تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

ويرى بعضهم أنه يجوز أن يكون قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) كلاما مستأنفا ، وذلك أنّه لما قال الله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) كان ذلك بمثابة أنّ طريق الكشف والتبيّن سهل وممكن ، وهو الرجوع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لأنه فيكم ، يبيّن لكم ، ويرشدكم ، وفي ذلك تنزيل لهم منزلة الجاهلين بمكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، وبوظيفته من البيان والإرشاد بينهم.

فاتجه من ذلك : أن يسأل سائل : ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط ، وقرّعوا بجهل منزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم؟ فجاء قوله تعالى : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) مومئا إلى ما كان منهم من محاولة أن ينزل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأيهم في الذي يرون ، واتباع إشارتهم فيما يقولون.

وذلك أنّه بيّن لهم النتيجة التي تترتب على نزوله على إرادتهم ، والخضوع لإشارتهم ، فقال : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) وأنت ترى أن هذا القول وإن كان حسنا من حيث المعنى ، إلّا أن فيه تغاضيا عن أنّ قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) معطوف (بالواو) وهو مرتبط بما قبله ، وفيما ذهب إليه هذا البعض ما يفضي بترك العطف.

وظاهر كذلك أنّ ما ذهبوا إليه فيه إضمار لا حاجة إليه ، ولا ضرر في جعل الجملة (لَوْ يُطِيعُكُمْ) حالا من أحد الضميرين ، على ما ذهب إليه الزمخشري (١). والمعنى على أحد الوجهين : هو جعلها حالا من الضمير المستتر ، وأمّا الوجه الآخر فالمعنى : (واعلموا أنّ فيكم رسول الله) حال كونكم على حال تتنافى مع مقامه بينكم ، تلك الحال هي إرادتكم أن ينزل على إرادتكم ، وذلك ضارّ بكم ، يترتب عليه عنتكم وهلاككم.

وجاء قوله : (لو يطيعكم) على صيغة المضارع بدل الماضي للدلالة على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم إطاعة مستمرة ، بدليل قوله تعالى : (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار ، تقول : فلان يقري الضيف ويحمي الحريم ، تريد أنّ ذلك شأنه ، وأنّه مستمر على ذلك.

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) استدراك على ما يقتضيه الكلام من وقوع العنت بهم. والمعنى : أنّ ما هم عليه كان يقتضي هلاكهم ، ولكن منع من ذلك أنّ الله هدى فريقا منهم ، وحبّب إليه الإيمان ، فآمن ، وزينه في قلبه ، فأقام عليه ، فلم يكن شأنه شأن أولئك الذين يريدون قلب الأوضاع ، بأن يتّبعهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي يرون.

__________________

(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٤ / ٣٦١).

٧٠١

وكان الظاهر على هذا المعنى أن يقول : ولكنّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان ، ولكنّه عمّم الخطاب تعريضا بمن فرط منه ذلك ، وإشارة إلى أنهم وقد دخلوا في الإيمان واستقر الإيمان في قلوبهم ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأنهم ، فاستغني عن التنصيص على خطاب البعض لذلك ، وأيضا فإنّه لما ذكر الصفة التي تميز هذا الفريق اكتفى بها عن التنصيص على الموصوف ، مراعاة لما في تعميم الخطاب من فائدة التعريض.

ويرى بعضهم أنّ الخطاب لجميع المؤمنين ، والمعنى عليه : أنّه لم يلحقكم العنت ، لأنّه يعلم أنّه لم يدفعكم إلى ما أنتم فيه إلا حبّكم الإيمان ، ومقامه في قلوبكم ، وكرهكم الكفر ، ونفرتكم من الفسوق والعصيان.

ومعنى تحبيب الإيمان إليهم تقريبه لهم ، وإدخاله في قلوبهم ، ومعنى تزيينه في قلوبهم إقامته فيها ، بحيث لا يفارقها ، وذلك أنّ من أحبّ شيئا فقد يفارقه ، ولكن إذا زيّن له يستمر في الإقامة عليه والمكث فيه.

وقد ذكر الله الإيمان ، وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم ، وهي : الكفر ، والفسوق ، والعصيان. والإيمان اسم لثلاثة أشياء : التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح. فالكفر هو الإنكار ، وهو يقابل الإذعان بالجنان. والفسوق يقابل الإقرار باللسان ، وقد سبق إطلاق الفسق على المجيء بالنبإ الكاذب ، وسيجيء إيراده بهذا المعنى في قوله : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) وذلك يدلّ على استعمال الفسق في الأمر القولي.

وهو في هذا المعنى مناسب لاشتقاق كلمة الفسق ، فإنّها في أصل وضعها تدلّ على الخروج ، مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، فهو يدلّ على الظهور والكذب يظهر ويعرف ، فمن ثمّ صحّ إطلاق الفسق عليه. وأما العصيان فهو ترك العمل. ويرى بعضهم أنّ الكفر : الشرك ، والفسوق : الكبيرة ، والعصيان : الصغيرة.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) الإشارة فيه إلى الفريق الذي حبّب إليه الإيمان ، وزيّن في قلبه ، والخطاب فيه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووقفوا عند إرشاده ، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم ، فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)) قوله : (فضلا) إما منصوب على أنه مفعول له ، والعامل فيه فعل مفهوم من قوله (الراشدون) أي وفّقهم الله إلى الرشد ، فضلا ، منه ونعمة ، والعامل فيه (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ) ويكون قوله : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) جملة اعتراضية ، وإما منصوب عل أنّه مصدر من غير لفظ العامل ، وهو الراشدون ،

٧٠٢

وذلك أن الرشد فضل ، فكأنه قيل : هم الراشدون رشدا ، أو هو مصدر ، وعامله محذوف ، أي تفضل فضلا ، وأنعم نعمة. والفضل : ما في خزائن الله ، وهو مستغن عنه ، والنعمة : ما يصل من الفضل إلى العبد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعلم من يتحرّى الخبر ومن لا يتحراه ، ومن يريد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تقتضي به الحكمة ومن لا يريده ، وهو فوق هذا يعلم الأشياء ، ويعلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ويأمره منها بما تقضي به الحكمة ، فيجب أن تقفوا عند أمره ، وأن تجتنبوا الاقتراح عليه.

