تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

يكون الاستفهام منشأ لأن يسأل فيقال : وما ينكر منه في التحريم وقد كان الأنبياء يحرّمون (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) [آل عمران : ٩٣] فقيل في جواب هذا السؤال : (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) فكأنّ التحريم لم ينكر لذاته ، وإنّما لما اشتمل عليه من الحرص على مرضاة الأزواج ، ومثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلّ من أن يقدم على ما يقدم عليه ، ويمتنع عما يمتنع منه تبعا لإرضاء النساء.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقارف ذنبا ، والذي كان منه إنما هو خلاف الأولى ، فالإتيان بالغفران والرحمة هنا تكريم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث جعل ما لا يعدّ ذنبا كأنه ذنب ، ولا يكون ذلك إلا لمن سمت منزلته.

وقد رأيت أنّا فسرنا التحريم هنا بالامتناع ، وامتناعه عن شرب العسل أو غيره إنما كان كامتناعه عن أكل الضب ، وهو بهذه المثابة لا شيء فيه ، وإنما عوتب من أجل أنّ الباعث كان الحرص على مرضاة الأزواج.

وقد أراد الزمخشريّ (١) أن يقول : بل هو قد قال : إنّ الذي وقع هنا هو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم من عند نفسه ما أحل الله ، فيكون قد غيّر الحكم ابتغاء مرضاة الأزواج فآخذه الله به ، وأنكره عليه ، وغفر له ما وقع منه من الزلة ، وقد شنع العلماء على الزمخشري في قوله هذا.

وذلك أن تحريم الحلال ينتظم معنيين :

فقد يراد منه اعتقاد حكم التحريم فيما جعله الله حلالا ، وذلك تغيير لحكم الله ، وتبديل له على نحو الذي كان من الكفار من تحريمهم البحائر والسوائب والوصائل وغيرها ، وكقولهم : (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١٣٨] وعلى نحو ما حكى الله عنهم في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النحل : ٣٥] وتحريم الحلال بهذا المعنى كفر لا يكون إلا من الكافرين.

والمعنى الثاني : الامتناع من الحلال امتناعا مطلقا ، أو مؤكّدا باليمين مع اعتقاد حل الفعل الذي امتنع منه ، وهذا شيء لا خطر فيه ، ولا شيء ، وقد امتنع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكل الضب ، وقال : «إنّه لم يكن بأرض

__________________

(١) انظر كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (٤ / ٥٦٤).

٨٠١

قومي» (١). والذي وقع من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من هذا النوع ، وإنما عوتب على ما صاحب الامتناع من الحرص على مرضاة الأزواج ، خصوصا بعد المظاهرة التي كانت منهنّ ، ومرضاة مثل هؤلاء ينبغي ألا يحرص عليها. وقد اعتذر بعض العلماء عن الزمخشري ، وأوّل كلامه.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) الفرض : التقدير ، والمراد منه هنا : جعل تحلة اليمين شريعة ، والمراد من التحلة الكفارة ، والتحلة مصدر حلّل ، كالتكرمة مصدر كرّم ، وهو مصدر غير قياسي ، إذ المصدر القياسي في كلّ منهما : التحليل والتكريم. وأصله من الحلّ ضدّ العقد ، وذلك أنّ من حلف على شيء فكأنّه قد عقد عليه ، لأنّه التزمه. وقد جعل الله الكفارة حلّا لهذا الالتزام.

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) هو سيدكم ، ومتولي أموركم ، وهو العليم بشأنكم ، يعلم ما فيه مصلحتكم ، فيشرع لكم ما تقضي به هذه المصلحة ، وهو الحكيم الذي لا يصدر عنه إلا كل متقن محكم.

اختلف العلماء في أنّ التحريم الذي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل كان مقترنا بيمين ، وظاهر الآية قد يؤيّد القول بالإيجاب ، لقوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) إذ هو مشعر بأن ثمة يمينا تحتاج إلى التحلة ، وقد جاء في بعض الروايات ما يؤيده.

واختلفوا أيضا في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى كفارة ، أو لم يفعل.

وقد ذهب الحسن إلى أنه لم يعط كفارة ، ويقول في التوجيه : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو توجيه لا يخلو من شيء ، وقد نقل عن الإمام مالك رحمه‌الله في «المدونة» أنّه أعطى الكفارة.

وقد اختلف العلماء بعد ذلك في الرجل يحرّم شيئا ، كأن يقول لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو الحلال عليّ حرام ، ولم يستثن شيئا.

ويقول ابن العربي (٢) : بأنّ للعلماء في تحريم الرجل لزوجته خمسة عشر قولا ، يجمعها ثلاثة مقامات :

المقام الأول : في جمع الأقوال.

الثاني : في التوجيه.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٥٤٣) ، ٣٤ ـ كتاب الصيد ، ٧ ـ باب إباحة الضب حديث رقم (٤٣ / ١٩٤٥) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ٢٨٨) ، ٧٢ ـ كتاب الذبائح ، ٣٣ ـ باب النصب حديث رقم (٥٥٣٧).

(٢) انظر أحكام القرآن لابن العربي (٤ / ١٨٣٥).

٨٠٢

المقام الثالث : في عد الصور في ذلك.

ونحن نقتصر هنا على جمع الأقوال ، ونترك المقامين الآخرين إلى الفقه وعلم الخلاف ، فإنّ الآية لا تحتمل كلّ ما قال الفقهاء.

القول الأول : روي عن أبي بكر وعائشة والأوزاعي أنّ تحريم الزوجة يمين تلزم فيها الكفارة.

القول الثاني : قال ابن مسعود : ليس تحريم الزوجة بيمين ، وتلزم فيه الكفارة.

القول الثالث : قال عمر بن الخطاب : إنّ تحريم الزوجة طلقة رجعية ، وهو رأي الزهري.

القول الرابع : أن تحريم الزوجة ظهار ، وهو رأي عثمان البتي وأحمد بن حنبل.

القول الخامس : قال حماد بن سلمة (١) ، وهو رواية عن مالك : أنه طلقة بائنة.

القول السادس : أنّه ثلاث تطليقات ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة ، ومالك.

