بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٤٢

عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان الانصراف انما يعتني به فيما إذا لم تقم قرينة على خلافه ، وقد قامت القرينة هنا على خلافه ، فان عموم الملاك قرينة على دخوله في محل النزاع فلا وجه لعدم شمول لفظ النهي له ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ومعه)) : أي ومع اقتضاء الملاك لدخوله ((لا وجه لتخصيص العنوان)) أي لا وجه لتخصيص النهي بخصوص التحريمي ، بل لا بد من شموله للتنزيهي ايضا.

(١) حاصله : ان هذا الملاك وهو كون الصحة بمعنى موافقة الأمر انما هي الصحة في العبادات ، وأما الصحة في المعاملات فهي بمعنى ترتب الأثر لا بمعنى موافقة الأمر ، ومن ان طلب ترك المعاملة تنزيها لا مضادة له لترتب أثرها عليها فعموم الملاك يقتضي عدم الاعتناء بالانصراف في خصوص العبادات ، وأما مع المعاملات فلا عموم للملاك والغرض من لفظ النهي في العنوان شموله للمعاملات.

والحاصل : ان النهي المذكور في عنوان المسألة يراد منه النهي عن العبادات والمعاملات ، والملاك المذكور يقتضي العموم في خصوص النهي العبادي دون النهي المعاملي ، وحيث كان المراد من النهي ما يشمل العبادي والمعاملي فلا بد وان يكون مرادا بنسق واحد ، ولا يكون مرادا بنسق واحد إلّا ان يكون المراد منه خصوص النهي التحريمي ، وقد أشار الى ما ذكرناه بقوله : ((واختصاص عموم ملاكه بالعبادات)).

قوله (قدس‌سره) : ((لا يوجب التخصيص)) هذا هو الجواب.

وحاصله : ان كون الملاك لا عموم له في المعاملات لا يقتضي ان يكون المراد منه خصوص التحريمي ، لوضوح ان النهي نوعان : نهي متعلق بالعبادة ونهي متعلق بالمعاملة ، وخروج فرد من احد النوعين لا يوجب خروج الفرد الداخل في النوع الآخر ، فعدم دخول النهي التنزيهي في النهي المعاملي لعدم وجود ملاك لدخوله لا يوجب خروج الفرد التنزيهي في النهي العبادي مع وجود ملاك لدخوله.

٢٢١

كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي (١) ، فيعم الغيري إذا كان

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : أنه لا موجب لأن يكون النهي في العنوان بجميع مراتبه ساريا في كلا النوعين ، بل يجوز ان يكون النهي في العنوان غير مقيد بسريانه بجميع مراتبه في كلا النوعين فيشمل كل ما كان له ملاك الدخول في محل النزاع.

(١) قد عرفت ان من جملة انقسامات النهي انقسامه الى النفسي والغيري ، ولا اشكال في شمول لفظ النهي في العنوان للنفسي ، وأما شموله للغيري فربما يشكل دخوله في العنوان بتوهم ان النهي الغيري لا مبغوضية فيه ولا عقاب عليه فلا يكاد يدخل في محل النزاع لعدم منافاته للأمر ، لأن عدم المبغوضية لا تنافي المحبوبية بل المبغوضية تنافي المحبوبية وما لا عقاب عليه لا ينافي الثواب عليه بل المنافي له هو العقاب عليه ، وقد اجاب عنه بجواب وتأييد.

وحاصل الجواب : ان المنافاة إنما هي بين الحرمة والوجوب لوضوح منافاة طلب الترك الفعلي.

وحاصل التأييد : أنه قد جعلت الثمرة للنزاع في ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده هو فساد الضد المهم ، لأن الأمر بالأهم يقتضي الأمر بمقدمته ، ومن مقدمات الأهم عدم المهم فعدم الضد المهم مأمور به ، واذا كان عدم الضد مأمورا به فلا بد وأن يكون نقيضه وهو وجود المهم منهيا عنه ، واذا كان الضد منهيا عنه يكون فاسدا ، لأن النهي عن الشيء يقتضي فساده ، ومن الواضح ان هذا النهي المتعلق بوجود الضد نهي غيري لأنه نقيض للأمر الغيري وهو الأمر بعدم وجود الضد ، فجعله ثمرة يدل على انهم يرون ان الحرمة تقتضي الفساد دون المبغوضية والعقاب : أي ان طلب ترك الشيء ينافي الأمر بالشيء ، واذا كان لا أمر به وهو عبادة فلا بد وأن يكون فاسدا ، فالصلاة في وقت الازالة باطلة لأن عدم الصلاة مأمور به لكونه مقدمة للإزالة والأمر بعدم الصلاة لازمه النهي عن فعل الصلاة ، فالصلاة اذا كانت

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

منهيا عنها لا يعقل ان تكون مأمورا بها ، والصحة في العبادة هي موافقة الأمر ، واذا كان لا أمر بها تكون فاسدة.

ولعل السبب في ذكره تأييدا هو مناقشته في هذه الثمرة إلّا ان المناقشة في الثمرة لا ينافي أنهم يرون ان الملازمة بين الحرمة والفساد لا بين المبغوضية او العقاب والفساد.

ويحتمل ان يكون السبب في كونه تأييدا هو ذهاب بعضهم الى ان الأمر بالشيء عين النهي عن ضده ، وهذا أيضا لا ينافي في كونه دليلا لان جلّ من ذكره ثمرة لا يرى ان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد.

ويحتمل ان يكون السبب في كونه تأييدا هو ان القائل بخروج النهي الغيري عن محل النزاع هو المحقق القمي لأنه يرى ان المبغوضية واستحقاق العقاب هو الملازم للفساد والمحقق القمي ينكر هذه الثمرة ، وهذا ايضا لا ينافي كونه دليلا لان الغرض من كونه دليلا هو انه دليل على كون القوم يرون دخول النهي الغيري في محل النزاع وقد أشار المصنف الى الجواب عن توهم خروج النهي عن محل النزاع بقوله : ((فان دلالته على الفساد على القول به)).

