بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٤٢

قلت : أولا : هذا فيما تمت هناك مقدمات الحكمة ، ولا تكاد تتم فيما هو مفاد الحرف كما هاهنا ، وإلا لما كان معنى حرفيا ، كما يظهر وجهه بالتأمل (١).

وثانيا : تعينه من بين أنحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين ، ومقايسته مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الامر مع الفارق ، فإن النفسي هو الواجب على كل حال بخلاف الغيري ، فإنه واجب على تقدير دون تقدير ، فيحتاج بيانه إلى مئونة التقييد بما إذا وجب الغير ، فيكون الاطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه ، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة ، ضرورة أن كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب ، محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر ، بلا تفاوت أصلا ، كما لا يخفى (٢).

______________________________________________________

(١) اجاب عنه بجوابين ، الاول : ان الدال على اللزوم والترتب العلي هو اما لفظ او هيئة الجملة ، وكلاهما من الحروف ، بمعنى ان مدلولها معنى آلي لا استقلالي ، والاطلاق انما يتم التمسك به في المنظور بالنظر الاستقلالي ، فلا وجه للتمسك بالاطلاق في الحروف.

ولا يخفى ان الدال على الوجوب النفسي أيضا هو الهيئة ، وهي من المعاني الحرفية ، وقد مر من المصنف التمسك بالاطلاق لافادة الوجوب النفسي دون الغيري ، ولعل مراده من قوله : ((كما يظهر وجهه بالتأمل)) ان التأمل الموصل لوجه عدم صحة التمسك بالاطلاق في الحروف يوصلنا الى امكان التمسك بالاطلاق فيها ولو بنحو التبعية لمتعلقاتها كما مر بيانه فيما تقدم.

(٢) هذا هو الجواب الثاني وهو الموجب للفرق بين صحة التمسك بالاطلاق للوجوب النفسي دون المقام.

٣٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيحه : ان تنويع الشيء وتقسيمه الى انواع لا بد وان يكون لخصوصيات في نفس الانواع موجبة لكون كل واحد منها نوعا غير النوع الآخر وما لم يكن الفرق في نفس ذواتها لا يكون موجبا لتنويعها ، وقد عرفت ان اللزوم في العلة المنحصرة وغيرها من العلة غير المنحصرة على نحو واحد ، والانحصار وعدم الانحصار امر خارج عن ذات العلة في مقام تأثيرها ، فلا يكون موجبا للفرق الذاتي بين العلة المنحصرة وغيرها بحيث يوجب قيدا داخلا في ذواتها فلا يكون لها أفراد بعضها مقيد وبعضها غير مقيد حتى يكون الاطلاق معينا لخصوص المقيد بقيد عدمي لا وجودي وهذا بخلاف الوجوب النفسي والغيري ، فان حقيقة الوجوب الغيري هو الوجوب المترشح من وجوب آخر ، بخلاف الوجوب النفسي فانه الوجوب غير المترشح ، وهذا فرق في نفس حقيقة الوجوب يوجب تنويعه وتفريده ، فلذا كان الاطلاق فيه معينا للوجوب النفسي دون الغيري بخلاف اللزوم في العلة المنحصرة وغيرها فانه حقيقة واحدة وان انقسم بسبب امر خارج عن مقام حقيقة اللزوم الى علة منحصرة وغير منحصرة ، فتعيين احد الاقسام بالاطلاق ـ مع انه انما يتم في ماله قيود داخلة في مقام ذات المقيدات ـ واضح الفساد.

وقد اشار المصنف الى ان انحاء اللزوم لا فرق في حقيقة اللزوم فيه وانما الفرق فيما هو خارج عن ذاته فلا وجه لتعيين العلة المنحصرة بالاطلاق ، بل كل فرد من أفراد اللزوم لو اراده بخصوصه لاحتاج الى معين بقوله : ((تعينه من بين انحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين)) ، ولا يصح التمسك بالاطلاق من ناحية التقييد وانواعه الا فيما كان موجبا لتقييد في نفس ذات المقيد لا فيما هو الخارج عن مقام ذاته.

وقد أشار الى الفرق بين الوجوب النفسي والمقام بقوله : ((ومقايسته مع تعين الوجوب النفسي باطلاق صيغة الامر مع الفارق)). وقد اشار الى ان الفرق في الوجوب هو في حقيقة الوجوب بقوله : ((فان النفسي هو الواجب على كل حال))

٣٠٢

ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط ، بتقريب أنه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده ، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده ، وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا (١).

______________________________________________________

أي هو الواجب لا لواجب آخر وحقيقة وجوبه غير مرتبطة بغيره ، ((بخلاف الغيري فانه واجب على تقدير دون تقدير)) أي ان وجوبه انما هو حيث يكون غيره واجبا فيترشح وجوبه منه ، وحيث كان الفرق بين الوجوبين في حقيقة الوجوب ، وان القيد في الغيري وجودي فلذا ((يحتاج بيانه الى مئونة التقييد بما اذا وجب الغير فيكون الاطلاق في الصيغة)) بضم المقدمة الرابعة ((مع مقدمات الحكمة)) الثلاث ((محمولا عليه)) أي على الوجوب النفسي دون الغيري ((وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة)) حيث لا فرق فيه في حقيقة اللزوم والترتب بين العلة المنحصرة وغير المنحصرة ((ضرورة ان كل واحد من انحاء اللزوم والترتب)) لا فرق في مقام حقيقته بينه وبين غيره كان كل واحد من انحاء اللزوم ((محتاج في تعينه بخصوصه الى القرينة مثل الآخر بلا تفاوت أصلا)).

(١) هذا هو الوجه الثاني للتمسك بالاطلاق.

وتوضيحه : ان الاطلاق السابق كان بما يدل على العلية والتأثير ، وان العلة المؤثرة منقسمة الى منحصرة وغير منحصرة ، والاطلاق يعين العلة المنحصرة.