القول السابع : قال أبو حنيفة : إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى ، وإلّا كانت يمينا ، وكان الرجل موليا من امرأته.

القول الثامن : قال ابن القاسم (٢) : إنّ من حرّم زوجته لا تنفعه نية الظهار ، وإنما يكون طلاقا.

القول التاسع : قال يحيى بن عمر (٣) : يكون طلاقا ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفّر كفارة الظهار.

القول العاشر : هو ثلاث قبل الدخول وبعده ، لكنه ينوي في التي لم يدخل بها إذا قال : نويت الواحدة ، وهو عن مالك وابن القاسم.

القول الحادي عشر : هو ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ، قال ابن العربي هو قول عبد الملك في «المبسوط».

__________________

(١) ابن دينار البصري أبو سلمة ، مفتي البصرة ، وأحد رجال الحديث ومن النحاة كان حافظا ثقة مأمونا ، وكان إماما في العربية ، شديدا على المبتدعة ، انظر الأعلام للزركلي (٢ / ٢٧٢).

(٢) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري أبو عبد الله ، فقيه ، ولد في مصر سنة (١٩١ ه‍) انظر الأعلام للزركلي (٣ / ٣٢٣).

(٣) يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني الأندلسي أبو زكريا فقيه مالكي عالم بالحديث نشأ بقرطبة ، وسكن القيروان توفي سنة (٢٨٩ ه‍) انظر الأعلام للزركلي (٨ / ١٦٠).

٨٠٣

القول الثاني عشر : هو في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ، وهو رأي أبي مصعب ، ومحمد بن عبد الحكم.

القول الثالث عشر : أنّه إن نوى الظهار ـ وهو أن ينوي أنّها محرمة كتحريم أمه ـ كان ظهارا ، وإن نوى تحريم عينها بجملته بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ، وهو عن الشافعي.

القول الرابع عشر : أنّه إن لم ينو شيئا لا يلزمه شيء.

القول الخامس عشر : أنّه لا شيء عليه أصلا ، قاله مسروق ، وربيعة من أهل المدينة.

وبعد فإنّك ترى أنّ الآية الكريمة ليس فيها أكثر من أنّ الله سبحانه عاتب نبيّه على أنّ منع نفسه شيئا أباحه الله له ، والظاهر أنّ هذا المنع كان مصحوبا باليمين ، فقال الله : لا تمتنع ، وكفّر عن يمينك بالتحلة ، وإذا جرينا على ما هو الصحيح من أنّ الحادثة كانت في شرب العسل ازددت يقينا بأنّ كلّ هذه الأقوال التي قبلت في تحريم الزوجة من غير يمين تحتاج إلى أدلتها من غير الآية ، فلتطلب في أماكنها ، والله المستعان ، وبه التوفيق.

٨٠٤

من سورة المزمل

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر : إنّ هذه السورة مكية كلّها. وحكى الأصبهاني أنّها مكية ما عدا الآيتين : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ). وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهناك قول ثالث : أنها مكية ما عدا قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ..).

وقد اعترض السيوطي في «الإتقان» على الأخير بأنه يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنّ قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلخ قد نزل بعد نزول صدر السورة بسنة ، لما كان قيام الليل فرضا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلوات الخمس. يعني : وإذا كانت الصلوات الخمس قد شرعت في مكة قبل الهجرة بسنة ، وقد تمّ بفرضيتها نسخ ما كان قبلها من فرض القيام ، ظهر أنّ آخر المزمل من المكي.

ولعلك تختار القول الأول لما أورده السيوطي على الأخير ، ولأنّ أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى الكفار ، والإعراض عنهم ، وهجرهم ، إنما كان في أول الإسلام ، قبل أن يكثر أنصار الدعوة الإسلامية ، وقبل أن يأذن الله تعالى للمؤمنين المظلومين أن يدفعوا عن أنفسهم بالقوة. على ما يدل عليه الاستقراء ، وتتبع موارد الآيات القرآنية التي تأمر بمثل ما ورد في آيتي (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) والتي بعدها.

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) المزّمل بتشديد الزاي والميم : اسم فاعل من تزمّل ، وأصله المتزمل ، فأدغمت التاء والزاي ، ومعناه : المتلفف في ثيابه ، ومنه قول ذي الرّمة :

وكائن تخطت ناقتي من مفازة

ومن نائم عن ليلها متزمل

وقرأه أبيّ على الأصل. كما قرئ بتخفيف الزاي ، على أنه اسم فاعل أو اسم مفعول.

وقد اختلف المفسرون في سبب تزمّله عليه الصلاة والسلام ، فقيل : إنه كان نائما بالليل متزمّلا في قطيفة ، أو أنه يريد فتلفّف بالقطيفة ، فجاءه الملك بنداء الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) إلخ ليدع النوم ، ويقوم لما هو أهم ، وينهض لعبادة الله في

٨٠٥

ناشئة الليل ، فإنها خير معين له على تحمّل ما سيرد عليه من الوحي ، وما سيلقى عليه من القول الثقيل. وقيل : إنّ تزمّله عليه الصلاة والسلام كان لأسفه وحزنه لما بلغه ما كان من المشركين ، وما دبّروه من القول السيئ ، يدفعون به دعوته. فقد أخرج البزار والطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الدلائل» عن جابر رضي الله عنه قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما تصدّوا الناس عنه. فقالوا : كاهن. قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون. قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر. قالوا : يفرّق بين الحبيب وحبيبه ، فتفرّق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتزمل في ثيابه ، وتدثّر فيها ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١))(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)).

وقد يساعد هذا القول ما ورد في السورة من قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)) على القول بأنّ هاتين الآيتين من المكي ، وأنهما نزلتا مع الآيات السابقة.

غير أنّه يقال : إذا كان هذا هو سبب التزمل ، وأنه من أجله أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه السورة أن يهجر أولئك ، ويصبر عليهم ، ولا يأبه لقولهم ، فما السبب في أنه لم تذكر الآيتان (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) وما بعدها عقب النداء؟ ولما ذا فصل بين ذلك بالأوامر الأولى المتعلقة بقيام الليل والذكر والترتيل؟

والجواب : أنه لا شك أنّ هذه العبادات تقوّي قلبه عليه الصلاة والسلام ، وتثبّت فؤاده ، وتعينه على الصبر والاحتمال والإغضاء عن السوء من أقوال الكافرين.

