تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

أبحتم له النظر يمكن أن يصفها لكل من تحلّ له ، سواء أكان قريبا أم أجنبيا ، والعمة والخالة تريان من المرأة كل شيء إلا العورة ، ويمكن أنّ كلّ واحدة منهما تصف لابنها ما رأت من ابنة أخيها أو من ابنة أختها.

وكيف يمكن أن يكون إمكان الوصف علة في الحجاب ، وقد أباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر المرأة لمن أراد أن يخطبها وقال : «انظر إليها ، فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما» (١).

وقد اختلف العلماء في تعيين المراد من النساء في قوله تعالى : (وَلا نِسائِهِنَ) فروي عن ابن عباس ومجاهد أنّ المراد منهنّ المؤمنات ، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن ، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكافرات.

ويرى بعضهم أنّ المراد منهن النساء القريبات ، وتكون إضافتهنّ إليهن لمزيد اختصاصهن بهن ، لما لهنّ من صلة القرابة ، وكذلك من يكون من النساء مضافا إليهن لأي صلة أخرى ، كالمتصرفات الخادمات.

وأما ما ملكت الأيمان فهو بظاهره ، ويعمّ الذكور منهم والإناث ، وتخصيص بعض العلماء له بالإماء يحتاج إلى دليل يدلّ على أنّ المرأة تحتجب من عبدها ، ويبقى ظاهر الآية معمولا به حتى يقوم الدليل.

وقد تكلم بعضهم بعد ذلك في دخول المكاتب ، وعدم دخوله ، وهو رقيق ما بقي عليه درهم ، فمن نظر إلى هذه الجهة قال : إنّ الآية تتناوله بظاهرها ، وإخراجه يحتاج إلى الدليل ، ومن نظر إلى أنّ الله إنما أباح الظهور للعبد لحاجة المرأة إلى خدمته ، ومن حيث إنه حرّ يدا ، وهو مشغول بسعيه في أداء بدل الكتابة ، فهو لا يقوم بخدمة سيدته ، ومن أجل ذلك لا يوجد المعنى الذي من أجله رفع الجناح في العبيد ، فلا يكون مما تتناوله الآية.

(وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) لما كان أمر الحجاب عن الأجانب ، والترخيص في تركه للأقربين المحارم يحتاج إلى كثير من الحذر والتقوى ، فقد يجر دخول الأقارب بيوت الأزواج إلى مفاسد ومنغّصات ، وقد يكون في الكلام مع الأجانب من وراء الحجب ما لا يقل عن تلك المفاسد. وتلك أشياء قد ترتكب مع التظاهر بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وليس من علاج لهذه الحال ، إلّا أن يلزم النساء خشية ربهنّ وتقواه.

وجه الله الخطاب للنساء بعد أن كان الحديث عنهنّ حديثا عن الغائبات ، حتى

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ٣٩٧) ، كتاب النكاح ، باب النظر إلى المخطوبة حديث رقم (١٠٨٧) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٥٩٩) ، ٩ ـ كتاب النكاح ، ٩ ـ باب النظر إلى المرأة حديث رقم (١٨٦٥) ، والنسائي في السنن (٥ ـ ٦ / ٣٧٨) ، كتاب النكاح ، باب إباحة النظر حديث رقم (٣٢٣٥).

٦٦١

يكون لهنّ من علمهن بمراقبة الله وعلمه ما قد تنطوي عليه نفوسهن وقاية ودرعا يقيهن من الوقوع في مهاوي الفساد. وانظر كيف عقّب الله أمرهنّ بالتقوى بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) يعلم علم شهود وحضور ومعاينة ، فيجازي على ما يكون ، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي ، ولقد بلغ من المبالغة في تكريم أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال بعض العلماء بحرمة نظر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهنّ مستترات. قال القاضي عياض (١) : فرض الحجاب مما اختصصن به ، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ، ولا إظهار شخوصهن وإن كنّ مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة. واستدلّ لذلك بما روي أنّ حفصة لما توفي عمر رضي الله عنه كان يسترها النساء أن يرى شخصها. ويرى ابن حجر بحق أنّ ذلك إن صحّ فلا دلالة فيه.

وقد كان نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤدين الحج بعد وفاته. ، ويطفن بالبيت ، ويسعين بين الصفا والمروة ، ولو قيل : إنّ الستر وعدم النظر إلى الشخوص أفضل ومندوب لكان شيئا يصح أن يصار إليه ، ويشهد له ما روي أنّ عمر رضي الله عنه أمر يوم وفاة زينب بنت جحش ألا يشهد جنازتها إلا ذو رحم محرم منها ، عملا بالحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليها ، وقالت : إنها رأت ذلك في بلاد الحبشة ، فصنعه عمر.

قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)) قد بين الله تعالى فيما سبق أنّ شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بعث على تكريمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحياطة لمقامه الشريف ، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الله يكرم نبيّه على وجه التأكيد ، فكان ما هنا بمثابة العلة لما قبله ، فكأنه قيل : ما كان لكم أن تؤذوه ، لأنّ الله يصلّي عليه والملائكة ، وما دام الأمر كذلك فهو لا يستحق إلا الإكرام والتمجيد ، وأكّد الخبر اهتماما به ، وجيء به جملة اسمية لإفادة الدوام ، وكانت الجملة اسمية في صدرها ؛ فعلية في عجزها ؛ للإشارة إلى أنّ هذا التمجيد الدائم يتجدّد وقتا فوقتا على الدوام.