قال الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)) لما حذّر الله المؤمنين نتائج الاستماع لنبأ الفاسق ، أراد أن يبيّن ما يتدارك به الأمر لو وقع ، فقال : (وَإِنْ طائِفَتانِ) الطائفة : أقل من الفرقة ، بدليل قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] كذا قيل ، ولك أن تقول : لولا تقدّم الفرقة ما فهم منه هذا المعنى ، فالطائفة الجماعة ، والفرقة الجماعة ، وقد تكون الجماعة قليلة ، وقد تكون كثيرة.

والتعبير (بإن) للإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين ، وأنه إن وقع ؛ فإنما يقع من الندرة والقلة ، التي يشكّ في وجودها ، وجاء (اقْتَتَلُوا) بلفظ الجمع ، مع أنّ الظاهر مجيئه بلفظ التثنية ، لأن الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى ، فروعي فيه المعنى أولا ، ثم روعي اللفظ ثانيا ، في قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما).

(واقتتلوا) بمعنى تقاتلوا ، والمراد بالإصلاح في قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الأولى بذل النصح والإرشاد ، وإزالة الشبه التي تكون عند إحداهما ، أو عند كليهما ، ودعوتهما إلى النزول على حكم الله.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) البغي : العدوان ، والمراد الغلو بغير الحق ، وعدم الإذعان للنصيحة (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي استمرّوا في قتالها حتى ترجع إلى حكم الله ، أو إلى ما أمر الله به من عدم البغي.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بفصل ما بينهما من أسباب الخصومة ونتائجها ، ولا تكتفوا بمجرد المتاركة والموادعة ، خشية أن تكون إحداهما أو كلاهما تركته تقية ، وانتظارا للفرصة تسنح ، وتقييد الصلح بالعدل هنا لأنه بعد القتال ، وذلك مظنة الحيف ، أي لا يحملنكم ما كان منهم من عناد وبغي على أن تظلموهم ، ولا على أن

٧٠٣

تظلموا عدوّهم لضعفه ، بل يجب أن تعدلوا (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي اعدلوا ، والزموا العدل في كل الأمور ، فإنّ الله يحب المقسطين ، فيجازيهم أحسن الجزاء.

سبب النزول : أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير (١) وغيرهم في سبب نزول هذه الآية عن أنس رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه ، وركب حمارا ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه ، قال : إليك عنّي ، فو الله لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب ريحا منك ، فغضب لعبد الله رجال من قومه ، وغضب للأنصاري آخرون من قومه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فأنزل الله فيهم : (وَإِنْ طائِفَتانِ).

وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال ما قال ، فرد عليه عبد الله بن رواحة ، فتعصّب لكل أصحابه ، فتقاتلوا ، فنزلت ، فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاصطلحوا ، وكان ابن رواحة خزرجيا ، وابن أبي أوسيا.

وقيل : إنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له عمران ، وكان تحته امرأة يقال لها : أم زيد ، وقد أرادت أن تزور أهلها ، فحبسها زوجها ، وجعلها في علية له ، لا يدخل عليها أحد من أهلها ، فبعثت المرأة إلى أهلها ، فجاء قومها ، فأنزلوها لينطلقوا بها ، واستعان الرجل بقومه ، فجاؤوا ليحولوا بين المرأة وأهلها ، فتدافعوا ، وكان بينهم معركة ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأصلح بينهم ، وفاؤوا إلى أمر الله (٢).

والخطاب في الآية الكريمة لولاة الأمور ، والأمر فيها للوجوب ، فيجب الإصلاح بالنصح ، فإن أبت إحداهما إلا البغي ، وجب قتالها ما قاتلت ، فإن رجعت عن بغيها ، والتزمت حكم الله تركت.

هذا وقد تمسّك جماعة بما جاء في سبب النزول ، وقالوا : يقتصر في قتال الفئة الباغية على ما دون السلاح ، ولا يجوز مقاتلتهم بالسلاح ، وهو لا يصح أن يتمسّك به. فأنت تعلم أنّ الله قال : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) وهو أمر بالمقاتلة إلى

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٤٢٤) ، ٣٢ ـ كتاب الجهاد ، ٤٠ ـ باب حديث رقم (١١٧ / ١٧٩٩) ، والبخاري في الصحيح (٣ / ٢٢١) ، ٥٣ ـ كتاب الصلح ، ١ ـ باب ما جاء في الإصلاح ، حديث رقم (٢٦٩١) ، وأحمد في المسند (٣ / ١٥٧).

(٢) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٢٦ / ٨١).

٧٠٤

الفيئة ، فإذا كانوا لا يفيئون إلا بالسيف وجب قتالهم به ، لأن الغرض من المقاتلة هو الفيئة ، وهي لا تحصل إلا به ، وقد وقع من الصحابة قتال البغاة بالسيف ، وكفى بهم قدوة ، ونزول آية عامة على واقعة خاصة لا يخصص العام ، على أنّ القتال إنما شرع عند البغي قمعا للفتنة بين المسلمين ، والمفروض أنّ العلاج قد استعصى بالنصح ، ويراد اتخاذ علاج حاسم ، فليترك الأمر لمن يباشر الحسم ، فإن رأى أنّ الدواء يستأصل بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة ، وإن رأى أنّ الفتنة لا تدفع إلا بالسلاح فعل حتى الفيئة.

واختلفت أقوال الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم ، فعن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة : أن أموالهم لا تكون غنيمة. وإنما يستعان على حربهم بكراعهم وسلاحهم عند الاستيلاء عليه ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ردّ المال عليهم ، وكذا يردّ الكراع والسلاح إذا لم يبق أحد باغيا.

وروي عن أبي يوسف : أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح فهو فيء يقسّم ويخمس ، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.

وروي عن الإمام مالك رضي الله عنه : ما استهلكه الخوارج من مال ودم ثم تابوا لم يؤخذوا به ، وما كان قائما بعينه ردّ ، وهو مروي عن الأوزاعي والشافعي.

وقال الحسن بن صالح : إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا ، وأخذ ما معهم ، فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس ، إلا أن يكون شيء قد علم أنّهم سرقوه من الناس ، وعرف أصحابه ، فإنّه يردّ عليهم.

