بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-060-8
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

زيد الجاهل او لا تثبت اصالة عدم التخصيص شيئا فلا يثبت بها ان زيدا عالم ولا يثبت بها تعيين حرمة الاكرام بزيد الجاهل؟

وذهب جماعة من المحققين الى ان اصالة عدم التخصيص تقتضي ادخال زيد العالم فيمن يجب اكرامه وتعيين حرمة الاكرام في زيد الجاهل ، ويظهر منهم الاستدلال عليه بامور :

ـ الاول : الاستدلال بصدق عكس النقيض المسلم صدقه ، فان قولنا : كل انسان حيوان ينعكس بعكس النقيض الى كل ما ليس بحيوان ليس بانسان ، واصالة عدم التخصيص تؤول الى مثل هذا ، لانها تدل على عدم تخصيص العام ، ولازم عدم تخصيصه عدم خروج زيد العالم عن وجوب اكرام العلماء واختصاص حرمة الاكرام بزيد الجاهل ، لان اصالة عدم التخصيص مرجعها الى ان اكرم العلماء لم يخصص ولم يخرج عنها زيد العالم ، فكل ما يجب اكرامه فهو عالم وكل ما ليس بعالم لا يجب اكرامه.

وهذا الدليل وان كان غايته اثبات ان زيدا الجاهل لا يجب اكرمه ولكن بضميمة العلم بحرمة اكرام احد الزيدين تتعين حرمة الاكرام بزيد الجاهل.

ـ الثاني : ان اصالة عدم التخصيص من الاصول اللفظية التي يكون مثبتها حجة ، ولازم ذلك كون زيد العالم يجب اكرامه لاصالة عدم التخصيص ، ولازم عدم التخصيص للعالم اختصاص حرمة الاكرام بزيد الجاهل.

ـ الثالث : ما اشتهر انه كلما دار الامر بين التخصيص والتخصّص [فالتخصص اولى ، وعليه فلازم كون] زيد العالم يحرم اكرامه هو التخصيص ، ولازم كون المحرّم اكرامه هو زيد الجاهل التخصّص [فاذا لا دليل على] التخصيص.

ويردّ الاول : انه لا ريب في صدق عكس النقيض ولكنه في [المحمولات الواقعية ، دون الاصول] العملية التي مرجعها الى سلب الحكم او ثبوته للمشكوك مع كونه مشكوكا ، فهي من الاحكام [الظاهرية لا الواقعية] فحيث لا علم [لنا] بان العام لم

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

يخصص واقعا فلا موجب لاختصاص حرمة الاكرام في المقام بزيد الجاهل وادخال زيد العالم في من يجب اكرامه ، لانها من الاصول العملية التي مفادها حكم ظاهري لا واقعي.

ويرد الثاني : ان الاصول اللفظية وان كان مثبتها حجة الّا ان حجيتها حيث كانت ببناء العقلاء فلا بد من الاقتصار فيها على مقدار ما يراه العقلاء حجة فيه ، وليس للعقلاء بناء في المقام على اثبات اصالة عدم التخصيص ، لذلك فلا يثبت بها ان زيدا العالم هو ممن يجب اكرامه ، وان غير العالم هو الذي يحرم اكرامه بعد العلم الاجمالي بحرمة اكرام احدهما ، وانما يكون مثبتها فيما لو شك في اكرام زيد العالم لاحتمال التخصيص كما مر في الفرض الاول ، فانه يثبت بها ان زيدا مما يجب اكرامه ويثبت له كل ما للعالم من الاحكام الأخر غير وجوب الاكرام.

ويردّ الثالث : ان قولهم اذا دار الامر بين التخصيص والتخصص فالتخصص اولى ليست قضية قام بناء العقلاء عليها بنفسها ، وانما مرجعها الى اصالة عدم التخصيص ، وقد عرفت انه لا بد فيها من الاقتصار على القدر المتيقن الذي علم بناء العقلاء عليه.

وثالثة : ما تقدم ـ في الفصل السابق ـ من المصنف في قوله : «بل يقال» الذي حاصله : كون لازم حجية العام في الفرد المشكوك تخصيصه بالمخصص اللبي في اثبات حكم العام له ، فيحكم فيمن شك في ايمانه من اهل حروراء بجواز لعنه ، وبواسطة جواز لعنه يثبت انه ليس بمؤمن في ترتيب جميع ما لغير المؤمن من الاحكام الأخر ، ولعله اشار الى المناقشة فيه بقوله : «فتأمل جيدا» الى ما ذكرنا من انه لم يعلم بناء العقلاء على اثبات عنوان عدم المؤمن له ليترتب عليه احكام عدم الايمان ، إلّا ان تكون الاحكام اقل اهمية من جواز اللعن ، فاذا جاز اللعن للتمسك بالعام تثبت الاحكام التي هي اقل اهمية بالاولوية القطعية.

