بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٤٢

قلت : دلالتهما على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر ، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك ، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما ، فيختلف سعة وضيقا ، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الأفراد ، إلا إذا اريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد ، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه بالخصوص إلا بالاطلاق وقرينة الحكمة ، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد

______________________________________________________

اريد من اللفظ بعض افراد هذه الماهية التي دل على الاستيعاب فيها الاطلاق ومقدمات الحكمة لم يكن استعمال اللفظ الموضوع لهذه الماهية اللابشرط في بعض افرادها مجازا ، فانه اذا اريد من اللفظ الموضوع للماهية لا بشرط بعض مصاديقها لم يكن من استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، كما انه لو اريد من هذا اللفظ الموضوع لهذه الماهية لا بشرط الشمول والاستيعاب بمقدمات الحكمة لم يكن ايضا مجازا ، والحال انه لو اريد من الماهية المتعلق بها النهي كلا تغصب ـ مثلا ـ بعض افراد الغصب كان الاستعمال مجازا ، فلا بد وان يكون الاستيعاب مدلولا للفظ حتى يكون استعماله في غير الاستيعاب استعمالا له في غير ما وضع له.

واما الحل فهو ان اللفظ موضوع للماهية لا بشرط ، فاذا تعلق النهي بهذه الماهية ، فالعقل يدرك بالفعل ان هذه الماهية لا يتحقق انتفاؤها إلّا بانتفاء جميع افرادها ولا يتحقق الانتهاء عنها إلّا بالانتهاء عن جميع افرادها ، وحيث ان هذه الملازمة من اللزوم البين بالمعنى الاخص فيكون اللفظ دالا على هذا المعنى بالالتزام ، وقد اشار إلى النقض بقوله : ((لكان استعمال مثل لا تغصب إلى آخر الجملة)).

واشار الى الحل بقوله : ((فتكون دلالته على العموم ... الى آخر الجملة)).

وقوله (قدس‌سره) : ((يقتضي عقلا سريان الحكم)) ليس مراده ان دلالته عقلية محضة وانها غير مربوطة باللفظ ، بل مراده ان العقل حيث يدرك هذا السريان بنحو الملازمة البينة بالمعنى الاخص فتكون الدلالة لفظية التزامية.

١٨١

يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة. وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق ، إذ الفرض عدم الدلالة على أنه المقيد أو المطلق (١).

______________________________________________________

(١) أي دلالة النهي والنفي على العموم لا تنكر ولكنها لا تنافي الاحتياج الى الاطلاق ومقدمات الحكمة.

وتوضيحه : ان الدال على الاستيعاب : تارة يكون اللفظ الموضوع لان يدل على العموم مثل لفظ كل.

وثانية : يكون الدال على العموم هو العقل كما في النكرة الواقعة في حيز النفي او النهي ، فان العقل يحكم بان انتفاء هذه الطبيعة وان كان اللفظ موضوعا فيها للماهية لا بشرط إلّا ان انتفاءها والانتهاء عنها لا يكون إلّا بالانتهاء عن جميع افراد هذه الطبيعة وان كان اللفظ موضوعا للماهية لا بشرط ، ضرورة انه لا تعدم الطبيعة إلّا بانعدام جميع افرادها.

وثالثة : يكون الدال على العموم هو الاطلاق ومقدمات الحكمة كما في أحل الله البيع واكرم العالم.

فاذا عرفت هذه المقدمة نقول : ان لفظ كل ولفظ النهي والنفي وان دلا على العموم بالمطابقة في كل وبالالتزام في النهي والنفي ، إلّا انهما انما يدلان على صرف العموم والاستيعاب بحسب ما يراد من مدخولهما وهو الماهية لا بشرط ، وحينئذ فلا بد في استفادة ان المراد من هذه الماهية لا بشرط هو جميع افرادها من اعمال الاطلاق ومقدمات الحكمة ، لأن لفظ كل ـ مثلا ـ موضوعة لان تدل على استيعاب جميع افراد مدخولها ، واما ان المراد من مدخولها ما هو وما مقداره فلا تدل عليه ولا يستفاد منها ، فلا بد من ان يستفاد ذلك من إجراء مقدمات الحكمة ، وانه لم يرد من هذه الماهية اللابشرط بعض مصاديقها وإلّا لبينه.

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فاتضح انه لا ينافي ان لفظ كل ولفظ النهي يدلان على العموم والاستيعاب ولكن استيعابهما لجميع افراد هذه الطبيعة يحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة.

وتوضيح الدلالة على ذلك ان نقول ان لفظ كل ـ مثلا ـ يدل على استيعاب جميع ما اريد من لفظ مدخولها ومدخولها موضوع للماهية لا بشرط ، فلو اراد المتكلم من هذا اللفظ الموضوع للماهية لا بشرط بعض مصاديقه لبينه ، وحيث لم يبينه فلا بد وان يكون المراد جميع افراد هذا المدخول للفظ كل.

فاتضح ان استفادة العموم كان بأمرين : لفظ كل الموضوع لاستيعاب ما يراد من المدخول ، وبواسطة الاطلاق وانه لم يرد بعض هذه الطبيعة.

والذي يدلك على ذلك انه لو كان المتكلم ليس في مقام البيان فان لفظ كل وان دل على الاستيعاب لما اريد من المدخول إلّا انه حيث لم يعرف مقدار ما اريد من المدخول لا تتم الدلالة على الاستيعاب والعموم.

