تذكرة الفقهاء - ج ١٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-435-3
الصفحات: ٥٣٤

الفصل الثاني : الجنون‌

ولا خلاف بين العلماء كافّة في الحجر على المجنون ما دام مجنوناً ، وأنّه لا ينفذ شي‌ء من تصرّفاته ؛ لسلب أهليّته عن ذلك.

والحديث يدلّ عليه ، وهو قوله عليه‌السلام : « رُفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى ينتبه » (١).

ولا خلاف في أنّ زوال الجنون مقتضٍ لزوال الحجر عن المجنون ، سواء حكم به حاكمٌ أو لا ، وسواء كان الجنون يعتوره دائماً أو يأخذه أدواراً.

نعم ، ينفذ تصرّفه حال إفاقته إذا عُرف رشده ، ولا ينفذ حالة جنونه بلا خلافٍ.

الفصل الثالث : السفيه‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في الحجر عليه.

مسألة ٤٠٨ : قال الله تعالى : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً )(٢) وقال تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٣).

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٩٠ ، الهامش (٣).

(٢) النساء : (٥).

(٣) النساء : (٦).

٢٠١

وإنّما أضاف الله تعالى الأموالَ إلى الأولياء وهي لغيرهم ؛ لأنّهم القُوّام عليها والمدبِّرون لها ، وقد يضاف الشي‌ء إلى غيره بأدنى ملابسة ، كما يقال لأحد حاملي الخشبة : خُذْ طرفك. فقد شرط الله في دفع المال إلى اليتيم أمرين : البلوغ ، وقد سبق ، والرشد ؛ لأنّ الحجر عليه إنّما كان لعجزه عن التصرّف في ماله على وجه المصلحة حفظاً لمالِه عليه ، وبالبلوغ والرشد يقدر على التصرّف ، ويحفظ ماله ، فيزول الحجر ؛ لزوال سببه.

إذا عرفت هذا ، فإنّما يزول الحجر عن الصبي بأمرين : البلوغ ، والرشد ؛ لقوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (١).

والبلوغ قد سلف.

وأمّا الرشد : فقال الشيخ رحمه‌الله : هو أن يكون مصلحاً لمالِه ، عَدْلاً في دينه ، فإذا كان مصلحاً لمالِه غيرَ عَدْلٍ في دينه ، أو كان عَدْلاً في دينه غيرَ مصلحٍ لمالِه ، فإنّه لا يُدفع إليه (٢). وبه قال الشافعي والحسن البصري وابن المنذر (٣) ؛ لقوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٤) والفاسق موصوف بالغيّ لا بالرشد.

وروي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ

__________________

(١) النساء : (٦).

(٢) الخلاف ٣ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، المسألة (٣).

(٣) الأُم ٣ : ٢١٥ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٣٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٣ ـ ٥٣٤ ، التفسير الكبير ـ للرازي ـ ٩ : ١٨٨ ، الوجيز ١ : ١٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٨١ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٤) النساء : (٦).

٢٠٢

رُشْداً ) (١) : هو أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل (٢). ومثله عن مجاهد (٣).

ولأنّ الفاسق غير رشيدٍ ، فلو ارتكب شيئاً من المحرَّمات ممّا تسقط به العدالة ، كان غير رشيدٍ.

وكذا لو كان مبذّراً لمالِه وتصرّفه في الملاذّ النفسيّة والثياب الرفيعة والمركوبات الجليلة التي لا يليق بحاله ، كان سفيهاً ، ولم يكن رشيداً.

وقال أكثر أهل العلم : الرشد الصلاح في المال خاصّةً ، سواء كان صالحاً في دينه أو لا ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد (٤) ، وهو المعتمد عندي ؛ لقوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٥).

روي عن ابن عباس أنّه قال : يعني صلاحاً في أموالهم (٦).

وقال مجاهد : إذا كان عاقلاً (٧).

وإذا كان حافظاً لمالِه ، فقد أُنس منه الرشد.

ولأنّ هذا نكرة مثبتة يصدق في صورة ما ، ولا ريب في ثبوت الرشد‌

__________________

(١) النساء : (٦).

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٢ : ٦٣ ، تفسير ابن أبي حاتم ٣ : ٨٦٥ ، الخلاف ـ للطوسي ـ ٣ : ٢٨٤ ، ضمن المسألة (٣).

(٣) تفسير الطبري ( جامع البيان ) ٤ : ١٦٩ ، تفسير ابن أبي حاتم ٣ : ٨٦٥ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٢ : ٦٣ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٣٧ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩ ، وفيها تفسير الرشد بالعقل فقط.

(٤) بداية المجتهد ٢ : ٢٨١ ، المعونة ٢ : ١١٧٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٧ ، التفسير الكبير ـ للرازي ـ ٩ : ١٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ ـ ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٥) النساء : (٦).