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ورابعة : هو ما اشار اليه المصنف في قوله : «بقي شيء» فان قوله بقي شيء لم يشر الى غير الرابعة ، واما الفروض الثلاثة المتقدمة فلم يشر اليها ، وهو ما اذا شك في فرد من ناحية الحكم عليه بانه ليس من افراد العام بعد العلم بخروجه عن حكم العام ، مثلا اذا ورد ـ بعد اكرم العلماء ـ حرمة اكرام زيد ، وشك في ان زيدا من العلماء فيكون تخصيصا للعام ، او انه جاهل وليس بعالم فيكون خارجا موضوعا عن اكرم العلماء ، فهل يثبت باصالة عدم التخصيص ان زيدا جاهل ويثبت له جميع ما للجاهل وغير العالم من الاحكام الأخر غير حرمة اكرامه؟ او ان اصالة التخصيص لا تثبت ذلك؟

ولا يخفى ان من ذهب الى اثبات اصالة عدم التخصيص ذلك قد استدل عليه بعين ما ذكرناه من الادلة الثلاثة في الفرض السابق : من عكس النقيض وهو ان اصالة عدم التخصيص تدل على ان اكرم العلماء لم يخصص ، ولازم ذلك هو انه كلّ ما كان عالما يجب اكرامه وكل ما لا يجب اكرامه فليس بعالم ، وحيث ان زيدا لم يجب اكرامه فهو ليس بعالم.

ويردّه ما ذكرناه ، وان التخصص اولى من التخصيص ، وقد مر ما فيه.

والثالث ما اشار اليه في طي كلامه : من كون مثبت الاصول اللفظية حجة ، واصالة عدم التخصيص من الاصول اللفظية فيكون مثبتها حجة ، ولازم كون مثبتها حجة هو ان زيدا ليس بعالم.

ويرد عليه ما عرفت : من انه حيث كانت حجية الاصول اللفظية هو بناء العقلاء ويقتصر فيه على القدر المتيقن ، ولم يعلم بناء العقلاء على ان اصالة عدم التخصيص مثبتة لمثل ذلك وانما القدر من مثبتيّتها هو ما اذا شك في وجوب اكرام زيد العالم لاحتمال تخصيص العام ، فباصالة عدم التخصيص يثبت وجوب اكرامه ويثبت كل ما للعالم من الاحكام الأخر.

ولا يخفى ان المصنف اشار في كلامه الى الدليل الثالث فقط وسيأتي التنبيه عليه.

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ثم لا يخفى ايضا ان المصنف قد ذكر ـ فيما سبق ـ الفرض الثالث بقوله بل يمكن ان يقال كما نبهنا عليه ، وذكر الفرض الرابع في قوله : «بقي شيء وهو انه هل يجوز التمسك باصالة عدم التخصيص في احراز عدم كون ما شك في انه [من مصاديق العام» للشك في كونه] عالما أو ليس بعالم «مع العلم بعدم كونه محكوما بحكمه» لفرض العلم بانه يحرم اكرامه [وحكم العام هو وجوب اكرام العلماء] فزيد بعد ان فرض العلم بحرمة اكرامه فهو ليس ممن يجب اكرامه [قطعا فيكون الشك حينئذ] في كونه عالما أو ليس بعالم ، فالشك في كونه مصداقا للعالم فقط لا في وجوب اكرامه ، وهذا مراده من قوله : «مصداقا له» فقوله : مصداقا له خبر لكون الذي اسمه جملة ما شك في انه من مصاديق العام.

وحاصله : انه يتمسك باصالة عدم التخصيص لاحراز كون زيد المشكوك كونه عالما او ليس بعالم انه ليس بعالم ، ويحرز بها عدم كونه مصداقا للعام «مثل ما اذا علم ان زيدا يحرم اكرامه وشك في انه عالم فيحكم عليه باصالة عدم تخصيص اكرم العلماء انه ليس بعالم» فيحرز باصالة عدم التخصيص عنوان عدم العالم له «بحيث يحكم عليه بسائر ما لغير العالم من الاحكام» واشار الى الجواب بقوله : «فيه اشكال» واشار الى وجهه بقوله : «لاحتمال اختصاص حجتها بما اذا شك في كون فرد العام محكوما بحكمه» وهو الاقتصار على ما فيها القدر المتيقن وهو جريان اصالة عدم التخصيص في الفرض الاول وفيه يكون مثبتها حجة.

وبعبارة اخرى : انه بعد ان كان عالما ويجب اكرامه لعدم ثبوت تخصيص العام فيه ، فباصالة عدم التخصيص تثبت حجية العام الذي لا شك في كونه يشمل هذا الفرد من ناحية عنوان العام لفرض كونه عالما قطعا وكان الشك في العام من ناحية حجيته ، فباصالة عدم التخصيص تثبت حجية العام في اكرامه كما كان عمومه له بحسب العنوان ثابتا لفرض كونه عالما ، وهذا مراده من قوله : «كما هو قضية عمومه».

١٦٤

فصل

هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص فيه خلاف ، وربما نفي الخلاف عن عدم جوازه ، بل ادعي الاجماع عليه (١) ، والذي ينبغي أن يكون محل الكلام في المقام ، أنه هل يكون أصالة العموم متبعة مطلقا أو بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة ، من باب الظن النوعي للمشافه وغيره ، ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ، ولم يكن من أطراف ما علم تخصيصه إجمالا (٢) ، وعليه فلا مجال لغير واحد مما استدل به على عدم

______________________________________________________

وقد اشار الى الاستدلال الثالث بقوله : «والمثبت من الاصول اللفظية ... الى آخر الجملة» ، واشار الى لزوم الاقتصار على القدر المتيقن في بناء العقلاء بقوله : «إلّا انه لا بد من الاقتصار على ما يساعد عليه الدليل ... الى آخر كلامه».

(١) وقع الكلام في انه هل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ام لا يجوز العمل به قبل الفحص عن المخصص؟

وقد استدل بعض القائلين بعدم جواز العمل به قبل الفحص معبّرا بنفي الخلاف عن ذلك ، كما يحكى ذلك عن كلام الغزالي انه : قال لا خلاف في عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص [واستدل بعض القائلين بالعدم] بالاجماع كما هو المنقول عن نهاية العلامة : انه لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص اجماعا.