وقد اشار الى ما ذكرناه اولا : من ان لفظ كل والنهي يدلان على الاستيعاب ، ولكن لا تتم الدلالة على استيعاب جميع الافراد للطبيعة الا باجراء مقدمات الحكمة ، وان استفادة الشمول والعموم لجميع افراد هذه الطبيعة مستفاد من دلالة اللفظ على الاستيعاب ومن الاطلاق في مقدار ما يراد من الطبيعة التي هي المدخول للفظ كل وللفظ النهي والنفي بقوله : ((دلالتهما على العموم والاستيعاب مما لا ينكر لكنه من الواضح ان العموم المستفاد منهما كذلك انما هو بحسب ما يراد من متعلقهما إلى آخر الجملة)).

وقد اشار الى ما ذكرنا ـ ثانيا ـ من البرهان على الاحتياج إلى الاطلاق واجراء مقدمات الحكمة في المدخول بقوله : ((بحيث لو لم يكن هناك قرينتها)) : أي قرينة مقدمات الحكمة وهو كون المتكلم في مقام البيان فانه لو لم يكن في مقام البيان ((بان يكون الاطلاق في غير مقام البيان لم يكد يستفاد استيعاب افراد الطبيعة)).

١٨٣

اللهم إلا أن يقال : إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق ، كما ربما يدعى ذلك في مثل : ((كل رجل)) ، وإن مثل لفظة ((كل)) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة ، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب وإن كان لا يلزم مجاز أصلا ، لو اريد منه خاص بالقرينة ، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول ، ولا فيه إذا كان بنحو تعدد

______________________________________________________

وقد اشار الى ان دلالتهما على الاستيعاب أي لفظ كل ولفظ النهي لا ينافي الاحتياج إلى اجراء مقدمات الحكمة في المدخول لانهما موضوعان لاستيعاب ما يراد من المدخول ، واما ان المراد من المدخول هل هو المطلق أو المقيد فيحتاج ذلك إلى اعمال مقدمات الحكمة بقوله : ((وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب افراد ما يراد من المتعلق اذ الفرض عدم الدلالة)) من لفظ كل ولفظ النهي ((على انه)) : أي على ان المدخول هل هو ((المقيد أو المطلق)).

وتوضيح ما ذكرنا انه حيث كان الاستيعاب لجميع الافراد في النهي يحتاج الى مقدمات الحكمة كالاجتزاء باي فرد من الافراد في الأمر لا يكون النهي اقوى دلالة من الأمر.

وقد اتضح ايضا الجواب عن النقض ، وان ارادة بعض المصاديق من النهي لا يكون مجازا لان النهي وان دل على الاستيعاب إلّا ان لفظ المدخول موضوع للماهية لا بشرط وارادة بعض المصاديق من الماهية لا بشرط ليس من المجاز.

١٨٤

الدال والمدلول ، لعدم استعماله إلا فيما وضع له ، والخصوصية مستفادة من دال آخر ، فتدبر (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان هذه الدعوى انما هي في لفظ (كل) لا في لفظ النهي ، لأن النهي لم يوضع الا لسلب المدخول ، بخلاف لفظ (كل) فانها موضوعة لاستيعاب افراد المدخول ، فان لفظ (كل) في (كل رجل) يدل بالوضع على جميع افراد الرجل.

وتوضيح هذه الدعوى ان نقول ان لفظ رجل ـ مثلا ـ موضوع للماهية لا بشرط أي الماهية اللامتعينة بتعين اصلا وليس موضوعا للماهية المهملة بقيد الاهمال ، وإلّا لكان استعمالها في الماهية المتعينة من المجاز ، وهو واضح الفساد.

فلفظ (كل) تدل بحسب الوضع على تعين جميع افراد هذه الطبيعة اللامتعينة بحسب الوضع ، ومن الواضح ان اللامتعين يتعين بالمتعين فاذا تعينت هذه الماهية اللابشرط بدلالة كل على تعينها بجميع الافراد فلا حاجة إلى اعمال مقدمات الحكمة لأجل استيعابها لجميع الافراد ، ولا ينافي هذا كون لفظ (كل) موضوعا لاستيعاب جميع افراد ما يراد من المدخول ، فانه بعد بيان ان لفظ المدخول موضوع للماهية اللامتعينة وانه لا بد من ان يتعين بما يستفاد من لفظ (كل) فيكون المراد من المدخول غير المقيد بشيء هو جميع افراد هذا الغير المقيد ، واذا قيد المدخول بشيء دلت لفظ (كل) على جميع افراد هذه الماهية المقيدة ، ولا تكون الدلالة بالقرينة الخاصة على ان المراد من هذه الطبيعة هو المقيد من المجاز ، لما عرفت ارادة المقيد من الماهية اللامتعينة ليس من الاستعمال المجازي ، لأن المجازية اما لكونها مستلزمة لاستعمال لفظ كل في غير ما وضعت له وليس كذلك فان لفظ (كل) قد استعملت في استيعاب جميع افراد مدخولها ، واما من اجل استعمال المدخول في غير ما وضع له وليس كذلك ايضا ، فانه اذا كان التقييد بنحو تعدد الدال والمدلول لا يكون مستلزما للمجازية ، وهذا مراده من قوله : ((وان كان لا يلزم مجاز اصلا لو اريد منه)) : أي من اللفظ الموضوع للماهية اللامتعينة ((خاص بالقرينة لا فيه)) : أي لا في لفظ (كل) ((لدلالته على

١٨٥

ومنها : إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (١).

وقد اورد عليه في القوانين ، بأنه مطلقا ممنوع ، لأن في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين (٢).