(٦) تفسير الطبري ( جامع البيان ) ٤ : ١٦٩ ، تفسير ابن أبي حاتم ٣ : ٨٦٥ ، المغني ٤ : ٥٦٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٩.

(٧) راجع المصادر في الهامش (٣).

٢٠٣

للمصلح لماله وإن كان فاسقاً ؛ لأنّه قد وُجد منه رُشْدٌ. ولأنّ العدالة لا تُعتبر في الرشد في الدوام ، فلا تُعتبر في الابتداء ، كالزهد في الدنيا. ولأنّ هذا مصلح لماله ، فأشبه العدل. ولأنّ الحجر عليه إنّما كان لحفظ ماله عليه وحراسته عن التلف بالتبذير ، فالمؤثّر فيه ما أثّر في تضييع المال ، والفاسق وإن لم يكن رشيداً في دينه لكنّه رشيد في ماله.

ويُنتقض قولهم بالكافر ، فإنّه غير رشيد في دينه ، ولا يُحجر عليه ، كذا الفاسق. ولأنّه لو طرأ الفسق على المسلم بعد دفع ماله إليه ، لم يزل رشده ، ولم يُحجر عليه لأجل فسقه ، ولو كانت العدالة شرطاً في الرشد ، لزال بزوالها ، كحفظ المال.

ولا يلزم من منع قبول شهادته منع دفع ماله إليه ، فإنّ المعروف بكثرة الغلط والغفلة والنسيان ومَنْ لا يتحفّظ من الأشياء المفضية إلى قلّة المروءة ـ كالأكل في السوق ، وكشف الرأس بين الناس ، ومدّ الرِّجْل عندهم ، وأشباه ذلك ـ لا تُقبل شهادته ، وتُدفع إليه أمواله (١) إجماعاً.

إذا عرفت هذا ، فإنّ الفاسق إن كان يُنفق مالَه في المعاصي ـ كشراء الخمور وآلات اللهو والقمار ـ أو يتوصّل به إلى الفساد ، فهو غير رشيد لا تُدفع إليه أمواله إجماعاً ؛ لتبذيره لماله وتضييعه إيّاه في غير فائدة.

وإن كان فسقه لغير ذلك ـ كالكذب ومنع الزكاة وإضاعة الصلاة ـ مع حفظه لماله ، دُفع إليه ماله ؛ لأنّ الغرض من الحجر حفظ المال ، وهو يحصل بدون الحجر ، فلا حاجة إليه.

وكذا لو طرأ الفسق الذي لا يتضمّن تضييع المال ولا تبذيره ، فإنّه‌

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « إليهم أموالهم ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

٢٠٤

لا يُحجر عليه إجماعاً.

واعلم أنّ الشافعي قال : الصلاح في الدين حين تكون الشهادة جائزةً (١).

وقد بيّنّا أنّ الشهادة قد تُردّ بترك المروءة ، والصنائع الدنيئة ، كالزبّال ، والسؤال على أبواب الدور وإن كان ذلك لا يُثبت الحجر.

مسألة ٤٠٩ : لو بلغ الصبي غيرَ رشيد ، لم يُدفع إليه ماله وإن صار شيخاً وطعن في السنّ‌ ، وهذا قول أكثر علماء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر ، فإنّهم يرون الحجر على كلّ مضيّع لماله ، صغيراً كان أو كبيراً ـ وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمّد (٢) ـ لقوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٣) علّق دفع المال على شرطين : البلوغ ، والرشد ، فلا يثبت الحكم بدونهما.

وقال تعالى : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (٤) يعني أموالهم.

وقال تعالى : ( فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) (٥) أثبت الولاية على السفيه.

__________________

(١) الأُمّ ٣ : ٢١٥ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٠.

(٢) بداية المجتهد ٢ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٣٧ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، المغني ٤ : ٥٥٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٥٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٥ : ٢١٦ / ٢٣١١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨١ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٥٢.

(٣) النساء : (٦).

(٤) النساء : (٥).

(٥) البقرة : ٢٨٢.

٢٠٥

ولأنّه مبذّر لماله ، فلا يجوز دفعه إليه ، كغير البالغ خمساً وعشرين سنة.

وقال أبو حنيفة : لا يُدفع إليه ماله إذا كان قد بلغ سفيهاً ، وإن تصرّف ، نفذ تصرّفه ، فإذا بلغ خمساً وعشرين سنة ، فُكّ عنه الحجر ، ودُفع إليه ماله وإن كان سفيهاً ؛ لقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) وقد زال اليتم.

ولأنّه قد بلغ أشدّه ، وصلح أن يصير جَدّاً. ولأنّه حُرٌّ بالغ عاقل مكلّف ، فلا يُحجر عليه ، كالرشيد (٢).

والآية لا دلالة فيها ، ولو دلّت فإنّما تدلّ بمفهوم الخطاب ، وهو ليس حجّةً عنده (٣).