ولا يخفى ان المصنف أقحم بين الجواب المتعلق بالنهي الغيري وتوهم خروجه عن محل النزاع هو تقسيم النهي الغيري الى الأصلي والتبعي ، فان من الواضح ان قوله :

((فان دلالته)) الى آخر كلامه مما يتعلق بالنهي الغيري وتوهم خروجه عن محل النزاع.

وعلى كل فحاصل كلام المصنف : ان دلالة النهي على الفساد بناء على القول بدلالته على ذلك انما هي في الأمر المولوي المسوق بداعي الزجر والردع عن الترك الشامل للنفسي والغيري وهو محل النزاع لا النهي الارشادي الذي هو بداعي الارشاد الى الفساد ، فإنه ليس من المحتمل وقوع النزاع فيه بعد ان كان النهي بداعي الارشاد الى الفساد ، وهو المراد بقوله : ((فيما لم يكن للإرشاد اليه)) أي : الى الفساد لخروجه عن محل النزاع قطعا ، وانما محل النزاع هو الأمر المولوي ، والقول

٢٢٣

أصليا (١) ، وأما إذا كان تبعيا ، فهو وإن كان خارجا عن محل البحث ، لما عرفت أنه في دلالة النهي والتبعي منه من مقولة المعنى ، إلا أنه داخل فيما

______________________________________________________

بالفساد فيه ((إنما يكون لدلالته على الحرمة من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته)) لما عرفت ان المنافاة انما هي بين طلب الترك والصحة التي هي موافقة الأمر في العبادة ، وقد أشار الى التأييد بقوله : ((ويؤيد ذلك الى آخر الجملة)).

بقي الكلام في المطلب الذي أقحمه في المقام وهو الأصلي والتبعي.

(١) قوله (قدس‌سره) : ((اذا كان أصليا)) توضيحه قد مر في مقدمة الواجب عند كلامه (قدس‌سره) في الأصلي والتبعي أنه يحتمل في الأصلي والتبعي احتمالان :

الأول ان يكون المراد من الأصلي ما كان مدلولا عليه بالأصالة ، والتبعي ما كانت الدلالة عليه بالتبعيّة ، وعليه فالدلالة محفوظة في الأصلي والتبعي فلا يكون التبعي من مقولة المعنى.

الثاني ان يكون المراد من الأصلي ما كان مرادا بإرادة تفصيلية ، والتبعي ما كان مرادا بإرادة ارتكازية ، وكلام المصنف مبني على هذا الاحتمال ، فان التبعي الذي هو المراد بارادة ارتكازية غير ملتفت اليها لا بد وان لا يكون له دلالة لفظية فيكون من مقولة المعنى ، بخلاف المراد بارادة تفصيلية فإنه اذا كان مرادا من النهي لا بد وان تكون هناك دلالة لفظية فيدخل في محل النزاع في كون النهي هل يدل على فساده ام لا؟ ولذا قال (قدس‌سره) : ((فيعم الغيري)) أي ان النهي المذكور في العنوان من انه هل يدل على فساد ما تعلق به ام لا يعم النهي الغيري ((اذا كان)) النهي ((أصليا)) لوجود الدلالة اللفظية على القول بدلالة النهي على الفساد ((وأما اذا كان تبعيا فهو وان كان خارجا عن محل البحث لأنه اذا كان ارتكازيا فلا بد وأن لا يكون ملتفتا اليه بالفعل مع عدم الالتفات لا يعقل ان تكون له دلالة لفظية ، ولذا قال : ((لما عرفت انه في دلالة النهي)) هذا تعليل لخروجه عن عنوان البحث.

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصله : ان الكلام في دلالة النهي وما ليس له دلالة لفظية يكون خارجا عن محل البحث في الدلالة اللفظية ولذا قال : ((والتبعي منه من مقولة المعنى)) لعدم تحقق الدلالة اللفظية فيه ((إلّا أنه داخل)) في محل النزاع لدخوله ((فيما هو ملاكه)) لأن الملاك في النزاع هو اقتضاء الحرمة للفساد والنهي التبعي وان لم يكن نهيا لفظيا إلّا انه دال على الحرمة ، فملاك النزاع موجود فيه وان لم يشمله العنوان.

قوله (قدس‌سره) : ((فان دلالته على الفساد الخ)). لا يخفى ان ظاهر السياق بدوا كونه تعليلا لدخول التبعي إلّا ان قوله في طي عبارته ((من غير دخل لاستحقاق العقوبة الى آخر كلامه)) دليل على انه تعليل لعموم العنوان في المسألة للنهي الغيري فهو متعلق بقوله : ((فيعم الغيري)) وان الكلام في التبعي انتهى بقوله فيما هو ملاكه والحاصل : ان النهي داخل في عنوان المسألة لامرين :

الاول : ان الكلام في هذه المسألة هو ان ما يدل على حرمة المنهي عنه هل يدل على فساده وعدم ترتب اثره عليه ام لا والنهي مما لا ريب في دلالته على الحرمة فيكون مشمولا للعنوان ، نعم بناء على ما ظهر من المحقق القمي من ان الكلام في دلالة النهي الذي يترتب عليه العقاب هل يدل على الفساد ام لا لا يكون النهي الغيري خارجا ، إلّا ان هذا التوهم لا وجه لان الملازمة المدعاة انما هي بين الحرمة والفساد لا بين استحقاق العقاب والفساد.

