تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

للمصحف أمر يكاد يجمع عليه ، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم ، أو التعبد عند بعضهم ، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه ، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية ، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة ، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وأنّ الضمير في (يمسه) راجع إليه ، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن ، فليس هو المصحف ، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة ، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون ، ويراد من المس الإدراك ، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة ، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به.

وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)) [عبس : ١٣ ـ ١٦] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون ، إذ هو بأيديهم ، وأما غيرهم فهم لا يمسونه ، لأنه ليس في متناولهم ، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة.

منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين ، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون ، وأما الأخبثون من خلقه ، فلا يصلون إليه ، ويكون ذلك على حد قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)) [الشعراء : ٢١٠ ، ٢١١] أفرأيت كيف نفى الله ابتغاء مجيئهم به ، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به ، وكذلك آية (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) [عبس : ١] التي أسلفنا لك ذكرها.

ومن وجوه الترجيح : أنّ السورة مكية ، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين : من تقرير التوحيد ، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام ، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور.

ومن وجوه الترجيح : أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف ، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف ، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون.

ومن الوجوه أيضا : أنّ الله تعالى قال في وصف الكتاب : (مَكْنُونٍ) وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين ، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية ، قال : هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد : مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار ، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار ، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق : مصون في السماء.

٧٢١

على أنّ ذلك يتفق تماما مع قوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)) ولو نظرت إلى أنّ الآية سيقت للرد على المكذبين لوجدت الذي نقول أبلغ في الرد عليه من وصفه بأنه لا يمسه المحدثون.

على أنّ الآية خبر ، وتأويلها على الوجه الذي ذكرنا يبقيها على خبريتها ، أمّا تأويلها على الوجه الآخر ، فيحتاج إلى إخراجها عن الخبرية إلا الإنشاء ، والأصل إبقاء الخبر على خبريته حتى يوجد المقتضى ، ونحن نبحث عنه فلا نجده.

على أنّه لو كان المعنى ما ذهبوا إليه لقيل : لا يمسه إلا المتطهرون بدل إلا المطهرون ، فالمطهرون من تكون طهارتهم من غيرهم ، أما المتطهرون فطهارتهم مسندة إليهم ، وحيث أراد الله هذا المعنى قال فيه : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢]. وفي الحديث : «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» (١).

ومن وجوه الترجيح أنّه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا ذا فائدة كبيرة ، إذ ما فائدة أن يقال : إنّ القرآن في مستور ، وكل الكتب كذلك.

إنما سيقت الآية الكريمة لمدحه وتشريفه ، وبيان الخصال التي اختص بها ، والتي تدلّ على أنّه منزل من عند الله ، وأنّه محفوظ مصون ، لا تصل إليه الشياطين ، ولا يمسه إلا السفرة الكرام البررة.

نعم إذا كان المفسرون تبعا للفقهاء يستدلّون بالآية من وجهها الذي استدل بها منه ابن تيمية على الحكم كان حسنا ، حيث قال : إنّ الآية تدلّ على الحكم من باب الإشارة والتنبيه ، لأنّه ما دامت صحف القرآن في السماء لا يمسها إلا المطهرون ، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا الطاهر.

على أنّهم لو ذهبوا إلى السنة لوجدوا بها الذين يطلبون ، فقد روى أصحاب السنن (٢) من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أنّ في الكتاب الذي كتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات : «ألا يمسّ القرآن إلا طاهر» وقد رجّح العلماء صحة ما رواه ابن حبان في «صحيحه» ومالك في «الموطأ» ثم الآثار بعد ذلك كثيرة.

ولعل هذا يغنيك عن الرجوع إلى ترجيح أحد الآراء على غيره في التفسير ، أما الحكم فنحن نسلم به من دليله إذا كان في غير الآية ، والآثار عليه كثيرة : منها ما ورد

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (١ / ٧٨) ، كتاب الطهارة ، باب فيما يقال بعد الوضوء ، حديث رقم (٥٥).

(٢) انظر صحيح ابن حبان (١٤ / ٥٠١ ـ ٥١٥) ، وموطأ مالك حديث رقم (١٩٩).

٧٢٢

في حديث إسلام عمر أنّه قال لأخته : أعطوني الكتاب الذي تقرءون ، فقالت : لا يمسه إلا المطهرون ، فقام ، واغتسل ، وأسلم ومسّ المصحف.

وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يأمرون أبناءهم بالوضوء لمس المصحف.

وعن الحسن والنخعي كراهة مس المصحف على غير وضوء. ثم اسمع رأي الجصاص بعد أن نقل الخلاف الذي عرفت آنفا ، قال أبو بكر (١) : إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله ، والمطهرون الملائكة. وإن حمل على النهي ؛ وإن كان في صورة الخبر ، كان عموما فينا ، وهذا أولى ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كتب لعمرو بن حزم «ولا يمس القرآن إلا طاهر» فوجب أن يكون نهيه هذا بالآية إذ هي تحتمله.

ولننتقل بعد ذلك للكلام في القسم وفاء بالذي وعدناك ، وسيكون كلامنا في الموضوع من ناحيتين :

ناحية القسم من الله.

وناحية بمواقع النجوم خاصّة لأنه معنا ، ومن حقك أن تعرف وجه القسم بها ، واختصاصها بالموضع الذي وردت فيه. فنقول :

قد رأيت أول ما كتبنا أنّا سقنا لك أنواعا من القسم الوارد في القرآن ، فعرفت أنّه أقسم بذاته ، وأنّه أقسم بأشياء غير الذات ، ومنها القرآن الكريم ، وأريناك أمثالا كثيرة (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الذاريات : ٢٣](يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)) [يس : ١ ، ٢](وَالصَّافَّاتِ وَالطُّورِ (١)) إلخ ، وقد كان العلماء فرقتين في قسمه بغير ذاته ، فمنهم من سلك طريق التأويل ، وصرف العبارات عن ظاهرها ، فقالوا مثلا (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)) : أي وربّ القرآن الحكيم ، (وَالضُّحى (١)) : ورب الضحى. وهلم جرا. وزعموا أن الذي حملهم على هذا التأويل أنهم :

١ ـ قد رأوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الحلف بغير الله ، وقال : «من كان حالفا فيحلف بالله أو ليذر» (٢) ، والنهي يقتضي قبح المنهي عنه ، فإذا ورد في الشرع ما ظاهره أنّه حلف بغير الله وجب تأويله ، وردّه إلى أن يكون حلفا بالله.

