميم الخطاب الحقيقي للغائبين والمعدومين انما هو في غير خطاب واجب الوجود ، لعدم احاطة الممكن بغير المشافهين لخطابه. اما واجب الوجود تبارك وتعالى فلاحاطته بكل شيء سواء الموجود في الحال أو الموجود في المستقبل ، ولا فرق في احاطته بين الموجودين او المعدومين ، فلا مانع من ان تكون خطاباته ـ تعالى ـ عامة للمعدومين فضلا عن الغائبين ، والى هذا اشار بقوله : «لاحاطته بالموجود في الحال والموجود في الاستقبال».

ويرده : ان الخطاب الحقيقي كما يحتاج من طرف المخاطب ـ بالكسر ـ ان يكون المخاطب ـ بالفتح ـ حاضرا عنده ، كذلك يحتاج من طرف المخاطب ـ بالفتح ـ ان يكون بحيث يسمع الخطاب ويفهمه كما مر في بيان الخطاب الحقيقي على ما يظهر من المصنف ، فعدم امكان الخطاب الحقيقي في خطاباته ـ تعالى ـ لا لفقد الشرط من جهته ـ جل وعظم ـ بل من ناحية فقدان الشرط من ناحية المخاطب ـ بالفتح ـ فان الغائب فضلا عن المعدوم لا يمكن ان يخاطب للنقصان من طرفه لا من جهته تبارك وتعالى ، والى هذا اشار بقوله : «فاسد» أي ان التوهم فاسد «ضرورة ان احاطته» تعالى «لا توجب صلاحية المعدوم بل الغائب للخطاب» الحقيقي ، واشار الى ان هذه الاستحالة انما هي لفقد الشرط من طرف المخاطب لا منه تعالى ، فلا يوجب عدم تأتي الخطاب مع الغائبين والمعدومين نقصا في ناحيته جل وعلا ، وانما القصور والنقصان من جانب المخاطبين بقوله : «وعدم صحة المخاطبة معهما» أي مع المعدومين والغائبين «لقصورهما لا يوجب نقصا في ناحيته تعالى».

١٩٠

ومتصرم الوجود ، كان قاصرا عن أن يكون موجها نحو غير من كان بمسمع منه ضرورة (١) ، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل يا أيها الناس اتقوا في الكتاب حقيقة إلى غير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بلسانه.

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان كلامه ـ تعالى ـ له وجود علمي ، وهذا الوجود قديم لم يزل ولا يزال ، والموجودات كلها في هذه النشأة قديمة لقدم علمه الذي هو عين ذاته لكون صفاته عين ذاته جل وعلا ، وله وجود لفظي تدريجي تصرمي ككلامه المخلوق في الشجرة في تكليمه ـ تعالى ـ لموسى عليه‌السلام وككلامه النازل به جبرائيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلهذا النحو من الوجود حيث انه واقع في افق الموجودات الزمانية التي لها وحدة اتصالية ، وهي من التدريجيات والمتصرمات التي يكون وجود كل جزء لاحق منها بعدم الجزء السابق للتدرج الصوتي ، فهو من هذه الناحية كسائر الالفاظ التي وجودها نحو من وجودات الصوت المتدرج في وجوده.

ومن الواضح : ان مثل هذا الوجود يتوقف فهمه على سماعه ولا بد في مثل هذا الخطاب اللفظي من السماع حتى يصح ان يكون المخاطب فيه مخاطبا ، فلا يعقل ان يكون موجها لغير من يسمعه ، ويختص الخطاب اللفظي بخصوص المشافه ولا يعقل ان يكون موجها الا له ، لانه هو الذي يكون بمسمع من الخطاب. واما الغائب فضلا عن المعدوم فلعدم امكان ان يسمع الخطاب فلا يعقل ان يكون الخطاب موجها له ، فهو قاصر عن ان يكون الكلام موجها اليه ، ونفس الكلام اللفظي بما انه لفظي من الموجودات الصوتية لا بد من ان يكون بحيث يسمع ، فالخطاب الموجود بهذا النحو من الوجود المحتاج الى ان يسمع ايضا قاصر عن ان يكون موجها لغير من يسمع الصوت اللفظي ، فلذا لا بد وان يختص خطابه اللفظي المتكلم به جبرائيل عليه‌السلام او النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمشافهين دون الغائبين عن محل الخطاب فضلا عن المعدومين ، والى هذا اشار بقوله : «كما ان خطابه اللفظي لكونه تدريجيا ومتصرم الوجود كان قاصرا» له ، شان كل موجود لفظي من القصور «عن ان يكون موجها نحو غير من كان