(٢) لا يخفى انه حيث يظهر من استدلال بعضهم في المقام عدم وضوح ما هو محل الكلام ، لذلك ابتدأ المصنف ببيان ما ينبغي ان يكون هو محل النزاع قبل بيان مختاره.

وتوضيحه : ان محل الكلام هو ان اصالة العموم التي هي حجة من باب الظن النوعي والتي حجيتها مطلقة للمشافه وغيره ، هل يجوز العمل بها قبل الفحص عن المخصص ام لا يجوز؟ وليس ذلك مختصا بما علم اجمالا بورود المخصصات ، بل

١٦٥

جواز العمل به قبل الفحص واليأس (١).

______________________________________________________

حتى لو علمنا بخروج العام عن اطراف ما علم تخصيصه ولكنا احتملنا ورود تخصيص عليه مع ذلك هل يجوز العمل به قبل الفحص ام لا؟ كما لو علمنا بورود مائة تخصيص على العمومات وظفرنا بها ثم وجدنا عاما احتملنا ان يكون له مخصص ، فمثل هذا داخل في محل النزاع في انه هل يجوز العمل به قبل الفحص ام لا؟

والى هذا اشار بقوله : «والذي ينبغي ان يكون محل النزاع في المقام انه هل يكون اصالة العموم متبعة مطلقا» أي ولو قبل الفحص «او بعد الفحص عن المخصص واليأس عن الظفر به بعد الفراغ عن اعتبارها بالخصوص في الجملة» لعدم الريب في اصل حجية اصالة العموم ، ولكنها هل هي قبل الفحص او بعد الفحص؟

ولا يخفى ان حجيتها من باب الظن النوعي دون الظن الفعلي ، والى هذا اشار بقوله : «من باب الظن النوعي» ، واشار الى انها لا تختص بالمشافه بقوله : «للمشافه وغيره» ، واشار الى ان الكلام في العام الخارج عن اطراف ما علم اجمالا بتخصيصه كما عرفت ، واما ما علم تخصيصه بالخصوص فهو خارج قطعا لانه لا معنى للفحص عن تخصيص ما وصل تخصيصه بقوله : «ما لم يعلم بتخصيصه تفصيلا ولم [يكن من اطراف ما علم] تخصيصه اجمالا» لانه لا معنى لوجوب الفحص عما علم تخصيصه تفصيلا ، ولا ريب في وجوب الفحص عن [اطراف ما علم اجمالا تخصيصه] من العمومات.

(١) بهذا اشار الى ما ذكرنا من انه يظهر من [استدلال بعضهم في المقام] عدم وضوح ما هو محل النزاع.

فقد استدل بعضهم على وجوب الفحص عن المخصص بان حجية العموم [من باب الظن] الفعلي ، ومع احتمال المخصص لا ظن فعلي بعموم العام فلا يجوز ان يكون متبعا قبل الفحص.

١٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ويرد عليه اولا : ان حجية العموم انما هي من باب الظن النوعي دون الفعلي.

وثانيا : انه ربما لا يحصل الظن الفعلي بارادة العام على عمومه وان حصل الفحص عن المخصص له بالمقدار الذي استقرت السيرة العقلائية على الفحص عنه ، لاحتمال وجوده وعدم ظفرنا به أو نسيان حملته ورواته ، او لنسيان تدوينه او تلفه بعد التدوين.

وعلى كل فمحل النزاع بعد فرض حجية اصالة العموم من باب الظن النوعي في انه هل هناك بناء من العقلاء على الاخذ بها قبل الفحص او بعد الفحص؟

واستدل بعضهم على وجوب الفحص بان حجية اصالة العموم انما هي للمشافه فلا بد من الفحص لتعيين العموم الذي هو حجة للمشافه ، وبعد تمامية الفحص وتمييزه ليحصل الظن لنا بالعموم ثم يثبت الحكم لغير المشافه بدليل الاشتراك.

ويرد عليه اولا : ان حجية اصالة العموم لا تختص بالمشافه كما سيأتي بيانه عند التعرض له.

وثانيا : ان الكلام في اصالة العموم لا في الظن بالعموم.

وثالثا : ان الكلام في الاخذ بالعام قبل الفحص أو بعد الفحص مما يشمل المشافه نفسه ، فانه بناء على عدم جواز الاخذ بالعام الا بعد الفحص لا يجوز للمشافه الاخذ به الا بعد الفحص ايضا.

واستدل آخرون على وجوب الفحص عن المخصص بانه قد علم اجمالا بوجود مخصصات للعمومات ، ومع العلم الاجمالي بذلك لا يجوز الاخذ بالعموم قبل الفحص عن المخصصات التي علم اجمالا بها.

ويرد عليه : ما عرفت من ان الكلام في العام الخارج عن اطراف ما علم اجمالا بتخصيصه ، كما لو ظفرنا بمقدار المخصصات التي علمنا بها او ظفرنا بمقدار ما يوجب انحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي وشك بدوي ، ثم وجدنا عمومات

١٦٧

فالتحقيق عدم جواز التمسك به قبل الفحص ، فيما إذا كان في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لاجل أنه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشك ، كيف وقد ادعي الاجماع على عدم جوازه ، فضلا عن نفي الخلاف عنه ، وهو كاف في عدم الجواز ، كما لا يخفى.