ثمّ هي مخصوصة بما قبل خمس وعشرين سنة بالإجماع ، فيجب أن تخصّ بما بعدها ؛ لأنّ الموجب للتخصيص علّة السفه ، وهي موجودة فيما بعدها ، فيجب أن يخصّ بها ، كما أنّ الآية لمّا خُصّصت في حقّ المجنون لأجل جنونه قبل خمس وعشرين خُصّت أيضاً به بعد خمس وعشرين.

والمنطوق الذي استدللنا به أولى من مفهومه.

__________________

(١) الأنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤.

(٢) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٤ : ١٦١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨٢ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧٠ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٢ ، مختصر اختلاف العلماء ٥ : ٢١٦ / ٢٣١١ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣١٨ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٣ ـ ٧٤ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٥٤.

(٣) كما في المغني ٤ : ٥٥٥ ، والشرح الكبير ٤ : ٥٥٤ ، وفي ميزان الأُصول ١ : ٤٤٥ ، وشرح اللمع ١ : ٤٢٨ ، والإشارة في معرفة الأُصول ٢٩٤ نسبته إلى أصحاب أبي حنيفة.

٢٠٦

وكونه جَدّاً ليس تحته معنى يقتضي الحكم ، ولا أصل له في الشرع يشهد له بالاعتبار ، فيكون إثباتاً للحكم بالتحكّم.

ثمّ هو ثابت في مَنْ له دون هذا السنّ ، فإنّ المرأة تكون جَدّةً لإحدى وعشرين.

وقياسهم منتقض بمَنْ له دون خمس وعشرين سنة ، وموجب الحجر قبل خمس وعشرين ثابت بعدها ، فيثبت حكمه.

مسألة ٤١٠ : هذا المحجور عليه للسفه قبل بلوغه خمساً وعشرين سنة وبعد بلوغه بالاحتلام لا ينفذ تصرّفه البتّة في شي‌ء‌ ، ولا ينفذ إقراره ، ولا يصحّ بيعه ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّه لا يدفع إليه ماله ؛ لعدم رشده ، فلا يصحّ تصرّفه وإقراره ، كالصبي والمجنون. ولأنّه إذا نفذ إقراره وبيعه ، تلف ماله بذلك ، ولم يُفد منعه من ماله [ شيئاً ] (٢).

وقال أبو حنيفة : يصحّ بيعه وإقراره ، وإنّما لا يسلّم إليه ماله إلاّ بعد خمس وعشرين سنة.

وبنى ذلك على أصله من أنّ البالغ لا يُحجر عليه ، وإنّما يمنع من تسليمه المال ؛ للآية (٣) (٤).

وهو خطأ ؛ فإنّ تصرّفه لو كان نافذاً ، لسُلّم إليه ماله ، كالرشيد. ولأنّه لا فرق بين أن يسلّم إليه أو إلى مَنْ يقبضه بسببه ، فإنّه إذا باع ، وجب‌

__________________

(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٧.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) الأنعام : ١٥٢ ، الإسراء : ٣٤.

(٤) الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٣ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٧١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨١ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٦ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٥٥.

٢٠٧

تسليمه إلى المشتري ، وإلاّ لم يُفد تصرّفه شيئاً ، فكان يتسبّب إلى إتلاف ماله بوسائط المشترين.

مسألة ٤١١ : لو بلغ وصرف أمواله في وجوه الخير‌ كالصدقات وفكّ الرقاب وبناء المساجد والمدارس وأشباه ذلك [ فذلك ] (١) ممّن لا يليق به ـ كالتاجر وشبهه ـ تبذير ـ وبه قال بعض الشافعيّة (٢) ـ لأنّه إتلافٌ للمال.

قال الله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) (٣) وهو صريح في النهي عن هذه الأشياء.

وتضييع المال بإلقائه في البحر أو باحتمال الغبن الفاحش في المعاملات ونحوها تبذير.

وكذا الإنفاق في المحرَّمات.

وكذا صَرفه في الأطعمة النفيسة ـ وبه قال بعض الشافعيّة (٤) ـ للعادة.

وقال أكثرهم : لا يكون تبذيراً ؛ لأنّ الغاية في تملّك المال الانتفاعُ به والالتذاذ (٥).

وكذا قالوا : إنّ شراء الثياب الفاخرة وإن لم تكن لائقةً به ، والإكثار من شراء الغانيات والاستمتاع بهنّ وما أشبهه ليس تبذيراً (٦).

وبالجملة ، حصر أكثرهم التبذيرَ في التضييعات ، كالرمي في البحر ، واحتمالِ الغبن الفاحش وشبهه ، وفي الإنفاق في المحرّمات (٧)

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٤.

(٣) الإسراء : ٢٩ و ٣٠.

(٤ ـ ٧) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٤.

٢٠٨

وليس بجيّد على ما سلف.

مسألة ٤١٢ : المرأة ـ كالذكر ـ إذا بلغت وعُلم رشدها ، زال الحجر عنها‌ ، ودُفع إليها مالُها ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وعطاء والثوري وأبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايتين (١) ـ لعموم قوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٢).