٢ ـ أنّ الحلف بالشيء يقتضي أن يكون المقسم به معظما ، والتعظيم لا يكون إلا لله ، فوجب أن تحمل الأقسام على ذلك.

٣ ـ أنه قد ورد مصرّحا به على هذا النحو في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥)

__________________

(١) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر العربي (٣ / ٤١٦).

(٢) رواه النسائي في السنن (٧ ـ ٨ / ٧) ، كتاب الأيمان ، باب التشديد في الحلف حديث رقم (٣٧٧٣).

٧٢٣

وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)) [الشمس : ٥ ـ ٧] حيث جاء الحلف بالذات بعد الحلف بالسماء وبالأرض وبالنفس ، فلا بدّ أن يكون القسم في الجميع على هذا المعنى.

أما الفرقة الأخرى من العلماء فذهبت إلى أنّ القسم وقع بأعيان الأشياء المقسم بها ، وقد قالوا في الاحتجاج على صحة ما ذهبوا إليه :

١ ـ أن القسم هو بهذه الأشياء في الظاهر ، والعدول عنه عدول عن الظاهر ، ولا يكون إلا لدليل ، وما ذكرتم لا يصلح دليلا ، لأن ما منع من العباد لا يلزم أن يكون ممنوعا صدوره من الله. إذ المانع في حق العباد أن في القسم بغير الله تعظيما لذلك الغير ، والعباد يجب ألا يشركوا مع الله أحدا في التعظيم. وهذا المعنى غير مدرك في جانب الله تعالى ، فهو إذ يعظّم ، فإنما يعظّم أشياء دانت له بالربوبية ، ولا يمكن في العقل أن تتعاظم على من هي في قبضة يده وبسطة سلطانه.

وهو إذا يعرّف الناس بعظمتها ، فإنما يرشدهم إلى عظمة خالقها ، وأنه إذ يقسم بها فإنما يقسم لأنّ لها شأنا بديعا ، ومنفعة عند العبد يدركها ، وينتقل من إدراك إتقان صنعها إلى أنه لا بد أن تكون صادرة عن المدبر الحكيم ، اللطيف الخبير ، ثم هي فوق ذلك نعمة من نعمه على عباده ، والحلف بها تذكير بالنعمة لتقابل بالشكر.

٢ ـ إنه قال تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)) فأقسم بالسماء ، ثم عطف عليها ما بناها ، وذلك على طريقتكم قسم بالباني ، فلو كان القسم على تقدير مضاف لتكرر القسم في الموضع الواحد من غير موجب ، إذ يصير المعنى وباني السماء وبانيها ، وطاحي الأرض وطاحيها ، ومسوّي نفس ومسويها. ومثل هذا ينزّه عنه القرآن الكريم.

ولو قلنا على طريقتنا إنّ هذا قسم بالسماء وببانيها ، أو ببنايتها لم يلزم هذا المحذور ، فتعيّن أن يكون القسم قسما بأعيان هذه الأشياء.

٣ ـ أنّه لا يبعد أن يقسم بهذه الأشياء تنبيها إلى شرفها ، وما حوت من إبداع وإتقان ، ليكون ذلك دليلا على عظمة خالقها ، وأنّه إله واحد. ويكون ذلك من تضافر الحجج على المدعى الواحد ، فهو قسم واستدلال بما في المقسم به من وجوه الدلالة المختلفة ، ومن أجل ذلك نقول : لا داعي إلى التأويل ، والقسم قسم بأعيان الأشياء وحقيقتها.

وهنا سؤال يتردّد كثيرا ، حاصله أن يقال : ما فائدة القسم؟ والمخاطب أحد رجلين : مؤمن بالقرآن ، ومكذب به ، وما كان المؤمن محتاجا وهو مؤمن إلى قسم ، فهو مصدّق من غير يمين. وإن كان من المكذبين الذين لم تغنهم الآيات والنذر ، فكيف يصدّق لمجرد القسم بعد أن لم يؤثّر فيه الدليل؟

٧٢٤

ويقول العلماء جوابا عن هذا : إنّ هذه الأيمان والأقسام لم تجئ لإثبات الدعاوى ، فالدعاوى لها ما يثبتها ، وقد اقترنت من دلائل الإثبات بما لا يدحض ، إنما جاءت هذه الأقسام لتوكيد ما ثبت من طريق الحجة والبرهان على منهاج العرب وأسلوبهم في توكيد الكلام بالحلف ، وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم ، والقرآن بلغتهم نزل.

على أننا نحيلك إلى التبصر في كل الأقسام الواردة في القرآن ، وبالتأمل فيها تجدها أشياء في مواضعها أقسم بها ، وقد حوت من الدلائل ما يجعل القسم ليس قسما في الواقع ، وإنما هو تذكير بالدليل الذي يشتمل عليه المقسم به ، فهو يذكر في معرض القسم ، وهو مخلوق من المخلوقات ، فتتوجه النفس إلى سر القسم بهذا المخلوق متسائلة : ما القسم بهذا؟ وما معناه؟ وما مغزاه؟ وما سره؟ ثم تتوجه من ذلك إلى ما في القسم به ، باعتبار ما ينبعث منه من بواعث التعظيم ، ويكون حاصل المعنى ، وحق هذه الأشياء التي ينطق صنعها ووجودها بالعظمة أنّ المقسم عليه لحق.