وقيل : إنّ السبب هو ما ورد في حديث جابر المشهور (١) على ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي ، فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي ، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثثت ـ بمثلثتين مبنيا للمجهول ، فزعت ـ منه رعبا ، فرجعت ، فقلت : دثروني ، دثروني» وفي رواية : فجئت أهلي ، فقلت : زمّلوني زمّلوني ، فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)).

وجمهور العلماء يقولون : وعلى إثرها نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) وعلى هذا يكون

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ١٤٣) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٧٣ ـ باب بدء الوحي حديث رقم (١٦١) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ٩٧) ، ٦٥ ـ كتاب التفسير ، حديث رقم (٤٩٢٢) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٣٩٩) ، كتاب التفسير ، باب ومن سورة المدثر حديث رقم (٣٣٢٥) ، وأحمد في المسند (٣ / ٣٠٦).

٨٠٦

سبب التزمل هو ما عراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرعب والفزع عند رؤية الملك ، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها ، أما على القولين الأولين فيصحّ أن يكون السبب واحدا أيضا ، كما يصحّ أن يكون مختلفا.

والحكمة في ندائه عليه الصلاة والسلام بوصف التزمل هو إرادة ملاطفته وإيناسه ، على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم في مثل هذه الحالة ، ومن ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي لما غاضب فاطمة ، وكان نائما قد لصق بجبينه التراب فقال له : «قم أبا ترب» (١).

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) المراد من قيام الليل صلاة التهجد ، وذلك بتقدير الصلاة ، أي انهض لصلاة الليل ، أو بتضمين (قم) معنى صل. وقد أعرب بعض المفسرين : (الليل) ظرفا لفعل القيام ، جريا على مذهب البصريين الذين يجوّزون في مثله أن يكون ظرفا ، ولو استغرقه الحدث ، كما هنا ، فإنّ المعنى على إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصحّ الاستثناء بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فإنّ الاستثناء معيار العموم.

أما على رأي الكوفيين الذين يمنعون ذلك فنصب الليل يكون من قبيل النصب على المفعولية.

ومعنى (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢)) انهض للصلاة مستغرقا بها الليل إلا جزءا قليلا منه ، و (نِصْفَهُ) بدل كل من الليل بعد مراعاة الاستثناء ، فكأنه قيل : قم نصف الليل ، ويصحّ أن يكون بدلا من (قَلِيلاً) والأمران في قوله تعالى : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) معطوفان على الأمر الأول. والضميران في (منه) و (عليه) عائدان على الليل بعد مراعاة الاستثناء ، والإبدال أيضا. ويصحّ أن يعود على (نصفه) والمآل واحد.

وحاصل المعنى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بأن يقوم من الليل للتهجد ، وأنّ الله خيّره أن يقوم نصف الليل ، وأن ينقص من النصف مقدارا قليلا ، وأن يزيد على ذلك النصف ، ولم تقيد الزيادة على النصف بالقلّة ، كما قيّد النقص بها ، لأنّ الزيادة الكثيرة لا تخلّ بالأمر ، بل فيها زيادة برّ وعمل صالح. أمّا النقص الكثير عن النصف فعلى خلاف ذلك ، إذ إنّه مخلّ بالمطلوب.

هذا وقد قال العلماء : إنّه في حالة النقص عن النصف لا يتحقق الوفاء إلا إذا كان النقص لا يبلغ الربع ، وهو ظاهر ، إذ لا يقال في الاستعمال العربي لمن اقتصر على الربع إنه أنقص من النصف قليلا ـ ومن العلماء من قال : إنّ القليل هو ما دون

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ١٨٧٤) ، ٤٤ ـ كتاب فضائل الصحابة ٤ ـ باب من فضائل علي حديث رقم (٣٨ / ٢٤٠٩).

٨٠٧

السدس ، فإذا بلغ النقص السدس ، أو تجاوزه كان كثيرا مخلّا بالوفاء.

لكنه يقال : كيف يكون النصف بدل كلّ من الليل الذي استثنى منه القليل؟ وكيف يكون نصف الشيء مطابقا له مع استثناء جزء قليل منه؟

وأجاب المفسرون بأنّه لزيادة الاعتناء بالنصف المقارن للتهجد ، وتفضيله بالصلاة فيه على النصف الآخر الخالي من الصلاة ، جعل هو أغلب الليل وأكثره ، وإن كان في الحقيقة نصفه.

ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بقيام الليل مع ندائه بالوصف الخاصّ به ـ وهو التزمل ـ أنّ التهجد كان فريضة عليه ، وأنّ فرضيته كانت خاصة به. وإلى هذا ذهب جمع من العلماء ، قالوا : وهو الذي يدلّ عليه قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] فإنّ قوله : (نافِلَةً لَكَ) بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام ، وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه ، فإنّه على هذا الوجه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام ، بل معنى كون التهجد نافلة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.

وذهب جماعة آخرون إلى أنّ وجوب التهجد كان ثابتا في حقّ الأمة أيضا ، مستندين إلى قوله تعالى في آخر السورة التي معنا (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) إلخ. فإنه يدلّ على أنّ الصحابة كانوا يقومون من الليل كما كان يقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه ، وإنه قد خفّف الله عنهم جميعا بأمرهم بالقيام على حسب ما يتيسر لهم ، قالوا : ويشهد لهذا ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنّه كان يقول : أوّل ما نزل أول المزمل ، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة (١).

وما رواه ابن جرير (٢) عن أبي عبد الرحمن أنه قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١)) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، حتى نزلت (فاقرءوا ما تيسر منه) قال : فاستراح الناس.

وما أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (٣) عن سعيد بن هشام أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ألست تقرأ هذه السورة : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١))؟

__________________

(١) رواه أبو داود في سننه (١ / ٤٨٧) ، كتاب الصلاة ، باب نسخ قيام الليل ، حديث رقم (١٣٠٥).

(٢) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (٢٩ / ٧٩).

(٣) رواه الإمام أحمد في المسند (٦ / ٥٤).