ولأنّها يتيم بلغ وأُنس منه الرشد ، فيدفع إليه مالُه ، كالرجل. ولأنّها بالغة رشيدة ، فدُفع إليها مالُها ، ونفذ تصرّفها ، كالتي دخل بها الزوج.

وعن أحمد رواية أُخرى : أنّ المرأة لا يُدفع إليها مالُها ما لم تتزوّج أو تلد أو يمضي لها في بيت زوجها سنة ، سواء بلغت رشيدةً أو لا ـ وبه قال عمر بن الخطّاب وشريح والشعبي وإسحاق ـ لما رواه شريح قال : عهد إليَّ عمر بن الخطّاب : أن لا تحبيّن (٣) الجارية عطيّةً حتى تحول في بيت زوجها [ حولاً ] (٤) أو تلد ولداً (٥).

وهذا الخبر ليس حجّةً ؛ لأنّ قول عمر لا يجب المصير إليه ، وليس مشهوراً ، ولا ورد به الكتاب ولا عضده خبرٌ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أفتى به أحد من الصحابة ، ولا دلّ عليه قياس ولا نظر ، مع أنّه لو كان حجّةً ، لكان مختصّاً بالعطيّة. ولا يلزم من منع العطيّة منع مالها عنها ولا منعها من قبضه‌

__________________

(١) الأُم ٣ : ٢١٦ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٢ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٥ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٦٠.

(٢) النساء : (٦).

(٣) في المصدر : « لا أُجيز » بدل « لا تحبيّن ».

(٤) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٥) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٦٠.

٢٠٩

والتصرّف فيه بما شاءت.

وقال مالك : لا يُدفع إليها مالُها حتى تتزوّج ، ويدخل عليها زوجها ، فإذا نكحت ، دُفع إليها مالُها بإذن الزوج ، ولا ينفذ تبرّعها بما زاد على الثلث ، إلاّ بإذن الزوج ما لم تصر عجوزاً ؛ لأنّ كلّ حالة جاز للأب تزويجها فيها من غير إذنها لم ينفكّ عنها الحجر ، كالصغير ، فإذا كان للأب إجبارها على النكاح ، كانت ولاية المال لغيرها (١).

ونحن نمنع إجبارها على النكاح ، بل متى بلغت رشيدةً كان أمرها في النكاح وغيره إليها على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهر ؛ فإنّ مصلحتها في النكاح لا يُقدر على معرفتها إلاّ بمباشرة الأب أو بمباشرتها بعد وقوعه.

وبالجملة ، فإنّ للأب إجبارَها على النكاح ؛ لأنّ اختبارها لا يمكن بالنكاح ، بخلاف المعاملات من البيع والشراء وغيرهما ، فإنّه يمكن معرفته ومباشرته قبل النكاح وبعده.

وعلى هذه الرواية إذا لم تتزوّج ، دام الحجر عليها عند أحمد ومالك ؛ لفقد شرط رفع الحجر (٢).

مسألة ٤١٣ : إذا بلغت المرأة رشيدةً ، صحّ تصرّفها في مالها‌ ، سواء أذن زوجها أو منع ، وسواء كانت متبرّعةً أو لا ، وسواء كان بقدر الثلث أو أزيد ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن المنذر وأحمد‌

__________________

(١) بداية المجتهد ٢ : ٢٨٠ ـ ٢٨١ ، التلقين ٢ : ٤٢٣ و ٤٢٤ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٥ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٦٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦١.

(٢) المغني والشرح الكبير ٤ : ٥٦١.

٢١٠

في إحدى الروايتين (١) ـ لعموم قوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (٢) وهو ظاهر في فكّ الحجر عنهم وإطلاقهم في التصرّف.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا معشر النساء تصدّقن ولو من حُليّكنّ » (٣) وإنّهنّ تصدّقن ، فقَبِل صدقتهنّ ولم يسأل ولم يستفصل.

وجاءته امرأة عبد الله وامرأة أُخرى يقال لها : زينب ، فسألته عن الصدقة هل يجزئهنّ أن يتصدّقن على أزواجهنّ وأيتامٍ لهنّ؟ فقال : « نعم » (٤) ولم يذكر لهنّ هذا الشرط.

ولأنّ مَنْ وجب دفع ماله إليه برشده جاز له التصرّف فيه من غير إذنٍ ، كالغلام. ولأنّ المرأة من أهل التصرّف ، ولا حقّ لزوجها في مالها ، فلم (٥) يملك الحجر عليها في التصرّف بجميعه ، كحُليّها.

وقال مالك وأحمد في الرواية الأُخرى : ليس لها أن تتصرّف في مالها بأزيد من الثلث بغير عوضٍ ، إلاّ بإذن زوجها (٦).