الامر الثاني الذي اشار اليه بقوله : ((ويؤيد)) وحاصله : ان ثمرة النزاع في مسألة ان الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده هي فساد العبادة الذي كان النهي المتعلق بها غيريا وهذا يقتضي شمول العنوان في هذه المسألة للنهي الغيري كما تقدمت الاشارة اليه وينبغي ان لا يخفى هذا كما يدل على دخول النهي في المسألة يدل ايضا على فساد ما توهمه المحقق القمي من ان الكلام فيما يترتب عليه العقاب والفساد لما عرفت في مقدمة الواجب من ان النهي الغيري لا عقاب عليه كما ان الامر الغيري لا ثواب عليه.

٢٢٥

هو ملاكه ، فإن دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للارشاد إليه ، إنما يكون لدلالته على الحرمة ، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك ، كما توهمه القمي (قدس‌سره) ويؤيد ذلك أنه جعل ثمرة النزاع في أن الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، فساده إذا كان عبادة ، فتدبر جيدا.

الرابع : ما يتعلق به النهي ، إما أن يكون عبادة أو غيرها ، والمراد بالعبادة ـ هاهنا ـ ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى ، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لو لا حرمته ، كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه (١) ، أو ما لو تعلق الامر به كان أمره أمرا عباديا ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان متعلق النهي اما ان يكون عبادة أو معاملة ، والمراد من المعاملة هي مقابل العبادة أي ما ليس بعبادة ، ولذا يستغنى بتعريف العبادة عن تعريف المعاملة.

ولا يخفى ان المراد من العبادة التي عرفها المصنف وعرفها القوم هي العبادة التي لو لا تعلق النهي بها لكانت صحيحة ، فيخرج عن موضوع العبادة التي وقعت لها التعاريف مثل السجود للصنم اذ ليس لها لو لا النهي صحة حتى يتوهم دخولها في التعريف.

وعلى كلّ فقد قسم المصنف العبادة الى ذاتية وغير ذاتية ، والعبادة الذاتية هي التي لو لا تعلق النهي بها لكان وقوعها مقربة الى الله لا يحتاج الى قصد الى اتيانها بقصد الأمر ـ مثلا ـ الركوع لله والسجود له وتسبيحه وتهليله وتكبيره وتقديسه لا يحتاج الى قصد الأمر في كونه عبادة لله تعالى ، فان العبادة الذاتية له عزوجل تتوقف على أمرين كلاهما موجودان في قصد تعظيمه وقصد الخضوع له :

الأول : ان يكون العنوان المقصود حسنا وقصد الخضوع لله عدل في العبودية بخلاف مثل قصد الأكل والشرب ، فان قصد عنوان الأكل والشرب ليسا من العناوين التي هي عدل في العبودية.

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر الثاني : ان يكون مربوطا ومنسوبا اليه تعالى فإن إتيان مطلق العناوين الحسنة كعدم ظلم الناس وعدم الاعتداء عليهم من العناوين الحسنة التي بنى العقلاء عليها حفظا للنظام وابقاء للنوع ، إلّا انها اذا اتى بها لا لأن الله امر بها لا تقع عبادة لله وان وقعت حسنة لان عبادة الله هي المنسوبة اليه تعالى ، واذا فرض انه لم يأت بها مرتبطة بالله لا تكون عبادة له والخضوع لله لا اشكال في ارتباطه به.

فالأمران متحققان في الركوع والسجود والتقديس له تعالى لارتباطها به وانطباق عنوان حسن عليها ، ومثل هذه العبادة هي العبادة الذاتية التي يكفي قصد عنوانها في عباديتها من دون قصد اتيانها بعنوان الامتثال للأمر وتوجب بذاتها القرب من ذاته وحضرته.

نعم لو تعلق بها النهي مولويا لا تقع مقربة لأن النهي عنها مولويا لمبغوضيتها يمنع من وقوعها مقربة لان المبغوض لا يقرب لوضوح كون المبغوض له مبعدا عنه فكيف يكون مقربا له ولذا قال (قدس‌سره) : ((والمراد بالعبادة هاهنا)) التي تعلق بها النهي الشاملة للعبادة الذاتية وغير الذاتية ، وأشار أولا الى العبادة الذاتية بقوله : ((ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى موجبا بذاته)) أي نفس قصد العنوان من دون حاجة الى قصد امتثال الأمر ((للتقرب من حضرته لو لا حرمته)) لما عرفت من مانعية الحرمة للتقرب وهي ((كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه)) فان نفس قصد هذه العناوين كافية في وقوع الفعل قربيّا من دون حاجة الى اتيانها بقصد امتثال أمرها.

٢٢٧

لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربى ، كسائر أمثاله ، نحو صوم العيدين والصلاة في أيام العادة (١) ، لا ما أمر به لاجل التعبد به ، ولا ما

______________________________________________________

(١) لما ذكر العبادة الذاتية أشار الى العبادة غير الذاتية ، وقد عرفها بأنها : ((ما لو تعلق الأمر به كان أمره أمرا عباديا)) اي ((لا يكاد يسقط إلّا اذا أتى به بنحو قربى)) لما كان المفروض تعلق النهي بهذه العبادة عرّفها بنحو التعليق.

وحاصله : ان الفعل العبادي الذي ليس من العبادة الذاتية هو الفعل الذي لو فرضنا انه كان متعلقا للأمر لكان أمره ليس أمرا توصليا يسقط باتيان نفس الفعل وان لم يقصد به امتثال الأمر بل كان أمره المتعلق بهذا الفعل لا يسقط إلّا اذا اتى بالفعل بداعي امتثال امره.