٨٠٨

قال : بلى. قالت : فإنّ الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضيته.

وقال بعض الناس : إنّ التهجد لم يكن مفروضا لا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا على أحد من أمته ، واحتجّوا على ذلك بما يأتي :

١ ـ ظاهر قوله تعالى في سورة الإسراء (نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] فإنه يفيد أنّ التهجد زيادة لم تتعلق بها الفرضية ، وقد علمت ردّه فيما سبق.

٢ ـ أنّ الأمر في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ) وقوله جلّ شأنه : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ) لا يفيد الوجوب ، وحمله على الندب أولى ، لأنّا وجدنا أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب ، وتارة تفيد الندب ، فينبغي حمل ما يرد منها على القدر المشترك بينهما ، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، دفعا للتجوّز والاشتراك اللفظي ؛ وإذا كان الأمر كذلك كان الثابت معنى الندب ، لأن تمام معنى الواجب ـ وهو عدم جواز الترك ـ لا بدّ له من دليل آخر ، كالتوعد على الترك ، أو قرينة أخرى تدل على ذلك ، وهو غير متوفّر في الأمرين السابقين ، فبقي الترك على أصله ، وهو الجواز.

والجواب يعلم مما تقرر في علم الأصول ، وهو أنّ المختار في الأوامر حملها على الإلزام ، إلا أن يصرف عن ذلك صارف ، وهو مذهب الجمهور.

٣ ـ أنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل ، أو يزيد عليه ، أو ينقص منه ، ومثل هذا لا يكون في الواجبات ، فإنّ الشأن فيها أن تعيّن وتحدّد مقاديرها ، كما في المكتوبات.

والجواب : أنه لا مانع من ذلك. وقد عهد في الشريعة أن يفرض الله على المكلف أحد أمور معينة ، بحيث لا يجوز له الإخلال بها جميعا ، ثم إذا فعل واحدا منها كان قائما بما وجب عليه ، فيكون قيام الليل مفروضا ، بحيث لا ينقص كثيرا عن النصف ، فإذا قام المكلف في الليل قريبا من نصفه فقد حصل الواجب ، وإذا زاد إلى النصف ؛ أو أكثر منه كان محصّلا للواجب من باب أولى.

وبعد فهذه أقوال ثلاثة قد عرفت مآخذها ، وعرفت الردّ على ما استدل به أصحاب القول الثالث.

أما ما استند إليه أصحاب القول الأول فيمكن الجواب عنه بأنّ توجيه الخطاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لا يقتضي تخصيصه بما ورد بعده من الأوامر ، فإنّه عليه الصلاة والسلام نبيّ متبوع ، وخطابه يتناول أمته ، كما هو معروف في الأصول ، إلّا أن يقوم دليل على الخصوص.

٨٠٩

أما آية الإسراء : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] فهي مدنية متأخّرة في النزول عن سورة المزمّل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما نسخ عن أمته ، ويكون معنى الآية : استمر على التهجد بالليل فريضة زائدة لك على ما استقرّ وجوبه على أمتك.

والذي يستخلص من ذلك أنّ أرجح الأقوال هو الثاني ، وهو القول بأنّ التهجد كان فريضة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته ، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية السابقة. ويشهد له ما تقدّم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.

وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في بقاء وجوب التهجد وعدمه ، وفي تعيين الناسخ على القول بعدم البقاء.

وللعلماء في ذلك أربعة أقوال :

الأول : نقل عن الحسن وابن سيرين وابن جبير ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس جميعا ، وأنّ أصل وجوب القيام لم ينسخ ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدّر من الليل لا ينقص كثيرا عن النصف على ما علمت. وهذا قول يخالف ما روي عن عائشة رضي الله عنها على ما سبق ، وكذلك يخالف ما روي عن ابن عباس أنّه قال : سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصار تطوعا ، وبقي بعد ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ويردّه أيضا ما ثبت في «الصحيحين» (١) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للرجل الذي سأله عما يجب : «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل عليّ غيرها؟ قال : «لا ، إلا أن تطوّع».

القول الثاني : أنّه نسخ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أمته بآخر سورة المزمّل ، واستبدل به قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠].

ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها كما تقدم فإنّ قولها : فصار قيام الليل تطوعا ، لم تقيده بالأمة.

القول الثالث : أنّ وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة ، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.

القول الرابع : أنّه نسخ عن الأمة وحدها ، وبقي وجوبه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء [٧٩].

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٤٠) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٢ ـ باب بيان الصلوات حديث رقم (٨ / ١١) ، والبخاري في الصحيح (١ / ٢٠) ، ٢ ـ كتاب الإيمان ، ٣٥ ـ باب الزكاة من الإسلام حديث رقم (٤٦).

٨١٠

ولعلّ الراجح هو هذا القول الأخير ، كما أنّ الظاهر أنّ نسخ التهجد لم يحصل دفعة واحدة ، فإنّ آخر سورة المزمل يفيد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها ، ولا يلزم من هذا نسخ وجوب التهجد من أصله ، وكان بين آخر السورة وأولها نحو عام ، كما ورد في الآثار السابقة.

أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان بافتراض الصلوات الخمس ليلة المعراج ، وكان ذلك قبل الهجرة بعام.

والظاهر أيضا أنّ هذا كله بالنظر للأمة ، فأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّ آية الإسراء المدنية تدلّ على أنّ وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا ، وأنّه استمر وجوبه عليه لم ينسخ إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام لعدم ما يدلّ على ذلك النسخ ، وهذا هو الذي يشهد له ما تقدّم لك عن ابن عباس أنه يقول : سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار تطوعا ، وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ويشهد له أيضا ما صحّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا ، وأنه كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى من النهار اثني عشر ركعة. كما ورد عن عائشة في حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه. فإنّ مواظبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قيام الليل في الحضر والسفر ، وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو المرض دليل على استمرار فرضية القيام عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) تقول العرب : ثغر رتل ورتل بالفتح والكسر ، إذا كان مفلّجا أو حسن التنضيد ، وفي «القاموس» : الرتل محركة : حسن تناسق الشيء ، وفيه أيضا : ورتل الكلام ترتيلا : أحسن تأليفه. وترتّل فيه ترسّل.