______________________________________________________

استيعاب افراد ما يراد من المدخول ولا فيه)) : أي ولا في لفظ المدخول ((اذا كان)) التقييد ((بنحو تعدد الدال والمدلول)) وذلك واضح ((لعدم استعماله)) : أي لعدم استعمال لفظ المدخول فيما اذا كان التقييد بنحو تعدد الدال والمدلول ((الا فيما وضع له والخصوصية مستفادة من دال آخر)).

(١) هذا هو المرجح الثاني الذي ذكروه من المرجحات النوعية لتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب في محل الاجتماع.

وحاصله : ان الحرمة منبعثة عن مفسدة في الفعل ، والوجوب منبعث عن مصلحة في الفعل ، ودفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ، فان المكلف لو فعل وأوجد المورد الذي اجتمع فيه ملاك الوجوب والحرمة فهو وان حصلت المنفعة بالفعل ولكنه قد ابتلي بما في الفعل من المفسدة ، ودفع المفسدة اهم من جلب المنفعة.

(٢) حاصل ما اورد في القوانين على هذا المرجح : انه لا نسلم ان مطلق دفع المفسدة المحرمة اولى من جلب المصلحة الواجبة ، بل هو مسلم في الوجوب التخييري اذا اجتمع مع الحرمة التعيينية.

واما اذا اجتمع الوجوب التعييني مع الحرمة التعيينية فلا يكون ذلك من موارد هذه القاعدة ، لأن في ترك الواجب التعييني ايضا مفسدة ، ولذا انه لا يجوز تركه ولا يكون الترك لهذا الواجب منهيا عنه الا لمفسدة في هذا الترك ، فيكون من موارد دفع المفسدة بالمفسدة لا من موارد دفع المفسدة بترك المصلحة حتى تأتي هذه القاعدة ، وهي دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة.

اما في الواجب التخييري فحيث انه ذو بدل أو أبدال فلا تكون مفسدته إلّا بترك جميع ابداله ، وترك هذا البدل وحده المجتمع مع الحرمة التعيينية لا يكون منهيا عنه

١٨٦

ولا يخفى ما فيه ، فإن الواجب ولو كان معينا ، ليس إلا لأجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة ، كما أن الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه (١).

______________________________________________________

فلا يكون ذا مفسدة فيكون من موارد هذه القاعدة فان في الفعل مصلحة ، ومنفعة الواجب التخييري المبتلاة بالمفسدة في الحرمة التعيينية وليس في ترك هذا الفرد من الواجب التخييري مفسدة حتى يكون من دفع المفسدة بالمفسدة.

وبعبارة اخرى : ان قولهم ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ليس على اطلاقه ، بل انما هو فيما اذا دار الأمر بين مفسدة ومنفعة لا بين مفسدة في الفعل ومصلحة في الفعل ومفسدة في الترك ، كما في الواجب التعييني فان في الفعل مصلحة الوجوب ومفسدة الحرمة وفي الترك مفسدة ايضا ، لأن ترك الواجب ايضا ذو مفسدة كمفسدة الحرمة التعيينية التي في الفعل.

فهذه القاعدة مختصة بدوران الأمر بين المصلحة في الفعل الذي ليس في تركه مفسدة وبين المفسدة في الفعل ، ومصداقها الوجوب التعييني والحرمة التعيينية ، ولذلك قال : ((بانه مطلقا ممنوع)) : أي ان اطلاقه ممنوع لانه في ترك الواجب التعييني ـ ايضا ـ مفسدة ولهذا عقبه بقوله : ((لأن في ترك الواجب ايضا مفسدة اذا تعين)) : أي اذا كان الوجوب تعيينيا فانه في تركه تكون ايضا مفسدة ، فيكون من دوران الأمر بين مفسدة ومصلحة ومفسدة.

(١) لا يخفى ان المصنف لم يرتض جواب القوانين عن هذا المرجح ، وسيأتي بيان اجوبة المصنف عن هذا المرجح ، فلذلك اورد على جواب القوانين بقوله : ((فان الواجب ولو كان معينا ... الى آخر كلامه)).

وتوضيح المطلب : ان المراد من المفسدة والمنفعة في هذه القاعدة ليس العقاب والثواب الأخرويين التابعين للاطاعة والعصيان ، لان الثواب والعقاب انما يكونان للحكم الثابت بعد ثبوته وغلبته على ما يزاحمه ، وهذا المرجح لبيان ما يدل على

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

غلبة الحكم ، وانما مرادهم من المفسدة والمنفعة هي المصالح والمفاسد التي تكون في الافعال التي هي الداعية للحكم التحريمي والحكم الوجوبي.

فاذا عرفت هذا نقول : ان الوجوب انما يكون تابعا للمصلحة في الفعل والحرمة انما تكون تابعة للمفسدة في الفعل ايضا ، وليس في الواجب الا تلك المصلحة التي دعت الى وجوبه وتركه ليس إلّا ترك تلك المصلحة ، كما انه ليس في المحرم الا تلك المفسدة التي دعت الى تحريمه وليس في تركه الا ترك تلك المفسدة ، وليس في ترك الواجب مفسدة اخرى ولا في ترك المحرم مصلحة اخرى ، وإلّا لكان كل حكم وجوبي وتحريمي منحلا الى حكمين ، فالواجب وان كان وجوبه تعيينيا لا تخييريا إلّا انه ليس في تركه مفسدة آخرى غير ترك تلك المصلحة اللازمة في فعله ، كما ان المحرم ايضا كذلك فانه ليس في تركه مصلحة اخرى غير ترك تلك المفسدة في فعله التي دعت الى تحريمه.