وهذا الوجه الثاني للتمسك باطلاق مدخول ان ، وهو الشرط النحوي.

وبيانه : ان الشرط في قولك : ان جاءك زيد فاكرمه هو المجيء ، وانه اذا تحقق المجيء يترتب عليه وجوب الاكرام ، وهو العلة للاكرام في جميع الاحوال سواء كان مسبوقا بوجود شيء من الاشياء او مقارنا له او ملحوقا به ، ولازم هذا الاطلاق كون المجيء هو العلة لا غير ، ومعنى هذا كونه علة منحصرة ، لأنه اذا كان هو المؤثر في وجوب الاكرام وان سبقه أي شيء او قارنه او لحقه فلا بد وان يكون هو العلة المنحصرة ، لانه لو كان غيره علة ووجد قبله لاثر في وجوب الاكرام واذا قارنه مؤثر

٣٠٣

وفيه أنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك ، إلا أنه من المعلوم ندرة تحققه ، لو لم نقل بعدم اتفاقه.

فتلخص بما ذكرناه ، أنه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، ولم تقم عليها قرينة عامة ، أما قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها ، مما لا يكاد ينكر ، فلا يجدي القائل بالمفهوم ، انه قضية الاطلاق في مقام من باب الاتفاق (١).

______________________________________________________

غيره يشتركان في التأثير واذا لحق به غيره من العلل وكان المجيء معدوما يتحقق الاكرام ايضا ، أما اذا كان المجيء هو العلة في جميع الاحوال فلازمه انه قبل وجود المجيء لا يتحقق الاكرام واذا قارنه غيره لكون المجيء هو المؤثر دون المقارنة له واذا لحق به شيء وكان المجيء معدوما لا يتحقق الاكرام ، فالاطلاق الدال على ان المجيء هو المؤثر سواء سبقه غيره او قارنه او لحق به يثبت العلة المنحصرة ولازمها ثبوت المفهوم فانه لو كان غير المجيء علة لوجوب الاكرام كاحسانه لوجب مثلا ان يقول : ان جاءك زيد أو احسن اليك فاكرمه ، وحيث لم يقيد المجيء بشيء فلا بد وان يكون هو المؤثر لا غير ، ومعنى هذا كون المجيء هو العلة المنحصرة لوجوب الاكرام ، ولازم العلة المنحصرة الانتفاء عند الانتفاء ، وليس المفهوم الا الانتفاء عند الانتفاء. والى هذا اشار بقوله : ((بتقريب انه لو لم يكن بمنحصر)) في المجيء ((يلزم تقييده)) أي يلزم تقييد المجيء بذلك الغير كالاحسان ((ضرورة انه لو قارنه او سبقه الآخر)) الذي هو المؤثر أيضا ((لما اثر وحده)) أي لما أثر المجيء وحده ، فانه لو قارنه يشتركان في التأثير ، ولو سبقه لكان المؤثر هو الاحسان دون المجيء ، ((وقضية اطلاقه انه يؤثر كذلك)) أي قضية الاطلاق كون المؤثر هو المجيء وان سبقه الاحسان او قارنه.

(١) وحاصل الجواب : ان ظاهر القضية الشرطية كونها مسوقة لبيان التأثير والعلية ، وان المجيء يؤثر في وجوب الاكرام لا لبيان وصف هذا المؤثر بانه وحده سبقه غيره او

٣٠٤

وأما توهم أنه قضية إطلاق الشرط ، بتقريب أن مقتضاه تعينه ، كما أن مقتضى إطلاق الامر تعين الوجوب (١).

ففيه : أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا ، كما كان في الوجوب كذلك ، وكان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر ، لا بد في التخييري منهما من العدل ، وهذا بخلاف الشرط فإنه واحدا كان أو متعددا ، كان نحوه واحدا ودخله في المشروط

______________________________________________________

قارنه او لحق به. نعم لو قامت القرينة على ان الاطلاق مسوق من هذه الجهة لثبت المفهوم.

والحاصل : ان النافع للقائل بالمفهوم هو ان من معتاد البيان هو سوق البيان من هذه الجهة ولكنه ليس من معتاد البيان سوقه من هذه الجهة ، وانما البيان المعتاد في القضية الشرطية هو تأثير المجيء لا بيان وصف المجيء. ومن الواضح ان كونه وحده ـ سواء سبقه غيره او قارنه ـ من صفات المؤثر لا من اوصاف التأثير والعلية. وقد اشار الى ذلك بقوله : ((انه لا يكاد ينكر ... الى آخر الجملة)).

(١) هذا هو الوجه الثالث للتمسك بالاطلاق ، وهو أيضا تمسك بإطلاق مدخول ان وهو الشرط النحوي.

وحاصله : انه تمسك بالإطلاق على نحو الاطلاق الذي يتمسك به لاثبات كون الوجوب تعيينيا لا تخييريا فانه بعد مقدمات الحكمة الثلاث نقول : ان الظاهر من الاطلاق كون الواجب هو بنفسه واجبا لا انه له عدل مثله ، مثلا : اذا قال المولى : صل ، فظاهره ان الصلاة بنفسها هي الواجب ، لا انها هي أو غيرها كما في خصال الكفارة ، فان الواجب فيها هو العتق او الاطعام او الصوم ، ومثله الاطلاق في المقام ، فان الظاهر من قوله : ان جاءك زيد فاكرمه ان العلة لوجوب الاكرام هو المجيء لا انه هو أو غيره ، ولو كان غيره علة أيضا لكان العلة هو المجيء او غيره. والى هذا اشار بقوله : ((بتقريب ان مقتضاه تعينه ... الى آخر الجملة)).

٣٠٥

بنحو واحد ، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق إثباتا ، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل لاحتياج ما له العدل إلى زيادة مئونة ، وهو ذكره بمثل او كذا (١) واحتياج ما إذا كان الشرط

______________________________________________________

(١) اجاب عنه بجوابين : الأول : ما مر في الجواب عن الاطلاق بالتقريب الأول.