أما أقوال أهل التفسير : فعن ابن عباس أنّ معنى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) بيّنه تبيينا وعن مجاهد : ترسّل فيه ترسلا. وقال قتادة : تثبّت فيه تثبتا. وكلها تدور حول شيء واحد ، والمراد : اقرأه في قيامك بالليل على مهل ، وتبيّن حروفه ، فإنّ ذلك يكون عونا لك ولمن يسمع منك على فهمه وتدبر معانيه.

أخرج العسكري في «المواعظ» عن عليّ كرّم الله وجهه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذه الآية فقال : «بيّنه تبيينا ، ولا تنثره نثر الدقل ، ولا تهذّه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (١) الدقل بفتح القاف : رديء التمر ويابسه. والهذّ : الإسراع ، ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ قراءة مرتّلة مفسّرة حرفا حرفا ، وكان يقطّع قراءته آية آية ، ويمد حروف المد.

__________________

(١) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٦ / ٢٧٧).

٨١١

روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّها سئلت عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان يقطّع قراءته آية آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي (١).

وأخرج البخاري (٢) عن أنس أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كانت مدّا ، ثم قرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)) يمد (بِسْمِ اللهِ) ويمد (الرَّحْمنِ) ويمد (الرَّحِيمِ).

وعلى هذا فليس لأحد من الناس مخالفة في أنّه يقرأ القرآن بترتيل وتبيين حروف ، وتحسين مخارج ، وإظهار مقاطع ، إنما الكلام في التغني به وتلحينه.

وقد اختلف في ذلك علماء السلف والخلف ، فقال بكراهته أنس بن مالك ، وسعيد بن المسيّب ، وسعيد بن جبير ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، والإمامان مالك وأحمد.

وروي عن ابن المسيب أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته ، فأرسل إليه سعيد يقول : أصلحك الله إنّ الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد.

وروي عن القاسم أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطرب فأنكر ذلك القاسم ، وقال : يقول الله عزوجل : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).

وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال : لا تعجبني ، وقال : إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.

وروي عن أحمد أنّه كان يقول في قراءة الألحان : ما تعجبني ، ويقول : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع.

وعن عبد الله بن يزيد العكبري قال : سمعت رجلا يسأل أحمد : ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال له : ما اسمك؟ قال : محمد. قال له : أيسرك أن يقال لك : موحامد ، ممدودا؟

وأجاز القراءة بالألحان عمر بن الخطاب ، وابن عباس ؛ وابن مسعود ؛

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ١٧٠) ، كتاب التفسير ، تفسير فاتحة الكتاب حديث رقم (٢٩٢٧) ، وأبو داود في السنن كتاب القراءات حديث رقم (٤٠٠١) ، وأحمد في المسند (٦ / ٣٠٢).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦ / ١٣٦) ، ٦٦ ـ كتاب فضائل القرآن ، ٢٩ ـ باب مد القراءة حديث رقم (٥٠٤٦).

٨١٢

وعبد الرحمن بن الأسود بن زيد ؛ والإمامان أبو حنيفة والشافعي ، واختاره أبو جعفر الطبري وأبو بكر بن العربي.

فعن عمر بن الخطاب فيما رواه الطبري أنه كان يقول لأبي موسى : ذكّرنا ربنا ، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن ، فيقول عمر : من استطاع أن يتغنّى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.

وابن مسعود كانت تعجبه قراءة علقمة الأسود ـ وكان حسن الصوت ـ فكان يقرأ له علقمة ، فإذا فرغ قال له : زدني فداك أبي وأمي.

وعن عطاء بن أبي رباح قال : كان عبد الرحمن بن الأسود يتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان.

وروى الطحاوي أنّ أبا حنيفة كان يستمع القرآن بالألحان ، كما روي أنّ الشافعي كان كذلك.

هذا هو المأثور عن الأئمة والعلماء في قراءة التلحين والتطريب ، والنظر بعد ذلك في أدلتهم.

استدل المجيزون بما يأتي :

١ ـ ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «زيّنوا القرآن بأصواتكم» (١).

٢ ـ وما أخرجه مسلم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».

٣ ـ وما في «البخاري» (٢) عن عبد الله بن مغفّل قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجّع في قراءته.

٤ ـ وما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري ، فلما أخبره بذلك قال : لو كنت أعلم أنّك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا ، ويروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سمعه قال : «إنّ هذا أعطي مزمارا من مزامير آل داود» (٣).

__________________

(١) ما رواه أبو داود في السنن (١ / ٥٤٦) ، كتاب الصلاة ، باب استحباب الترتيل حديث رقم (١٤٦٨) ، والنسائي في السنن (١ ـ ٢ / ٥٢٢) ، كتاب الافتتاح حديث رقم (١٠١٦).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٥٤٧) ، ٦ ـ كتاب صلاة المسافرين ٣٥ ـ باب ذكر قراءة النبي حديث رقم (٢٣٧ / ٧٩٤) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ١٣٧) ، ٦٦ ـ كتاب فضائل القرآن ، ٣٠ ـ باب الترجيع حديث رقم (٥٠٤٧).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٥٤٦) ، ٦ ـ كتاب صلاة المسافرين ، ٣٤ ـ باب استحباب تزيين الصوت حديث رقم (٢٣٥ / ٧٩٣) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ١٣٧) ، ٦٦ ـ كتاب فضائل القرآن ، ٣١ ـ باب حسن الصوت ، حديث رقم (٥٠٤٨).

٨١٣

٥ ـ وما رواه مسلم (١) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن». الأذن بفتحتين الاستماع.

٦ ـ وقالوا أيضا : إنّ الترنم بالقرآن ، والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء ، وهو أوقع في النفس ، وأنفذ في القلب ، وأبلغ في التأثير.

روي أنّ عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوتا فقال له عمر : اعرض عليّ سورة كذا ، فعرض عليه ، فبكى عمر وقال : ما كنت أظنّ أنها نزلت.