ولعل الوجه في عدم انحلال الحكم الى حكمين هو ان المفروض ان الوجوب ملاكه المصلحة الملزمة والحرمة ملاكها المفسدة الملزمة ، فلو انحل الوجوب الى حكمين وجوب الفعل وحرمة الترك للزم كون الحكم التحريمي في حرمة ترك الواجب حكما من غير ملاك ، اذ المفروض انه ليس هناك غير المصلحة الملزمة ، ومثله الكلام في عدم انحلال الحكم التحريمي الى حرمة الفعل ووجوب الترك.

ولا يخفى انه لو قيل بانحلال الحكم الوجوبي والتحريمي الى حكمين للزم ذلك في الحكم الاستحبابي والحكم الكراهتي ، فينحل الحكم الاستحبابي الى استحباب الفعل وكراهة الترك والحكم الكراهتي الى كراهة الفعل واستحباب الترك.

نعم لا يلزم ذلك في الحكم الترخيصي لان متعلقه الفعل والترك معا ، لان معنى الاباحة هي الترخيص في الفعل والترك. وعبارة المتن واضحة لا تحتاج الى بيان.

هذا ، مضافا الى ان اجتماع الحرمة والوجوب التي هي غالب موارد مسألة الاجتماع المبحوث عنها هو اجتماع الحرمة التعيينية مع الوجوب الموقت التعييني غير

١٨٨

ولكن يرد عليه : أن الأولوية مطلقا ممنوعة ، بل ربما يكون العكس أولى ، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات ، خصوصا مثل الصلاة وما يتلو تلوها (١) ، ولو سلم فهو أجنبي

______________________________________________________

المضيق الذي يكون له فرد آخر في غير الدار المغصوبة ، فيكون حكم هذا الواجب حكم الواجب التخييري لانه في ترك جميع افراد الموقت تكون المفسدة لا في ترك هذا الفرد من الصلاة المجتمعة مع الغصب.

إلّا ان هذا الايراد انما يرد على القوانين حيث لا يكون مراده من الواجب التخييري ما يعم ذلك فلا تغفل.

ولعله لهذا لم يورد عليه المصنف بهذا الايراد.

(١) بعد ان ظهر فساد ما اورد في القوانين على هذه القاعدة ، اخذ المصنف في ذكر وجوه من الايرادات ترد على هذه القاعدة :

الاول ما اشار اليه ((ولكن يرد عليه ان الاولوية مطلقا ممنوعة)).

وحاصله : بعد ان عرفت ان الحرمة تابعة للمفسدة والوجوب تابع للمصلحة نمنع ان كل مفسدة هي أهم من كل مصلحة ، فيكون دفع المفسدة مطلقا أي مفسدة كانت هي اولى من جلب المنفعة أي مصلحة كانت ، بل لا بد من لحاظ ما هو الاهم منهما ، فانه من المشاهد وجدانا انه ليس كل مفسدة هي اهم واولى من أي مصلحة ، بل كثيرا ما تكون بعض المصالح اهم من بعض المفاسد ، ولذا نرى العقلاء كثيرا ما يتحملون جملة من المفاسد ازاء الوصول الى مصلحة واحدة لانها اهم من المفاسد التي يتحملونها.

ونرى الأمر عند الشارع كذلك ، فان الصلاة والحج ـ مثلا ـ في نظر الشارع اهم من بعض المحرمات ، فانه من الواضح انه لو توقف ترك الصلاة من رأس عند عامة المسلمين ، أو ترك الحج كذلك عند الأمة الاسلامية على ارتكاب بعض المحرمات كتصرف غصبي من قبيل دخول دار الغير واجتيازها من دون رضاه أو اخذ تصوير

١٨٩

عن المقام ، فإنه فيما إذا دار بين الواجب والحرام (١).

______________________________________________________

عند من يرى حرمة اخذ التصوير ، فانه لا يمكن ان يلتزم فقيه ممن يرى الامتناع جواز ترك الصلاة من رأس اذا توقفت على الغصب المذكور ، ولذلك افتى بعض المحققين من علماء العصر (قدس‌سره) ممن يرى حرمة اخذ التصوير بجواز اخذ التصوير لمن يريد الحج ، لانه يتوقف المسير الى الحج على اخذ التصوير ، وهذا واضح لكل من يرى ما للصلاة والحج من الاهمية في لسان الشارع بان تاركهما كافر ، ولم يرد في لسان الشارع ان من غصب أو اخذ صورة فهو كافر.

ولا اظن انه يستطيع احد من الفقهاء ان يفتي بجواز ترك الحج من رأس اذا علم الذاهب الى الحج انه لا بد له في احد المواني أو المطارات او المنازل من ان يجتاز على ارض مغصوبة بمقدار متر أو أمتار قليلة.

وعلى كل فانه من الجلي ان بعض الواجبات عند الشارع اهم من بعض المحرمات فهذه القاعدة باطلاقها ممنوعة وانه كل مفسدة هي أهم من كل مصلحة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((بل ربما يكون العكس)) : أي يكون بعض المصالح جلبها اهم من ارتكاب بعض المفاسد.

(١) هذا الايراد الثاني ، وقد ذكر المصنف وجها له في الفوائد غير الوجه الذي يظهر من عبارته هنا ، كما اشار الى شرحها في حاشيته على المقام.

والحاصل : ان المصنف ذكر وجهين وجها في فوائده ووجها في المقام.