وقد مثل له المصنف بصوم يوم العيدين وبالصلاة في أيام العادة أما صوم يوم العيدين فمن الواضح أنه ليس من العبادة الذاتية لأنه ليس كل شيء قصد باتيان كونه لله ومرتبطا به يكون حسنا بالذات فان الصوم ليس إلّا الامساك ، وعدم الأكل والشرب كالأكل والشرب ليس بذاته من العناوين كعنوان تعظيم الله ، وقد عرفت ان العبادة الذاتية تحتاج الى كونه حسنا بالذات وانه مرتبط به تعالى.

واما الصلاة في أيام العادة فقد يقال : إنها عبادة ذاتية لان الصلاة مجموعة أمور كلها عبادة ذاتية لأنها تكبير الله وقراءة ذكره المجيد والركوع والسجود له والتشهد وكل هذه عبادة ذاتيه إلّا انها حيث كان التسليم من اجزاء الصلاة والتسليم ليس من العبادات الذاتية فهي من حيث المجموع ليس عبادة ذاتية وان كان بعض اجزائها أو جلها عبادة ذاتية.

ثم لا يخفى ان تعريف المصنف للعبادة غير الذاتية حيث اشتمل على لفظ عباديّا أورد عليه بعضهم بأنه دوري ولكنه غير وارد عليه :

أولا : لأن المصنف يرى ان تعاريف القوم تعاريف لفظية فكيف بتعريف نفسه.

٢٢٨

يتوقف صحته على النية ، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، كما عرف بكل منها العبادة ، ضرورة أنها بواحد منها ، لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي ، مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا ، أو بغيره ، كما يظهر من مراجعة المطولات ، وإن كان الاشكال بذلك فيها في غير محله ، لاجل كون مثلها من التعريفات ، ليس بحد ولا برسم ، بل من قبيل شرح الاسم كما نبهنا عليه غير مرة ، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والابرام في تعريف العبادة ، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة (١).

______________________________________________________

وثانيا : إنه لم يكتف بذكر لفظ عباديا بل فسره بقوله لا يكاد يسقط الى آخره ، وبعد تفسيره للفظ العبادي لا يكون دورا فان العبادة وان توقفت على لفظ العبادي لاخذه في تعريفها إلّا ان لفظ العبادي غير متوقف على العبادة بعد أن فسره بقوله : لا يكاد.

(١) لما فرغ من تعريف العبادة بقسميها أشار الى تعاريف القوم للعبادة ، والتعاريف التي أشار اليها المصنف ثلاثة :

الأول : ان العبادة ما أمر به لأجل التعبد به ، وحيث أنهم لم يفسروا في التعريف لفظ التعبّد فيرد عليه انه دوري لتوقف معرفة العبادة المعرفة على جميع أجزاء تعريفها ومن جملة أجزائه لفظ التعبد الذي هو نفس العبادة ، فان العبادة مصدر عبد والتعبّد مصدر تعبّد ، ومن الواضح ان مصدر الفعل الزائد على الثلاثي موقوف على معرفة مصدر الثلاثي.

الثاني : ان العبادة ما يتوقف صحته على النية.

ويرد عليه : انه منتقض طردا أي أنه غير مانع لصدقه على التوصلي اذا كان الأمر المتعلق به يتوقف على قصد عنوان له كرأي الشيخ في مقدمة الواجب ، فان أمر المقدمة مع انه توصلي لا يسقط على رأيه من دون قصد عنوان التوصل بالمقدمة.

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الثالث : ان العبادة ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء : أي ان العبادة هي التي لم يعلم المصلحة الداعية الى الأمر بها ، بخلاف غير العبادة فان مصلحة الأمر فيها معلومة ، فان غسل القذر ـ مثلا ـ مصلحته ازالة القذر ، ودفن الميت ـ مثلا ـ مصلحته ستر الميت عما يحدث في بدنه بعد الموت وحفظ الأحياء من ضرر ذلك.

ويرد عليه : أنه غير مانع.

أولا : لأن بعض المعاملات ـ أيضا ـ لا يعلم مصلحتها كاشتراط كون صيغة النكاح أو صيغة البيع ماضوية ، وكاشتراط التنجيز في المعاملة.

وثانيا : انه منقوض عكسا : أي أنه غير جامع لان بعض العبادات المصلحة فيها معلومة كالزكاة ـ مثلا ـ.

وقد أورد المصنف على جميع الثلاثة بايراد يشملها ، وحاصله :

ان ظاهر التعريف الأول وهو ما أمر به لأجل التعبد ان وجود الأمر وتعلقه بها شرط في تحقق عنوان العبادة ، ومفروض محل النزاع ان العبادة التي هذا تفسيرها هي متعلقة للنهي ، ومن الواضح انه لا يعقل ان يتعلق النهي بالشيء بما هو متعلق للأمر بالفعل.

وكذلك التعريف الثاني وهو ما يتوقف صحته على النية فان الظاهر أن العبادة المتعلق بها النهي لها صحة بالفعل تتوقف الصحة فيها على النية ، وفرض كون ان لها صحة بالفعل على النية هو كونها متعلقة للأمر ، وقد عرفت انه لا يعقل ان يتعلق النهي بالمأمور به بما هو مأمور به.

وكذلك أيضا التعريف الثالث وهو ما لا يعلم انحصار مصلحته في شيء فان الظاهر ان متعلق النهي هو الذي له مصلحة بالفعل ولكن لا يعلم ما هي وكونه له مصلحة بالفعل يتوقف على ان لا يتعلق به نهي ، فان تعلق به لا بد وأن يكون لمفسدة غالبة على مصلحته ، والفعل ذو المصلحة المغلوبة كالفعل الذي لا مصلحة فيه.

فاتضح ان الفعل الذي له مصلحة بالفعل لا يتعلق به النهي.