وما دمنا قد وصلنا إلى هذا فلنتكلم على القسم بمواقع النجوم :

يقول الله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)) والحديث قبل القسم من أول سورة الواقعة في شأن الواقعة والقيامة الكبرى ، وما يكون فيها من أشياء جسام (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤)) ثم ذكر الله أقسام الخلق يومئذ ، ثم ذكر الأدلة القاطعة على عموم قدرته ، وعلى المعاد. فذكر النشأة الأولى دليلا : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢)).

ثم ذكر إخراج النبات من الأرض ، وإنزال الماء من السماء. وخلق النار ، وسأل الناس (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢)) ثم ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا ، وأمر نبيه أن يسبّح باسم ربه العظيم ، ثم أقسم بمواقع النجوم على إثبات القرآن ، وكرمه وصونه ، وحفظه ، وأنه تنزيل من رب العالمين.

وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء في المراد بالمواقع ، وما دام الكلام سيكون في سر القسم بها نذكر شيئا مما قيل فيها غير ما سمعت :

فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : النجوم آيات القرآن ، ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء. وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبير ، ومقاتل ، وقتادة.

٧٢٥

وقيل : النجوم الكواكب ، ومواقعها مساقطها عند الغروب ، وهو قول أبي عبيدة ، وقد تقدم قول كهذا.

وقيل : بل مواقعها انتثارها وانكدارها يوم القيامة ، وهو مروي عن الحسن.

ويقول الذي يقول المواقع المساقط عند الغروب : إنّ الله تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها ، وجريانها وغروبها ، إذ فيها ، وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة.

والنجوم متى ذكرت في القرآن الكريم فالمراد منها الكواكب ، انظر إلى قوله تعالى : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) [الطور : ٤٩](وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ) [الأعراف : ٥٤] ومن هنا يمكن أن يقال ـ بل هو قد قيل : إنّ المناسبة بين المقسم به ؛ وهو النجوم ومواقعها ، وبين المقسم عليه وهو القرآن ، أنّ النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والغواية ، وتلك ظلمات حسية ، وهذه ظلمات معنوية ، تلك يؤمن جانبها بالنجوم ، وهذه تتوقى بهداية القرآن ، فالقسم هنا قد جمع فيه بين هدايتين.

هداية ومنافع ، ليدير الناس وجوههم إلى القرآن ، ويتبصّروا ما فيه جيدا ، فيعلموا أنّه هاديهم الذي لا يضلون معه. ولا تنس كذلك أنّ الله قد جعل النجوم رجوما للشياطين ، وفي آيات القرآن من رجوم الشياطين ما تجعل الشياطين يولّون عند سماعه ، وما نريد أن نترك هذا الموضع حتى نسمعك رأي الفخر الرازي (١) في هذا : قال رحمه‌الله بعد سؤال حاصله : هل في القسم بمواقع النجوم خاصة فائدة؟

قلنا : نعم ، فائدة جليلة ، وبيانها أنّا قد ذكرنا أنّ القسم بمواقعها ، وأن المواقع كما هي مقسم به ، هي من الدلائل ، وقد بيّناه في الذاريات ، وفي الطور ، وفي النجم ، وفي غيرها ، فنقول هي هنا كذلك.

وذلك من حيث أنّ الله تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المني وموته ، بيّن بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس ، قدرته واختياره ، ولما كان هذا دليلا من دلائل الأنفس ذكر أيضا من دلائل الآفاق على قدرته واختياره فقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ) إلى غير ذلك ، وذكر قدرته على زرعه ، وجعله حطاما. وخلقه الماء عذبا فراتا ، وجعله أجاجا ، إشارة إلى أنّ القادر على الضدين مختار ، ولما لم يكن قد ذكر من الدلائل السماوية شيئا ، ذكر الدليل السماوي في معرض القسم ، وقال : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) فإنها أيضا دليل الاختيار ، لأنّ كون كلّ واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل على أنّ الفاعل مختار. فقال :

__________________

(١) انظر كتابه مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (٢٩ / ١٨٨).

٧٢٦

(بِمَواقِعِ النُّجُومِ) ليشير إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر ، كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] وهذا كقوله : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢)) [الذاريات : ٢٠ ـ ٢٢] حيث جمع بين الأنواع الثلاثة كذلك هنا اه.

وهو جميل كما ترى ، غير أنّ للباحث أن يقول : ظاهر كلام الفخر أنّ القسم بمواقع النجوم لإثبات القدرة والاختيار لفاعل مختار ، لكن الآية تقول : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)) وظاهر ذلك أنّ المراد إثباته هو هذا الذي سيق مساق المقسم عليه ، فمن أين إثبات القدرة والفاعل المختار في القسم بمواقع النجوم؟

وفي النفس من كلام الفخر روعة ، ومن آثارها أن نقول : إنّ هذا استدلال على القدرة والفعل من طريق القسم على القرآن وكرمه وصونه ، وأنّه تنزيل من رب العالمين بمواقع النجوم من طريق أبلغ ، وكأنّه بعد أن سيقت الدلائل السابقة ، والتي كان ختامها القسم بمواقع النجوم ، وذكرت في القرآن كأنه قيل : اذكروا هذه الدلائل ، وتعرّفوا نتائجها ، واذكروا معها مواقع النجوم ، وتعرّفوا نتيجة الاستدلال بها ، تعلموا أنّ القرآن ـ الذي جاء بهذا ـ كريم ، وأنّه مصون ، وأنّه تنزيل من رب العالمين.

وقبل أن نختم الموضوع نقول : إنّ قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)) توكيد لما قبله ، وتقرير له. وكما أنّه لازم لكونه قرآنا كريما بهذا في كتاب مكنون ، فهو ملزوم له ، فهو دليل وهو مدلول ، وكفى هذا خاتمة للموضوع.