وحكي عن مالك في امرأة أعتقت جارية لها ليس لها غيرها فخشيت ـ ولها زوج ـ من ذلك [ أن ] يُقليها (٧) زوجها ، قال : له أن يردّ عليها ، وليس‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٢ و ٣٥٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٧ ، المغني ٤ : ٥٦١ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١١٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٢) النساء : (٦).

(٣) سنن الترمذي ٣ : ٢٨ / ٦٣٥.

(٤) المغني ٤ : ٥٦٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٥) في الطبعة الحجريّة : « فلا ».

(٦) الكافي في فقه أهل المدينة : ٤٢٤ ، التلقين ٢ : ٤٢٤ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، المغني ٤ : ٥٦١ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٧) القلى : البغض. لسان العرب ١٥ : ١٩٨ « قلا ».

٢١١

لها عتق ؛ لما روي أنّ امرأة كعب بن مالك أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحُليٍّ لها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يجوز للمرأة عطيّة حتى يأذن زوجها ، فهل استأذنتِ كعباً؟ » فقالت : نعم ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كعب ، فقال : « هل أذنتَ لها أن تتصدّق بحُليّها؟ » فقال : نعم ، فقَبِله (١).

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في خطبةٍ خَطَبها : « لا يجوز لامرأة عطيّة في مالها إلاّ بإذن زوجها ، إذ هو مالك عصمتها » (٢).

ولقوله عليه‌السلام : « تُنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها » (٣) والعادة جارية أنّه (٤) يتبسّط في مالها ، وينتفع بجهازها.

قالوا : وكذا يجب عليها عنده التجهيز ، فلهذا كان له منعها.

ولأنّ العادة تقضي بأنّ الزوج يزيد في مهرها من أجل مالها ، وإذا أعسر بالنفقة أُنظر ، فجرى ذلك مجرى حقوق الورثة المتعلّقة بمال المريض (٥).

وحديثهم مرسل ، على أنّه محمول على ما هو الظاهر منه ، وهو أنّه لا يجوز عطيّتها بماله بغير إذنه ؛ لأنّه وافق على تجويز عطيّتها من مالها دون الثلث (٦).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٨ / ٢٣٨٩.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٣ / ٣٥٤٦ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٩٨ / ٢٣٨٨ ، سنن النسائي ٦ : ٢٧٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٦٠.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ١٠٨٧ / ٥٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٩٦ / ١٠٨٦ ، سنن النسائي ٦ : ٦٥ ، مسند أحمد ٤ : ٢٣٣ / ١٣٨٢٥.

(٤) أي الزوج.

(٥) المغني ٤ : ٥٦١ ـ ٥٦٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٧.

(٦) راجع الهامش (٦) من ص ٢١١.

٢١٢

وليس معهم حديث يدلّ على تحديد المنع بالثلث ، فيكون التحديد بالثلث تحكّماً لا دليل فيه ولا قياس يدلّ عليه.

والفرق بين الزوجة والمريض من وجوه :

أ : المرض سبب يفضي إلى وصول [ المال ] (١) إليهم بالميراث ، والزوجيّة إنّما تجعله من أهل الميراث ، فهي (٢) أحد وصفي العلّة ، فلا يثبت الحكم بمجرّدها ، كما لا يثبت للمرأة الحجر على زوجها ولا لسائر الورّاث بدون المرض.

ب : تبرّع المريض موقوف ، فإن برئ من مرضه ، صحّ تبرّعه ، وهنا أبطلوه على كلّ حال ، والفرع لا يزيد على أصله.

ج : يُنتقض ما ذكروه بالمرأة ، فإنّها تنتفع بمال زوجها ، وتتبسّط فيه عادة ، ولها النفقة منه ، وانتفاعها بماله أكثر من انتفاعه من مالها ، وليس لها الحجر عليه ، على أنّ هذا المعنى ليس موجوداً في الأصل ، ومن شرط صحّة القياس ثبوت الحكم في الأصل ، والمرأة قد ترغب في الرجل لماله ، ولا تعترض عليه في تصرّفه ، فكذا الرجل ، وانتفاعه بمالها لا يستحقّه ، ولا يجب عليها التجهيز له ، ولو كان كذلك (٣) ، لاختصّ بما يستعمل ، دون سائر مالها.

مسألة ٤١٤ : قد بيّنّا أنّ للمرأة الصدقة من مال زوجها بالشي‌ء اليسير من المأكول والمأدوم بشرط عدم الإضرار‌ ، وعدم المنع منه ـ وهو إحدى‌

__________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « النظر ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فهو ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لذلك » بدل « كذلك ». والظاهر ما أثبتناه.

٢١٣

الروايتين عن أحمد (١) ـ لأنّ عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غيرَ مُفسدةٍ كان لها أجرها (٢) ، وله مثله بما كسب ، ولها بما أنفقت ، وللخازن (٣) مثل ذلك من غير أن ينتقص من أُجورهم شي‌ء » (٤) ولم يذكر إذناً.