وحاصله : ان الوجوب التعييني والوجوب التخييري تنويع في حقيقة الوجوب ، فان حقيقة الواجب التعييني غير حقيقة الواجب التخييري ، فان الواجب التعييني هو الواجب لا غير ، والواجب التخييري هو أو غيره ، فاذا كان الاطلاق مسوقا لبيان ما هو الواجب ولم يبين له عدلا وجب ان يكون الواجب تعيينيا وإلّا فلو كان للواجب عدل آخر ولم يبينه للزم الاخلال بالغرض ، بخلاف العلية والتأثير فان كون المؤثر في الاكرام لو كان غير المجيء لا يوجب كون حقيقة تأثير المجيء في الاكرام حقيقة اخرى غير تأثير المجيء فيما لم يكن غيره مؤثرا بل تأثيره على أي حال سواء كان هناك مؤثر غيره أو لم يكن على حد سواء بخلاف الوجوب التعييني والتخييري ، فان حقيقة الوجوب التعييني غير حقيقة الوجوب التخييري ، وحيث ان يكون المراد بيان الوجوب المتنوع الى التعييني والتخييري وكان الوجوب التخييري مقيدا بقيد وجودي وهو جواز تركه الى بدله او ان القيد الوجودي هو كون الواجب له عدل آخر كان الاطلاق معينا للوجوب التعييني لان الوجوب التعييني مقيد بقيد عدمي وهو انه لا يجوز تركه الى البدل او انه هو الذي لا عدل له ، وليس مقامنا من هذا القبيل لعدم اختلاف حقيقة المؤثر وتأثيره في كونه له عدل أو ليس له عدل ، فيكون الاطلاق المسوق لبيان كون المجيء هو المؤثر لا يجب فيه بيان ان لهذا المجيء عدلا أو ليس له ، فلا يوجب اخلالا بغرض المولى في بيانه المسوق لكون المجيء مؤثرا في الاكرام ، فان كون غير المجيء مؤثرا لا يوجب تنويعا في التأثير وكون تأثير المجيء غير تأثير غيره ، بل تأثير المجيء لا يختلف سواء كان غيره له تأثير او لم يكن.

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان الواجب التعييني الواجب فيه هو متعلق الوجوب وحده ، والواجب التخيري الواجب فيه هو أحد العدلين ، فحقيقة الوجوب قد اختلفت بالذات في هذين الوجوبين بخلاف العدل في المؤثر ، فان كون المؤثر في الاكرام هو المجيء وحده او هو والاحسان مثلا لا يوجب اختلافا في تأثير المجيء في الاكرام فلا تكون العدلية منوعة لحقيقة العلة ، بخلاف العدلية في الوجوب فانها موجبة لاختلاف حقيقة ما هو الواجب ولذا قال (قدس‌سره) : ((ان التعين ليس في الشرط)) هو على ((نحو يغاير نحوه فيما اذا كان متعددا كما كان في الوجوب كذلك)) أي انه في الوجوب تعدد الواجب ووحدته يوجب كون الوجوب على نحو في الوحدة يغاير نحوه في المتعدد ((وكان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر)) ، فانه في الواجب التعييني الواجب هو المتعلق بنفسه وحده وبذاته ، وفي الواجب التخييري الواجب احد الامرين ، وهو الجامع بينهما. فاذا كان المولى في مقام بيان الوجوب التخييري لا بد له ان يقيد المتعلق بأو أو غيرها ، فيقول اذا افطرت في رمضان عمدا فصم او اطعم او اعتق. يقول يجب عليك احد هذه الامور فحينئذ ((في التخييري)) من هذين الوجوبين لا بد من ذكر العدل ، بخلاف التعييني فانه لا عدل له. ((وهذا بخلاف الشرط فانه واحدا كان او متعددا ، كان نحوه واحدا ودخله في المشروط بنحو واحد لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق اثباتا)) أي انه انما يعقل مرحلة الاثبات حيث يكون له في مرحلة الثبوت والواقع تحقق ، ومرحلة الاطلاق مرحلة الاثبات ، وقد عرفت ان العلية في مرحلة الثبوت لا تنويع فيها ، وهي على نحو واحد ، فلا يعقل ان يكون الاطلاق مثبتا للعلية المنحصرة ، لان العلية المنحصرة وغير المنحصرة غير مختلفة في الواقع في مقام التأثير ، والتأثير للعلة التي ليس لها عدل كالتأثير للعلة التي لها عدل ، وقد عرفت في الوجوب انه ليس كذلك ، لان حقيقة الوجوب فيما له عدل غير حقيقته فيما ليس له عدل.

٣٠٧

متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد ، لا لبيان نحو الشرطية ، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف ، كان هناك شرط آخر أم لا ، حيث كان مسوقا لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال. بخلاف إطلاق الامر ، فإنه

______________________________________________________

ولا يخفى ان التمسك بالاطلاق في المقام للمفهوم انما هو مع تسليم انه لم تقم قرينة بالخصوص على انه مسوق لتقسيم العلة الى منحصرة وغير منحصرة ، وان كان هذا وصف لها باعتبار ما هو خارج عن ذاتها ، واذا لم تقم قرينة خاصة على سوقه كذلك فلا بد وان يكون الاطلاق باعتبار عدم امكان ارادة الجامع بين النوعين كما هو في الوجوب التعييني والتخييري ، فلا بد وان يريد احد النوعين ، وحيث ان القيد في التخييري يزيد على بيان انه واجب ، بل لا بد من العطف وتقييده بأو أو ما يؤدي مؤداها لذلك كان الاطلاق معينا للوجوب التعييني ، لأنه يكفي فيه ما يدل على انه واجب ، فان قيده بأن لم يكن معه غيره عدمي لا يحتاج الى بيان ، فبعد تمامية مرحلة الثبوت كان الاطلاق الذي هو مرحلة الاثبات مثبتا لخصوص الوجوب التعييني ، واما العلية فحيث انها غير متنوعة ثبوتا فلا يعقل ان يكون الاطلاق دالا على خصوص العلة المنحصرة بعد ان كان الانحصار وعدمه خارجا عن مقام ذات العلة.