٧٢٧

من سورة المجادلة

قال الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١))

ثبت في السنن والمسانيد (١) أنّ أوس بن الصامت قال لزوجته خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه : أنت عليّ كظهر أمّي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه ، فندم من ساعته ، فدعاها ، فأبت ، وقالت : والذي نفس خولة بيده ، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سنّي ، ونثرت بطني ، جعلني عليه كأمه ، وتركني إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية : «ما أراك إلا قد حرمت عليه». قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا ، ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي ، وشدّة حالي ، وروي أنها قالت : إنّ لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء ، وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، وما برحت حتى نزل القرآن فيها. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خولة أبشري» قالت : خيرا ، فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

قال النحاة : إنّ قد الداخلة على الماضي لا بدّ فيها من معنى التوقع ، يعنون أنه لا يقال : قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل ، أو يسأل عنه ، ولذلك قال سيبويه : وأما قد فجواب هل فعل ، لأنّ السائل ينتظر الجواب ، وقال الخليل : هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر ، يريد أنّ الإنسان إذا سئل عن فعل ، أو علم أنّ المحدّث يتوقع أن يخبر به قال : قد فعل. وإذا كان المخبر مبتدئا قال : فعل كذا وكذا.

و (قد) هنا فيها معنى التوقع ، فإنّ السماع في قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٢ / ٢٤١) ، كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (٢٢١٤).

٧٢٨

تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية. ولا شكّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوقع أن يجيب الله دعاءها ويفرّج كربها.

(تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أي تراجعك الكلام في شأن زوجها (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) الشكوى أن تخبر عن مكروه أصابك ، وهي من الشكو ، وأصله فتح الشكوة ، وإظهار ما فيها ، والشكوة وعاء كالدلو ، أو القربة الصغيرة ، يتخذ للماء واللبن ونقع الزبيب والتمر ، ثم شاع استعمال الشكوى في إظهار البثّ ، وما انطوت عليه النفس من المكروه.

(وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) السمع هنا على حقيقته المعروفة ، وهي أنّه صفة يدرك بها الأصوات ، غير صفة العلم ، أو أنه نوع من الإدراك يرجع إلى صفة العلم. والتحاور : المرادّة في الكلام ، وهو قريب من معنى المجادلة.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ، ويبصر كل المبصرات ، على أتم وجه وأكمله ، ومن لازم ذلك أن يسمع تحاورهما ، ويبصر هيئة المجادلة حين رفعت رأسها إلى السماء مبتهلة ضارعة.

قالت عائشة رضي الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا في كسر البيت يخفى عليّ بعض كلامها ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)) أخرجه البخاري والنسائي (١).

قال الله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢))

الظهار لغة مصدر ظاهر ، مفاعلة. يقال : ظاهر زيد عمرا ، إذا قابل ظهره بظهره حقيقة ، وظاهره غايظه ، وإن لم يكن هناك تقابل حقيقة ، باعتبار أنّ المغايظة تقتضي هذه المقابلة ، وظاهره : ناصره باعتبار أنّه يقال قوّى ظهره إذا نصره ، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر ، باعتبار ما يلي به كل منهما الآخر ظهر الثوب. وظاهر من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك طلاقا في الجاهلية كما تقدم ، وقال بعض العلماء : وكان طلاقا أيضا في أوّل الإسلام ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرواية السابقة : «ما أراك إلا قد حرمت عليه». وحكى بعضهم أنّه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وقيل : لم يكن طلاقا من كل وجه ، بل كانت الزوجة تبقى معلقة ، لا ذات زوج ،

__________________

(١) رواه البخاري (٨ / ٢١٢) ، ٩٨ ـ كتاب التوحيد ، ٩ ـ باب (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) والنسائي كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (٣٤٦٠).

٧٢٩

ولا خلية تنكح غيره ، وكان الظاهر أن يقال : ظاهر زوجته ، كما يقال طلق زوجته ، إلا أنّه لتضمنه معنى التبعيد عدّي بمن.

وقوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ليس خبر المبتدأ ، إنما هو دليله ، والخبر محذوف ، والتقدير : الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون ، لسن أمهاتهم ، ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم ، فلا يشبّه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن.

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) وصف الله الظهار بأنه منكر وزور ، باعتبار أنّ قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) يتضمّن إخبارا وإنشاء ، فالأول من جهة إخباره بأنها تشبه أمه ، والثاني من جهة أنه أنشأ طلاقها وتحريمها ، فهو خبر زور ، وإنشاء منكر ، ينكره الشرع ، ولا يعرفه.

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) كثير العفو والمغفرة ، فيغفر لهم ما سلف من الظهار ، ويعفو عمن ارتكبه إذا تاب.

تمسّك المالكية بظاهر قوله تعالى : (مِنْكُمْ) في أنّ الذمي إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي لم يعتبر ذلك ظهارا ، ولم تترتب عليه أحكام. وهذا هو المنقول عن الحنابلة ، وهو المعول عليه عند الحنفية ، إلا أنّ الحنفية لم يستدلوا عليه بمفهوم قوله تعالى : (مِنْكُمْ) ، بل حجتهم في ذلك أنّ الذمي ليس من أهل الكفّارة.

وقال الشافعية كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه ، يصحّ ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه ، وقوله تعالى : (مِنْكُمْ) إنّما ذكر للتصوير والتهجين ، لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب ، فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي.

واعترض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشتراطهم النية في الكفارة بخصالها الثلاث والإيمان في الرقبة. والذمي ليس من أهل النية ، ويتعذّر ملكه للرقبة المؤمنة.

وأجابوا عن ذلك بأنّ خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم ، ومنها ما هو من قبيل الغرامات وهو العتق والإطعام ، والنية فيما كان من قبيل الغرامات إنّما هي للتمييز ، فلا يشترط فيها الإسلام ، كما في قضاء الديون. فالذمي يكفّر بالإعتاق والإطعام ، ولا يكفّر بالصوم ، لأنه لا يصح منه ، كما أنّ العبد المظاهر لا يكفّر بغير الصوم ، لأنه لا يملك. ويتصور ملك الذمي للعبد المسلم بإسلام قنّه ، أو بقوله لمسلم : أعتق عبدك عن كفارتي فيجيبه ، فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو موسر ، منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة المسلمة ، بأن يسلم فيشتريها ، وكذلك لا ينتقل من الصوم إلى الإطعام لقدرته عليه بالإسلام. فإن عجز عن الصوم لكبر ونحوه انتقل إلى الإطعام ، ونوى للتمييز أيضا.