وأما إذا لم يكن العام كذلك ، كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في السنة أهل المحاورات ، فلا شبهة في أن السيرة على العمل به بلا فحص عن مخصص (١) ، وقد ظهر لك بذلك أن مقدار الفحص

______________________________________________________

احتملنا تخصيصها فانها من محل النزاع في انه هل يجوز الاخذ بها قبل الفحص ام لا يجوز إلّا بعد الفحص؟

(١) [حاصله : ان] العام على نحوين : الاول ما كان في معرض التخصيص وهو كالعمومات الواردة في الكتاب والسنة ، فان مهم الشارع غالبا على ذكر الحكم الخاص بعد العام الذي يشمله وغيره ، واما الكلام في انه ما السبب [لان كان ديدن الشارع] على هذا النهج فسيأتي التعرض له ان شاء الله.

الثاني : العمومات التي لم تكن في معرض [التخصيص كالعمومات] الموجودة في لسان اهل المحاورة.

ولما كان حجية ظهور العموم في عمومه انما هو ببناء العقلاء وسيرتهم المتبعة في حجية الظهورات والأخذ بها ، وفي النحو الاول وهو العمومات الواقعة في معرض التخصيص اذا لم نقل بانه من المقطوع به استقرار سيرتهم وبنائهم على عدم الاخذ بهذه العمومات قبل الفحص عن مخصصها فلا اقل من الشك في حجية هذه العمومات عندهم قبل الفحص.

وان دعوى عدم الخلاف والاجماع على عدم الاخذ بالعمومات قبل الفحص مما يدل واضحا على عدم السيرة من العقلاء على الاخذ بها ، وان لم يدلا على عدم

١٦٨

اللازم ما به يخرج عن المعرضية له (١) ، كما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه العقلية التي استدل بها من العلم الاجمالي به أو حصول

______________________________________________________

السيرة فلا محالة مما يوجبان الشك فيها ، ومن البين انه يكفي الشك في حجية الظهور عند العقلاء في عدم الاخذ بالظهور وعدم اتباعه ، ولكن في العمومات غير الواقعة في معرض التخصيص قد استقر بناؤهم على الاخذ بالعام على عمومه قبل الفحص عن مخصصه ، وعبارة المتن واضحة.

واشار الى النحو الاول بقوله : «فالتحقيق عدم جواز التمسك به» أي بالعام «قبل الفحص فيما كان» العام «في معرض التخصيص ... الى آخر الجملة».

واشار الى النحو الثاني بقوله : «واما اذا لم يكن العام كذلك ... الى آخر الجملة».

(١) بعد ما عرفت ان السبب في وجوب الفحص عن العام كونه واقعا في معرض التخصيص ، فاذا خرج العام عن المعرضية للتخصيص فيجب الاخذ بعمومه لتمامية حجية ظهوره عند العقلاء ، ولازم هذا كون مقدار الفحص عن المخصص ينتهي امده بمقدار ما يخرج به العام عن معرضية التخصيص ، فالفحص اللازم في عمومات الكتاب أو السنة هو مراجعة الكتب التي تقضي العادة بوجود المخصص فيها ، فاذا لم يوجد فيها مخصص للعام فينبغي الاخذ به ، اذ كما ان الموجب للفحص هو سيرة العقلاء كذلك مقدار الفحص فانما هو بحسب ما تقتضي به سيرتهم على مقدار الفحص ، لانه حيث لم يرد من الشارع بيان لمقدار الفحص فلا تكون له طريقة غير طريقة العقلاء في تقدير مقدار الفحص ، وقد اشار لهذا بقوله : «وقد ظهر لك بذلك ان مقدار الفحص اللازم» هو مقدار «ما به يخرج العام عن المعرضية له» أي عن المعرضية للتخصيص.

١٦٩

الظن بما هو التكليف ، أو غير ذلك رعايتها ، فتختلف مقداره بحسبها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) وقد ظهر ـ مما مر ـ ان مسلك المصنف في وجوب الفحص هو بناء العقلاء على الفحص في العام المعرض للتخصيص ، وان اللازم على هذا [هو الفحص عن المخصص حتى يخرج عن] معرضية التخصيص.

وهناك مسالك أخر اشرنا اليها في لزوم الفحص عن المخصص :

ـ منها كون [العام من اطراف العلم] الاجمالي.

واللازم على هذا المسلك الفحص بمقدار ينحل به العلم الاجمالي ويخرج العام عن الطرفية للعلم الاجمالي.

ـ ومنها ان الفحص انما يجب لانه لا يحصل الظن الفعلي بالظهور قبل الفحص ، وعلى هذا فاللازم الفحص حتى يحصل الظن الفعلي.

ـ ومنها ان الفحص انما يجب لكون حجية العام مختصة بالمشافه وانما يثبت الحكم في العام لنا بدليل الاشتراك ، فالفحص انما هو للحصول على العام الذي هو حجة للمشافه ، وعلى هذا فيجب الفحص بمقدار ما يحصل الظن بذلك ، والى هذا اشار بقوله : «كما ان مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه العقلية التي استدل بها» لوجوب الفحص «من العلم الاجمالي به او حصول الظن بما هو التكليف» بالفعل «او غير ذلك» كمسلك من يرى اختصاص العام بالمشافه.