١٩١

وأما إذا قيل بأنه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا أو إلهاما ، فلا محيص إلا عن كون الاداة في مثله للخطاب الايقاعي ولو مجازا ، وعليه لا مجال لتوهم اختصاص الحكم المتكفل له الخطاب بالحاضرين ، بل يعم المعدومين ، فضلا عن الغائبين (١).

______________________________________________________

بمسمع منه ضرورة» أي بداهة ، لما عرفت من ان الخطاب الموجود بالوجود الصوتي لا بد وان يكون له شان الصوت من انه لا يكون خطابا لغير من يسمعه ، لما عرفت من ضرورة كون الخطاب الحقيقي اللفظي ان يسمع ويفهم.

(١) حاصله : ان المراد بالناس وبالمؤمنين في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ويا ايها المؤمنون هل هو ظاهرها الشامل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، او ان المراد بهما خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى الاول : يبتني النزاع المتقدم في صحة الخطاب الحقيقي للغائبين والمعدومين وعدمه.

واما على الثاني : فلا يتأتي النزاع المتقدم ، لوضوح عدم امكان اختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاحكام وحده المتكفل لها هذه الخطابات ، فلا يعقل ان يكون الخطاب فيها حقيقيا ، لان الخطاب الحقيقي فيها خطاب باحكامها واذا كانت احكامها عامة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولجميع الناس فلا بد وان يكون الخطاب فيها ليس بخطاب حقيقي ، ولا بد وان يكون الخطاب إيقاعيا إنشائيا حتى لو قلنا بان هذه الادوات موضوعة للخطاب الحقيقي ، فلا بد من التزام المجاز فيها ، واذا كان الخطاب انشائيا ايقاعيا لكون الاحكام فيها عامة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره فلا وجه لان يختص الحكم المتكفل له الخطاب بالمشافهين ، لان الاختصاص بالمشافهين انما هو لحفظ ظهور الخطاب في كونه خطابا حقيقيا ، فان العام فيها كالمؤمنين والناس مما يشمل المعدومين فضلا عن الغائبين ، ولكن الخطاب حيث كان حقيقيا استلزم اختصاص هذه العمومات بالمشافهين ، وبعد ان كان الخطاب ليس بحقيقي بل ايقاعي فلا موجب لاختصاص الحكم المتكفل له هذه الخطابات

١٩٢

فصل

ربما قيل : إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان :

الأولى حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين.

وفيه : إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم. ولو سلم ، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع ، بل الظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك ، وإن لم يعمهم الخطاب ، كما يومئ إليه غير واحد من الاخبار (١).

______________________________________________________

بالمشافهين ، والى هذا اشار بقوله : «واما اذا قيل بانه المخاطب والموجه اليه الكلام حقيقة وحيا او إلهاما فلا محيص الّا عن كون الاداة في مثله للخطاب الايقاعي ولو مجازا» أي حتى لو قلنا بانها موضوعة للخطاب الحقيقي فلا بد من ان تكون ـ بناء على كون المخاطب حقيقة فيها هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ـ مستعملة في الخطاب الايقاعي مجازا لما عرفت ، وقد اشار الى انه بناء على الخطاب الايقاعي فالحكم المتضمن له الخطاب لا بد وان يشمل المعدومين فضلا عن الغائبين بقوله : «وعليه لا مجال ... الى آخر كلامه».