كان لو كان الحال في مرحلة العلة متفاوتا ثبوتا لكان للتمسك بالاطلاق في مرحلة الاثبات مجال ((وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل)) وهو العلة المنحصرة ، لانه اذا كان تفاوت في مرحلة الثبوت ففي مرحلة الاثبات لا بد وان يكون المراد احد النوعين ، وحيث ان العلية غير المنحصرة وهي التي لها عدل موجبة لتقيد زائد ((لاحتياج ما له العدل الى زيادة مئونة وهو ذكره بمثل او كذا)).

٣٠٨

لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني ، فلا محالة يكون في مقام الاهمال أو الاجمال ، تأمل تعرف (١).

هذا مع أنه لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم ، لما عرفت أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الاطلاق من باب الاتفاق (٢).

ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه (١):

______________________________________________________

(١) حاصله : انه ربما يكون الاطلاق مسوقا لبيان تعدد الشرط ، فيحتاج الشرط المتعدد الى العطف بمثل ـ أو ـ أو ما يؤدي مؤداه. ولكن هذا الاطلاق ليس هو الاطلاق المسوق لبيان الشرطية ، بل هو اطلاق آخر.

والنافع في المقام ان يكون الاطلاق المسوق للشرطية يحتاج الى العطف بأو. وقد عرفت ان الاطلاق المسوق للشرطية لا يحتاج الى ذلك لعدم الاختلاف في ذاتها ولذا قال (قدس‌سره) واحتياج ما اذا كان الشرط متعددا الى ذلك انما يكون لبيان التعدد لا لبيان نحو الشرطية ... الى آخر كلامه)).

قوله (قدس‌سره) : فلا محالة يكون في مقام الاهمال ... الخ)) أي انه في الوجوب حيث ان الفرق بينهما في مقام ذات الوجوب فاذا لم يعين الاطلاق احدهما فيلزمه ان يكون المولى في مقام الاجمال او الاهمال بخلاف العلية فانه اذا لم يعين الاطلاق المنحصرة او غير المنحصرة لا يكون المولى في مقام الاجمال او الاهمال.

(٢) هذا هو الايراد الثاني على هذا الاطلاق وحاصله : ما مر من انه ربما يكون الاطلاق مثبتا للعلية المنحصرة فيما اذا قامت قرينة على ان المولى بصدد ذلك ، ولكنه لا يفيد القائل بالمفهوم لانه يدعى ان القضية الشرطية طبيعي الاطلاق فيها يدل على الانحصار فيدل على المفهوم.

وقد عرفت انه ليس من طبيعي الكلام المسوق للعلية ان يكون له اطلاق بلحاظ انحصارها ، وكون الشرطية ربما يكون لها اطلاق يستلزم المفهوم لا ينفع القائل بالمفهوم الذي مدعاه ان كل قضية شرطية لها مفهوم.

٣٠٩

أحدها : ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط ، إنما هو تعليق الحكم به ، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن كونه شرطا ، فإن قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يمنع من قبول الشاهد الواحد ، حتى ينضم إليه شاهد آخر ، فانضمام الثاني إلى الاول شرط في القبول ، ثم علمنا أن ضم امرأتين إلى الشاهد الاول شرط في القبول ، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا ، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى ، مثل الحرارة ، فإن انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة ، لاحتمال قيام النار مقامها ، والامثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا (٢).

______________________________________________________

(١) قد عرفت مما مر ان الصحيح في انكار المفهوم هو عدم دلالة القضية الشرطية عليه ، وان ما ذكروه مستندا للدلالة على المفهوم لم تتم دلالته على ذلك. ولكن المنكرين للمفهوم قد استدلوا على عدم الدلالة بوجوه لا تخلو عن المناقشة.

(٢) وحاصل هذا الوجه المنسوب الى علم الهدى (قدس‌سره) هو : ان الشرط للحكم انما هو لان للشرط دخل في تحقق الحكم ، فمرجع الحكم المعلق على الشرط هو انه لتحقق هذا الشرط أثر في تحقق الحكم لئلا يكون جزافا. ولا يقتضى هذا المقدار سوى الثبوت عند الثبوت أي ثبوت الحكم عند ثبوت الشرط ، واما انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط فلا يقتضيه ما دل على ان للشرط دخالة في تحقق الحكم ، لأنه من الواضح أنه لا يمتنع عقلا ولا شرعا ان يكون لغير هذا الشرط نيابة عن هذا الشرط ، بمعنى ان يكون المؤثر في تحقق الحكم احد أمور ، اما شرعا فان القضية الدالة على اشتراط انضمام رجل ثان في مقام الشهادة الى الرجل الشاهد الأول قد دلت على ان انضمام الرجل الثاني قد اشترط في تمامية تأثير قبول الشهادة فهو شرط قد علق عليه الحكم وهو ثبوت المشهود به ، فثبوت المشهود به معلق على ثبوت الشرط ، وهو انضمام الرجل الثاني الى الرجل الأول ، وقد علمنا أيضا انه يخلف انضمام الرجل

٣١٠

والجواب : أنه (قدس‌سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في مقام الثبوت وفي الواقع ، فهو مما لا يكاد ينكر ، ضرورة أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الاثبات ، ودلالة القضية الشرطية عليه ، وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه ، فمجرد الاحتمال لا يضره ، ما لم يكن راجحا أو مساويا ، وليس فيما أفاده ما يثبت ذلك أصلا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

الثاني انضمام امرأتين الى الرجل الأول. وقد علمنا أيضا انه يخلفه انضمام اليمين من المدعي الى الشاهد الواحد فعند الشرع لا مانع من ان يكون احد أشياء شرطا في تأثير الحكم وثبوته.