٢٣٠

الخامس : إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد ، بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الاثر ، وأخرى لا كذلك ، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه ، إما ما لا أثر له شرعا ، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه ، كبعض أسباب الضمان ، فلا يدخل في عنوان النزاع لعدم طروء الفساد عليه كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه أو لا ، فالمراد بالشيء في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي تقدم ، والمعاملة بالمعنى الاعم ، مما يتصف بالصحة والفساد ، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما ، فافهم (١).

______________________________________________________

والى هذا الايراد الذي يرد على هذه التعاريف الثلاثة اشار بقوله : ((ضرورة انها بواحد منها لا يكاد يمكن ان يتعلق بها النهي)).

ثم اشار الى ما أورد عليها الانتقاض بالطرد والعكس بقوله : ((مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا)) وقد عرفت انه يرد على الثاني الانتقاض طردا ، وعلى الثالث الانتقاض طردا وعكسا.

ثم قال : ((أو بغيره)) وقد أشار بهذا الى ايراد الدور الذي يرد على التعريف الأول.

قوله (قدس‌سره) : ((وان كان الاشكال الخ)) قد مرّ من المصنف ويأتي انه يرى ان التعاريف المذكورة في كتب القوم تعاريف لفظية ورأيه في التعريف اللفظي لا بد ان لا يكون بالحد ولا بالرسم بل هو لصرف شرح الاسم بوجه ما.

(١) لا يخفى ان عنوان هذه المسألة : هو ان النهي عن الشيء يقتضي فساده ام لا؟ فالمراد من فساده عدم ترتب أثره عليه ، والمراد من عدم فساده وصحته هو ترتب أثره عليه ، فهذا العنوان يحدد الموضوع المتنازع فيه بأنه الذي له أثر شرعي يمكن ان يترتب عليه تارة ويمكن ان لا يترتب عليه اخرى.

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

أما ما ليس له أثر شرعي كالأكل والشرب ـ مثلا ـ فانهما وان كان لها حكم اذ لا تخلو واقعة عن حكم إلّا انه ليس لهما أثر يترتب عليهما تارة ولا يترتب عليهما أخرى فمثل هذا خارج عن موضوع هذه المسألة.

ويخرج عن موضوع هذه المسألة أيضا ما كان له أثر شرعي ولكنه لا يعقل انفكاكه عنه كالإتلاف ـ مثلا ـ فانه موجب لضمان المتلف من دون تقيّده بشيء فسواء كان باختياره أو لا باختياره وسواء كان صغيرا أو كبيرا وسواء كان ملتفتا أو غير ملتفت كالنائم ـ مثلا ـ فانه يوجب الضمان ، فالإتلاف علة تامة لترتب الضمان فليس الاتلاف حينئذ مما يترتب عليه الضمان تارة ولا يترتب عليه اخرى ، وليس له صحة مرة وفساد اخرى حتى يكون داخلا في النزاع في ان النهي عن الشيء هل يقتضي فساده ام لا؟

وقد أشار المصنف الى الأول بقوله : ((اما ما لا أثر له شرعا)).

وأشار الى الثاني بقوله : ((او كان اثره مما لا يكاد ينفك عنه كبعض أسباب الضمان)) الى آخر الجملة.

وقد أشار الى العلة في عدم الدخول بقوله : ((لعدم طروء الفساد عليه)) فان ما لا أثر له شرعا لا يطرأ عليه الفساد لانه من السالبة بانتفاء الموضوع ، وما لا ينفك عنه أثره أيضا لا يطرأ عليه الفساد لعدم امكان تخلف المعلول عن العلة التامة وكانت علته بسيطة كالإتلاف.

ويدخل في موضوع النزاع في هذه المسألة العبادة بقسميها الذاتية وغير الذاتية فانها لها أثر وهو موافقة المأتي به المأمور به تارة وعدم موافقته أخرى ، والمعاملة وقد عرفت ان المراد بالمعاملة هو المقابلة للعبادة فمثل العقود كالنكاح والبيع ومثل الايقاع كالطلاق والفسق وغيرهما كالغسل للتطهير بالفتح لان الغسل بالضم مما يدخل في العبادة ، والى هذا أشار بقوله : ((فالمراد بالشيء في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي

٢٣٢

السادس : إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والانظار ، فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر وفاسدا بحسب آخر.

ومن هنا صح أن يقال : إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف ، بل فيهما بمعنى واحد وهو التمامية ، وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتصف بالتمامية وعدمها ، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة ، إنما يكون لاجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الاثر ، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية ، كما هي معناها لغة وعرفا. فلما كان غرض الفقيه ، هو وجوب القضاء ، أو الاعادة ، أو عدم الوجوب ، فسر صحة العبادة بسقوطهما ، وكان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة ، فسرها بما يوافق الامر تارة ، وبما يوافق الشريعة اخرى (١).

______________________________________________________

تقدم)) أي بقسميها ((والمعاملة بالمعنى الأعم)) وهي المقابلة للعبادة لا خصوص المعاملة بالمعنى الأخص التي لا تشمل مثل الغسل للتطهير.

وعلى كل فالمعاملة بالمعنى الأعم داخلة في النزاع لأنها ((مما يتصف بالصحة والفساد عقدا كان)) كالبيع والنكاح ((أو ايقاعا)) كالطلاق أو العتق ((أو غيرهما)) كالغسل للتطهير.

قوله : ((فافهم)) لعلة اشارة الى انه لا يوجد علة تامة بسيطة لأثر من الآثار الشرعية فان الاتلاف الذي ذكر مثالا لذلك أيضا له شرط وهو كونه بغير اذن المالك أو الولي ، فيكون مما يترتب عليه الضمان مرة وعدم الضمان اخرى.