قوله : «رعايتها» هذا خبر ان : أي ان مقدار الفحص اللازم رعاية الوجوه التي استدل بها للفحص وتقدير الفحص بحسب ما تقتضيه تلك الوجوه كما عرفت ، ولازم ذلك اختلاف مقدار الفحص ، ففي العلم الاجمالي بمقدار ما ينحل به ، وفي الظن بمقدار ما يحصل الظن ، وفي المعرضية بمقدار ما يخرج عنها بالفحص ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فيختلف مقداره» أي يختلف مقدار الفحص «بحسبها» أي بحسب ما تقتضيه الوجوه التي استدل بها لوجوب الفحص.

١٧٠

ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال أنه كان ولم يصل ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ، ولو قبل الفحص عنها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) لما عرفت ان وجوب الفحص على مختار المصنف انما هو لكون العام واقعا في معرض التخصيص ، ومن الواضح ان معرضية العام للتخصيص بالمتصل تنتهي بانتهاء التخاطب فلا وجه لوجوب الفحص عن المخصص المتصل ، بعد ان كان العام الواصل الينا خاليا عن التخصيص المتصل.

نعم غاية ما يمكن ان يقال : انه هناك احتمال انه كان تخصيص متصل ولم يصل الينا.

ولكنه [لا وجه لأن يكون هذا الاحتمال] موجبا للفحص بعد ان كان العام خارجا عن معرضية التخصيص بالمتصل ، وهذا الاحتمال منفي ببناء العقلاء على عدم الاعتناء به ، وحال هذا الاحتمال حال احتمال القرينة على المجاز [حيث يتم بناء العقلاء على] الاخذ بالحقيقة وبما وضع له اللفظ الى ان تثبت القرينة على المجازية ، واحتمال [وجود القرينة على المجاز] ولكنها لم تصل الينا منفي ببناء العقلاء على اصالة الحقيقة ، وعلى نفي احتمال القرينة على المجاز ، والاخذ بالحقيقة من دون فحص عن القرينة اذ لم تصل مع الكلام.

ولذا قال (قدس‌سره) : «وقد انفقت كلماتهم» على استقرار بناء العقلاء «على عدم الاعتناء به» أي باحتمال القرينة «مطلقا ولو قبل الفحص عنها» وقد علمت حال احتمال المخصص المتصل كاحتمال وجود القرينة على المجاز.

١٧١

إيقاظ : لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا ، وبينه في الاصول العملية ، حيث أنه هاهنا عما يزاحم الحجية ، بخلافه هناك ، فإنه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة عليها من غير برهان ، والنقل وإن دل على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقا ، إلا أن الاجماع بقسميه على تقييده به (١) ،

______________________________________________________

(١) حاصله : انه كما ان العمل بالعمومات الواقعة في معرض التخصيص لا يجوز إلّا بعد الفحص كذلك العمل بالاصول العملية كالبراءة والاحتياط والاستصحاب لا يجوز إلّا بعد الفحص عن الدليل ، ولكن مع ذلك فرق بين وجوب الفحص عن تخصيص العام وبين الفحص عن الدليل في الاصول العملية ، فان الفحص هنا فحص عن المانع عن حجية العام في عمومه بعد ثبوت مقتضى الحجية في العام ، وفي الاصول العملية الفحص فيها فحص عن المقتضي ، وانه في الاصول العملية لا اقتضاء للاصول للعمل على طبقها الا بعد الفحص ، بخلافه في العام فان المقتضى فيه موجود والفحص فيها عن المانع.

وتوضيحه : ما عرفت من ان الموجب للفحص في العام هو وقوعه في معرض التخصيص ، ومن الواضح ان معنى هذا كون العام له اقتضاء الحجية ولكن وقوعه في هذا المعرض اوجب التوقف عن تأثير هذا الاقتضاء حتى يتم عدم المانع عن تأثيره.

وبعبارة اخرى : ان الفحص عن المخصص في العام انما هو عما يزاحم حجية العام في عمومه ، فان للعام ظهورا في العموم وهذا الظهور هو المقتضي لحجية العام عند العقلاء ، ولكن وقوعه في معرض احتمال ان يكون لهذه الحجة حجة اخرى مزاحمة هو الذي اوجب الفحص عندهم بخلافه في الاصول العملية.

اما في الاصول العملية العقلية كقبح العقاب بلا بيان ـ مثلا ـ فمن البين انه لا [اقتضاء في الجواز والعمل] قبل الفحص لان الموضوع فيها هو عدم البيان ، وانما

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يقبح العقاب بلا بيان ـ مثلا ـ حيث يحرز اللابيان ، وقبل الفحص عدم البيان ليس بمحرز فلا موضوع لقبح العقاب بلا بيان ، والعقل مستقل باستحقاق العقاب لو اخذ بالاصول العملية قبل الفحص وكان ذلك مخالفا لحكم الشارع.