وحاصل ما ذكره في الفوائد ـ ما اشرنا اليه في رد القوانين ـ وهو ان مسألة الاجتماع الممثل لها بالصلاة في الدار المغصوبة محل الكلام فيها فيما اذا كان للصلاة فرد غير الفرد الذي يؤتى به في الدار المغصوبة ، واذا كان هذا هو محل الكلام فلا يكون من دوران الأمر بين المنفعة والمفسدة ، بل لا بد في المقام من دفع المفسدة لان جلب المنفعة الصلاتية لا يتوقف على الصلاة في المغصوب لامكان استيفائها في خارج

١٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الدار ، بخلاف الغصب فان تركه لا يكون إلّا بترك التصرف الغصبي مطلقا ولا يزاحم تركه ترك الصلاة من رأس.

نعم لو لم يكن للصلاة فرد إلّا اتيانها في الدار المغصوبة لكان من موارد هذه القاعدة.

وقد عرفت ان محل الكلام ليس هذا الفرض فالصلاة في الدار المغصوبة والغصب ليس من موارد دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة.

والحاصل : ان الفرض انه ليس من موارد هذه القاعدة وليس الفرض صحة الصلاة في الدار المغصوبة كما كان ظاهر مساق الايراد الاول.

واما ما افاده هنا (١) فحاصله :

ان ظاهر هذه القاعدة التي ذكرت للترجيح انما هو بعد جعل الحكم الصلاتي والغصبي ، فالمكلف ينبغي ان يرجح دفع المفسدة الغصبية على جلب المنفعة الصلاتية.

ويرد عليهم أن هذه القاعدة ينبغي ان تكون مرجحا في مقام اسبق من هذا المقام وهو مقام جعل الاحكام ، وان يكون المراد منها ان الشارع حيث يرى ان في المجمع منفعة صلاتية ومفسدة غصبية فينبغي ان يلغي جهة المنفعة ولا يكون امره الصلاتي شاملا للمجمع وان يقدم جهة الغصب لان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة. واذا كان هذا مرادهم من هذه القاعدة.

يرد عليهم : ان مقام جعل الاحكام مقام الجهات والعناوين المحسنة والمقبحة واستيفاء المصالح ودفع المفاسد انما هو بعد مقام جعل الاحكام.

وقد عرفت فيما تقدم ان رأي المصنف ان الاحكام في مقام جعلها تابعة للعناوين بوجودها العنواني التصوري وهو مقام عنوان الحسن والقبح ، ففي هذا المقام

__________________

(١) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني ج ١ ، ص ٢٧٧. (حجري)

١٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحكام تابعة للعنوان الحسن والقبيح وليس في هذا المقام مصلحة خارجية ولا مفسدة خارجية حتى تكون الاحكام تابعة لها.

والمقام الثاني وهو بعد جعل الاحكام وانتفائها يكون مقام استيفاء المنافع ودفع المفاسد ففي المقام الذي ينبغي الترجيح بهذه القاعدة وهو مقام جعل الاحكام ليس فيه جلب المنفعة ودفع المفسدة وانما هو تابع لعنوان الحسن والقبح وفي المقام الثاني لا مجال لهذه القاعدة لان موردها ينبغي ان يكون مورد جعل الاحكام لا تطبيقها بعد جعلها ، والى هذا اشار بقوله : ((ولو سلم فهو اجنبي عن المقام)) : أي لو سلمنا ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فمورد هذه القاعدة هو المقام الثاني وهو ان المكلف بعد جعل الاحكام ينبغي ان يختار ما هو الاوفق له وهو ان يدفع المفسدة لا أن يجلب المنفعة.

وعلى هذا لا يكون هذا من المرجحات في المقام لان المراد من الترجيح بيان ان الحكم الغصبي مترجح في نظر الشارع على الحكم الصلاتي ، فينبغي ان يكون هذا في مقام الجعل للاحكام ، وقد عرفت ان مقام الجعل ليس تابعا للمفسدة والمصلحة بل هو تابع لعنوان الحسن والقبح ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فانه فيما اذا دار الأمر بين الواجب والحرام)) : أي ان الظاهر من هذه القاعدة هو في مقام دوران الأمر بين ما هو واجب وما هو حرام وهو المقام الثاني ، والترجيح بها ينبغي ان يكون في المقام السابق على هذا المقام وهو مقام الجعل للاحكام.

وينبغي ان لا يخفى ان ما ذكره في فوائده اولى من هذا الوجه ، لان حاصل ما ذكره في الفوائد :

ان الصلاة في المغصوب ليست من دوران الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، لوضوح ان جلب المنفعة الصلاتية لا ينحصر في الصلاة في المغصوب ، لبداهة امكان الصلاة في غير المغصوب حيث ان المفروض وجود المندوحة ، فليست الصلاة

١٩٢

ولو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع (١) ، ولو سلم أنه يجدي ولو لم يحصل ، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو

______________________________________________________

في المغصوب من موارد الدوران بين دفع المفسدة وجلب المنفعة لامكان استيفاء المنفعة بالصلاة في غير المغصوب ودفع المفسدة بترك الغصب ، وهذا أسلم من الاشكال.

بخلاف ما ذكره هنا فانه لا يخلو عن الاشكال لامكان ان يقال ان الافعال لما كانت تابعة للمصالح والمفاسد كان اللازم على الشارع إيصال عباده الى مصالحهم وابعادهم عن المفاسد ، وحيث ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فلا بد وان لا يكون الأمر بالصلاة شاملا للصلاة في المغصوب ، والحسن والقبح الذي هو مدار الاحكام تابع للمصالح والمفاسد.