أما المانعون فاحتجوا بما يأتي :

١ ـ ما رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق ، فإنّه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فقد نعى على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، على نحو ما يفعله أكثر قراء هذا العصر ، ووصفهم بفتنة القلوب ، كما وصف بها كل من يسمع لهم ويعجبه شأنهم.

٢ ـ وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه ذكر أشراط الساعة ، وذكر أشياء ، منها أن يتخذ القرآن مزامير ، وقال : «يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ، ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».

٣ ـ وما رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذّن يطرب فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الأذان سهل سمح ، فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن» أخرجه الدار قطني (٢). فقد كره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرب المؤذن في أذانه ، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق أولى.

٤ ـ وما روي أنّ زيادا النميري جاء إلى أنس رضي الله عنه مع القرّاء فقيل له : اقرأ ، فرفع صوته وطرب ـ وكان رفيع الصوت ـ ، فكشف أنس عن وجهه ، وكان على وجهه خرقة سوداء ، وقال : يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون ، وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه. وهذا له حكم الرفع ، فقوله : ما هكذا كانوا يفعلون. دلّ على أنّ القراءة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن على نحو قراءة زياد.

٥ ـ وقالوا أيضا : إنّ التغني والتطريب يؤدّي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه ، وذلك لأنّه يقتضي مدّ ما ليس بممدود ، وهمز ما ليس بمهموز ، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة ، وهو لا يجوز. هذا إلى أنّ التلحين من شأنه أن

__________________

(١) رواه في الصحيح (١ / ٥٤٥) ، ٦ ـ كتاب صلاة المسافرين ، ٣٤ ـ باب استحباب تزيين الصوت حديث رقم (٢٣٢ / ٧٩٢).

(٢) رواه الدار قطني في سننه (٢ / ٨٦) ، كتاب الجنائز ، باب تخفيف القراءة.

٨١٤

يلهي النفوس بنغمات الصوت ، ويصرفها عن الاعتبار وتدبر معاني القرآن.

هذه أدلة المانعين ، وقد تأوّلوا ما أورده المجيزون مما يفيد جواز القراءة بالألحان فقالوا في حديث : «زينوا القرآن بأصواتكم» إن فيه قلبا ، وأصله : «زينوا أصواتكم بالقرآن» كما قيل في : عرضت الناقة على الحوض ، وعلى تسليم أنه ليس في الحديث قلب ، فمعنى تزيين القرآن بالأصوات تجويده ، وتحسين أدائه بالمد والغنة والإظهار ، وضبط كلماته ، وتبيين حروفه ، وأنت ترى أنّ هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ الحديث غاية البعد ، وهو على كل حال تأويل لا دليل عليه ، ولا موجب له.

وقالوا في الحديث الثاني : «ليس منّا من لم يتغن بالقرآن» إنه ليس من الغناء وإنما هو من الاستغناء ، كما فسره بذلك سفيان بن عيينة ، ومعناه : ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن الحديث ، أو عن أخبار الأولين. قالوا : وقد ورد التغني بمعنى الاستغناء في كلام العرب. قال الأعشى :

وكنت امرأ زمنا بالعراق

عفيف المناخ طويل التغنّي

وأنت ترى أيضا أنّ تأويل التغني بالاستغناء تأويل بعيد لا دليل عليه ، ولذلك لما سئل الشافعي عن هذا التأويل المنسوب لابن عيينة قال : نحن أعلم بهذا ، لو أراد به الاستغناء لقال. من لم يستغن بالقرآن ، ولكن لما قال : «يتغنّ بالقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء. أما بيت الأعشى فلا حجة لهم فيه ، فإنّه لا يستقيم معناه على إرادة الاستغناء ، وإنما هو بمعنى الإقامة ، من قولهم : غنى فلان بمكان كذا إذا أقام ، ومنه قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا).

ثم أوّلوا ما ورد في بقية الأحاديث التي استدلّ بها المجيزون من الترجيع والتحبير والتغني مما يرجع لحسن التجويد ، وإتقان الأداء.

والحق أنّ الأدلة تشهد للمجيزين ، وذلك لأنه إذا كان التلحين والتطريب يغيّر من ألفاظ القرآن ، ويخلّ بما نقل إلينا من طرق الأداء ؛ أو كان تكلّفا وتصنّعا ؛ ورفعا وخفضا ؛ على نحو توقيعات الموسيقى ، فلا كلام في أنّه ممنوع ومحرّم.

أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا ، وشيئا قضى به اتعاظ القارئ ، وكمال تأثّره بمعاني القرآن ، فليس هناك من الأدلة ما ينهض على منعه. بل الأدلة شاهدة به وداعية إليه. وعلى هذا ينبغي حمل كل ما أورده المانعون في منع التغني على التغني المذموم الذي يسير فيه القارئ مع الهوى ويلهو به عن تدبر المعنى ويخرج فيه عن الحدود والقوانين المأثورة في الأداء والترتيل. وهذا محمل قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص والآثار التي تجيز التغني في قراءة

٨١٥

القرآن وبعد هذا ترى الأدلة كلها متفقة لا تعارض بينها ولا تدافع.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)) الإلقاء : الإنزال : والإيحاء. وعبّر به للإشارة من أول الأمر إلى أنّ ما يوحى به شديد وعظيم.

والمراد بالقول الثقيل : القرآن ، وثقله باعتبار ما اشتمل عليه من تحميله عليه الصلاة والسلام أعباء الرسالة ومهمة التبليغ ، وما إلى ذلك من التكاليف التي يتطلّب القيام بها صبرا وجلدا وقوة عزيمة.

وقيل : إنه ثقيل في نزوله عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلقيه إياه من الوحي ، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكرب عند ذلك ، ويرجف ، ويشتدّ عليه الأمر.

روى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عن عائشة (١) رضي الله عنها أنّها قالت : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه ، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.

أخرج أحمد وابن جرير (٢) وغيرهما عن عائشة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تتحرّك ، حتى يسرّى عنه ، وتلت (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)).

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل عليه الوحي مرة ، وكان جالسا واضعا فخذه على فخذ زيد بن ثابت ، فكادت فخذه عليه الصلاة والسلام ترضّ فخذ زيد من شدّة الضغط.