(١) لقد ذكروا للنزاع المتقدم في اختصاص الخطابات بخصوص المشافهين وعدمه ثمرتين :

الاولى : انه اذا كانت العمومات حجة تعم المعدومين فيجوز لهم التمسك بظواهرها ، بخلاف ما اذا قلنا باختصاصها بالمشافهين فانه لا يجوز للمعدومين التمسك بظواهرها.

وبعبارة اخرى : ان حجية الظواهر تختص بالمشافهين بناء على اختصاص العمومات بهم وتكون حجة في حقهم ، وفي غيرهم من المعدومين والغائبين بناء على تعميم الخطابات لهم.

١٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ونتيجة هذه الثمرة : انه بناء على تعميم الخطاب لغير المشافهين فالحكم يعمهم والظاهر حجة في حقهم ، وبناء على تخصيص الخطابات بخصوص المشافهين فلا محالة يكون الحكم مختصا بهم ، ويثبت لغيرهم بدليل الاشتراك ، وكون حجية الظاهر مختصة بالمشافهين ايضا فثمرته انه لا بد من الاقتصار في الحكم الثابت للمشافهين على القدر المتيقن فيه ، وذلك الثابت للقدر المتيقن هو الذي يثبت لغير المشافهين بدليل الاشتراك.

واما بناء على عدم اختصاص حجية الظواهر بالمشافهين فلغير المشافهين عدم الاقتصار على القدر المتيقن ولهم توسعة حكم المشافهين فيثبت لهم الحكم الواسع بواسطة دليل الاشتراك.

والى هذا اشار مجملا بقوله : «الاولى» من الثمرتين «حجية ظهور خطابات الكتاب لهم» أي الغائبين والمعدومين «كالمشافهين» بخلاف ما اذا كانت مختصة بالمشافهين فانه لا تكون حجة في سواهم.

ويردّه ما اشار اليه بقوله : «وفيه انه مبني ... الى آخره». وتوضيحه : ان بين المخاطبين والمقصودين بالافهام عموم وخصوص من وجه ، فربما يكون من توجه اليه الكلام مخاطبا وغير مقصود بالافهام كمخاطبة الرسوم والديار المذكورة في الشعر فانها قطعا غير مقصودة بالافهام.

وربما يكون المقصود بالافهام غير مخاطب ويكون ذلك من باب اياك اعني واسمعي يا جارة ، فانه في مثل ذلك المقصود بالافهام الجارة وهي غير مخاطبة لدلالة قوله اياك اعني لاختصاص الخطاب بغيرها وانما هي مقصودة بالافهام وقوله واسمعي كناية عن ذلك.

وربما يجتمعان كغالب الموارد التي يكون المخاطب فيها هو مقصود بالافهام.

ولا يخفى ان المشافهين في الخطابات الكتابية مقصودون بالافهام.

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

اذا عرفت هذه المقدمة ـ فاعلم انه سيأتي في مبحث الظواهر قيام بناء العقلاء على حجية الظواهر لغير المقصودين بالافهام ، هذا اولا.

وثانيا : انه قد ظهر مما ذكرنا عدم اختصاص المقصودين بالافهام بخصوص المشافهين ، بل بينهما عموم من وجه فربما يكون المعدومون والغائبون مقصودين بالافهام كالمشافهين فلو سلمنا اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين بالافهام فلا نسلم ان المعدومين والغائبين غير مقصودين بالافهام.

ويدل على عدم اختصاص القصد بالافهام بخصوص المشافهين في ظواهر الكتاب الكريم امور :

الاول : كون القرآن معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستمرة من زمانه الى يوم البعث ، واعجازه انما هو بفهم ما تضمنه من الاعجاز في تركيبه ومعانيه ، ولو كان المشافهون به هم المقصودون بفهمه لا غير لما امكن ان يكون معجزة لغيرهم ولما صح لاحد من المتأخرين عن زمانه ان يقول هذا هو المعنى في الكتاب المقدس.

الثاني : احتجاج الناس سلفا عن سلف بعضهم على بعض ، عقائد واخلاقا واحكاما بالقرآن الكريم.