فاذا تمت هذه القاعدة وهي كون دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة فالصلاة في المغصوب لا يكون حسن فيها حتى تكون مأمورا بها لان دفع المفسدة فيها اولى من جلب المنفعة.

(١) هذا هو الايراد الثالث وحاصله :

انه لو سلمنا ان مورد هذه القاعدة هو المقام الاول ، وان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة انما هي في مقام جعل الاحكام ، وان عناوين الحسن والقبح على رأي العدلية ليست هي إلّا عناوين المصالح التي ينبغي ايصالها إلى العباد ، وعناوين المفاسد التي ينبغي ابعاد العباد عنها ، وليس وراء هذا حسن أو قبح تتبعه الاحكام في مقام جعلها.

إلّا انه نقول ان هذه القاعدة انما تنفع بان دفع أي مفسدة هي اولى من جلب أي مصلحة كانت ، ودعوى القطع بها لا يخلو من جزاف.

فتكون هذه القاعدة ظنية أي ان الاولوية المذكورة ظنية لا قطعية ، واذا لم تكن قطعية لا تنفع اذ لا دليل على الاخذ بالاولويات الظنية ، ويكون مرجع هذه القاعدة

١٩٣

الاشتغال ، كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين ، لا فيما تجري ، كما في محل الاجتماع ، لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته (١) ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط ، فإنه

______________________________________________________

إلى انا تظن ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ، والظن ليس بحجة ما لم يقم عليه دليل ، والمفروض ان نفس هذه القاعدة هي الدليل لا انها قاعدة قام الدليل عليها.

(١) هذا هو الايراد الرابع ، وحاصله :

انا نسلم انه يصح الاخذ بهذه الاولوية وان لم تكن قطعية ، أي نسلم صحة الاخذ بالاولوية الظنية ، إلّا ان الظن الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص انما يؤخذ به اذا لم تجر الاصول في نفي الحكم الذي يثبته ذلك الظن ، كما في مقام دوران الأمر بين الوجوب التعييني والحرمة التعيينية فانه لا مجال لجريان الاصول في مثل ذلك ، اما للعلم الاجمالي بوجود الحكم الالزامي لهذا المشكوك ، أو لجريانهما معا وتساقطهما ، فان اصالة عدم وجوبه معارضة باصالة عدم حرمته ، وفي مثله لا بأس بالرجوع الى الاولويات الظنية كما في باب الانسداد.

واما في مسألة باب الاجتماع فاصالة البراءة تجري في جانب الحرمة التعيينية المشكوكة على الفرض لان المدعى جريان الاولوية الظنية ، وجريان الاولوية الظنية لازمه الشك في الحكم فتكون الحرمة مشكوكة ، واذا كانت الحرمة مشكوكة تكون مرفوعة باصالة البراءة وليست معارضة باصالة عدم وجوب مورد الاجتماع لان وجوبه ليس تعيينيا ، بل الوجوب انما تعلق بالطبيعة وليس للفرد بخصوصه وجوب وانما هو احد افراد الطبيعة والتخيير فيه عقلي لا شرعي ، فلا مجرى لاصالة عدم وجوب هذا الفرد بخصوصه لانه معلوم انه ليس له وجوب بخصوصه ومع العلم كذلك لا مجرى للاصل.

واما اصالة العدم الازلي وهو عدم وجوب الطبيعة بحيث تسع هذا الفرد ، فهي وان كانت جارية ولا مانع منها إلّا انها لا تنفع لأنها من الاصل المثبت ، لان لازم

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم وجوب الطبيعة بنحو العدم الازلي بحيث تسع هذا الفرد هو كون هذا الوجوب الخاص لا يسع هذا الفرد وليس هو من مصاديق هذه الطبيعة الواجبة وهو من الاصل المثبت.

واما الحرمة التعيينية المتعلقة بالطبيعة فحيث انها تنحل إلى نواه عديدة بحسب ما للطبيعة من الافراد ولكل فرد منها حرمة وحكم يخصه فالمورد الذي وقع مجمعا بنفسه مشكوك الحرمة فتجري فيه البراءة ، ولا تعارضها اصالة عدم وجوبه لما عرفت من عدم جريانها إلّا بنحو الاصل المثبت ، ولذلك اجرى المصنف اصالة البراءة عن الحرمة المشكوكة ، ولم يتعرض لمعارضتها باصالة عدم وجوبه فقال قدس‌سره : ((لا فيما يجري)) : أي ان الاولوية الظنية انما تجدي حيث لا يجري في موردها الاصل كما في مقام دوران الامر بين الوجوب التعييني والحرمة التعيينية لا في مثل المقام فان المورد وجوبه تخييري عقلي لا شرعي ، ومتعلق الوجوب الشرعي ـ وهو نفس الطبيعة ـ ليس بمشكوك وحرمته تعيينية وهي مجرى البراءة لكونها مشكوكة ولذا قال قدس‌سره : ((كما في محل الاجتماع لاصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته)) : أي انه اذا جرت البراءة عن حرمته ونفت الحكم التحريمي عن المورد فلا مانع من ان يكون المورد يقع صحيحا وممتثلا به الوجوب المتعلق بالطبيعة ، لان المانع عن وقوعه صحيحا وممتثلا به الوجوب المتعلق بالطبيعة ليس إلّا احتمال كونه حراما واذا نفت البراءة حرمته فيرتفع المانع من وقوعه صحيحا فيحكم بصحته.

١٩٥

لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلا ونقلا (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه ان هناك كلاما في الشك في الاجزاء والشرائط في كونها مجرى للبراءة أو انها مجرى للاشتغال ، وتفصيله موكول إلى باب الاقل والاكثر الارتباطيين.