وأما عقلا فلأنه لا يمتنع في المقتضى ان يكون للشيء الواحد مقتضيات عديدة مؤثرة ، فان الحرارة التي تحصل بتأثير الشمس تحصل أيضا بتأثير النار ، فالحرارة لا بد من ثبوتها عند ثبوت الشمس ولكن لا يلزم من انتفاء الشمس انتفاؤها ، فانها يمكن ان تثبت بواسطة النار. فما علق عليه الحكم سواء كان شرطا للعلة أو مقتضيا فيها لا يمتنع ان يكون احد أمور ينوب بعضها عن بعض. وقد اشار الى ذلك شرعا بقوله : ((فاستشهدوا الى آخر الجملة)).

واشار الى ذلك عقلا بقوله : ((مثل الشمس ... الى آخر الجملة)). وقد جرى في لسان السيد (قدس‌سره) التعبير بالشرط سواء عما هو شرط واقعا بحسب الاصطلاح او مقتضيا بحسبه.

ولا يخفى ان الظاهر من كلام السيد ان البرهان على كون الشرطية مفادها الثبوت عند الثبوت دون الانتفاء عند الانتفاء هو عدم الامتناع شرعا وعقلا.

(١) لما كان ظاهر استدلال السيد ما ذكرنا اورد عليه المصنف بما حاصله : ان مراد السيد بعدم الامتناع اثبات امكان ان يكون للشيء الواحد شروط متعددة أو علل متعددة بحسب الواقع ، فهذا خارج عن دعوى القائل بالمفهوم. فانه من الواضح انه

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

كما يمكن ان يكون للشيء شروط متعددة او علل متعددة كذلك يمكن ان لا يكون له الا شرط واحد او علة واحدة والشرطية بحسب دلالتها اللفظية تدل على ان علة الحكم او شرطه هو امر واحد لا غير يثبت الحكم بثبوته وينتفي بانتفائه ، فالقائل بالمفهوم يدعى ان ما هو واقع في لسان دلالة الدليل هو العلة المنحصرة الذي لازمها ثبوت المفهوم ففي مرحلة الاثبات والدلالة المستفاد منها هو العلة المنحصرة ولا يضر مدعى هذه الدعوى انه في مرحلة الثبوت يمكن ان يكون للشيء علل متعددة بعد ان كانت مرحلة الاثبات متكفلة للدلالة على العلية المنحصرة والى هذا اشار بقوله : ((ان كان بصدد إبداء ... الى آخر الجملة)) وان كان مراد السيد بقوله لا يمتنع انه يريد ابداء صرف احتمال ان تكون القضية الشرطية في مقام الدلالة يمكن ولا يمتنع ان يكون دلالة على مجرد الثبوت عند الثبوت دون الانتفاء عند الانتفاء ، فهذا ايضا لا يضر مدعى المفهوم ، فانه يدعي دلالة القضية الشرطية بالفعل بحسب الوضع مثلا على الانتفاء عند الانتفاء ، ولا يضر القائل بذلك ان يقال له انه يمكن ان تدل القضية الشرطية على مجرد الثبوت عند الثبوت مجازا ، والذي ينفع في قبال دعوى المفهوم ان يقال ان احتمال دلالة القضية الشرطية على مجرد الثبوت عند الثبوت مجازا راجح او مساو للحقيقة او يقال له انها لم توضع الا لمجرد الثبوت عند الثبوت ، ودلالتها على كل من العلة المنحصرة او غير المنحصرة يحتاج الى قرينة خاصة ، فاحتمال العلية المنحصرة والعلية غير المنحصرة على حد سواء.

وكلام السيد لا يدل على شيء من ذلك فان تعبيره بأنه لا يمتنع لا يدل إلّا على ان الثبوت عند الثبوت يحتمل ان يكون مدلولا للقضية الشرطية واحتمال دلالتها لا يكون معارضا لمن يدعي كون الوضع او الانصراف او الاطلاق قد صير القضية الشرطية دالة بالفعل على الانتفاء عند الانتفاء.

ومن الواضح انه لا ينافي ما ادعاه من الدلالة بالفعل على العلة المنحصرة لو تجردت عن القرينة على خلافها انها مع القرينة تكون مستعملة في غير العلة المنحصرة

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

او انه مع القرينة لا يتم انصرافها او اطلاقها على خصوص العلة المنحصرة التي لو لا قيام القرينة الخاصة على خلافها لكانت القضية دالة عليه بالفعل.

والحاصل : ان قول السيد لا يمتنع هو عدم المحذور في تعدد الشرط لا في مرحلة الثبوت ولا في مرحلة الاثبات والدلالة وهذا المقدار لا يضر مدعي الدلالة على المفهوم لانه يدعي انه في مرحلة الدلالة والاثبات القضية الشرطية تدل على الانحصار وعدم التعدد ، فكون الشرط في مرحلة الثبوت يمكن ان يتعدد وفي مرحلة الاثبات والدلالة يمكن ايضا ان يتعدد لا ينافي دعوى ان الدلالة الفعلية للقضية الشرطية هي التعدد لإمكان ان التعدد في مرحلة الدلالة لقيام قرينة على التعدد ، ولكن القضية لو تجردت عن القرينة لكانت دالة على الانحصار وعدم التعدد ، وانما يضر مدعي المفهوم هو إنكار دلالة القضية الشرطية بالفعل على الانحصار وعدم التعدد ، وهذا لا يظهر من كلام السيد لوضوح ان قوله لا يمتنع لا ظهور له في كون دلالة القضية بالفعل هو صرف الثبوت عند الثبوت من دون دلالة لها على الانحصار وعدم التعدد الذي يستلزم الانتفاء عند الانتفاء.