وما استهلك من أموالهم أثناء التجمع للقتال ، والتفريق عند وضع الحرب أوزارها ، لا ضمان فيه بالإجماع.

وقد جاء في حديث أخرجه الحاكم (١) ما يوضّح الحكم في المسألة ، فقد جاء فيه قال عليه الصلاة والسلام : «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة».

فقال : الله ورسوله أعلم. قال : «لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسّم فيئها».

وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أنّ الخوارج نقموا على علي رضي الله عنه أنّه لم يسب ولم يغنم ، فحاجّهم قائلا : أفتسبون أمّكم عائشة ، ثم تستحلون منها ما تستحلّون من غيرها؟ فإن فعلتم لقد كفرتم.

وقد سئل أبو وائل : أخمّس علي أموال أهل الجمل؟ قال : لا.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٢ / ١٥٥).

٧٠٥

وإنما ذكر الله العدل في الإصلاح بعد الفيئة ، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها ، ويغلب أن تظلم ، وتصادر أموالها ، وما أخذ منها لا يردّ إليها.

فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال : لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم ، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم ، وعصمت أموالهم ، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم ، وما نالهم من الهزيمة ، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة ، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا.

قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)) بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين ، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد ، فإن جنحا للسلم ، فقد كفى الله المؤمنين القتال ، وإن جنحت إحداهما ، وبغت الأخرى ، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت ورجعت ؛ فالواجب الإصلاح بالعدل ، لا يجهز على جريح ، ولا يسبى أحد ، ولا يقسم الفيء ، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد ، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف ، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء ، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم ، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية ، فلا يجب الإصلاح ، فدفعا لهذا الوهم قال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وقد ذهب بعض أهل اللغة ، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب ، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان ، فجعل الله الإخوة في الإسلام إخوة في النسب ، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها ، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة ، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم.

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل الله الأمر به بالأمر بالتقوى ، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره ، فلا يتسارع الناس إلى إزالته ، فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يعني والله أعلم : فأصلحوا بينهما ، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى الله وخشيته ، والخوف منه ، فالتزموا الحق العدل ، ولا تحيفوا ، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين ، فإنّهم إخوانكم ، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا ، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام ، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى.

الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام ، فأما بين الكفار فلا ، وأما بين المسلم والكافر ، فللمسلم علينا النصرة

٧٠٦

والإعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا. ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا أو صاحب أمن.

وأما إن كان خصمه ذميا والمسلم ظالم له ، فالواجب علينا وضع الظلم ، فقد استحق بعقد الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

السخر : الهزء ، قيل : وهو النظر إلى المسخور بعين النقص ، وقال القرطبي : إنّ السخرية وهي اسم منه ، الاستحقار والاستهانة ، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه. والأكثر تعدية فعله (بمن) وهي لغة الكتاب العزيز ، كما تدل عليه الآية التي معنا ، وقوله تعالى : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) [هود : ٣٨] ويقال : فلان سخرة ، بوزن همزة.

إذا كان يهزأ به الناس ، وقد تكون السخرية بمحاكاة الفعل بالقول والإشارة ، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا بدا منه تخبط أو غلط ، أو على صنعته ، أو قبح صورته ، ويرى بعضهم أن السخرية ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته. ويرى البعض أنّ المراد منها احتقار القول أو الفعل بحضور صاحبه.

والآية نزلت في قوم بني تميم ، سخروا من بلال وسلمان وعمّار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة (١).

وقد ذكر فيها النهي عن السخرية بالنساء تتميما لبيان الحكم.

وروي أنّها في شأن أمّ سلمة حين سخر منها بعض الصحابيات ، وقيل غير ذلك.

وقوله عزوجل : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهي ، أي عسى أن يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر ، ف «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» وقيل : بل المعنى عسى أن يبدّل الله الحال ، ويعكس الأمر ، فيصير المسخور منه عزيزا رفيع الجانب ، والساخر ذليلا مهانا ، وهو حينئذ على حد قوله :

لا تهن الفقير علّك أن

تركع يوما والدهر قد رفعه

وقد ذكر الله تعالى النساء مع القوم في الآية ، فكان ذلك قرينة على أنّ المراد

__________________

(١) انظر ما رواه السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٦ / ٩١).

٧٠٧

بالقوم الرجال. ويرى بعضهم أنّ القوم اسم خاصّ بالرجال لا يدلّ على النساء إلا من طريق التغليب ، ومنه ما جاء في بيت زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وكأنّ هذا المعنى يرجع إلى أنّ لفظ القوم مأخوذ من أنّ الرجل قوّام على المرأة ، وهو في الأصل : إما مصدر بمعنى القيام ، ثم استعمل في جماعة الرجال ، وإما اسم جمع لقائم.

وقد جاء النهي عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء ، وإن كان حكم الفرد من الفريقين كذلك ، جريا على ما كان حاصلا ، وما هو الأغلب من وقوع السخرية في المجامع والمحافل. وما دامت علة النهي عامة ، فهو يفيد عموم الحكم لعموم العلة.

وكلمة (عسى) في مثل هذا التركيب الذي أسندت فيه إلى (أن ، والفعل) قيل : تامة ، لا تحتاج إلى خبر ، و (أن) وما دخلت عليه في محل رفع على الفاعلية. وقيل ناقصة ، وسد ما بعدها مسد جزءيها.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يعب بعضكم بعضا ، وقد جعل الله لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس ، لأنهم كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن أخاه ، فكأنّه عاب نفسه.

وقد ذكر الله في الآية النهي عن ثلاثة أشياء : عن السخرية ، وعن اللمز ، وعن التنابز بالألقاب.

أما التنابز بالألقاب : وهو التعاير بها ، فمغايرته للسخرية واللمز ظاهرة.

وأما السخرية واللمز ، فقد ذهب العلماء في المغايرة بينهما إلى وجوه ، فمنهم من يرى أنّ السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته ، واللمز التنبيه على معايبه ، سواء أكان على مضحك أم غيره ، وسواء أكان بحضرته أم لا ، وعلى هذا اللّمز أعم من السخرية ، ويكون من عطف العام على الخاص ، لإفادة الشمول.