إلّا انه لو قلنا في تلك المسألة بان الاصل هو الاشتغال مع ذلك في المقام نقول بالبراءة لأن القول بالاشتغال انما هو فيما كان الشرط شرعيا ، والمانعية وان كانت من جملة الشرائط إلّا ان المانعية في المقام ليست شرعية كمانعية غير ماكول اللحم في صحة الصلاة فيه ، بل المانعية في المقام من ناحية ان المورد اذا كان مشمولا للنهي التحريمي الفعلي فلا تصح الصلاة فيه ، اذا لا يعقل التقرب بالمبعد والمنهي عنه والبراءة ترفع النهي الفعلي ، ومع ارتفاع النهي التحريمي الفعلي فلا مانع من الصحة ، وهذا هو الفرق بين المانعية العقلية والمانعية الشرعية ، فان المانع الشرعي لو صلى فيه المكلف نسيانا أو جهلا فالقاعدة الاولية تقتضي عدم صحة الصلاة لو لم يقم دليل بالخصوص على صحتها كحديث لا تعاد وامثالها.

بخلاف المانعية العقلية فانه لو صلى فيها المكلف عن نسيان أو جهل تصح صلاته كما تقدم بيانه ـ فيما مر ـ من ذهاب المشهور الى صحة صلاة الجاهل والناسي للغصبية.

وعلى كل ففي المانعية العقلية نقول بالبراءة وان قلنا بالاشتغال في الموانع الشرعية ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فيحكم بصحته ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الاجزاء والشرائط)) التي منها المانعية لكن المانعية الشرعية غير المانعية العقلية ، فان المانعية العقلية تدور مدار فعلية النهي ، واذا جرت البراءة لا فعلية للحرمة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((لا مانع عقلا الا فعلية الحرمة المرفوعة باصالة البراءة عنها عقلا ونقلا)) : أي رفع ما لا يعلمون ، وقبح العقاب بلا بيان.

١٩٦

نعم لو قيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة ، فأصالة البراءة غير جارية ، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط ، لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية (١) ،

______________________________________________________

(١) توضيحه ببيان أمور :

الأول : ان الفرق بين المانعية العقلية في المقام وبين المانعية الشرعية : ان الشك في المانعية الشرعية في غير المقام يكون في اصل المفسدة ، وفي المقام الذي هو المانعية العقلية انما هو في غلبة المفسدة وتأثيرها للحكم التحريمي المزاحم بالمصلحة الوجوبية ، واما اصل المفسدة فان المفروض احرازها كما هو فرض التزاحم في هذه المسألة.

الثاني : ان المانع عن صحة الصلاة هل هو الحكم التحريمي الفعلي او نفس المفسدة الواقعية المحتمل غلبتها واقعا.

والمعروف ان المانع هو الحكم التحريمي الفعلي ، لانه لو كان المانع هو المفسدة الواقعية لما صحت الصلاة في حال الجهل والنسيان ، والحال ان المشهور قائلون بصحة الصلاة في حال الجهل والنسيان ، ولذا قلنا ان المعروف كون المانع هو الحكم التحريمي الفعلي دون المفسدة الواقعية المحتمل غلبتها ، ولكن اذا قلنا بان المانع هو نفس المفسدة المحتمل غلبتها فاصالة البراءة في المقام لا تنفع لانها انما ترفع الحكم الفعلي ، واما احتمال غلبة المفسدة واقعا فهو باق على حاله وان جرت البراءة.

الثالث : ان المانع العقلي في المقام الذي بارتفاعه تصح الصلاة هو احراز كون الصلاة وقعت متقربا بها وغير مبعدة ، فاذا كان المانع عن المقربية هو الحكم التحريمي فالصلاة تقع صحيحة ببركة جريان البراءة.

واما اذا كان المانع عن المقربية هو ان لا تكون مبغوضة واقعا ومع احتمال غلبة المفسدة نحتمل وقوع الصلاة مبغوضة واقعا ، ولا رافع لهذا الاحتمال لعدم جريان البراءة فيه فلا يحرز وقوع الصلاة متقربا بها ، ومع احراز وقوعها قربية لا وجه

١٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للاكتفاء بها في مقام الامتثال لو امكن ان يتأتى من المكلف قصد القربة لو لم نقل بانه مع هذا الاحتمال لا يتأتى منه قصد القربة.

وعلى كل ففي المقام نقول بالاشتغال وان كنا نقول بالبراءة في مقام الشك في اصل المانعية ، لان شغل الذمة اليقيني بالصلاة في المقام يقتضي الفراغ اليقيني منها باتيانها في غير هذا الفرد لاحتمال وقوعها مبغوضة ومبعدة في هذا الفرد ، بخلاف الشك في اصل المفسدة.

وتوضيحه : ان في المقام حيث احرزت المبغوضية الواقعية وان كانت غلبتها مشكوكة والعلم باصل المبغوضية الواقعية كاف في عدم احراز وقوع الفعل محبوبا ، بخلاف الشك في اصل المبغوضية فانه لم يحرز في ذلك المقام اصل المبغوضية ، غاية الأمر نحتمل وجودها وتأثيرها في الحرمة الفعلية ، وبجريان البراءة يرتفع التأثير في الحكم الفعلي فلا مانع من التقرب بالفعل مع اجراء البراءة.

واما في المقام فان البراءة وان جرت في رفع الحكم التحريمي الفعلي لكن اصل المبغوضية الواقعية محرزة وهي كافية في المنع عن التقرب.