وأتت أسماءُ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله ليس لي شي‌ء إلاّ ما أدخل الزبير ، فهل عليَّ جناح أن أرضخ (٥) ممّا يُدخل عليَّ؟ فقال : « ارضخي بما استطعت ، ولا توعي (٦) [ فيوعى ] (٧) عليك » (٨).

وأتت امرأةٌ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله إنّا كَلٌّ على أزواجنا وأبنائنا ، فما يحلّ لنا من أموالهم؟ قال : « الرطب تأكلنه » (٩).

ولأنّ العادة قاضية بالسماح به وطيب النفس عنه ، فجرى مجرى التصريح بالإذن ، كما أنّ تقديم الطعام بين يدي الآكل قائم مقام صريح الإذن في أكله.

__________________

(١) المغني ٤ : ٥٦٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٨٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « أجره » والمثبت كما في المصادر ما عدا سنن أبي داوُد ، ففيه : « أجر ما أنفقت ».

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « وللجارية » بدل « وللخازن ». وما أثبتناه من المصادر.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٧١٠ / ٨١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٠ / ٢٢٩٤ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٣١ / ١٦٨٥ ، مسند أحمد ٧ : ٦٧ / ٢٣٦٥١ بتفاوت يسير في بعضها.

(٥) الرضخ : العطيّة القليلة. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٢ : ٣٢٨ « رضخ ».

(٦) أي لا تجمعي وتشحّي بالنفقة فيشحّ عليك. النهاية ـ لابن الأثير ـ ٥ : ٢٠٨ « وعا ».

(٧) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٨) صحيح مسلم ٢ : ٧١٤ / ٨٩ ، سنن البيهقي ٤ : ١٨٧ ، و ٦ : ٦٠.

(٩) المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٦ : ٥٨٥ / ٢١٢٦ ، منتخب مسند عبد بن حُميد : ٧٩ / ١٤٧ ، أُسد الغابة ٢ : ٢٢٨ / ٢٠٥٦.

٢١٤

والرواية الثانية عن أحمد : أنّه لا يجوز ؛ لأنّ أبا أُمامة الباهلي (١) قال : سمعت رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلاّ بإذن زوجها » قيل : يا رسول الله و [ لا ] (٢) الطعام؟ قال : « ذاك أفضل أموالنا » (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ عن طيب نفسه » (٤).

وقال : « إنّ الله حرّم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا » (٥).

ولأنّه تبرّع بمال غيره بغير إذنه ، فلم يجز ، كغير الزوجة (٦).

والحقُّ : الأوّل ؛ لما تقدّم من الأدلّة ، والأحاديث من طريق العامّة والخاصّة خاصّةٌ ، فتُقدّم على أحاديث أحمد ، العامّة ، والحديث الخاصّ بهذه الصورة ضعيف. وقياس المرأة على غيرها باطل ؛ لأنّ العادة قاضية بالفرق بينهما ، فإنّ المرأة تتبسّط في مال زوجها ، وتتصرّف بالمأكول منه بالعادة ، والإذن العرفي قائم مقام الإذن الحقيقي.

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الكاهلي » بدل « الباهلي ». والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٢) ما بين المعقوفين من المصادر.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٠ / ٢٢٩٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ / ٣٥٦٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٧ ـ ٥٨ / ٦٧٠ ، و ٤ : ٤٣٣ / ٢١٢٠ ، مسند أحمد ٦ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ / ٢١٧٩١ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٦ : ٥٨٥ / ٢١٢٧.

(٤) سنن البيهقي ٦ : ١٠٠.

(٥) صحيح مسلم ٢ : ٨٨٩ / ١٢١٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٥ / ٣٠٧٤ ، سنن أبي داوُد ٢ : ١٨٥ / ١٩٠٥ ، مسند أحمد ٦ : ٦٩ / ٢٠١٧٢ ، و ٥٧٠ / ٢٢٩٧٨ بتفاوت في أوّله فيما عدا الموضع الثاني من مسند أحمد.

(٦) المغني ٤ : ٥٦٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٨٢.

٢١٥

أمّا لو منعها فقال : لا تتصدّقي من مالي لا بقليل ولا بكثير ولا تتبرّعي بشي‌ء منه ، فإنّها لا يجوز لها التصرّف في شي‌ء إلاّ بإذنه إجماعاً ؛ لأنّ المنع الصريح نفي الإذن العرفي.

ولو كان في بيت الرجل مَنْ يقوم مقام امرأته ، كجارية وأُخت وخادمة وبنت ممّن يتصرّف في مأكول الرجل ، جرى مجرى الزوجة إن لم يعلم الكراهية.

ولو كانت امرأته ممنوعةً من التصرّف في بيت زوجها كالتي يطعمها بالفرض ولا يُمكّنها من طعامه ولا من التصرّف في شي‌ء من ماله ، لم يجز لها الصدقة بشي‌ء من ماله.