وبعبارة اخرى : ان الحكم قبل تحقق موضوعه لا اقتضاء له وانما يكون له الاقتضاء فيما اذا تحقق موضوعه وحصل مانع عن ترتب الحكم عليه ، والموضوع للحجية في العام هو ظهور العام وهو متحقق قبل الفحص والعقلاء بنوا على الظهور ، ولكنه في العام الواقع في معرض تخصيصه واحتمال مزاحمته بحجة اقوى يجب الفحص ، فالفحص فيه فحص عن المزاحم لما هو موضوع الحجية في العام ، ومعنى هذا كونه فحصا عن المانع ، وفي الاصول العملية كقبح العقاب بلا بيان موضوع القاعدة اللابيان ، وهو انما يتحقق بعد الفحص لوضوح انه مع احتمال البيان لا يكون اللابيان متحققا الذي هو الموضوع للاصول العقلية ، فالفحص فيها انما هو لاحراز ما هو المقتضي فيها لا عن المانع ، وقد اشار الى ذلك بقوله : «حيث انه هاهنا» أي ان الفحص في العام هو «عما يزاحم الحجية» لما عرفت من ان موضوع الحجية في العام هو الظهور ، وظهور العام في عمومه متحقق قبل الفحص «بخلافه هناك» أي في الاصول العملية العقلية «فانه بدونه لا حجة» لان موضوع الحجة فيها هو اللابيان وهو غير متحقق قبل الفحص ، والذي يدل على ان الموضوع فيها اللابيان «هو ضرورة ان العقل بدونه» أي بدون الفحص «يستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة» لعدم تحقق الموضوع فيها قبل الفحص وهو اللابيان «فلا يكون العقاب بدونه» أي بدون الفحص من العقاب «بلا بيان والمؤاخذة عليها» أي على المخالفة «بلا برهان» هذا في الفرق بين الفحص في العام وبينه في الاصول العملية العقلية.

واما الاصول العملية النقلية كرفع ما لا يعلمون ولا تنقض اليقين بالشك فظاهرها وان كان تحقق الموضوع ، لان موضوعها وهو عدم العلم وهو متحقق قبل الفحص ،

١٧٣

فافهم (١).

______________________________________________________

واليقين والشك وهما متحققان قبل الفحص إلّا ان الاجماع قد تحقق على ان موضوعها وهو عدم العلم بعد الفحص ، واليقين والشك بعد الفحص عن الدليل ، فالموضوع فيها مقيد بالفحص ، واذا كان الموضوع فيها مقيدا بالفحص فالفحص فيها لتحقق الموضوع ، فهو فحص عن المقتضى لا عن المانع ، والى هذا اشار بقوله : «والنقل» كدليل الرفع والاستصحاب «وان دل على البراءة والاستصحاب في [موردهما مطلقا]» أي غير مقيد بالفحص لان موضوعها هو عدم العلم ، واليقين والشك وهما بظاهر الدليل غير مقيدين بالفحص بل مطلقين من ناحيته ، فمع عدم العلم قد رفعت المؤاخذة ومع اليقين والشك يستصحب اليقين سواء كان هناك فحص او لم يكن فحص «إلّا ان الاجماع بقسميه» البسيط والمركب قائم «على تقييده به» أي على تقييد الموضوع فيها بالفحص.

(١) لعله اشارة الى ان حجية الظهور انما هي ببناء العقلاء وليس للعقلاء بناءان : بناء على الاقتضاء ، وبناء على الفحص عن المانع ، بل ليس لهم إلّا بناء واحد وهو العمل على طبق العام واعتبار الظهور فيه حجة ، وهذا انما يكون بعد الفحص ، فلا فرق بين الفحص في العام والفحص في الاصول وفي كليهما الموضوع للحجية انما يتحقق بعد الفحص.

ولكن الانصاف انه بعد بناء العقلاء على حجية الظهور في العام غير المعرض للتخصيص كعمومات اهل المحاورة ، فيكون بناؤهم على الفحص في العام المعرض للتخصيص هو بمنزلة التخصيص لهذا البناء ، وان توقفهم عن العمل على العام الواقع في ذلك المعرض انما هو للبحث عما يزاحم ما هو موضوع الحجة عندهم في العام ، ويكشف هذا ان الظهور عندهم هو موضوع الحجية ، فموضوعها متحقق في العام ولكن وقوعه في معرض التخصيص اوجب توقفهم عن العمل على طبقه حتى يتم احراز عدم المانع عن العمل.

١٧٤

فصل

هل الخطابات الشفاهية مثل (يا أيها المؤمنون) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعم غيره من الغائبين ، بل المعدومين فيه خلاف ، ولا بد قبل الخوض في تحقيق المقام ، من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والابرام بين الاعلام (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الخطاب مثل قوله : (يا ايّها المؤمنون) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)(١) يشتمل على امور ثلاثة :

ـ الحكم وهو السعي وترك البيع.

ـ وتوجيه هذا الكلام.

ـ والمراد من الذين آمنوا.

ولا اشكال في ان صحة الكلام في التكليف وشموله للغائبين والمعدومين لا يختص بخصوص التكليف الذي تضمنه الخطاب.

كما انه لا يختص صحة توجيه الكلام للغائبين والمعدومين بخصوص توجيه الكلام الخطابي ، بل يشمل مطلق توجيه الكلام سواء كان بنحو الخطاب كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) او كان بغير الخطاب كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٢) ولعله انما بحث عنه في فصل الخطابات الشفاهية لان البحث في الجهة الثالثة : وهي كون المراد بالالفاظ الواقعة بعد أداة الخطاب كالمؤمنين الواقع بعد يا ايها هل تعم الغائبين والمعدومين ام لا تعم؟ ويختص بالمشافهين.

__________________

(١) الجمعة : الآية : ٩.

(٢) آل عمران : الآية : ٩٧.

١٧٥

فاعلم أنه يمكن أن يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين ، كما صح تعلقه بالموجودين ، أم لا؟ أو في صحة المخاطبة معهم ، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجيه الكلام إليهم ، وعدم صحتها ، أو في عموم الالفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب ، للغائبين بل المعدومين ، وعدم عمومها لهما ، بقرينة تلك الاداة (١).