وبعبارة اخرى : ان احراز اصل المفسدة كاف في المنع عن التقرب قياسا على المفسدة المحرز تأثيرها ببعض مراتبها ، فيما لو كانت واقعا اقوى من المرتبة التي احرزت ، فانه فلا مانع من تأثيرها في العقاب الشديد وان كان المكلف لم يحرز شدتها ، فهذه المفسدة المحرز اصلها تمنع عن التقرب وان كان غلبتها مشكوكة ، فاحراز الحرمة الذاتية ببعض مراتبها ـ وان كانت فعليتها مشكوكة ـ كاف في المنع عن التقرب ، ولذلك حكم (قدس‌سره) بانه بناء على كون اصل المبغوضية الواقعية مانع عن التقرب نقول بالاشتغال في المقام لاحراز المبغوضية الواقعية المحتملة الغلبة وان قلنا بالبراءة في الشك في اصل المانعية لعدم احرازها هناك ولذا قال (قدس‌سره) : ((نعم لو قيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم تكن الغلبة بمحرزة فاصالة

١٩٨

فتأمل (١).

______________________________________________________

البراءة غير مجدية)) لانها انما ترفع الحكم الفعلي التحريمي ولا ترفع المبغوضية الواقعية المحرز اصل وجودها وانما المشكوك غلبتها.

وقد قلنا انها بما لها من الواقعية المحرزة مانعة عن التقرب فلا تكون اصالة البراءة مجدية في المقام ((بل كانت اصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة)) لتوقف الفراغ اليقيني على الاتيان بغير هذا الفرد لعدم احراز وقوع هذا الفرد مقربا ((ولو قيل باصالة البراءة في الاجزاء والشرائط)) لانه هناك اصل المبغوضية الواقعية غير محرز بخلاف المقام فان المفروض احرازها ، ومع احراز اصلها لا يتأتي من المكلف قصد القربة لأن وقوع العبادة صحيحة يتوقف على احراز وقوعها مقربة ، ومع احراز المبغوضية الواقعية غير القابلة للرفع باصالة البراءة لا يكون لنا محرز لوقوع الفعل مقربا فان وقوعه مقربا ، يتوقف على الاحراز ولو بالاصل.

وقد عرفت ان الاصل لا يجري مع احراز اصل المبغوضية الواقعية ، لانه انما يرفع الحكم الفعلي التحريمي ، واما اصل المبغوضية فمحرز وليست بمشكوكة حتى يجري الاصل فيكون لنا احراز ببركة الاصل فلا يتأتى من المكلف قصد القربة ، ولذلك قال (قدس‌سره) : ((لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية)) : أي في المبغوضية الفعلية الغالبة لا في اصل المبغوضية.

(١) قد ذكر (قدس‌سره) في هامش الكتاب وجه التأمل (١) وتوضيحه :

ان احراز اصل المفسدة انما يكون مجديا في عدم تأتي قصد القربة حيث يكون موجبا للتأثير وللحكم بالحرمة.

والمقام ليس كذلك فانا وان احرزنا اصل المفسدة الا انا ايضا قد احرزنا اصل المصلحة التي يمكن ان تكون مانعة عن تأثيرها في المبغوضية.

__________________

(١) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس‌سره) ج ١ ، ص ٢٧٨ (حجري).

١٩٩

ومنها : الاستقراء ، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار ، وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين (١).

______________________________________________________

فالمقام الذي احرز فيه اصل المفسدة واحرز فيه ايضا ما يمكن ان يكون مانعا ومزاحما لها في تأثيرها هو بحكم المقام الذي لم يحرز فيه اصل المفسدة ، من دون فرق بينهما في النتيجة وهي المبغوضية لأن العلم بنفس المقتضي لا يوجب العلم بترتب معلوله عليه ما لم تتم شرائطه ولا فرق في النتيجة من عدم العلم بترتب المعلول بين الشك في اصل المقتضي أو الشك في تأثيره لوجود ما يمكن ان يكون مانعا عنه ومزاحما له. وقياس المقام بالمفسدة المحرز تأثيرها في بعض مراتبها في ترتب مرتبتها القوية عليها ـ لو كانت ـ قياس مع الفارق ، لانه في المفسدة التي احرزنا تأثيرها ببعض مراتبها يصدر الفعل من المكلف قبيحا وانه قد اقدم على ارتكاب ما هو القبيح وما يعاقب عليه ، فلا مانع من عقابه بالعقاب الشديد لو كانت المفسدة موجبة للعقاب الشديد ، بخلاف المقام فانه مع احراز ما يمكن ان يكون مانعا عن تأثير المفسدة لا يكون الفعل الصادر من المكلف معنونا بالقبح ولا يكون منه اقدام على ارتكاب ما هو القبيح.

هذا مضافا الى ما مر من ان المفسدة الواقعية لو كانت مانعة عن وقوع الفعل قربيا لما وقعت العبادة صحيحة في مورد النسيان والجهل ، فانه في حال النسيان أو الجهل وان تمكن المكلف من قصد القربة إلّا ان الفعل لم يقع منه قربيا لوقوعه مبغوضا واقعا ، فلا بد وان يكون المانع فعلية المبغوضية وتأثيرها لا اصلها وواقعها.

(١) هذا هو المرجح الثالث لتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب.

وحاصله : انا استقرينا موارد اجتماع الوجوب والحرمة فرأينا : ان ديدن الشارع فيما اذا اجتمع الوجوب والحرمة يرجح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، كما في مسألة الصلاة في ايام الاستظهار : وهي الايام الزائدة على ايام العادة ، فانه قد

٢٠٠