(١) الفرق بين الوصف الاضافي والتضايف : هو ان المعنى التضايفي أمر واقعي لا يختلف بحسب الانظار وان اختلف بحسب الجهات ، فالفوقيّة والتحتيّة لا تختلف

٢٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والفوق فوق بحسب كل الانظار وكذلك التحت ، وان اختلفت الفوقيّة والتحتيّة بحسب الجهات ، فالفوق يكون فوقا بالنسبة الى ما تحته ويكون تحتا بالنسبة الى ما فوقه ، بخلاف الوصف الإضافي كالصحة والفساد فان الشيء الواحد ربما يكون بحسب نظر صحيحا وبحسب نظر آخر فاسدا.

ثم لا يخفى ـ أيضا ـ ان الغرض من هذا الأمر السادس بيان أمرين :

الأول : ان الصحة والفساد في العبادة والمعاملة ليس الاختلاف فيهما في ناحية المفهوم ، وانما الاختلاف فيهما من ناحية المصداق.

الثاني : ان الاختلاف في تفسير الصحة والفساد بين الفقيه والمتكلم أيضا ليس للاختلاف في مفهوم الصحة والفساد ، وانما الاختلاف بينهما في تفسير الصحة والفساد ، لان الأثر المهم بحسب نظر الفقيه هو غير الأثر المهم بحسب نظر المتكلم.

ولا يخفى ان الصحة هي التامية فهذا الشيء صحيح أي انه تام ، والفساد عدم التامية فالفساد هو غير التام.

وقد عرفت فيما سبق ان من الأشياء ما لا يتصف بصحة ولا فساد كالشيء الذي لا أثر له أو الذي له أثر ولكن لا ينفك عنه.

فيظهر من هذا ان تقابل الصحة والفساد تقابل العدم والملكة حيث ان الصحة هي التماميّة والفساد عدم التماميّة ، وبعض الأشياء لا تتصف بصحة ولا فساد ، فحينئذ لا يتصف بالصحة والفساد الّا ما يمكن ان يكون صحيحا ويمكن ان يكون فاسدا ، فما له هذه الشأنيّة هو الذي يمكن ان يتصف بهما ، فحيث انهما متقابلان بالوجود والعدم وانه يخلو عن الاتصاف بهما بعض الأشياء فلا بد وان يكون تقابلهما تقابل العدم والملكة ، لأن تقابل السلب والإيجاب لا يعقل ان يخلو عن الاتصاف باحدهما شيء من الأشياء ، فان العمى والبصر يخلو عن الاتصاف بهما الجدار مثلا ، والبصر واللابصر لا يخلو عن الاتصاف بهما مثل الجدار فان الجدار وان لم يصدق عليه انه اعمى لكن يصدق عليه انه لا بصر له.

٢٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى أيضا ان بعض الأشياء يمكن ان يكون له آثار تترتب عليها بحسب ما لها من الشروط لتلك الآثار ، فربما يترتب عليه أثر اذا وجد شرط ذلك الأثر ويكون فاقدا له اذا لم ينضم اليه ما هو شرط ذلك الأثر ولكن يترتب عليه أثر آخر لانه واجد لشرطه ، مثلا عقد النكاح يترتب عليه نكاح المتعة اذا ذكر فيه الأجل ولا يترتب عليه نكاح المتعة اذا لم يذكر فيه الأجل وان قصد به نكاح المتعة ولكن يترتب عليه النكاح الدائم فيكون عقد النكاح المقصود به المتعة غير المذكور فيه الأجل فاسدا من ناحية نكاح المتعة وصحيحا من ناحية النكاح الدائم.

فاتضح ان الشيء الواحد ربما يكون صحيحا من ناحية أثر وفاسدا من ناحية أثر آخر.

ولا يخفى أيضا ان الأثر في العبادة هو القضاء والاعادة ، فاذا قيل في العبادة انها صحيحة : أي انها لا توجب القضاء والاعادة ، والعبادة الفاسدة هي التي توجب القضاء او الاعادة ، والأثر في المعاملة هو ترتب المسبب على السبب الذي يتسبب به الى ذلك المسبب ، فعقد البيع ـ مثلا ـ الصحيح هو الذي يترتب عليه الملكية وعقد البيع الفاسد هو الذي لا يترتب عليه الملكية ، فالمراد بالصحة والفساد في المعاملة هو ترتب المسبب على ذلك السبب وعدم ترتبه عليه.

فالصحة والفساد في العبادة والمعاملة بمعنى واحد وهو التمامية وعدم التماميّة ولكن التماميّة في العبادة بانها لا توجب القضاء والاعادة وعدم التمامية فيها بانها توجب القضاء او الاعادة ، والتمامية في المعاملة ترتب مسببها عليها وعدم تماميتها بعدم ترتب مسببها عليها فليس الاختلاف في التعبير عن الصحة او الفساد في العبادة بانها ما لا توجب القضاء او الاعادة وما توجب ذلك والتعبير عن الصحة والفساد في المعاملة كالبيع الصحيح ـ مثلا ـ بان ما تترتب عليه الملكية والفاسد ما لا تترتب عليه الملكية لأجل ان الصحة والفساد في العبادة قد استعملتا في مفهوم غير المفهوم الذي قد استعملت فيه الصحة والفساد في المعاملة ، بل الصحة والفساد في كليهما

٢٣٥

وحيث أن الامر في الشريعة يكون على أقسام : من الواقعي الأولي ، والثانوي ، والظاهري ، والانظار تختلف في أن الاخيرين يفيدان الاجزاء أو لا يفيدان ، كان الاتيان بعبادة موافقة لامر ومخالفة لآخر ، أو مسقطا للقضاء والاعادة بنظر ، وغير مسقط لهما بنظر آخر ، فالعبادة الموافقة

______________________________________________________

مستعملان في التماميّة وعدم التماميّة لكن ما به التماميّة في العبادة غير ما به التماميّة في المعاملة.