______________________________________________________

ولا اشكال في ان هذا البحث مما يختص بالخطاب فلذلك ناسب البحث في الجهتين الواقعتين في الجملة الخطابية في هذا الفصل ايضا ، وقد ظهر مما ذكرنا ان البحث في هذا الفصل في جهات ثلاث :

ـ الاولى : في التكليف المتكفل له الخطاب هل يعم الغائبين والمعدومين؟

ـ الثانية : في توجيه الكلام والخطاب هل يصح ان يتوجه الى الغائبين والمعدومين كما يتوجه الى الحاضرين؟

ـ الثالثة : في الالفاظ الواقعة بعد أداة الخطاب هل يصح ان تعم الغائبين والمعدومين؟

(١) هذه هي الجهة الاولى وهو انه هل يصح تعلق التكليف بالغائبين عن مجلس الخطاب والمعدومين في وقت الخطاب ام لا؟ فعلى الاول يكون التكليف الواقع في الجملة الخطابية يعم الغائبين والمعدومين.

وعلى الثاني يكون مختصا بخصوص الحاضرين مجلس الخطاب وهم المشافهون بالخطاب.

والى هذا اشار بقوله : «ان التكليف المتكفل له الخطاب هل يصح تعلقه بالمعدومين» والغائبين «كما صح تعلقه بالموجودين ام لا» واشار الى الجهة الثانية بقوله : «او في صحة المخاطبة معهم» أي مع المعدومين «بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب» ككاف الخطاب ويا أيها وامثالها «او بنفس

١٧٦

ولا يخفى أن النزاع على الوجهين الاولين يكون عقليا ، وعلى الوجه الاخير لغويا (١).

______________________________________________________

توجيه الكلام» أي بان يكون الخطاب مستفادا من نفس توجيه الكلام كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الموجه الى الحاضرين في ذلك الوقت عند قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها «وعدم صحتها» أي عدم صحة المخاطبة لا بالفاظ الخطاب ولا بتوجيه الكلام».

فان الجهة الثانية كما عرفت هو انه هل يصح توجيه الكلام الخطابي الى الغائبين والمعدومين ام لا يصح سواء كان الخطاب مدلولا عليه بالالفاظ الموضوعة للخطاب او كان مستفادا من نفس توجيه الكلام ، والى الجهة الثالثة اشار بقوله : «او في عموم الالفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب» كلفظ المؤمنين والذين آمنوا والناس في انها شاملة «للغائبين بل المعدومين وعدم عمومها» وشمولها «لهما بقرينة تلك الاداة» لوضوح ان لفظ المؤمنين والذين آمنوا ولفظ الناس مما يشمل الغائبين قطعا وإنما [وقع الكلام] في شمولها لهم ، وعدم شمولها انما هو لاجل دعوى كون أداة الخطاب قرينة على الاختصاص بالمشافهين.

(١) وهما صحة تكليف الغائبين والمعدومين [وعدم صحة مخاطبتهم] ومن الواضح ان الكلام في هاتين الجهتين لا خصوصية فيه ان يكون [مستفادا من الالفاظ] لبداهة ان الكلام جار في التكليف المستفاد من الاجماع والعقل انه هل يصح في هذا التكليف المستفاد منهما ان يتعلق بالغائبين أو المعدومين ام لا؟

وكذلك في الخطاب المستفاد من الاجماع ـ مضافا الى ما سيأتي من ان البرهان على عدم صحة تكليف المعدومين وعدم صحة مخاطبتهم لا يختص بالتكليف وبالخطاب بالحكم المستفادين من الالفاظ ـ والعقل هل يصح ان يتوجه الى الغائبين والمعدومين ام لا؟

١٧٧

إذا عرفت هذا ، فلا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، ضرورة أنه بهذا المعنى يستلزم الطلب منه حقيقة ، ولا يكاد يكون الطلب كذلك إلا من الموجود ضرورة (١) ، نعم هو بمعنى

______________________________________________________

والقائل بصحته يقول به مطلقا في التكليف المستفاد من اللفظ او الاجماع او العقل ، وفي الخطاب ايضا سواء كان مستفادا من اللفظ او الاجماع أو العقل : بان يقوم الاجماع على ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب الحاضرين بخطاب ولو بالاشارة من غير لفظ.

واما الجهة الثالثة : فهو ما يخص بالالفاظ لما عرفت انه فيما يراد من الالفاظ الواقعة بعد أداة الخطاب.

مضافا الى ما مر من ان الالفاظ صالحة بنفسها لأن تشمل الغائبين والمعدومين ولكن حيث كانت الالفاظ مشفوعة باداة الخطاب لذا وقع الكلام في شمولها لهم وعدم شمولها ، وقد اشار الى كون الكلام في الجهتين الاولتين عقليا لا لفظيا بقوله :

«لا يخفى ان النزاع على الوجهين الاولين يكون عقليا» واشار الى ان الجهة الثالثة الكلام فيها لفظي لا عقلي بقوله : «وعلى الوجه الاخير لغويا».

(١) يظهر منه (قدس‌سره) انه يفصل بين المعدومين والغائبين كما يقتضيه استدلاله على عدم معقولية تكليف المعدومين ، وتوضيحه :

ان المراد من التكليف الذي لا يعقل ان يشمل المعدومين هو التكليف بمرتبته الفعلية ، اما مرتبة التنجز فلتأخرها عن مرتبة الفعلية فبالاولى ان لا يعقل ايضا.