قيل : معنى ثقله : أنه كلام رصين ، فخم ، له رجحان ووزن ، ليس بالسفساف ولا بالهين الضعيف.

وقيل : إنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر ، لا يزول ولا يتبدل ، فإنّ المعهود في الأجسام الثقيلة أنّها تثبت وتبقى في مكانها.

قال الله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦))

واختلف المفسرون في المراد بالناشئة. فقيل : إنّها من نشأ من مكانه إذا نهض ، فتكون الإضافة في (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) على معنى في. والمعنى : إن النفس أو النفوس الناشئة

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ١٨١٦) ، ٤٣ ـ كتاب الفضائل ، ٢٢ ـ باب طب عرق النبي حديث رقم (٨٦ / ٢٣٣٣) ، والبخاري في الصحيح (٤ / ٩٥) ، ٥٩ ـ كتاب بدء الخلق ، ٦ ـ باب ذكر الملائكة ، حديث رقم (٣٢١٥) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٥٥٧) ، كتاب المناقب ، حديث رقم (٣٦٣٤) ، والنسائي في السنن (١ ـ ٢ / ٤٨٥) ، كتاب الافتتاح ، باب جامع ما جاء في القرآن حديث رقم (٩٣٣).

(٢) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (٢٩ / ٨٠).

٨١٦

في الليل الناهضة من مضاجعها للعبادة (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) والوطء المواطأة والموافقة ، كالوطاء.

والقيل : القول كالمقال. والمراد به قراءة القرآن ، أو مطلق الذّكر ، أي إنها أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص.

أو أن قلبها يكون بالليل أشد موافقة للسانها منه في سائر الأوقات ، إذ يكون القلب في ساعات الليل حاضرا لا يشغله شاغل ، ولا يصرفه عن خشية الله صارف.

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي إنّ قولها يكون حينئذ أكثر اعتدالا واستقامة على نهج الصواب ، لأنّ الأصوات هادئة ، والليل ساكن ، فلا يضطرب المصلي ، ولا يختلط عليه قوله وقراءته.

وقيل : إن المراد بناشئة الليل العبادة فيه ، ومعنى أن عبادة الليل أشدّ وطأ : أن موافقتها الإخلاص والخشوع في هذا الوقت أعظم منها في أي وقت آخر. أو أنّ قلب العابد فيها يكون أكثر موافقة للسانه منه في غير ذلك من الأوقات.

وقيل : المراد بناشئة الليل ساعاته ، والمعنى عليه كسابقه ، ولعلّ أحسن هذه الأقوال أوسطها.

أما موقع هاتين الآيتين مما قبلهما ، فقال بعض المفسرين : إن أولاهما معترضة بين الأمر بالقيام وعلتها التي بينتها الآية الثانية ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)) وإنّ السر في هذا الاعتراض هو تسهيل أمر القيام بالليل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموازنة بينه وبين ما سيوحى إليه من أنواع التكاليف وشدائد الأعمال.

ولكنّك ترى أنّه لا حاجة إلى جعل الآية الأولى معترضة بين ما قبلها وما بعدها ، فإنّ ارتباطها بما قبلها واضح جدّا ، وهي منه في منزلة العلة من المعلول ، فكأنّ الله تعالى يقول لنبيه : (قُمِ اللَّيْلَ) وتجرد للعبادة ، وأعد نفسك لما سيلقى عليك ، لأنّا سنوحي إليك بأمور عظيمة ، وسنحمّلك تكاليف ثقيلة تقتضيها طبيعة الرسالة التي اخترناك لها.

ثم إنّ هذا يتضمّن دعوى أنّ العبادة في جوف الليل تعينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهيئه لتحمل أعباء الرسالة ، والاضطلاع بشؤونها ، فتأتي الآية الثانية وهي قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)) لتعزيز الدعوى. فهي من سابقتها بمنزلة العلة من المعلول. فكأنّ الله جل شأنه يقول : حقا إنّ قيام الليل يعينك على تحمل ما سنلقيه عليك ، لأنّ عبادة الليل أشدّ مواطأة وموافقة للإخلاص والخشوع ، وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب.

٨١٧

قال الله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧))

السبح في الأصل : الذهاب في الماء ، والتقلّب فيه. ويصحّ أن يطلق عن القيد ، فيستعمل في مطلق الذهاب والتقلّب. وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ لك في النهار شغلا كثيرا ، وتقلبا في أعمال متنوعة لا تستطيع معها أن تقوم في النهار بما يريده منك من تلك العبادات الخاصة ، فلذلك كتبناها عليك في الليل ، فيكون هذا تيسيرا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيانا للحكمة في التخفيف عنه ، إذ لم يجمع عليه في النهار بين تلك العبادات وبين ما هو موكول إليه من الأعمال.

ويصحّ أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه ، وأنه يجب أن يتفرّغ له بالليل ، إذ يكفي أن يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من الأعمال. أما الليل فيجب أن يتوفّر فيه على القيام بحقّ الله وعبادته.

قال الله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨))

التبتل : الانقطاع ، يقال بتله وبتّله بالتخفيف والتشديد ، بتلا وتبتيلا ، فانبتل وتبتّل ، ومنه البتول للعذراء المنقطعة عن الأزواج ، أو المنقطعة للعبادة.

يأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه أن يداوم على ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن ، فلا يشغله عن ذلك شاغل في ليله ولا نهاره ، وأن يجعل همّه كله في إرضاء ربه ، ويجرد نفسه عن التعلق بغيره ، ويستغرق في مراقبته في كل ما يأتي وما يذر من الأعمال.

وليس المراد أن ينقطع حتى عن أعمال النهار ، ويعكف على الذكر والعبادة ، فإنّه يتنافى مع قوله تعالى في الآية السابقة : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)) بل المراد التنبيه إلى أنّه ينبغي ألا يشغله السبح في أعمال النهار عن ذكر الله.