فاتضح ان الاختلاف فيهما مصداقي لا مفهومي.

ولا يخفى أيضا ان الصحة والفساد بنظر الفقيه هو ترتب الأثر من عدم القضاء والاعادة وعدمهما ، والملكية وعدم الملكية ، وهذا هو المهم عند الفقيه ، والمهم في نظر المتكلم هو الثواب والعقاب.

فالفقيه يعبر عن الصحة والفساد تارة بما يوجب القضاء او الاعادة ولا يوجبهما واخرى بترتب الملكية وعدم ترتبها ، والمتكلم يعبر عن الصحة والفساد بموافقة الأمر وعدم موافقة الامر ، وهذا الاختلاف في التعبير ليس لأجل ان الصحة والفساد مفهومهما عند الفقيه غير مفهومهما عند المتكلم ، بل هي التمامية وعدم التمامية عندهما ، ولكن حيث كان المهم عند الفقيه غير ما هو المهم عند المتكلم اختلف تعبيرهما عن الصحة والفساد ، لوضوح انه اذا أمكن ان لا يكون اللفظ منقولا عن معناه اللغوي وان يبقى على معناه فلا داعي لتكلف نقله عن معناه اللغوي لأصالة عدم النقل ، ومعنى الصحة والفساد لغة هو التمامية وعدم التمامية ولا موجب لنقله فيما اذا استعمل في لسان الفقهاء في العبادة والمعاملة ولا موجب لنقله أيضا فيما اذا استعمل في لسان المتكلم ، لعدم مانع من بقائه على معناه اللغوي فلا داعي الى النقل ، ولو شك في النقل فأصالة عدم النقل تقضي ببقائه على معناه اللغوي ، وقد أشار المصنف الى جميع ما ذكرناه بقوله : ((ان الصحة والفساد وصفان اضافيان)) الى قوله : ((بما يوافق الامر تارة وبما يوافق الشريعة أخرى)).

٢٣٦

للامر الظاهري ، تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه ، بناء على أن الامر في تفسير الصحة بموافقة الامر أعم من الظاهري ، مع اقتضائه للاجزاء ، وعدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته ، بناء على عدم الاجزاء ، وكونه مراعى بموافقة الامر الواقعي عند المتكلم ، بناء على كون الامر في تفسيرها خصوص الواقعي (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت فيما تقدم ان الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الانظار فربما يكون شيء صحيحا بحسب نظر ولكنه يكون فاسدا بحسب نظر آخر.

وقد أراد المصنف ان يذكر مثالا لذلك ، وحاصله : ان المهم في نظر الفقيه الاجزاء وعدمه فلذلك فسر الصحة بما اسقط القضاء او الاعادة ، والفساد بما يوجب القضاء والاعادة ، والمتكلم مهم نظره الى الثواب والعقاب ولذا فسر الصحة بموافقة الأمر والفساد بعدم موافقة الأمر أو بموافقة الشريعة وعدم موافقتها.

وقد تقدم أيضا في المباحث السابقة ان الأمر ينقسم الى ثلاثة أقسام : واقعي أولي وواقعي ثانوي وظاهري ، وقد أطبق الفقيه والمتكلم على إجزاء المأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي ، وعلى ان الإتيان بالمأمور به الواقعي موافق للأمر والشريعة فلا يختلف الحال بين الفقيه والمتكلم في هذا ، ولذا لم يذكره المصنف كمثال لاختلاف النظرين.

وأما الأمر الواقعي الثانوي والأمر الظاهري فحاصله ان الفقيه والمتكلم اذا قالا باجزاء كل أمر سواء كان ثانويا او ظاهريا عن الأمر الواقعي فلا يكون هنالك اختلاف بينهما ، بل يكون الصحيح بنظر الفقيه هو الصحيح بنظر المتكلم وكذلك الفاسد ، واما اذا قال الفقيه باجزاء كل أمر عن الأمر الواقعي والمتكلم يخص الاجزاء بخصوص إتيان المأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي وأما الواقعي الثانوي والأمر الظاهري فلا يجزيان عن الامر الواقعي ، وحيث ان كلا منهما يقول باجزاء كل مأتي عن أمره فهما يتفقان فيما يتفقان في الصحة والفساد بالنسبة الى إجزاء كل

٢٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مأمور به عن امره ولكنهما يختلفان في الاجزاء عن الامر الواقعي ، فالمأمور به الواقعي الثانوي والظاهري صحيحان مطلقا بحسب نظر الفقيه لانهما مجزيان عن امرهما وعن الامر الواقعي ، وبنظر المتكلم صحيحان بالنسبة الى أمرهما وفاسدان بالنسبة الى الامر الواقعي.

واذا كان الفقيه لا يقول باجزائهما عن الأمر الواقعي والمتكلم يقول باجزائهما عنه فينعكس الحال تماما ويكونان صحيحين بنظر المتكلم مطلقا وبالنسبة الى الفقيه صحتهما تختص بخصوص أمرهما وهما فاسدان بنظره بالنسبة الى الأمر الواقعي ، واذا كان كل من الفقيه لا يقول بالاجزاء فيهما عن الامر الواقعي فانه لا يختلف الحال بينهما ويكون المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي والأمر الظاهري صحيحين بالنسبة الى امرهما وفاسدين بالنسبة الى الأمر الواقعي.

وربما يقال : ان موافقة الامر عند المتكلمين تختص بخصوص اتيان المأمور به الواقعي عن امره والواقعي الثانوي والظاهري عن امرهما لا يكونان موافقين للأمر وان اجزءا عن الامر الواقعي بحسب نظر الفقيه.