ومنهم من يرى السخرية الاحتقار واللمز والتنبيه على المعايب ، أو تتبعها ، وهو يرى أنّ العطف من قبيل عطف العلة على معلولها. كأنّه قيل : لا يحقّر أحد لعيبه ، وهذا الوجه لا يكاد يظهر له كبير معنى.

ومنهم من يرى أنّ اللمز خاص بما كان من السخرية على وجه الخفية ، وعليه العطف من عطف الخاص على العام ، مبالغة في النهي عنه ، كأنه جنس آخر.

ويرى بعضهم أن المعنى : ولا تأتوا من الأفعال ما يكون سببا لأن يلمزكم الناس ، ويكون المعنى لا يسخر أحد من أحد ، ولا يفعلنّ أحد ما يقتضي أن يلمزه الناس.

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) التنابز : التعاير ، والتداعي بالألقاب ، وخصّ في العرف

٧٠٨

بالمكروه منها ، وقد نقل عن العلماء النصّ على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره ، سواء أكان صفة له ، أم لأبيه ، أم لأمه ، أم لكلّ من ينتسب إليه.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) تعليل للنهي ، والاسم هنا المراد منه الذكر ، والمراد : ذم أن يجتمع اسم الفسوق الذي يلحق الناس بسبب التنابز مع الإيمان ، وذلك تغليظ شديد ، حيث جعل التنابز فسقا ، وفيه من التنفير منه ما لا يخفى.

وقيل : بل المعنى : لا ينسبن أحدكم غيره إلى الفسق الذي كان فيه بعد اتصافه بالإيمان ، كأنّه قيل : لا تشهّروا بالناس بذكر ما كانوا عليه من فسق بعد ما حصلوا على الإيمان ، ويكون ذلك نهيا عن أن ينادى من دخل الإسلام بصفته التي كان عليها ، وقد استثني من النهي دعاء الرجل بلقب قبيح لا على سبيل الاستخفاف والإهانة ، بأن يكون على قصد التمييز ، كقول المحدّثين : سليمان الأعمش.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي من لم يتب عما نهي عنه من الأمور الثلاثة فهو ظالم ، وكأنه لا ظالم سواه ، لأنه وضع العصيان موضع الطاعة ، وعرّض نفسه للعذاب.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

يقال اجتنب الشيء أي كان منه على جانب ، ثم استعمل في التباعد مطلقا ، فمعنى قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) تباعدوا عن كثير من الظن ، وجيء بلفظ (كثير) منكّرا ، ليحتاط فيه ، فيكون بعيدا عن بعض الظن الذي هو إثم إذا ابتعد عن الكثير منه.

والظن أنواع : منه ما هو محرّم ، ومنه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب ، ومنه ما هو مباح.

فالمحرم : كسوء الظن بالله ؛ والعياذ بالله. وسوء الظن بالمسلم مستور الحال ، ظاهر العدالة ، فقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله عزوجل» (١).

وعنه أنه قال : «إيّاكم والظنّ ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث» (٢).

وقد جاء في القرآن الكريم : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] وقال الله تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح : ١٢] وفي الحديث : «إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء».

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ٢٢٠٥) ، ٥١ ـ كتاب الجنة ، ١٩ ـ باب الأمر بحسن الظن حديث رقم (٢٨٧٧).

(٢) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٦ / ٩٢).

٧٠٩

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أساء بأخيه الظنّ فقد أساء الظنّ بربّه ، إن الله تعالى يقول : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ).

وقد قدمنا أنّ الممنوع إساءة الظن بالمسلم المستور ظاهر العدالة ، وأما من يتعاطى الرّيب ، والمجاهرة بالخبائث ، فلا يحرم إساءة الظن به ، فليس الناس أحرص منه على نفسه ، وقد أمر أن يتجنب الريب ، وألّا يقف مواقف التّهم ، فمن وقف مواقف التهم اتّهم.

والظن الواجب : يكون فيما تعبّدنا الله تعالى بعلمه ، ولم ينصب عليه دليلا قاطعا ، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة التي تعبّدنا الله بها ، وما غلب على ظنه فهو الذي تعبّدنا الله به. ومن ذلك قبول شهادة العدل ، وتحرّي القبلة ، وتقويم المستهلكات ، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها نصّ عن الشارع.

والمندوب من الظن : ظنّ الخير بالمسلم ، وقد تقول : ما دام سوء الظن محرّما ، فما بال حسن الظن مندوبا؟

ولكن إذا علمت أنّ هناك واسطة ، وهو ألا يظن شيئا علمت أنّه لا يلزم التقابل في الحكم.

والظنّ المباح : قد مثّلوا له بالشك في الصلاة ، وكأنهم يريدون من الظنّ استواء الطرفين ، ومثّلوا له أيضا بالظن الذي يعرض في القلب ، مما يوجب الريبة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا ظننتم فلا تحققوا» أي لا توجدوا أثرا لهذا الظن.

وحرمة الظن بالناس إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدّى إلى الغير ، وأمّا أن تظنّ شرا لتتقيه ، ولا يتعدّى ذلك إلى الغير ، فذلك محمود غير مذموم ، وهو محمل ما ورد من أنّ (من الحزم سوء الظن). و (احترسوا من الناس بسوء الظن). وما جاء في الحكم : (حسن الظنّ ورطة ، وسوء الظنّ عصمة).

وقوله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) تعليل للأمر باجتناب الظنّ. والإثم الذنب الذي يستحقّ فاعله العقوبة عليه.

(وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم ، وتستكشفوا ما ستروه. والتجسس : تفعل من الجس ، وهو بمعنى التحسس على ما قيل ، وبعضهم يرى أنهما متغايران ، وأن التجسس معرفة الظاهر ، وبالحاء تتبع البواطن ، وقيل : بالعكس ، والأمر مرجعه إلى اللغة. وقد عدّ العلماء التجسس من الكبائر. وقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنّه

٧١٠

من يتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته» (١).

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره.

أخرج مسلم وأبو داود والترمذي (٢) وغيرهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «ذكرك أخاك بما يكره». قيل : أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال : «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه».