الثالث : ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بان الناس كلهم سواء الموجودين في زمان الخطاب والذين سيوجدون بعد ذلك مقصودون بالافهام في كلامه تعالى ـ هو خبر الثقلين المتواتر عند الفريقين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الامر بالتمسك بكتاب الله ، فانه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي اهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابدا).

وما ورد في الحديث الوارد عن الائمة الاطهار عليهم‌السلام : من الامر في مورد التعارض بالعرض على كتاب الله ، وما ورد في الوضوء ان هذا وامثاله يعرف من كتاب الله ، الى غير ذلك من الاخبار ، وهذا صريح في كون المعدومين في زمان الخطاب مقصودين بالافهام ، والّا فكيف يمكن لهم التمسك به وكيف يكون الكتاب

١٩٥

الثانية : صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم ، لثبوت الاحكام لمن وجد وبلغ من المعدومين ، وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف ، وعدم صحته على عدمه ، لعدم كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين ، فلا بد من إثبات اتحاده معهم في الصنف ، حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الاحكام ، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلا الإجماع ، ولا إجماع عليه إلا فيما اتحد الصنف ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

هو الحكم الفصل للمتعارضين ، والى هذا اشار بقوله : «ولو سلم» أي ولو سلم اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، ولكنا لا نسلم اختصاص المقصودين بالافهام بخصوص المشافهين ، بل قصد الافهام يعمهم والمعدومين ايضا فضلا عن الغائبين ، ولذا قال : «فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك» أي بالافهام دون غيرهم «ممنوع» واشار الى الدليل من الاخبار على ان قصد الافهام يعم المعدومين بقوله : «والظاهر ان الناس كلهم الى يوم القيامة يكونون كذلك» أي مقصودين بالافهام كالمشافهين «وان لم يعمهم الخطاب كما يومئ اليه غير واحد من الاخبار».

(١) هذه هي الثمرة الثانية التي ذكرت لاختصاص الخطابات بخصوص المشافهين : وهي انه بناء على تعميم الخطابات القرآنية للمعدومين يصح تمسكهم بالاطلاق في كلامه تعالى ، وبناء على اختصاصها بالمشافهين لا يصح للمعدومين التمسك بالاطلاق في كلامه تعالى.

وقبل توضيح ذلك لا بد من بيان الفرق بين هذه الثمرة ، والثمرة الاولى. وحاصل ما ذكر من الفرق بينهما من جهتين :

الاولى : ان الثمرة الاولى هي اختصاص حجية الظواهر بالمشافهين بناء على اختصاص الخطابات بالمشافهين ، ولذا اورد على هذه الثمرة : بان اختصاص حجية

١٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الظواهر بالمشافهين ليس من لوازم اختصاص الخطابات بالمشافهين ، وانما تختص حجية الظواهر بالمشافهين اذا قلنا بان حجية الظواهر مختصة بالمقصودين بالافهام ولا نقول بذلك ، بل نقول ان الظاهر حجة ولو لغير المقصود بالافهام ، مضافا الى انه لو قلنا بان الظاهر حجة لخصوص المقصود بالافهام فغير المشافه مقصود بالافهام في خطابات الكتاب والسنة.

واما الثمرة الثانية فهي جواز التمسك بالاطلاق لاثبات الحكم لغير المشافهين فيما اذا لم يتحدوا بالصنف مع المشافهين.

فالثمرة الاولى هي خصوص كون الظواهر حجة لخصوص المشافهين ام لا؟ من دون نظر الى كون حكم المشافهين يشمل غير المشافهين ، بخلافه في الثانية فانها في شمول الحكم لغير المشافهين وهو بدليل الاشتراك ، فيختص بما اذا اتحد الصنف بناء على اختصاص الخطاب بالمشافهين ، وبناء على عدم اختصاص الخطاب بالمشافهين يثبت الحكم لغير المشافهين بالاطلاق لا بدليل الاشتراك.