والحاصل : انه على السيد ان يقول ان احتمال التعدد وعدم التعدد بالنسبة الى دلالة الشرطية على حد سواء ولم يظهر ذلك من عبارة السيد. والى هذا اشار بقوله : ((فمجرد الاحتمال ...)) أي فمجرد احتمال الوقوع من دون دعوى كون هذا الاحتمال بالفعل في عرض احتمال العلة المنحصرة ، ففي مرحلة الوقوع الاحتمالان متعارضان ، اما اذا كان صرف احتمال وقوع ذلك ((فلا يضره)) أي فلا يضر القائل بالمفهوم ما لم يكن ذلك الاحتمال ((بحسب القواعد اللفظية)) احتمالا راجحا او مساويا لاحتمال المفهوم ((وليس فيما افاده ما يثبت ذلك)) لما عرفت من ان تعبير السيد بعدم الامتناع لا يدل على شيء من ذلك.

٣١٣

ثانيها : إنه لو دل لكان بإحدى الدلالات ، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة (١) ، وقد أجيب عنه بمنع بطلان التالي ، وأن الالتزام ثابت ، وقد

______________________________________________________

(١) هذا هو الدليل الثاني من الذي استدل به على عدم المفهوم ، وانه لا دلالة للقضية الشرطية على الانتفاء عند الانتفاء ، وانه لمجرد الثبوت عند الثبوت.

وحاصله : ان الدلالة اللفظية تنحصر في المطابقة والتضمن والالتزام. فدعوى دلالة القضية الشرطية على المفهوم لا تخلو عن هذه الثلاث.

ومن الواضح ان المفهوم ليس مدلولا مطابقيا ولا تضمنيا فانه حيث لا يعقل ان يكون المفهوم كل مدلول القضية الشرطية فلا يعقل دعوى الدلالة المطابقية ، واما التضمنية فلوضوح ان المفهوم ليس جزءا من مدلول القضية الشرطية كما قيل ذلك في لفظ الشمس في دلالتها على الضوء تضمنا لانها تدل على الجرم وعلى الضوء فالضوء جزء من مدلول لفظ الشمس ولذلك لم يدع احد دلالة القضية الشرطية على المفهوم بالمطابقة او بالتضمن ولوضوح ان المفهوم لا يعقل ان يكون مدلولا عليه بالمطابقة او بالتضمن وإلّا لكان المفهوم منطوقا فان الدلالة المطابقية والتضمنية من المنطوق لا من المفهوم.

واما دعوى الدلالة التزاما فلا بد وان يكون لدلالة القضية الشرطية على الانحصار المستلزم ذلك للانتفاء عند الانتفاء ولا تدل القضية الشرطية على الانحصار التزاما فاذا انتفت الدلالات الثلاث فلا وجه لدعوى دلالة القضية اللفظية على المفهوم ، وترتيب هذا الاستدلال انه لو دلت القضية على المفهوم لكانت بإحدى الدلالات الثلاث لانحصار الدلالة فيها ، فهذه الملازمة بين المقدم والتالي واضحة ، اذ بعد انحصار الدلالة فهنا تتحقق الملازمة في هذه القضية وهو التلازم بين دلالة القضية على المفهوم وبين انه لا بد وان يكون ذلك باحدى الدلالات الثلاث ، ولكن دعوى دلالة القضية على المفهوم بإحدى الدلالات الثلاث واضحة البطلان لما عرفت من عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام ومن الواضح انه

٣١٤

عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه ، فلا تغفل (١).

______________________________________________________

لا ملازمة بين صدق القضية الشرطية وكذب طرفيها او احد اطرافها ، والى ما ذكرنا من ترتيب الاستدلال في هذا الوجه اشار بقوله : ((انه لو دل لكان باحدى الدلالات ...)) والملازمة واضحة الصحة بحسب الفرض ((وهي كبطلان التالي ظاهره)) فان التالي وهي دعوى دلالة القضية باحدى الدلالات الثلاث ظاهرة البطلان لعدم الدلالة لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما.

(١) وحاصله : ان مدعى دلالة القضية الشرطية على المفهوم يقول بدلالتها عليه التزاما لدلالة القضية عنده على الخصوصية المستلزمة له وهي العلية المنحصرة التي لازمها الانتفاء عند الانتفاء فالتالي وهو دلالة القضية الشرطية باحدى الدلالات الثلاث على المفهوم ليس بباطل لانها تدل بالدلالة الالتزامية على الانحصار المستلزم للمفهوم. والى هذا اشار بقوله : ((وقد اجيب عنه بمنع بطلان التالي)) فان دلالة القضية الشرطية التزاما على الخصوصية ثابتة ، فدعوى بطلان التالي ممنوعة.

قوله (قدس‌سره) : ((وقد عرفت ...)) يشير المصنف الى ان الاستدلال بهذا النحو والجواب عنه كلاهما غير خاليين عن المناقشة ، فان صرف دعوى عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم باحدى الدلالات الثلاث دعوى من غير بينة ، كما ان الجواب وهو ان دعوى دلالتها على المفهوم بالالتزام أيضا دعوى من دون بينة.

والحاصل : ان الاستدلال لمنع دلالة القضية الشرطية على المفهوم بمحض دعوى انها لا دلالة لها لا بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام غير صحيح ، بل لا بد في مقام الاستدلال بعد صحة التسالم على عدم الدلالة المطابقية والتضمنية بمنع الدلالة الالتزامية بعدم دلالة القضية التزاما على المفهوم لا وضعا ولا انصرافا ولا اطلاقا كما مر منا مفصلا ، كما ان الجواب عن هذا الاستدلال بمحض دعوى دلالة القضية

٣١٥

ثالثها : قوله تبارك وتعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.)

وفيه ما لا يخفى ، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له أحيانا وبالقرينة ، لا يكاد ينكر ، كما في الآية وغيرها ، وإنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة ، كما عرفت (١).