٧٣٠

قال العلماء : لفظ النساء المضاف إلى الرجال حقيقة في الزوجات دون الإماء ، لأنّ المتبادر من كلمة نساء الرجل إنما هو زوجاته دون إمائه ، فلا يقال فيهن نساؤه ، إنما يقال جواريه وإماؤه وسراريه. والتبادر من أمارات الحقيقة ، وحينئذ يكون ظاهر قوله تعالى : (مِنْ نِسائِهِمْ) أنّ الظهار إنما يكون في الزوجات ، فلو قال لأمته : الموطوءة ، أو غير الموطوءة : أنت عليّ كظهر أمي ، لم يعتبر ذلك ظهارا ، ولم تترتب عليه أحكام الظهار ، وهو منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، وإليه ذهب الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة.

وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا.

وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الأمة الموطوءة ، ذهبوا إلى التعميم في قوله تعالى : (مِنْ نِسائِهِمْ) كما عمّ قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) [النساء : ٢٣] الزوجات والإماء ، فحرّم بنت الأمة كما حرّم بنت الزوجة.

واقتضى قوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أنه ليس للنساء ظهار ، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شيء ، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة ، وقال أبو بكر بن العربي : وهو صحيح معنى ، لأنّ الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ، ليس بيد المرأة منه شيء.

ونقل أبو حيان عن الحسن بن زياد أنّها تكون مظاهرة ، ويلزمها التكفير قبل التماس.

وعن الأوزاعي وعطاء وإسحاق أنّ عليها كفارة يمين ، وعن الزهري : أنها تكفّر كفارة الظهار ، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها.

وكذلك اقتضى عموم الموصول في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) صحة ظهار العبد من زوجته ، لأنّ أحكام النكاح في حقه ثابتة. وإن تعذّر عليه العتق والإطعام ، فإنه قادر على الصيام. وحكى الثعلبي عن مالك أنّه لا يصح ظهار العبد. ولكنّ الذي عليه المعوّل عند المالكية هو صحة ظهاره.

ويؤخذ من قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أنّ الظهار حرام ، بل اعتمد فقهاء الشافعية القول بأنه كبيرة ، لأنّ فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله دون إذنه سبحانه. ولأنّ من أقدم على الظهار بعد أن أخبر الله بأنه منكر من القول وزور يعتبر كاذبا معاندا للشرع ، فمن ثمّ كان كبيرة.

قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا

٧٣١

ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

رتب الله الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود ، وقد اختلف أهل التأويل في العود ما هو؟

فحكى عن مجاهد أنّ الظهار في الإسلام عود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية ، ومعنى الآية عنده : والذين كان من عادتهم أن يظاهروا من نسائهم ، فقطعوا ذلك بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فعلى من عاد منهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا .. إلخ فالكفارة تجب بنفس الظهار في الإسلام. وقد روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان البتّي.

وقال أبو العالية وأهل الظاهر : العود تكرار لفظ الظهار وإعادته ، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار.

واختلفت الروايات عن الأئمة الأربعة ، فأصحّ الروايات عن أبي حنيفة أنّ العود هو العزم على الوطء.

وروى ابن الجلّاب عن مالك روايتين : أولاهما : أنه العزم على الوطء. وثانيتهما : أنه العزم على الإمساك. وابن العربي ينقل عن «الموطأ» أنه العزم عليهما معا.

وقال الإمام أحمد في قوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال : هو الغشيان إذا أراد أن يغشى كفّر. اه.

وقال الشافعي : الذي عقلت مما سمعت في (يَعُودُونَ لِما قالُوا) أنّ المظاهر حرم مس امرأته بالظهار ، فإذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار ولم يحرّمها بالطلاق الذي يحرّم به ، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به ، فقد وجب عليه كفارة الظهار ، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرّم على نفسه عاد لما قال فخالفه ، فأحل ما حرّم ، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا.

فأمّا مجاهد ومن يرى رأيه ، فلم يخف عليهم أنّ العود شرط في الكفارة ، ولكنّ العود عندهم هو العود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من المظاهرة من الزوجات ، وهكذا استعملوا العود في معناه الحقيقي ، كما قال الله تعالى في جزاء الصيد : (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] أي ومن عاد للاصطياد بعد نزول تحريمه ، وكما قال تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٨] أي وإن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة ، وقد أخبر الله عن الظهار أنه منكر وزور ، فهو معصية منهيّ عنه ، والعود إلى المنهي عنه فعله بعد النهي عنه.

٧٣٢

ولا يخفى أنّ حمل الكلام على تأويل مجاهد ومن يرى رأيه خروج بالآية عن مقتضى الفصاحة ، وتفكيك لنظمها. فإنّهم جعلوا الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار (يَظْهَرُونَ) بمعنى الماضي المنقطع. وجعلوا العائد غير المظاهر ، إذ المظاهرون على رأيهم أهل الجاهلية ، والعائدون أهل الإسلام ، فإذا ساغ فهم ذلك في رجل ظاهر في الجاهلية ، ثمّ ظاهر في الإسلام ، فكيف يسوغ في رجل لم يظاهر في الجاهلية ، أو لم يدرك الجاهلية أصلا؟

ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام ، وعليه ينطبق سبب النزول ، وأيضا فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة ، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟

وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية ، كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء ، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة.

وكذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات ، والعهد قريب.

وقالوا أيضا : أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم ، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته ، فأنزل الله فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار.