ومعلوم أنّ المراد من هذا النهي النهي عن الإيذاء بتفهيم الغير معايب المغتاب ، وذلك يتناول كلّ طرق الإفهام ، وهو يتناول أيضا كلّ ما يكره ، سواء في دينه أو دنياه ، وفي خلقه أو خلقه ، وفي ماله ، أو ولده ، أو زوجته ، أو مملوكه ، أو خادمه ، أو لباسه ، وخصّه بعضهم بما لا يذمّ شرعا من الصفات ، فمن ذكر الزاني بأنّه زان لا يكون مغتابا ، ولا يحرم عليه هذا الذكر عنده. واستدل لذلك بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذكروا الفاجر بما فيه ، يحذره الناس».

ولم يرفض الجمهور ذلك ، وقالوا : الحديث ضعيف لا ينهض حجة : قال أحمد : وهو منكر ، وقال البيهقي : ليس بشيء ، ولو صحّ فهو محمول على فاجر متهتّك يعلن فجوره وتهتكه.

ويرى بعضهم أنّ الذكر بالمكروه يحرم مطلقا في الغيبة والحضور ، ونصّ بعض المفسرين على أنه المعتمد ، ويكون التقييد بالغيبة خارج مخرج الغالب ، إذ إنّ الغالب أن الناس تستحي من أن تذكر أحدا بمعايبه في حضرته.

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) هذا مثال ذكره الله تنفيرا من الغيبة ، وتبعيدا منها ، وهو مثل بالغ النهاية في تأدية المراد ، قد وضّح فيه ما يصدر من المغتاب من حيث صدوره عنه ، ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه تستقبحه العقول ، وتنفر منه الطباع ، وتنكره الشرائع ، وقد ذكر المثل على سبيل الاستفهام التقريري ، وهو لا يقع إلّا في كلام مسلّم عند السامع ، حقيقة أو ادّعاء ، وقد أسند في المثل الفعل إلى أحد إيذانا بأنّه لا يستقر في طبع أحد كائنا من كان أن يقدم على أن يأكل لحم إنسان ، فضلا عن أن يحبه ، وما بالك به إذا كان المأكول لحم أخيه؟ لا

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٤ / ٢٩٢) ، كتاب الأدب ، باب في الغيبة حديث رقم (٤٨٨٠) ، وأحمد في المسند (٤ / ٤٢١).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٠١) ، ٤٥ ـ كتاب البر ، ٢٠ ـ باب تحريم الغيبة حديث رقم (٧٠ / ٢٥٨٩) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٢٩٠) ، كتاب البر ، باب الغيبة حديث رقم (١٩٣٤) ، وأبو داود في السنن (٢ / ٢٩٠) ، كتاب الأدب ، باب في الغيبة حديث رقم (٤٨٧٤).

٧١١

شك أنه يكون أشنع ، وماذا تكون الشناعة إذا كان الأخ ميتا؟ إنّها تكون شناعة ما فوقها شناعة.

فقد بيّن الله بهذا المثل أوضح بيان أنّ وقوع المغتاب في عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون أكلا للحومهم ، وهم إخوته ، وليتهم كانوا حاضرين ، بل هو إنما ينهش أعراضهم وهم غائبون ، فهو كالكلب ينهض لحوم الجيف. ولو عقل الناس هذا المثل ، وما استعمل فيه من طرق التنفير ما أقدموا على الغيبة.

والفاء في قوله تعالى : (فَكَرِهْتُمُوهُ) فإن الفصيحة مقدّر معها (قد) وهي واقعة في جواب شرط مقدّر ، أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه ، ولا يمكنكم إنكار كراهته. وبعضهم : إنّ المعنى فأنتم تكرهونه ، ويكون الكلام تصريحا بجوابهم عن الاستفهام ، كأنّهم قالوا : لا نحب ، فقال الله تعالى : فأنتم كرهتموه ، وعبر بالماضي للمبالغة.

(وَاتَّقُوا اللهَ) عطف على مقدّر ، كأنه قيل : امتثلوا ما أمرتم به ، ونهيتم عنه ، واتقوا الله (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر بالتقوى ، وتوّاب : معناه كثير القبول لتوبة من تاب.

والغيبة محرّمة بنص إلهيّ في الآية الكريمة ، وقد نقل القرطبي (١) الإجماع على أنها من الكبائر. والغزالي : يرى أنّها من الصغائر ، وهو عجيب من عمدة الأخلاق الغزالي ، ولعلّه أراد أن يخفف على الناس لمّا رأى فشوها فيهم ، لا يخلو منهم من لا يرتكبها إلا النادر ، ولكنّا ما علمنا أنّ إطباق الناس على منكر يكون سببا في تخفيفه ولو لم يرد فيها من دلائل التحريم غير ما ذكر في هذه الآية وأنّها من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا في كونها من الكبائر.

وليس لأحد أن يتعلّق بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد (٢) عن أبي بكرة أنّه قال : بينما أنا أماشي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو آخذ بيدي ، ورجل عن يساري ، فإذا نحن بقبرين أمامنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير» وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول إذ المراد أنهما ما كان يكبر عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب ، فكان أحدهما لا يستنزه من البول ، وإنّه ليسير ، وكان الآخر لا يبتعد عن الغيبة ، وما هو عليه بعسير.

ولو أنّ الإمام الغزالي رحمه‌الله ذهب إلى أنّ بعضها ليس بكبيرة ، بل هو من الصغائر لكان الأمر هينا فإنّك عرفت أنّ الغيبة إنما نهي عنها من أجل الإيذاء ، وهو مراتب ، فلن يكون ذكر معايب الثوب أو القربة مثلا ببالغ حدّ الخوض في العرض من جهة الإيذاء ، فالغيبة حرام ، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها.

__________________

(١) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (١٦ / ٣٣٧).

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند (٥ / ٣٩).

٧١٢

وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة فيما إذا كان العيب لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا به.

فمن ذلك التظلم : فلمن ظلم أن يشكو لمن يظنّ منه القدرة على إزالة ظلمه.

ومنه الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على تغييره.

ومنه الاستفتاء : كأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا ، فما طريق الوصول إلى حقي؟

ومنه أن يكون صاحب العيب مجاهرا بالمعصية ، كشربه الخمر ـ للذين يتظاهرون ـ.

ومنه جرح الرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية ، وكلّ ما فيه تحذير المسلمين من الشر ، إذا تعين ذلك طريقا له.