هذا وإنما قيل : (تَبْتِيلاً) ولم يقل : تبتلا ، حتى يتفق مع الفعل قبله ، مراعاة للفواصل ، وللدلالة على أنّ التبتل والانقطاع يحتاج إلى عمل اختياري منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يجرّد نفسه عن التعلق بغير الله تعالى ، ويحصر همه في مراقبته جلّ شأنه ، فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك. وقد يقال : فلما ذا لم يقل : وتبتل إليه تبتيلا حتى يوافق الفعل مصدره؟

والجواب : إنّ ذلك للإشارة إلى أنّ المقصود الأهم إنما هو حصول ذلك الأثر ، وهو التبتل.

قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى

٨١٨

وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

المراد من القيام هو ما تقدّم في أول السورة ، وهو صلاة التهجد على ما عرفت. وكلمة (أَدْنى) من الدنو ، وهو القرب ، فهي في الأصل بمعنى أقرب ، تقول :

رأيت محمّدا في الدرس أدنى التلاميذ من الأستاذ ، أي أنه يجلس في أقرب الأمكنة إليه ، لكنّها استعملت في الآية بمعنى الأقل ، على طريق المجاز المرسل ، لأنه إذا قربت المسافة بين الشيئين كانت الأحيان بينهما قليلة.

قرأ الجمهور : (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب عطفا على (أَدْنى) لأنّه ظرف أو مفعول فيكون المعنى : إنّ الله قد علم أنّك كنت تقوم من الليل للصلاة على هذه الأوجه ، فتارة تقوم أقلّ من ثلثيه ، وأخرى تقوم نصفه ، وثالثة تقوم ثلثه ، وهذه القراءة تدلّ على أنّ عمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمل الصحابة معه كان وفق المأمور به في أول السورة ، فإنّه إذا قام أقلّ من الثلثين فقد حقّق الزيادة على النصف ، وإذا قام الثلث ، فقد صدق أنّه نقص عن النصف قليلا. والنصف مطابق للنصف.

وحينئذ لا تكون هناك مخالفة ، لا بطريق الاختيار ، ولا بطريق الاضطرار. ويكون التخفيف عنهم بسبب أنّهم ـ كما علم الله ـ لا يطيقون المواظبة على القيام بالمأمور به ، إذ لا يمكنهم تقدير الليل ، ولا يستطيعون ضبط ساعاته ، فإذا حرصوا على الوفاء بالمطلوب اضطروا أن يأخذوا بأكبر المقادير وأوسعها ، وفي ذلك مشقة زائدة.

وقرأ نافع : (نِصْفَهُ) و (ثُلُثَهُ) بالجر ، عطفا على (ثلثيه) فيكون المعنى : إنّ الله علم أنك تقوم أقل من الثلثين مرّة ، وأقلّ من النصف مرّة ، وأقلّ من الثلث مرّة ثالثة.

وظاهر أنّ ما دون الثلث لا يوافق المأمور به في أول السورة ، وهو أن ينقص من النصف مقدار قليل ، فإنّه لم يجر عرف الكلام أن يقال لما دون الثلث ـ في معرض التقدير بمثل هذه المقادير ـ إنه أقل من النصف ، كما لا يقال لأمر حدث قبيل طلوع الفجر مثلا : إنه حصل بعد العشاء.

على أنّ ما دون الثلث قد جاء في الآية التي معنا مقابلا لما دون النصف ، إذ الأحوال الثلاثة هي : القيام أقل من الثلثين ، وأقل من النصف ، وأقل من الثلث ، فيتعين أن يكون قيام ما دون الثلث شيئا غير قيام ما دون النصف وحينئذ لم يأت عملهم في جميع الحالات موافقا للأمر في أول السورة ، إذ قيام ما دون الثلث لا يكون امتثالا للأمر بقيام النصف إلا القليل. لكنّ ذلك لما لم يكن عن اختيار وقصد ،

٨١٩

بل كان عن محض الضرورة ، بسبب أنهم لم يمكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم لم يكن إثما ، وانتفت فيه المؤاخذة ، وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة ، وهي عدم قدرتهم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل.

وبعد فلا تناقض بين القراءتين ، فإنّ الآية ليست حديثا عما أمروا به من القيام ، بل هي إخبار عن الواقع الذي كان يحصل منهم. وهم كانوا أحيانا يقومون ثلث الليل ، ويقومون نصفه ، ويقومون قريبا من ثلثيه ، وأحيانا يقومون أقلّ من ثلثه ، وأقلّ من نصفه ، ظنا منهم أنهم وفوا في قيامهم أقلّ من الثلث بالقدر المأمور به ، لعدم ضبط الزمن ، وتحديد مقاديره. فقراءة النصب توافق الحالات الأولى ، وقراءة الجرّ تنزّل على الحالات الثانية.

(وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) وهذا معطوف على الضمير المستكنّ في (تَقُومُ) وهو وإن كان ضمير رفع متصل ، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف ، والمعنى : أنّ الله يعلم أنّه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك ، واتبعوا هداك.

وقد يقال : إنّ هذا يدلّ على أنّ قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة ، وهو خلاف ما تقرّر تفسيره في أول السورة ، ويخالف أيضا ما دلّت عليه الآثار المتقدمة هناك.

والجواب : أنه ليس في الآية ما يفيد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا جميعا يصلّون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة التهجد في جماعة واحدة ، فلعلّ بعضهم كان يقيمها في بيته. فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الكلام هنا على الحصر والاختصاص ، أي أنّ الله هو وحده الذي يقدّر الليل والنهار ، يعلم مقاديرهما وأجزاءهما ، وما مضى من كلّ ، وما بقي على التعيين والتحديد.

وهذا الاختصاص ـ على ما يقول الزمخشري (١) ـ مستفاد من تقديم اسم الجلالة مبتدأ ، وبناء الفعل عليه.

أما غير الزمخشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا في الاختصاص ، إذ إنّه إذا قيل : محمد يحفظ الدرس ، أو يتفقه على فلان ، لم يفد ذلك أنه هو وحده الذي يحفظ ويتفقه. فالحصر في الآية مستفاد من سياق الكلام ودلالة المقام.

(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) إحصاء الأشياء عدّها ، والإحاطة بمقدارها ، ويصحّ أن يستعمل في القدرة على الفعل وإطاقته ، وكلّ من المعنيين سائغ في الآية.

__________________

(١) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (٤ / ٦٤٣).

٨٢٠