الجهة الثانية في الفرق بينهما : هي ان الثمرة الاولى من مقدمات الثمرة الثانية ، لانه بعد اختصاص حجية الظواهر بالمشافهين فثبوت حكم المشافهين لغيرهم يحتاج الى دليل الاشتراك والاتحاد في الصنف كما سيأتي بيانه في توضيح الثمرة الثانية.

وعلى كل فتوضيح هذه الثمرة الثانية : هو انه بناء على تعميم كلامه تعالى للمعدومين يصح لهم التمسك باطلاق كلامه تعالى في اثبات الحكم لهم او لغيرهم وان كانوا مختلفين بالصنف مع المشافهين ، وبناء على عدم عمومه للمعدومين واختصاصه بالمشافهين لا يصح للمعدومين التمسك بالاطلاق اذا اختلفوا بالصنف مع المشافهين ، وانما كانت هذه الثمرة لخصوص من اختلف بالصنف مع المشافهين لقيام دليل الاشتراك على اشتراك المعدومين مع المشافهين في الحكم ، وانما لا يشمل دليل الاشتراك المختلف بالصنف مع المشافهين لان دليل الاشتراك هو الاجماع ، والاجماع دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، وفي غيره يكون مجملا لا مجال

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للتمسك به مع الشك ، ومن الواضح تحقق الشك في الاشتراك مع المشافهين في حكمهم في غير المتحد معهم بالصنف.

فبناء على الاختصاص بالمشافهين فالمتكفل لثبوت الحكم للمعدومين هو دليل الاشتراك لا تمسكهم بالاطلاق ، وحينئذ يشكل ثبوت الحكم للمعدومين اذا كانوا غير متحدي الصنف مع المشافهين.

اما بناء على صحة تمسك المعدومين باطلاقات كلامه ـ تعالى ـ فلا حاجة الى دليل الاشتراك لشمول احكام الكتاب للمعدومين بحسب اطلاقه.

ولا يخفى انه سيأتي التعرض منه لمرادهم من الصنف اللازم مراعاته في دليل الاشتراك ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «الثانية صحة التمسك باطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم» وهو كون كلامه تعالى مما يعم المعدومين والمشافهين «لثبوت الاحكام» المتضمن لها كلامه تعالى «لمن وجد وبلغ من المعدومين وان لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف» من دون حاجة الى دليل الاشتراك اللازم فيه مراعاة الاتحاد في الصنف.

وبعبارة : انه اذا كان اطلاق كلامه تعالى يصح التمسك به للمعدومين فيثبت الحكم لهم بواسطة الاطلاق النافي لكل خصوصية توجب الشك التي منها احتمال اتحاد الصنف.

واما بناء على اختصاص كلامه تعالى بالمشافهين وعدم عمومه للمعدومين فلا يصح للمعدومين التمسك بالاطلاق ونحتاج في ثبوت الحكم لهم الى دليل الاشتراك اللازم الاقتصار فيه على خصوص من اتحد بالصنف من المعدومين مع المشافهين ، والى هذا اشار بقوله : «وعدم صحته على عدمه» أي وعدم صحة التمسك بالاطلاق للمعدومين بناء على عدم التعميم واختصاص كلامه تعالى بخصوص المشافهين «لعدم كونها حينئذ متكفلة لاحكام غير المشافهين» لانه انما يصح التمسك باطلاق الحكم لمن كان الحكم له ، وبناء على اختصاصه بالمشافهين فلا يكون الحكم

١٩٨

ولا يذهب عليك أنه يمكن إثبات الاتحاد ، وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له ، بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به (١) ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق ، مع إرادة