وقالوا أيضا : فما عدا تكرار اللفظ : إما إمساك ؛ وإما عزم ؛ وإنما فعل ، وليس واحد منها عودا لما قال ، فلا يكون الإتيان به عودا ، لا لفظا ولا معنى.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة ، وقصة خولة تدفعه ، لأنّه لم ينقل التكرار ، ولا سأل عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك لم يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة : أهذا ظهار مكرّر ، أم هو أول ظهار؟

وأما حديث عائشة فما أصحّه ، وما أبعد دلالته على ما قالوا ، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة ، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله تحريم الظهار ، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس ، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة ، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها ، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا.

أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى :

٧٣٣

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أنّهم يكررون ما قالوا ، إلّا أنّه منع من هذا الظاهر أن التكرار لم ينقل في قصة خولة وزوجها أوس ، ولا في قصة سلمة بن صخر ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسأل أوسا ولا سلمة عنه.

وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل : (عاد لما فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى ، وهذا ظاهر. وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه. لأنّ التصرف في الشيء بنقضه وتداركه لا يمكن إلا بالعود إليه ، فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم ، وجب المصير إلى المعنى الثاني وهو النقض والتدارك.

إلا أنّ الأئمة مختلفون في العمل الذي ينقضه المظاهر ويتداركه ، فيرى غير الشافعي أنّ الظهار يوجب تحريما للزوجة لا يرفعه إلا الكفارة ، فالذي يريد المظاهر نقضه وتداركه هو تحريمها عليه ، ونقض ذلك التحريم وتداركه إنما يكون بوطئها ، أو بالعزم على وطئها ، أو باستباحة وطئها ، على خلاف بينهم تقدم بيانه.

ويرى الشافعي أنّ كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة بالأم ، وهذا التشبيه يقتضي فراقها ، فالذي يريد المظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها ، فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ؛ ولم يفارق صار ناقضا لمقتضى ما قال ؛ راجعا عنه. وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد.

واعترض القول بأن العود هو الوطء بأنّ الآية ناصّة على وجوب الكفارة قبل الوطء ، فيكون العود سابقا عليه ، فكيف يكون هو الوطء؟

وأجاب بعض من يرى هذا الرأي بأنّ المراد من قوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) من قبل أن يباح التماس شرعا ، والوطء أولا حرام ، موجب للتكفير ، وهذا الجواب خروج باللفظ عن مقتضى ظاهره ، من غير أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا المذهب.

وأجاب آخرون : بأنّ قوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) معناه ثم يريدون العود ، كما قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] وكما قال : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها ، وهذا معنى قول الإمام أحمد وقد تقدّم : إذا أراد أن يغشى كفّر.

واعترض القول بأنّ العود هو العزم على الوطء بأنّ الآية لما نزلت ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المظاهر بالكفارة ، لم يسأله هل عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك ، والوقائع القولية كهذه يعمّها الاحتمال ، فتكون الكفارة واجبة ، سواء أعزم على الوطء أم لم يعزم.

والجواب أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك السؤال عن ذلك ، لعلمه به من خولة ، فقد أخرج

٧٣٤

الإمام أحمد وأبو داود (١) وغيرهما من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال : حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة ، كنت عنده شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، فدخل عليّ يوما ، فراجعته بشيء ، فغضب ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم رجع ، فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليّ ، فإذا هو يريدني عن نفسي ، قلت : كلا والذي نفس خولة بيده ، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت ، حتّى يحكم الله ورسوله فينا. ثم جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت له ذلك ، فما برحت حتّى نزل القرآن ... الخبر. فإنّ ظاهر قولها : فذكرت له ذلك أنّها ذكرت كلّ ما وقع. ومنه طلب أوس وطأها ، المكنّى عنه ب : يريدني عن نفسي. وذكرها ذلك له عليه الصلاة والسلام أهمّ لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام.

واعترض القول بأنّ العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ولم يفارق ، بأن الله تعالى قال : (ثُمَّ يَعُودُونَ) وكلمة (ثم) تقتضي التراخي الزماني ، والإمساك المذكور معقب لا متراخ ، فلا يعطف بثم ، بل بالفاء.

والجواب أن زمن الإمساك ممتدّ ، ومثله يجوز فيه العطف بثم ، والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه.

وقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) مبتدأ ثان ، خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة ، والجملة خبر الموصول ، ولتضمنه معنى الشرط زيدت الفاء في خبره ، والمراد بالرقبة المملوك من تسمية الكل باسم الجزء فتحرير الرقبة إعتاق المملوك ، وجعله حرّا.

وقد أطلق الله الرقبة هنا ، ولم يقيّدها بالإيمان ، فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة في الكفارة ، وبهذا الظاهر قال الحنفية وأهل الظاهر ، وقالوا : لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحان ، كما بينه في كفارة القتل ، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله ، ويقيد ما قيده ، فيعمل بكلّ منهما في موضعه ، وزاد الحنفية أنّ اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص ، وهو نسخ ، والقرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن أو الخبر المشهور ، ولا يحمل المطلق على المقيّد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة ، ولا يلزم من التقييد في كفارة القتل الذي هو أعظم ، ثبوت مثله في كفارة الظهار الذي هو أخف ، فلا يصحّ أن تكون آية القتل بيانا لآية الظهار.

وذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إلى اشتراط الإيمان في كفارة غير القتل ، كما هو شرط في كفارة القتل ، قالوا في بيان ذلك واللفظ للشافعي : شرط الله سبحانه في الرقبة في القتل أن تكون مؤمنة ، وأطلق هنا ، كما شرط العدالة في

__________________

(١) سبق تخريجه.

٧٣٥

الشهادة ، وأطلق الشهود في مواضع ، فاستدللنا به على أنّ ما أطلق على معنى ما شرط. على أنّه سبحانه إنما ردّ زكاة المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقات ، فلم تجز إلا لمؤمن ، وكذلك ما فرض من الرقاب ، لا يجوز إلا لمؤمن.