هذا وقد اشتملت الآية الكريمة على الأمر باجتناب الظنّ باجتناب أثره ، ثم النهي عن طلب تحقيق ذلك الظن بقوله : ولا تجسسوا ثم النهي عن ذكر ما عسى أن يكون المتجسس قد وقف عليه ، فهذه ثلاثة مترتبة : ظنّ ، فعلم من طريق التجسس ، فاغتاب.

٧١٣

من سورة الواقعة

قال الله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠))

قبل أن نتكلّم عن تفسير الآيات نقول : قد ورد القسم على هذا النحو في القرآن الكريم كثيرا ، منه قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧)) [الانشقاق : ١٦ ، ١٧] و (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦)) [التكوير : ١٥ ، ١٦] و (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١)) [القيامة : ١] و (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨)) [الحاقة : ٣٨] و (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ) [المعارج : ٤٠] و (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١)) [البلد : ١].

وقد جاء على غير هذه الصورة ، أي من غير (لا) النافية ، ومن غير الفعل (أقسم). وقد جاء القسم على أنواع : إمّا قسم الله بنفسه موصوفا بالربوبية (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) [الذاريات : ٢٣] والقسم هنا على مضمون جملة خبرية (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣)) [الحجر : ٩٢ ، ٩٣].

وإمّا قسم بالذّات معنونة بلفظ الجلالة : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] وتارة يكون القسم بأشياء من خلقه : (كالصافّات) (والطور) (والذاريات) (والنجم) و (مواقع النجوم) و (الشمس وضحاها) و (الفجر) و (البلد) و (القيامة) و (التين والزيتون).

وتارة يكون القسم بالقرآن موسوما باسمه (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)) [يس : ١ ، ٢](ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)) [ص : ١](ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)) [ق : ١] أو موسوما باسم الكتاب (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢)) [الزخرف : ١ ، ٢ والدخان : ١ ، ٢].

ومهما يكن المقسم به فالمقسم عليه لا يعدو أن يكون من أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها ، فهو تارة يكون قسما على التوحيد ، كقوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)) [الصافات : ١ ـ ٤].

وتارة يكون قسما على أنّ القرآن حقّ ، كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)) وقوله : (حم (١)

٧١٤

وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ) [الدخان : ١ ـ ٣] وقوله : (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزخرف : ١ ـ ٣] على بعض الوجوه في جواب القسم.

وتارة يكون المقسم عليه أنّ محمدا رسول (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)) [يس : ١ ـ ٣].

وتارة يكون المقسم عليه نفيا لصفة ذميمة عن الرسول الأكرم (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)) [القلم : ١ ، ٢] و (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢)) [النجم : ١ ، ٢] ومن هذا قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١)) [الحاقة : ٣٨ ـ ٤١].

وتارة يكون المقسم عليه الجزاء والوعد والوعيد مثل قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥)) [الذاريات : ١ ـ ٥] ومنه قوله : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)) [الذاريات : ٢٣] ومنه : إلى قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧)) [المرسلات : ١ ـ ٧] ومنه (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢)) إلى قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)) [الطور : ١ ـ ٨].

هذا وقد أمر الله نبيّه أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاثة مواضع ، قال : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) [التغابن : ٧] وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣] وقال تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ) [يونس : ٥٣].

وقد جاء المقسم عليه أحوالا من أحوال الإنسان التي هو عليها : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)) [الليل : ١ ـ ٤].

ووقع القسم على صفة الإنسان : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)) [العاديات : ١ ـ ٦].

وجاء القسم على عاقبة الإنسان : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ١ ـ ٦](وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)) [العصر : ١ ـ ٣].

قد أردنا بهذا الذي ذكرنا أن نريك فنون القسم في القرآن ، سواء في المقسم به والمقسم عليه ، ولو لا الإطالة في غير الموضوع المقرّر لذكرنا لك شيئا من فنون القرآن

٧١٥

الكريم في جواب القسم ، وإنّه تارة يكون إنشاء ، وتارة يكون خبرا ، وتارة يكون مذكورا ، وتارة يكون محذوفا ، لكنّ ذلك يحتاج إلى الشرح والإيضاح ، فيطول ، ونريد أن نرجع إلى القول في الذي معنا.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)).

قد أطلعناك على أمثلة كثيرة من هذا النوع من القسم في القرآن الكريم ، ويمتاز ما معنا بأنه قيل فيه صراحة (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)) فكان هذا دليلا على أنّ هنا قسما وحلفا مثبتا ، وأنّ الكلام إثبات قسم لا نفي قسم.

ولقد كانت الصورة الظاهرة صورة نفي القسم مجالا فسيحا للعلماء ، أجهدوا فيه قرائحهم ، وأبدوا آراءهم في بيان المراد ، والجمع بينه وبين قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)) فذهب بعضهم إلى أنّ (لا) زائدة ، مثلها في قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] معناه ليعلم ، والمعنى هنا : فأقسم بمواقع النجوم ، والقول بالزيادة يكاد لا يرتضيه أحد.

وذهب بعضهم إلى أن (لا) هي لام القسم بعينها ، أشبعت فتحتها ، فتولدت منها الألف ، نظير الألف في قول الشاعر :

أعوذ بالله من العقراب

حيث أشبعت فتحة الراء ، فتولّدت منه الألف ، وحينئذ تتحد القراءتان ، قراءة مدّ اللام وعدم مدها في المعنى ، ويكون المد مدّ إشباع ، ويكفي في ضعف هذا القول اعتراف قائليه بقلّة هذا التوليد في لغة العرب. على أنّ هذا يوقعنا في شيء آخر ، لا يقرّه النحويون ، وهو خلوّ فعل القسم إذا كان مستقبلا من النون ، فإنّ النحاة يقولون : إذا وقع الفعل مستقبلا مقرونا باللام في حيّز القسم وجب اتصال الفعل بنون التوكيد ، وحذفها ضعيف جدا ، حتى لقد اضطروا إلى تخريج القراءة الأخرى لاقسم على أنّ اللام للابتداء ، وليست للقسم ، وقالوا : إنّها داخلة على مبتدأ محذوف ، والمعنى : فلأنا أقسم ، وإن كان هذا التخريج لا يخلو من شيء.