______________________________________________________

حكما للمعدومين حتى يصح لهم التمسك باطلاق الحكم ، وحينئذ في شمول الحكم للمعدومين من التمسك بدليل الاشتراك ، وحيث انه لا بد في دليل الاشتراك من الاتحاد في الصنف بين المشافهين والمعدومين فلا مجال لاثبات حكم المشافهين لغير المتحد بالصنف معهم ، والى هذا اشار بقوله : «فلا بد من اثبات اتحاده» أي اتحاد غير المشافهين «معهم» أي مع المشافهين «في الصنف حتى يحكم ب» دليل «الاشتراك مع المشافهين في الاحكام» والسبب في الاقتصار في الحكم على خصوص المتحدين في الصنف مع المشافهين ، لان دليل الاشتراك انما ثبت بالاجماع وهو دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والى هذا اشار بقوله : «حيث لا دليل عليه» أي على الاشتراك في الحكم «حينئذ» أي حين الالتزام بعدم التعميم واختصاص كلامه بالمشافهين «الا الاجماع ولا اجماع عليه» أي على الاشتراك في الحكم «الا فيما اتحد الصنف» لتحقق الشك في عموم دليل الاشتراك لغير متحدي الصنف ، ولا لسان للدليل اللبي على نفي هذا الشك حيث نحتمل دخالته.

(١) هذا شروع في الجواب عن هذه الثمرة الثانية ، وانه يصح للمعدومين التمسك بالاطلاق وان كان الخطاب مما لا يعمهم ويختص بالمشافهين. وتوضيحه ببيان امور :

الاول : ما ثبت في الكلام في الثمرة الاولى من عدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المشافهين ، لان المعدومين مقصودون بالافهام ايضا ولو قلنا بان المشافهين هم بالخصوص مقصودون بالافهام ايضا دون المعدومين ، ولكنه مع ذلك بنى العقلاء على حجية الظواهر لغير المقصودين بالافهام ، فان من سمع شخصا يخاطب شخصا في سبه فان من الواضح ان المقصود بالسب غير مقصود بالافهام غالبا ، ولكنه مع ذلك للسامع ترتيب الاثر على الكلام المتضمن لسبه ، وضرورة بناء العقلاء على انه

١٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

للسامع ترتيب الاثر وانه ليس للمخاطب الاحتجاج على ترتيب الاثر على هذا الظاهر بدعوى ان السامع ليس بمقصود بالافهام.

والحاصل : ان العقلاء بنوا على حجية الظاهر مطلقا غير مقيد بالمشافه ولا بالمقصود بالافهام.

الثاني : ان المشافهين لهم صفات تخصهم ككونهم ابناء لآباء مخصوصين وكونهم لهم اصوات والوان واشكال كطول وقصر ، ومثل هذه الصفات لا موقع لاحتمال دخالتها في الاحكام المتضمنة لها الخطابات ، ولهم صفات عامة ككونهم عقلاء ومكلفين وامثال هذه الصفات.

الثالث من الامور : ان المراد من الصنف الذي لا بد من الاتحاد فيه في عموم دليل الاشتراك هو الاتحاد في الصفات التي يحتمل عقلائيا ان لها دخالة في الحكم المختص بالمشافهين ، وليس المراد من الصنف هو الصنف المنطقي ككون الانسان عربيا او روميا او فارسيا او حجازيا او غير ذلك.

وبعد تمامية هذه الامور ـ يتضح الجواب عن هذه الثمرة ، فان كون الخطاب مختصا بالمشافهين لا يمنع من تمسك المعدومين بالاطلاق لتوسعة الحكم الثابت للمشافهين حتى يثبت ذلك الحكم بسعته للمعدومين بدليل الاشتراك.

وحيث ان الامر الاول قد اتضح الحال فيه من الكلام في الثمرة الاولى لم يشر اليه المصنف ، واشار الى الامر الثاني بقوله : «ولا يذهب عليك انه يمكن اثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له» كالصفات الخاصة المختصة بذات المشافهين بما هي صفات لذواتهم الخاصة ككونهم أبناء لآباء مخصوصين وامثال هذه الصفات «مما كان المشافهون واجدين له» دون المعدومين ، لبداهة عدم احتمال دخالة مثل هذه الصفات في الاحكام المتضمن لها الخطاب الموجه للمشافهين ، وحيث لا دخالة لمثل هذه الصفات فللمعدومين التمسك «باطلاق الخطاب اليهم» أي الى

٢٠٠