قال الشافعي : وإنّ لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه ، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم. قال : ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة ، وهذا بناء على هذا الأصل ، وأن النذر محمول على واجب الشرع ، وواجب العتق لا يتأدّى إلا بعتق المسلم. ومما يدلّ على هذا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة : «ائتني بها» ، فسألها : «أين الله»؟ فقالت : في السماء. فقال : «من أنا»؟ فقالت : أنت رسول الله. فقال : «أعتقها فإنّها مؤمنة» (١) قال الشافعي : فلما وصفت بالإيمان أمر بعتقها اه.

والضمير في قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) للمظاهر والمظاهر منها معلومين من السياق ، والتماسّ كناية عن الجماع ، فدلّت الآية على حرمة الجماع قبل التكفير.

وألحق الحنفية بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه ، لأنّ الأصل أنه إذا حرّم الشيء حرّم بدواعيه ، إذ طريق المحرم محرم ، وأظهر القولين عند الشافعية الجواز ، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح ، فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه ، فإنّ الحائض يحرم جماعها دون دواعيه ، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه ، والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه.

أوجبت الآية الكفارة قبل المسيس ، وقد يذهب من يتمسّك بالظواهر إلى أنّه إذا وطئ قبل أن يكفّر أثم ، وسقطت عنه الكفارة ، لأنه قد فات وقتها ، ولم يبق له سبيل إخراجها قبل التماس ، وهذا الحكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف.

ولكنّك تعلم أنّ الآية مع أنّها وقتت للكفارة ميقاتا هو ما قبل المسيس ، فإنّها مع ذلك حرّمت على المظاهر العائد المسيس حتى يكفر ، فما لم يكفر لا يحل له وطؤها ، ولو وطئها مئة مرة ، وفوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة ، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. فلا يزال المظاهر مطالبا بالكفّارة.

وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة أخرج أبو داود والترمذي (٢) وغيرهما أنّ سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته ، فوقع عليها قبل أن يكفّر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٣٨١) ، ٥ ـ كتاب المساجد ، ٧ ـ باب الكلام في الصلاة حديث رقم (٣٣).

(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ٥٠٣) ، كتاب الطلاق ، باب كفارة الظهار حديث رقم (١٢٠٠) ، وأبو داود (٢ / ٢٤٠) ، كتاب الطلاق ، باب الظهار حديث رقم (٢٢١٣) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٦٦٥) ، ١٠ ـ كتاب الطلاق ، ٢٥ ـ باب الظهار حديث رقم (٢٠٦٢).

٧٣٦

حملك على ذلك»؟ فقال : رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاعتزلها حتى تكفّر» فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفّر ، وإلى ذلك ذهب الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين.

ويروى عن مجاهد في الرجل يطأ قبل أن يكفّر أنّ عليه كفارتين ، وصحّ مثله عن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي الله عنهم ، ووجه قولهم : أنّ إحدى الكفارتين للظهار الذي اقترن به العود. والثانية للوطء المحرم ، كالوطء في نهار رمضان ، وكوطء المحرم. وعن الحسن وإبراهيم أنّ عليه ثلاث كفارات ، ولا يعلم لذلك وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام ، وحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدلّ على خلاف هذه الأقوال.

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي الحكم بالكفارة ، تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عالم بجميع أعمالكم ، ظواهرها وبواطنها ، ومجازيكم عليها كلها ، فحافظوا على حدود ما شرع لكم ، ولا تخلّوا بشيء منه.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)).

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا.

والمراد بمن لم يجد الرقبة من لم يملك الرقبة ؛ ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته ، واختلفت مذاهب الفقهاء في بيان قدر الكفاية ، ومحلّ ذلك كتب الفروع ، وكذلك اختلفوا في اعتبار وقت اليسار والإعسار. فذهب مالك والشافعي في أظهر أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء ، لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها ، كالوضوء والتيمم ، والقيام من الصلاة والقعود فيها ، فاعتبر وقت أدائها.

وذهب أحمد والشافعي في أحد أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب ، تغليبا لشائبة العقوبة ، كما لو زنى قنّ ثم عتق ، فإنّه يحدّ حدّ القنّ.

وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور بالأهلة ، فلا فرق بين التام والناقص ، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر كمّل الشهرين بالهلال ، ولو اتفق أنهما ناقصان أجزأه ذلك إجماعا. ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر ـ فقد اختلفوا فيه ، فقال الشافعية : بحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه ، ويتم الأول من الثالث ثلاثين يوما ، لتعذّر الهلال فيه. وقال الحنفية : لا بدّ من ستين يوما.

أوجبت الآية التتابع في صيام الشهرين ، فلو أفطر يوما منهما ؛ ولو الأخير من غير عذر ، انقطع التتابع ، ولزمه الاستئناف اتفاقا. ومن صور الفطر بغير عذر أن

٧٣٧

يتخللها يوم يحرم صومه كيوم النحر ، لأنّه لو ابتدأ صوم الشهرين وهو يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما فسد صومه ، لأنّه نيته لصوم الكفارة مع علمه بطروء المبطل تلاعب منه ، فهو كالإحرام بالظهر قبل وقتها ، مع العلم بذلك. ولو ابتدأ صومهما وهو لا يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما صحّ صومه ، لكنّه لا يعتدّ به في الكفارة ، لأنّه قطع التتابع بتقصيره.

أما الإفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه ، فذهب الحنفية إلى وجوب الاستئناف لزوال التتابع المشروط ، وهو قادر عليه عادة.

وذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا يقطع التتابع ، لأنّ التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان ، وهو يسقط بالعذر.

وفرّق بعض العلماء بين العذر الذي يمكن معه الصوم : كالسفر والمرض ، والعذر الذي لا يمكن معه الصوم : كالجنون والإغماء جميع النهار ، فجعل الأول قاطعا للتتابع ، والثاني غير قاطع له.