وبعبارة اخرى : ان المتكلم حيث كان اجزاء الظاهري والاضطراري عن الواقعي ليس من فنه وان مرجعه الفقيه لذلك كان اجزاؤهما عن الامر الواقعي وعدم اجزائهما عنه ليس من شأنه فلذلك كانت موافقة الامر عن المتكلم مما تختص بخصوص اتيان كل مأمور به عن امره ، والى ما ذكرنا أشار المصنف مجملا بقوله : ((حيث ان الأمر في الشريعة يكون على اقسام : من الواقعي الأولي والثانوي والظاهري والانظار تختلف في ان الأخيرين يفيدان الاجزاء أو لا يفيدان)) واما الأول فحيث ان الانظار لا تختلف في أجزائه فلذا خص الاختلاف بالأخيرين ، لوضوح ان الفقيه والمتكلم يقولان باجزاء المأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي.

وقوله (قدس‌سره) : ((كان الاتيان)) هذه الجملة خبر لقوله : ان الأمر في الشريعة.

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى كل فحيث ان الانظار تختلف في الأخيرين ((كان الاتيان بعبادة موافقة لأمر ومخالفة لآخر)) أي يكون المأمور به الظاهري ـ مثلا ـ من مصاديق موافقة الأمر بناء على ان موافقة الأمر لا تختص بخصوص المأمور به الواقعي الأولي وتعم كل مأمور به عن أمره فيكون موافقا لأمره وغير موافق للأمر الواقعي ، وأما بناء على الاختصاص بإتيان المأمور به الواقعي الأولى عن أمره فلا يكون من موافقة الأمر.

ثم قال : ((او مسقطا للقضاء والاعادة بنظر وغير مسقط لهما بنظر آخر)) فان الفقيه والمتكلم قد يقول أحدهما بالاجزاء عن الامر الواقعي وقد لا يقول بالاجزاء ، فمن قال بالاجزاء كان مسقطا بحسب نظره ومن لا يقول بالاجزاء لا يكون مسقطا بحسب نظره.

ثم قال : ((فالعبادة الموافقة للأمر الظاهري)) هذا تفريع على ما مر.

وحاصله : ان العبادة الموافقة للأمر الظاهري ((تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه بناء على ان الأمر في تفسير الصحة بموافقة الأمر اعم من الظاهري)) ولا يخص بخصوص المأمور به الواقعي عن أمره الواقعي فحينئذ يكون الأمر الظاهري من مصاديق موافقة الأمر لأنه لا يختص بخصوص الواقعي فيكون المأمور به الظاهري مجزيا عن أمره وحيث يقول المتكلم والفقيه باجزائه عن الأمر الواقعي فيكون هذا من موارد عدم الاختلاف بين النظرين ولذا أضاف اليه قوله : ((مع اقتضائه للإجزاء)).

ثم أشار الى مورد الاتفاق بينهما أيضا بقوله : ((عدم اتصافها بها عند الفقيه)) مراده ان العبادة لا تكون متصفة بالصحة عند الفقيه في المأمور به بالأمر الظاهري حيث لا يقول الفقيه باجزاء المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي ، ولذا قال : ((وعدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته)) : أي عدم اتصاف العبادة التي هي المأمور به بالأمر الظاهري بموافقة الأمر ويوصف الصحة ((بناء على عدم الاجزاء وكونه مراعى بموافقة الأمر الواقعي)) بان يكون الاجزاء هو موافقة الأمر الواقعي ، والفقيه وان رأى ان موافقة الأمر تعم الأمر الظاهري وان كل ماتي به يطابق أمره فهو من

٢٣٩

تنبيه : وهو أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم ، وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها (١) ، وأما

______________________________________________________

موافقة الأمر ولكنه حيث لا يقول باجزاء المأمور به الظاهري عن الأمر الواقعي فالمأتي به غير صحيح وموجب للقضاء او الإعادة لبقاء الأمر الواقعي وعدم سقوطه ، هذا عند الفقيه.

وأما ((عند المتكلم)) فلذلك لا يكون المأتي به متصفا بموافقة الأمر ((بناء على كون الأمر في تفسيرها خصوص الواقعي)) أي بناء على ان المراد من الأمر تعتبر موافقته في اتصاف المأتي به بوصف الصحة وهو موافقة المأتي به للأمر الواقعي فان المأمور به بالأمر الظاهري لا يكون موصوفا بالصحة لعدم موافقته للأمر الواقعي.

(١) هذا التنبيه لبيان ان الصحة والفساد هل هما مجعولان تشريعا بالاستقلال أو بالتبع أو أنهما غير مجعولين؟

وتفصيل الحال وتوضيحه يحتاج الى الكلام في مقامين : الأول في العبادة ، والثاني في المعاملة.

والمقام الأول أيضا في موضعين : الأول : في المأمور به بالأمر الواقعي الأولي ، والثاني : في المأمور به الواقعي الثانوي أو الظاهري عن الواقعي الأولي.

والكلام في الموضع الأول : تارة في على رأي المتكلم ، وأخرى على رأي الفقيه.

وقد عرفت ان المتكلم عرف الصحة والفساد بموافقة الأمر ، وقد قال المصنف أنهما على رأي المتكلم وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم المطابقة ، فالصحة تنتزع من المطابقة والفساد من عدم المطابقة.

وتوضيح ذلك : انه ان قلنا ان الاعتباري كل ما ليس له مطابق في الخارج وان كان منشأ انتزاعه موجودا في الخارج فيصح ان يقال ان الموافقة وعدم الموافقة وصفان اعتباريان منتزعان من المأتي به ، لوضوح ان الموافقة من صفات الفعل المأتي به خارجا لأنه هو الموصوف بالصحة والفساد ، وأما المأمور به الذي هو المتعلق للأمر

٢٤٠