وقيل : بل النفي على حاله ، و (لا) نفي لمحذوف ، هو ما كان يقوله الكفار في ذم القرآن ، من أنّه سحر وشعر وكهانة. ثم استؤنف الكلام بعد ذلك ، ويكون حاصل المعنى : فلا صحة لما يقولون ، أقسم بمواقع النجوم إلخ وفوق أن الحذف لا دليل عليه ، فهو لا يتفق مع ما يقول النحاة من أنّ اسم لا وخبرها لا يصحّ حذفهما ، إلا إذا كانا في جواب سؤال ، كما تقول : هل من رجل في الدار؟ فنقول : لا.

على أنّ علماء المعاني يقولون في مثل هذا الموضع : إنّ العطف بالواو متعيّن ، كما يقال : هل شفي فلان من مرضه فيقال : لا ، وأطال الله بقاءك.

٧١٦

ويرى الفخر الرازي (١) أن كلمة (لا) هي نافية على معناها ، غير أن في الكلام مجازا تركيبيا ، وتقديره أن نقول : (لا) في النفي هنا مثلها في قول القائل : لا تسألني عما جرى عليّ ، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله ، فإن غرضه من السؤال لا يحصل ، ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلّا بيان عظمة الواقعة ، ويصير كأنه قال : جرى عليّ أمر عظيم ، ويدل عليه أن السامع يقول له : ماذا جرى عليك ، ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال : ماذا جرى عليك ، فيصحّ منه أن يقول : أخطأت حيث منعتك عن السؤال ، ثم سألتني وكيف لا ، وكثيرا ما يقول ذلك القائل الذي قال : لا تسألني عند سكوت صاحبه عن السؤال ، أو لا تسألني ، وتقول : ماذا جرى عليك؟ ولا يكون للسامع أن يقول : إنك منعتني عن السؤال : كل ذلك تقرّر في أفهامهم : أنّ المراد تعظيم الواقعة لا النهي.

إذا علم هذا فنقول في القسم : مثل هذا موجود من أحد وجهين :

إما أن لكون الواقعة في غاية الظهور ، فيقول : لا أقسم بأنه على هذا الأمر ، لأنه أظهر من أن يشهر ، وأكثر من أن ينكر ، فيقول : لا أقسم ، ولا يريد به القسم ونفيه ، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة ، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به ، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول : لا أقسم يمينا بل ألف يمين ، ولا أقسم برأس الأمير برأس السلطان ، ويقول : لا أقسم بكذا ، مريدا لكونه في غاية الجزم.

والثاني : يدل عليه أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن ، والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته ، وإنما جاءت أمور مخلوقة ، والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا : إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء ، كما في قوله : (وَالصَّافَّاتِ) المراد منه رب الصافات ، فإذا قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥)) أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه وأن يتطرّق الشك إليه.

ولعلك بعد كلام الفخر تكون قد فهمت أن نفي القسم استعمل في القسم من طريق أوكد.

وقبل أن نتكلم على معنى القسم من الله بذاته ، أو بأشياء من خلقه ، نتكلم على تفسير الآية التي معنا ، لنفرغ إلى القول في هذه النواحي باستفاضة.

(أُقْسِمُ) أحلف (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) المواقع جمع موقع ، وموقع الشيء ما يوجد فيه ، وما يسقط فيه إن كان من أشياء مرتفعة. وعليه ، فمواقع النجوم قيل : المشارق والمغارب جميعا ، لأنها موجودة فيها. وقيل : المغارب فقط ، لأنّ عندها تسقط النجوم. وقيل : بل مواقعها مواضعها من بروجها في السماء ومنازلها منها. وقيل : بل

__________________

(١) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (٢٩ / ١٨٧).

٧١٧

المراد مواقعها يوم القيامة إذا الكواكب انتثرت ، وسنتكلّم بعد على حكمة القسم بمواقع النجوم خاصة.

(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)) عظيم خبر (إن) وقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) اعتراض بين إنّ وخبرها. والضمير في قوله : (إنه) يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام على ما تقدّم توضيحه. و (لَوْ تَعْلَمُونَ) شرط ، جوابه : إمّا محذوف بالكلية ، لأنه لا يتعلق بذكره غرض ، إذ المقصود هو نفي ما دخلت عليه (لو). وكأن المعنى : إنّه لقسم عظيم. لو تعلمون. وذلك أنّ (لو) حرف يدلّ على امتناع شيء لامتناع غيره ، وعلى ذلك فهي تدلّ على نفي مدخولها لانتفاء شيء آخر ، فإذا قد أفاد دخول (لو) على (تعلمون) انتفاء علمهم ، وهذا هو الذي يعنينا ، أما الجواب فعلمه بعد ذلك كأنّه لا يعني.

ويقول الفخر الرازي (١) : إنّ فائدة مجيء النفي على هذه الصورة بدل قوله : (وإنه لقسم عظيم) ولا تعلمون أنّ النفي على الصورة التي معنا أوكد ، لأنّ إتيانه عليها ذكر للشيء بدليله. أما الصورة الأخرى فليس فيها إلا إثبات عظم القسم مقترنا بنفي علمهم من غير تعرّض للإشعار بسبب نفي العلم عنهم. أما هنا فكأنّه قيل : لو كان عندكم أثارة من علم لثبت عندكم عظم القسم ، فإن كان أحد يشكّ في ذلك ، فمنشأ الشك ليس لعدم العظم في نفس الأمر ، بل لأنّه لا يعلم ، وأين هذا من ذاك.

وإما أن يكون جواب (لو) مقدّرا مفهوما من خبر (إن) أي لو كان عندكم علم لعظّمتموه ، لكنكم لم تعظّموه ؛ فلا علم عندكم ، وترى أنّا لم نقدّر لتعلمون مفعولا ، بل جعلناه منزّلا منزلة اللازم ، ويصحّ أن يقدّر له مفعول يدلّ عليه خبر (إن).

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)).

الضمير في (إنّه) يرجع إلى معلوم للمخاطبين ، وهو الكلام العربي الذي أنزله الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الكفار يقولون فيه : إنه شعر ، إنه سحر ؛ إنّه كهانة وافتراء. فقال الله في الرد عليهم : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)) ، وقال بعضهم : هو الكلام من أول سورة الواقعة إلى هنا مما جاء فيها من التوحيد ، والحشر ، والدلائل التي سيقت لإثباتها ، وذلك أنهم كانوا يقولون : هذا كلام من عند محمد لم ينزل عليه من عند الله ، فقال الله في الردّ عليهم : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)).