مسألة ٤١٥ : إذا بلغ الصبي لم يدفع إليه مالُه إلاّ بعد العلم برشده ، ويستديم التصرّفَ في ماله مَنْ كان متصرّفاً فيه قبل بلوغه أباً كان أو جدّاً أو وصيّاً أو حاكماً أو أمينَ حاكمٍ ، فإن عرف رشده ، انفكّ الحجر عنه ، ودفع إليه المال.

وهل يكفي العلم بالبلوغ والرشد في فكّ الحجر عنه ، أم يفتقر إلى حكم الحاكم وفكّ القاضي؟ الأقرب : الأوّل ؛ لقوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا ) (١).

ولزوال المقتضي للحجر ، وهو الصبا ، وعدم العلم بالرشد ، فيزول الحجر. ولأنّه حجر لم يثبت بحكم الحاكم ، فلا يتوقّف زواله على إزالة الحاكم ، كحجر المجنون ، فإنّه يزول بمجرّد الإفاقة. ولأنّه لو توقّف على ذلك ، لطلب الناس عند بلوغهم فكّ الحجر عنهم من الحُكّام ، ولكان ذلك‌

__________________

(١) النساء : (٦).

٢١٦

عندهم من أهمّ الأشياء ، وهو أصحّ قولي الشافعيّة (١).

وقال بعضهم : يحتاج إلى فكّ القاضي ؛ لأنّ الرشد يُعلم بنظرٍ واجتهاد (٢).

قال هؤلاء : فكما ينفكّ الحجر عن الصبي عند البلوغ والرشد بفكّ القاضي ، ينفكّ بفكّ الأب والجدّ (٣).

وفي الوصي والقيّم لهم وجهان (٤).

وهو يقتضي بطلان قولهم بحاجة إزالة الفكّ إلى النظر والاجتهاد.

قالوا : وإذا كان الحجر لا يزول حتى يُزيله القاضي أو مَنْ ذكرنا ، فتصرّفه قبل إزالة الحجر كتصرّف مَنْ أُنشئ الحجر عليه بالسفه الطارئ بعد البلوغ ، ويجري الخلاف فيما إذا بلغ غيرَ رشيدٍ ثمّ صار رشيداً (٥).

مسألة ٤١٦ : إذا بلغ رشيداً وزال الحجر عنه ثمّ صار مبذّراً وعاد إلى السفه ، حُجر عليه ثانياً‌ ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال القاسم بن محمّد ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمّد (٦) ـ لقوله تعالى : ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا ) (٧) دلّ بمفهومه على تعليل جواز الدفع بعلم الرشد ، فإذا انتفت‌

__________________

(١ و ٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٨ ، التنبيه : ١٠٣ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، منهاج الطالبين : ١٢٤.

(٣ و ٤) التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤.

(٦) الأُم ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، مختصر المزني : ١٠٥ ، الحاوي الكبير ٦ : ٣٦٣ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٣٩ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٤ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، التفسير الكبير ٩ : ١٩٠ ، المغني ٤ : ٥٦٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٠.

(٧) النساء : (٦).

٢١٧

العلّة انتفى الحكم.

واستدلّ الشافعي أيضاً بإجماع الصحابة عليه ؛ لما رواه عروة بن الزبير أنّ عبد الله بن جعفر رحمه‌الله ابتاع بيعاً ، فقال عليّ عليه‌السلام : « لآتينّ عثمان ليحجر عليك » فأتى عبد الله بن جعفر الزبيرَ ، فقال : قد ابتعت بيعاً وإنّ عليّاً عليه‌السلام يريد أن يأتي عثمان فيسأله الحجر عَلَيَّ ، فقال الزبير : أنا شريكك في البيع ، فأتى عليّ عليه‌السلام عثمانَ ، فقال له : « إنّ عبد الله بن جعفر قد ابتاع بيعَ كذا فاحجر عليه » فقال الزبير : أنا شريكه في البيع ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكُه الزبير!؟ (١).

قال أحمد : لم أسمع هذا إلاّ من أبي يوسف القاضي ، ولم يخالف عليّ عليه‌السلام ذلك ، وهذه قضيّة مشهورة يشتهر مثلها ، ولم يُنقل خلافٌ ، فكانت إجماعاً.

ولأنّ التبذير لو قارن البلوغ ، مَنَع من دفع المال ، فإذا حدث ، أوجب انتزاع المال ، كالجنون. ولأنّ المقتضي للحجر عليه أوّلاً حفظ المال ؛ لأنّ الصبي وإن لم يتلف المال فإنّه غير مأمون عليه ؛ لإمكان صدور الإتلاف عنه ، فإذا كان الإتلاف صادراً عنه حقيقةً ، كان الحجر عليه أولى (٢).