وأوجبت الآية أن يكون صوم الشهرين المتتابعين قبل المسيس ، وقد رأى بعض الظاهرية أنّ من وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعين أثم بالوطء ، وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها ؛ وعدم التمكن من إيقاع الصيام المتتابع قبل المسيس. كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق ، وقد تقدم. والجواب هنا هو الجواب هناك.

واختلف الفقهاء فيمن وطئ التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا متعمدا ونهارا ناسيا.

فذهب أبو حنيفة ومحمد ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه إلى وجوب استئناف الصوم عملا بظاهر الآية ، فإنها أمر بصيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما. فإذا جامعها في خلال الشهرين لم يأت بالمأمور به.

وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه إلى عدم وجوب الاستئناف ، لأنّ هذا الوطء لم يفسد الصوم ، فلم يتخلّل الشهرين إفطار ، فلم ينقطع التتابع ، وليس من شرط التتابع ألا يتخلل الشهرين جماع.

وكما أنّ ظاهر الآية وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما ، كذلك ظاهرها وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس قبلهما ، فلو كان الواطئ في خلالهما غير آت بالمأمور به ، لكان الوطئ قبلهما غير آت بالمأمور به ، ولفات الامتثال بالوطء قبلهما ، ولا قائل به غير أهل الظاهر ، فوجب حينئذ حمل قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) على تحريم المسيس قبل أن يتمّ صيام الشهرين المتتابعين ، لا على أنّ عدم المسيس شرط في الاعتداد بالصوم.

٧٣٨

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع الصيام : أو لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ، كهرم ، ومرض لا يرجى زواله ، أو يطول زمانه ، أو لحوق مشقة شديدة لا تحتمل عادة ، فعليه إطعام ستين مسكينا.

أطلقت الآية إطعام المساكين ، ولم تقيده بقدر ولا تتابع ، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز ، وكان ممتثلا لأمر الله تعالى ، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين ، وليس معنى هذا [أن] تمليك المساكين لا يجزئ ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام ، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة ، فأيهما وقع من المكفر أجزأه.

وأوجب الشافعية تمليكهم ، قالوا : نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة ، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك ، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك ، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لا بدّ فيهما من التمليك ، كذلك الكفارة لا بدّ فيها من التمليك ، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة ، فلا تقوم مقامه الإباحة.

ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية : يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر ، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب «فتح القدير».

وقال الشافعية : لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر ، لأنّه صحّ في رواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقدير الكفارة بستين مدا ، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا ، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ ، ولإمكان الجمع بين الروايتين ، فكان ذلك الجمع متعينا ، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب.

ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان ، وقيل : مد وثلثا مد ، وقيل : ما يشبع من غير تحديد.

وظاهر قوله تعالى : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أنّه لا بدّ من استيفاء عدد الستين ، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه ، والثانية إن وجد غيره لم يجزئه ، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه. والثالثة : أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا ، ولو لواحد في ستين يوما ، وهو مذهب أبي حنيفة (١) رحمه‌الله ، قالوا : لأنّ المقصود سدّ خلة

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٣٠١).

٧٣٩

المحتاج ، والحاجة تتجدد كل يوم ، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره ، وكالدفع إليه في اليوم الأول ، وأنت تعلم أنّ الآية نصّت على ستين مسكينا ، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا ، فكان التعليل بأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النصّ فلا يجوز.

ألا ترى الحنفية حين قالوا : لا يجزئ الدفع لمسكين واحد طعام ستين دفعة واحدة ، علّلوا ذلك بأنّ التفريق واجب بالنص ، مع أنّ تفريق الدفع غير مصرّح به ، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين ، فالنص على العدد أولى بالاعتبار ، لأنّه المستلزم ، وغاية ما يعطيه كلامهم أنّه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما ، فكان تعدّدا حكما. وحينئذ يلزم أنّ يكون المراد بالستين مسكينا في الآية مسكينا حقيقة أو حكما ، من باب عموم المجاز الذي يشمل تعدد المساكين حقيقة ، وتعددهم حكما ، فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة ، وهو أعم من كونها حاجات ستين مسكينا ، أو حاجات واحد في ستين يوما. ولا يخفى أنّه لا مقتضى للعدول عن الحقيقة إلى هذا المجاز ، وأن ظاهر الآية إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين ، وتعدد الذوات مما يصح أن يكون مقصودا معقول المعنى لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة ، وشمول المنفعة ، واجتماع القلوب على المحبة والدعاء.

وظاهر الاقتصار في الآية على المساكين أنّه لا يجزئ دفع الكفارة إلّا إلى المساكين ، ويدخل فيهم الفقراء ، كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق. وقد قالوا : كما علمت المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، هذا مذهب الجمهور.

وعمّم أصحاب أحمد وغيرهم الحكم في كلّ من يأخذ من الزكاة لحاجته ، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب ، ولكنّ ظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين على ما علمت.

وقد أطلقت الآية المسكين هنا ، ولكنّ الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا بمسكين الزكاة ألّا يكون ممن تلزم المكفر نفقته ، وألا يكون هاشميا ولا مطلبيا ولا كافرا على خلاف في ذلك بين الفقهاء ، منشؤه اختلاف أقوالهم في مسكين الزكاة.

واستنبط بعض الشافعية من التعبير في جانب تحرير الرقبة بعدم الوجود ، وفي جانب الصيام بعدم الاستطاعة ، أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه ولا يصوم ، ولو كان مريضا يرجى برؤه ، ولكنه يدوم في ظنه مدة شهرين يطعم ، ولا ينتظر البرء ليصوم ، ووافقهم الحنفية في عدم الصوم لا في الإطعام.

ثمّ إنّ الله سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام ، وأطلقه في

٧٤٠