والقرآن مصدر أريد منه اسم المفعول ، فهو بمعنى المقروء ، على حد قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١] وهو

__________________

(١) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (٢٩ / ١٨٩).

٧١٨

من باب (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١] وقيل : بل هو اسم لما يقرأ من الكلام المنزّل إلخ كالقربان اسم لما يتقرّب به ، والمشركون وإن كانوا لا يجهلون أنّه مقروء إلا أنهم كانوا ينازعون في أنه قرآن كريم ، وأيضا كانوا يقولون : هو من عند محمد ، وكانوا ينكرون تنزيله ؛ وأنّ محمدا يتلو عليهم ما سمع من الوحي.

ومعنى كونه كريما : أنّه طاهر الأصل ، ظاهر الفضل ، يجد فيه كلّ الناس ما يريدون من خير : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبدا كتاب الله» (١) وقد وصف الله القرآن بأوصاف كثيرة ، وصفه بكونه حكيما ، وبكونه عزيزا ، وبكونه كريما ، وبكونه مجيدا ، وهو كريم ، من أقبل عليه أخذ منه ما أراد ، وهو عزيز من أعرض عنه ذلّ ، وهو حكيم بما اشتمل عليه من كنوز الحكمة ، وهو مجيد بما اشتمل عليه من شريف المقاصد.

وقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)) أفاد شيئين : الأول : أنه مظروف في كتاب والثاني : أنّه مكنون. فأما ظرفيته في الكتاب فلنا أن نقول : إنّه على حد فلان كريم في نفسه ، حيث لا يراد إنّ المظروف شيء والمظروف فيه شيء آخر ، فإنّ الشيء لا يكون ظرفا لنفسه ، فالقرآن ـ وهو كتاب ـ كريم ، في كتاب أي نفسه ، أو كريم ثبت كرمه في كتاب ، هو اللوح المحفوظ ، أو يقال : إنّ المظروف هو جملة (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧)) والمظروف فيه هو كتاب ، ويكون المعنى : إنّ مضمون هذه الجملة ثابت في كتاب هو اللوح المحفوظ ، وقد قيل : الكتاب هو اللوح المحفوظ ، وقيل : هو المصحف ، وقيل : بل هو كتاب من الكتب المنزلة : كالتوراة ، والإنجيل. وأما كونه مكنونا : فالمكنون هو المستور ، فإن كان الكتاب اللوح المحفوظ فمعنى كونه مكنونا أنّه مستور عن الأعين ، لا يطّلع عليه إلا نفر مخصوص من الملائكة ، ويصحّ أن نقول : إن المكنون أريد منه المحفوظ ، ويكون الكن كناية عن الحفظ ، لأنّ الشيء إذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى في صونه وحفظه بطرق الحفظ المعتادة ، بل يستر عن العيون ، وكلّما ازدادت عزته ازداد ستره ، زيادة في الصون. فقد استعمل الكن والستر وأريد منه المبالغة في الحفظ والصيانة ، وقيل : إنّ معنى كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التبديل والتغيير ، فهو على حد قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) [الحجر : ٩].

وأما قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)) فإما أن نجعله من صفة الكتاب بمعنى اللوح المحفوظ ، وإما أن يكون صفة أخرى للقرآن الكريم.

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٦٢١) ، كتاب المناقب ، باب مناقب أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٣٧٨٦).

٧١٩

وعلى الأول : فالمطهرون الملائكة ، وطهارتهم نزاهتهم عمّا في طبيعة الإنسان من الشهوة التي هي من مقتضيات المادة ، ونفي مسه إلا من هؤلاء يراد منه أنّه لا يطّلع عليه إلا هؤلاء.

وعلى الثاني : فالمراد من المطهرين يحتمل أن يكون الخالين عن الحدثين الأصغر والأكبر ، وتكون الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية. ويكون المعنى : لا يمس القرآن إلا من كان على طهارة من الحدثين. والنفي على معنى أنّه لا ينبغي ، كمثله في قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) [النور : ٣].

ويرى البعض فرارا من كون الجملة خبرية أنّ (لا) ناهية ، والضمة التي في (يمسه) ضمة اتباع ، لا ضمة إعراب ، وقد صرّح الفخر الرازي (١) بضعف هذا القول ؛ وإن روي عن ابن عطية. ومع كون الجملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون المراد من المطهرين الملائكة ، وهو مروي من عدّة طرق : فعن قتادة أنّه قال في الآية : ذاك عند ربّ العالمين ، لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة ، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس ، وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه : أحسن ما سمعت في الآية : الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا المطهرون. أنّها بمنزلة الآية التي في عبس (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦)) [عبس : ١١ ـ ١٦].

وقيل : الآية صفة القرآن حقا ، والمراد من المطهرين الخالون من الشرك ، والمراد من المس الطلب ، مثله في قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) [الجن : ٨] وقد عرفت أنّ المسّ بمعنى اللمس ، والمعنى : أن القرآن لا يطلبه للعمل به إلا المطهّرون من دنس الشرك.

وأما قوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)) فهو وصف آخر للقرآن الكريم ، والتنزيل بمعنى منزل أو يقال : وصف به لأنّ القرآن ينزل نجوما على خلاف سائر الكتب.

وقد أنهينا القول في تفسير الآيات ، وهنا أشياء لا بدّ أن نتعرض لها ، لأن بعضها من الأحكام التي أراد الفقهاء أن يأخذوها من الآية. وبعضها الآخر وعدناك به ، وهو ما يتعلّق بالقسم. ولنشرع في البعض الأول ، وهو ما يتعلّق بالأحكام.

قد رأيت أثناء التفسير أنّ من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في (لا يَمَسُّهُ) إلى القرآن الكريم ، وأنّ من الآراء في (المطهرين) رأيا يقول : هم المطهرون من الناس ؛ وأنّ طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم الاستدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف ، وعدم مس المحدث

__________________

(١) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (٢٩ / ١٩٣).

٧٢٠