واما الحكم بمرتبته الانشائية فيجوز ان يعم المعدومين كما سيصرح به ، واذا جاز بمرتبته الانشائية فالاولى جوازه بمرتبة الاقتضاء ايضا.

والحاصل : ان الحكم بمرتبته الفعلية هو التحريك التشريعي وهو دفع المبعوث تشريعا ، والتحريك والدفع التشريعي هو بازاء التحريك والدفع التكويني ، ومن البديهي عدم معقولية التحريك الفعلي التكويني للمعدوم ، اذ التحريك الفعلي

١٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

التكويني هو فعل بين المحرك والمتحرك ، ولا يعقل ان يكون التحريك التكويني فعليا مع كون احد اطرافه ليس له فعلية والمعدوم [لا فعلية له]. واما كون التحريك التشريعي بازاء التكويني فلان معنى كون الحكم فعليا هو بلوغ الامر الى مرتبة بحيث لو انقاد العبد الى مولاه لكان الامر داعيا له ومحركا له ، ومن الواضح ان المعدوم لا يعقل ان ينقاد بالفعل ليكون الامر داعيا ومحركا له بالفعل.

وبعبارة اخرى : ان كون الحكم باعثا بالفعل يستلزم الارادة الحقيقية من الباعث ان ينبعث المكلف عنها بالفعل ، ولا يعقل ان تكون الارادة الحقيقية فعلية والمراد منه غير موجود ومعدوم بالفعل ، لان التحريك الفعلي كما لا بد فيه من محرك بالفعل كذلك لا بد فيه من متحرك بالفعل.

لا يقال : انه قد مر من المصنف امكان الواجب المعلق ولازمه كون الامر فعليا في الواجب المعلق وقد تعلق بامر استقبالي ، وكما لا يعقل ان ينقاد المعدوم لعدم وجوده وفعليته ، فكذلك لا يمكن ان ينقاد الموجود بالفعل اذا كان متعلق البعث غير موجود بالفعل فاذا جاز ان يكون الحكم فعليا مع عدم امكان الانقياد بالفعل لعدم المبعوث اليه فكذلك لا ينبغي ان يكون مانعا عن فعليته مع عدم المبعوث.

فانه يقال : فرق واضح بين عدم المبعوث اليه وعدم المبعوث في حالة فعلية البعث ، فانه مع عدم المبعوث اليه لا ريب في امكان تحقق الانبعاث والانقياد بالفعل من المبعوث أي المكلف ، لعدم المانع له من قبل المكلف ، وانما لم يتحقق لعدم وجود المبعوث اليه حيث انه استقبالي ، بخلاف ما اذا كان المكلف الذي هو المبعوث معدوما فانه لا يعقل ان يكون له انقياد او انبعاث فلا يمكن ان يكون انقياده وانبعاثه فعليا فليس المانع عن فعلية ، التكليف عدم قدرة المكلف بالفعل حتى لا يكون فرق بين عدم المبعوث وعدم المبعوث اليه ، بل المانع عن فعلية التكليف في المعدوم هو عدم الامكان لعدم الموضوع ، بخلافه في الواجب المعلق فان امكان الانبعاث متحقق وغايته عدم فعلية الانبعاث.

١٧٩

إنشاء الطلب بلا بعث ولا زجر ، لا استحالة فيه أصلا ، فإن الانشاء خفيف المئونة ، فالحكيم تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة والمصلحة ، طلب شيء قانونا من الموجود والمعدوم حين الخطاب ، ليصير فعليا بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاء آخر ، فتدبر (١).

______________________________________________________

وفرق واضح بين عدم الامكان وعدم الفعلية ، وقد اشار الى ما ذكرنا من عدم امكان البعث الى المعدوم بقوله : «ضرورة انه بهذا المعنى» أي يكون الحكم في مرتبة الفعلية وانه باعث وزاجر بالفعل «يستلزم الطلب منه حقيقة» أي يستلزم البعث والزجر الفعلي الارادة الحقيقية الفعلية «ولا يكاد يكون الطلب كذلك» أي لا يكاد يكون الطلب الحقيقي والارادة الحقيقية طلبا وارادة بالفعل «الا من الموجود ضرورة» أي بداهة.

وقد ظهر مما مر : ان التكليف لا يعقل بحسب البرهان المذكور ان يعم المعدومين بالخصوص ، واما بالنسبة الى الغائبين فلا مانع من ان يكون الحكم فعليا بالنسبة اليهم لامكان الانقياد والانبعاث منهم ، ولذا خصه بالمعدومين فقط ، فقال لا ريب في عدم صحة تكليف المعدوم عقلا ، فتأمل.

(١) حاصله : انه لا مانع من ان يعم الحكم المعدومين بمرتبته الانشائية ، وهي مرحلة جعل القانون ، فان الحكم في هذه المرتبة لا بعث فيه ولا زجر ولا إرادة حقيقية فيه بالفعل ولا طلب حقيقي كذلك فيه ، فان الحكم بهذه المرتبة هو جعل الحكم إنشاء فانه مرتبة جعل الحكم قانونا على وفق المصلحة والمفسدة ، وحين تتم شروط الفعلية له يكون فعليا من دون حاجة الى انشاء آخر ، والى هذا اشار بقوله : «فان الانشاء خفيف المئونة ... الى آخره» بعد ما اشار الى ان الحكم في هذه المرتبة لا بعث فيه ولا زجر بقوله : «هو بمعنى» مجرد «انشاء الطلب بلا بعث ولا زجر لا استحالة فيه اصلا».

١٨٠