______________________________________________________

الشرطية التزاما على الانحصار غير صحيح ، بل لا بد في مقام الجواب انه تثبت دلالة القضية الشرطية التزاما على المفهوم اما بالوضع او بالانصراف او بالاطلاق.

فتبين مما ذكرنا : ان الاستدلال على عدم المفهوم بمحض عدم الدلالة ، والجواب عنه بمحض انها لها دلالة كلاهما غير خاليين عن المناقشة.

(١) هذا ثالث الوجوه التي استدل بها على عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم وهو قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ومعنى الآية ـ والله العالم ـ هو حرمة اكراه الفتيات على البغاء إن اردن التحصن ، فلو كانت القضية الشرطية دالة على المفهوم لكان مفهوم هذه القضية الشرطية هو عدم حرمة اكراه الفتيات على البغاء حيث لم يردن التحصن ومن الواضح ان الاكراه على البغاء محرم في جميع الاحوال سواء اردن الفتيات التحصن او لم يردنه ، اما اذا كانت الشرطية لا دلالة لها على المفهوم وانما هي لمحض الثبوت عند الثبوت فلا يكون للآية دلالة على ما يخالف ما هو معلوم ضرورة.

والجواب عنه : ان مدعي المفهوم في القضية انما يدعي دلالة القضية عليه حيث لا تقوم قرينة على عدم ارادة المفهوم فانه لا يدعي عدم امكان استعمال الشرطية فيما لا مفهوم له حتى يكون السلب الجزئي منافيا لدعوى الموجبة الكلية ، وفي المقام قد قامت القرينة في ان هذه الشرطية وامثالها تستعمل فيما لا مفهوم له ، وحاصل القرينة في المقام هو ان ارادة المفهوم من هذه القضية وما يجري مجراها غير معقول لوضوح

٣١٦

بقى هاهنا أمور : الاول : إن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه ، لا انتفاء شخصه ، ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده (١) ، فلا يتمشى الكلام ـ في أن للقضية

______________________________________________________

ان الاكراه انما يكون له موضوع في الشيء المبغوض للشخص ، اما الشيء غير المبغوض له المحبوب اليه فلا يعقل ان يتحقق فيه الاكراه ، والفتيات يعقل اكراههن حيث يردن التحصن والعفاف ، اما اذا لم يردن العفاف والتحصن فانهن لا بد وان لا يكون البغاء مبغوضا لهن ، ويكون امرا محبوبا لهن ، ومع كونه محبوبا وغير مبغوض لا يعقل ان يتحقق الاكراه فيه ، فعدم الاكراه بعدم الموضوع له ، والقضية الشرطية المستعملة فيما كان انتفاء الموضوع في طرف السلب من السالبة بانتفاء الموضوع لا يكون لها مفهوم ، لان بيان ما هو منتف بانتفاء موضوعه لغو ، ولا يحتاج إلى بيان ، وامثال هذه القضية الشرطية تسمى بالقضية المسوقة لتحقق الموضوع وهي لا مفهوم لها كقول القائل ان رزقت ولدا فاختنه ، فان عدم الختان عند عدم الولد مما لا يحتاج الى بيان ، لانتفاء الموضوع الذي له الختان ، ومثل قول القائل ان ركب الامير فخذ ركابه ، فان عدم اخذ الركاب حيث لا يركب الامير منتف بانتفاء موضوعه لغو بيان. والى هذا اشار بقوله : ((وفيه ما لا يخفى ضرورة ان استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له احيانا وبالقرينة لا يكاد ينكر ، كما في الآية وغيرها)) من امثالها من القضايا التي تساق لتحقق الموضوع ((وانما القائل به)) أي بالمفهوم ((يدعي ظهورها)) أي القضية الشرطية فيما له مفهوم اما لدعوى دلالة القضية عليه مع عدم القرينة الخاصة وضعا او بقرينة عامة وهي الانصراف او الاطلاق.

(١) يشتمل هذا الأمر الأول على امور :

احدها : ان المفهوم الذي وقع النزاع في دلالة القضية الشرطية وعدم دلالتها عليه هو انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء ما علق عليه دون شخص ، الحكم فلا بد من توضيح المراد من سنخ الحكم ومن شخص الحكم.

٣١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وتمهيدا لذلك نقول : انه لا ريب ان الحكم المنشأ في القضية الشرطية كقولنا ان جاءك زيد فاكرمه ، هو طبيعي الوجوب المتعلق بطبيعي الاكرام ، وحيث انه قد علق على المجيء فقد تشخص هذا الوجوب به وصار كقيد له.

ومن البين : ان الطبيعي اذا تخصص بشيء فقد تخصص وصار حصة وقد تشخص بسبب الخصوصية التي تخصص بها.

ومما ذكرنا يظهر : ان انتفاء وجوب الاكرام المعلق على المجيء لا شبهة في انتفائه بانتفاء المجيء ، ولكنه ليس هو المفهوم المتنازع في ثبوته وعدمه ، وانما هو انه بعد تشخص هذا الوجوب بهذا التعليق يكون للوجوب فرد آخر وهو الاكرام في حال عدم المجيء فانه فرد من الوجوب آخر غير الفرد الذي تشخص بتعليقه على المجيء ، والكلام في المفهوم هو انه هل تدل القضية الشرطية على ان المجيء هو العلة المنحصرة لطبيعي الوجوب المتعلق بالاكرام من دون لحاظ تشخصه بالمجيء أم لا تدل على ذلك؟ فان دلت فلازمها ان ينتفي الوجوب من رأس حتى في حال عدم المجيء ، وان لم تدل فلا ينتفي الا الوجوب المعلق على المجيء دون الوجوب في حال عدم المجيء ، فلا دلالة للقضية الشرطية على انتفائه.