وقال أبو حنيفة وزفر : لا يُحجر عليه ، وتصرّفه نافذ في ماله ـ وهو مرويّ عن ابن سيرين والنخعي ـ لأنّه حُرٌّ مكلّف ، فلا يُحجر عليه ، كالرشيد. ولأنّه يصحّ طلاقه ، فتصحّ عقوده ، كالرشيد (٣).

__________________

(١) سنن البيهقي ٦ : ٦١.

(٢) المغني ٤ : ٥٦٨ ـ ٥٦٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٠ ـ ٥٧١.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ، التفسير الكبير ٩ : ١٩٠ ، المغني ٤ : ٥٦٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧٠.

٢١٨

والقياس باطل ؛ لأنّ الرشيد حافظ لماله ، فدُفع إليه ، بخلاف السفيه. والطلاق ليس إتلافَ مالٍ ولا يتضمّنه ، فلم يُمنع منه ، ولهذا يملكه العبد ، دون التصرّف في المال بغير إذن سيّده.

مسألة ٤١٧ : إذا عاد مبذّراً مضيّعاً لماله بعد رشده ودفع المال إليه ، فإنّه يُحجر عليه ، ويؤخذ المال منه ، كما تقدّم.

ولا يحجر عليه إلاّ الحاكم ، ولا يصير محجوراً عليه إلاّ بحكم القاضي ـ وبه قال الشافعي وأحمد وأبو يوسف (١) ـ لأنّ التبذير يختلف ويحتاج إلى الاجتهاد ، فإذا افتقر السبب إلى الاجتهاد ، لم يثبت إلاّ بحكم الحاكم ، كما أنّ ابتداء مدّة العنّة لا يثبت إلاّ بحكم الحاكم ؛ لموضع الاختلاف فيها والاجتهاد ، فكذا هنا. ولأنّه حجر مختلف فيه ، فلا يثبت إلاّ بحكم الحاكم ، كالحجر على المفلس.

وقال محمّد : يصير بالتبذير محجوراً عليه وإن لم يحكم به الحاكم ؛ لأنّ التبذير سبب يثبت معه الحجر ، فلم يفتقر إلى حكم الحاكم ، كالجنون (٢).

والفرق : أنّ الجنون لا يفتقر إلى الاجتهاد ، ولا خلاف فيه.

وقال بعض الشافعيّة : إنّ الحجر يُعيده الأب والجدّ (٣). وليس مشهوراً.

__________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦ ، المغني ٤ : ٥٦٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧١ ، المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٤ : ١٦٣ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥١ ـ ١٥٢.

(٢) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٢٤ : ١٦٣ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٢٨٢ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٥٢ ، حلية العلماء ٤ : ٥٣٩ ، المغني ٤ : ٥٦٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٧١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١٦.

٢١٩

مسألة ٤١٨ : إذا قلنا بمذهب الشيخ رحمه‌الله : أنّ الرشد عبارة عن العدالة وصلاح المال‌ (١) ، فلو بلغ رشيداً عَدْلاً فأُزيل الحجر عنه ثمّ صار بعد فكّ الحجر عنه فاسقاً في دينه ، فهل يعاد عليه الحجر؟.

قال الشيخ رحمه‌الله : الأحوط أن يحجر عليه.

واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (٢).

وما رواه العامّة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « اقبضوا على أيدي سفهائكم » (٣) ولا يصحّ القبض إلاّ بالحجر.

ومن طريق الخاصّة : ما روي عنهم عليهم‌السلام أنّهم قالوا : « شارب الخمر سفيه » (٤) (٥).

وللشافعي وجهان :

أحدهما : يُحجر عليه ـ وهو قول أبي العبّاس بن سريج ـ لأنّ ذلك مانع في فكّ الحجر ، فأوجب الحجر عليه ، ويستدام الحجر به ، كالتبذير.

والثاني : لا يُحجر عليه ـ وبه قال أبو إسحاق ـ لأنّ الحجر إنّما كان لحفظ المال ، والفسق في الدين يورث تهمةً فيه ، فمَنَع ذلك ثبوت الرشد وفكّ الحجر ، وإذا طرأ بعد ذلك ، أورث تهمةً في المال ، فلم يثبت بذلك‌

__________________

(١) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٢٨٤ ، الخلاف ٣ : ٢٨٣ ، المسألة (٣).

(٢) النساء : (٥).

(٣) لم نجده في المصادر الحديثيّة المتوفّرة لدينا ، وأورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٢٨٨ ، ضمن المسألة ٧ ، وفي الحاوي الكبير ٦ : ٣٥٦ ، والجامع لأحكام القرآن ٦ : ٤ ، وكنز العمّال ٣ : ٦٧ / ٥٥٢٥ نقلاً عن الطبراني في المعجم الكبير ، بلفظ : « خذوا على ... ».

(٤) تفسير العياشي ١ : ٢٢٠ / ٢٢.

(٥) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٢٨٥ ، الخلاف ٣ : ٢٨٩ ، المسألة ٨.

٢٢٠