فاتضح مما ذكرنا : ان الوجوب المعلق على المجيء بما هو معلق عليه هو شخص الحكم ، والوجوب المطلق الذي يمكن ان يثبت حتى في حال عدم المجيء هو سنخ الحكم ، والنزاع في المفهوم هو في دلالة القضية على انتفاء الوجوب مطلقا وعدم دلالتها على ذلك لا في انتفاء الوجوب المعلق على المجيء بما هو معلق على المجيء فانه لا بد من انتفائه.

ولا يخفى انه لا خصوصية للقضية الشرطية في انتفاء شخص الحكم بانتفاء المجيء ، بل كل حكم له موضوع لا بد وان ينتفي بانتفاء موضوعه ، لوضوح ثبوت الحكم بثبوت موضوعه وانتفائه بانتفاء موضوعه. والى هذا اشار بقوله : ((ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده)) أي ان انتفاء شخص الحكم امر عقلي

٣١٨

الشرطية مفهوما أو ليس لها مفهوم ـ إلا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء ، وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا ، وإنما وقع النزاع في أن لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، أو لا يكون لها دلالة (١).

______________________________________________________

ضروري عند انتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده ، فان الموضوع مثلا لوجوب الاكرام هو مجيء زيد ، فانتفاء المجيء انتفاء بعض الموضوع.

(١) هذا هو الامر الثاني الذي اشتمل هذا الامر الاول عليه.

وحاصله : هو ان الكلام في المفهوم الذي عرفت انه هو انتفاء سنخ الحكم انما يكون حيث يمكن ان يثبت سنخ في غير مورد القضية الشرطية اما لو كان الحكم المعلق في القضية الشرطية قد انحصر بالموضوع الذي علق عليه ضرورة كانحصار الكلي في فرد فلا مجال لان يكون مثل هذه القضية داخلة في محل النزاع ، لوضوح انه بعد ما عرفت انه هو انتفاء سنخ الحكم الذي لا بد فيه ان يفرض له فرد آخر غير الفرد الذي علق عليه الحكم ، واذا فرض انه لا فرد له غير الفرد المعلق عليه فلا يعقل ان يكون لهذه القضية مفهوما حتى يكون داخلا في محل النزاع مثلا : ان وجوب التطهير من النجس ينحصر عقلا بأن يتلوث شيء بالنجس ، فلا يعقل ان يجب تطهير غير المتلوث ، اذ لا معنى لتطهير الطاهر ، فلو دلت القضية الشرطية على وجوب تطهير الشيء ان تنجس فلا تكون لمثل هذه القضية مفهوم ليدخل في محل النزاع ، لانحصار كلي التطهير بالملوث بالنجس ، وغير الملوث لا يعقل ثبوت وجوب التطهير له ، فليس لهذه القضية غير شخص هذا الحكم وليس لهذا الحكم آخر حتى يكون داخلا في محل الكلام لما عرفت من ان سنخ الحكم انما يكون حيث يعقل ان يكون لطبيعي الحكم فرد غير الفرد المعلق عليه الحكم. والى هذا اشار بقوله : ((لا يتمشى ... الى آخر الجملة)).

وقوله : ((ممكنا)) هو خبر ((كان هناك ثبوت سنخ الحكم)) أي ان الكلام انما يتمشى في مقام كان ثبوت سنخ الحكم وانتفاؤه ممكنا ، اما فيما لا يكون ثبوته ممكنا

٣١٩

ومن هنا انقدح أنه ليس من المفهوم دلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والاوقاف والنذور والايمان ، كما توهم (١) ، بل عن

______________________________________________________

فلا يعقل النزاع في انتفائه وعدم انتفائه لانه يكون من انحصار الكلي في فرده ، لوضوح ان النزاع في مرحلة الاثبات فرع معقولية مرحلة الثبوت ، وقد عرفت ان النزاع في المفهوم انما هو في مرحلة الاثبات ، فلا بد وان يكون مرحلة الثبوت امرا ممكنا ، وفي مقام انحصار الحكم بما علق عليه من ذاته وطبيعته لا من حيث دلالة الشرطية لو فرض دلالتها على الانحصار لا يعقل ان يكون مما يتمشى فيه النزاع المتفرع على الامكان في مرحلة الثبوت. والى هذا اشار بقوله : ((وانما وقع النزاع في ان لها دلالة ... الى آخر الجملة)). فان النزاع في الدلالة هو في مرحلة الاثبات المتفرعة بذاتها عقلا على مرحلة الثبوت.

(١) هذا هو الامر الثالث الذي اشتمل عليه هذا الأمر الأول : وهو ينقدح من الامرين المتقدمين ، ووجه انقداحه منهما : انه بعد ما عرفت ان النزاع في المفهوم انما هو في انتفاء سنخ الحكم وعدمه ، وان انتفاء شخص الحكم عما علق عليه الحكم ليس من المفهوم ، وبعد ما عرفت ان الكلام انما يتمشى في غير ما انحصر كليه في فرده ، يتضح لك ان انتفاء الحكم عن غير الشخص الذي تعلق الحكم به كما في الوصايا والاوقاف والنذور وما يساوقها كالايمان ليس من المفهوم ، بل هو من انتفاء شخص الحكم ، وهو ليس من محل النزاع سواء كان الحكم فيما ذكرنا ثابتا بنحو القضية الشرطية كأن يقول مثلا وقفت على أولادي ان كانوا فقراء ، او بنحو الوصف كأن يقول وقفت على اولادي الفقراء ، او بنحو اللقب كأن يقول وقفت على اولادي ، او يقول مثلا في وصيته بانفاق ثلثه على اولاده ان كانوا فقراء ، او يقول على اولادي الفقراء ، او يقول على اولادي ، فانه من الواضح ان الانفاق على غير اولاده من الناس من انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه وليس من المفهوم الذي هو انتفاء سنخ الحكم ، لانه بعد ما كان موضوع الحكم للانفاق هم اولاده بشرط او بوصف

٣٢٠