وقد ذكر في الآية أنّ الله وملائكته يصلّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر المؤمنين بأن يصلوا عليه ، وبأن يسلّموا تسليما. وقد عرض المفسّرون لبيان معنى صلاة الله على نبيه ، وصلاة الملائكة عليه ، وكذا صلاة الخلق وتسليمهم. ونحن متابعوهم فيما قالوا.

__________________

(١) عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي أبو الفضل عالم المغرب ، وإمام أهل الحديث ، ولي قضاء سبتة توفي بمراكش مسموما قيل سمه يهودي ، انظر الأعلام للزركلي (٥ / ٩٩).

٦٦٢

فقيل : الصلاة من الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه ، هو مروي عن البخاري عن الربيع بن أنس ، ثم تعظيم الله له في الدنيا بإعلاء ذكره ، وإظهار دينه ، وإبقاء العمل بشريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته ، وإجزال الأجر والثواب له ، وإعطائه المقام المحمود. وهل من الملائكة الدعاء له. وقيل : هي من الله الرحمة ، ومن الملائكة الدعاء.

وعلى القولين : فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ، وقد عبّر عنها بلفظ واحد أضيف إلى واو الجماعة (يُصَلُّونَ) فمن ذهب إلى منع الجمع بين الحقيقة والمجاز ذهب إلى أنّ في الآية حذفا تقديره هكذا : إنّ الله يصلّي ، وملائكته يصلون ، فتكون واو الجماعة خاصّة ، وذهب بعضهم إلى أنّ تعدّد الفاعل مؤذن بتعدّد الفعل ، فيكون الفعل مسندا إلى كلّ من الفاعلين.

وذهب جماعة إلى القول بأنّه من باب عموم المجاز ، لا من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فيقدّرون معنى مجازيا عاما ، ينتظم أفرادا كثيرة ، ويكون كلّ فرد منها فردا حقيقيا من أفراد المعنى المجازي للعام ، ويقولون : إنّ هذا المعنى العام هو الاعتناء بالمصلّى عليه ، وهذا الاعتناء له أفراد ، فهو يكون من الله على وجه ، ويكون من الملائكة على وجه آخر.

وأما صلاة المؤمنين عليه ، فهي تعظيمهم لشأنه ، وذلك يكون بوجوه كثيرة : منها الدعاء له باللفظ الوارد في ذلك ، وقد جاءت كيفية الصلاة عليه من المؤمنين من طرق كثيرة ، وفيها صور من الصلاة مختلفة ، واختلافها يشعرك بأنّ الغرض ليس تحديد كيفية خاصّة ، وإنما هي ألوان من التعظيم ، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات لأنّ استيعابها يطول.

روى الشيخان (١) وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد».

وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم (٢) عن أبي حميد الساعدي أنهم

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٣٠٥) ، ٤ ـ كتاب الصلاة ، ١٧ ـ باب الصلاة على النبي حديث رقم (٦٦ / ٤٠٦) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ٣٢) ، ٦٥ ـ كتاب التفسير ، ١٠ ـ باب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) حديث رقم (٤٧٩٨).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٣٥٦) ، ٤ ـ كتاب الصلاة ، ١٧ ـ باب الصلاة على النبي حديث رقم (٦٩ / ٤٠٧) ، والبخاري في الصحيح (٧ / ٢٥٢) ، ٨ ـ كتاب الدعوات ، ٣٢ ـ باب الصلاة على النبي حديث رقم (٦٣٦٠) ، ومالك في الموطأ (١ / ١٦٥) ، وأحمد في المسند (٥ / ٤٢٤).

٦٦٣

قالوا : يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذريّته ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذريّته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

وأخرج الجماعة (١) عن أبي سعيد الخدري قلنا : يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ فقال : «قولوا : اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم».

وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة ، وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة ، وما دام المراد تعظيم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأيّ عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها.

وأما التسليم : فقد قيل : إنّ المعنى أن الله أمر المؤمنين أن يقولوا السلام عليك يا رسول الله ، وقد اختلف في معنى السلام عليك فقيل : إنّ معناه دعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص [أن] تحيط به وتلازمه.

وقيل : بل السلام اسم من أسماء الله ، ومعنى كونه عليه : أنه حافظه ، حتى إن بعض من قال بهذا قال : إنّ الكلام على حذف مضاف ، والتقدير حفظ السلام عليك.

وقيل : بل السلام الانقياد وعدم المخالفة ، ومعنى كونه عليك : ملازمته ، وهو حينئذ دعاء للمسلم عليه بانقياد الناس له انقيادا ملازما بحيث لا يخالفونه.

قالوا : إنما أكّد التسليم بالمصدر ، ولم يؤكد الصلاة ، لأن الصلاة قد قرنت بما يؤكدها ، وهو الإخبار بأنّها تكون من الله ومن الملائكة ، فكان ذلك أبعث على أن تكون من الناس.

وخص المؤمنين بالتسليم ، لأنّ الآية وردت بعد الكلام في أذية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأذية المحدّث عنها إنما تكون من البشر.

وقيل : بل صلاة الله مشتملة على تسليمه ، وأما صلاة الناس فلا تشتمل عليه ، فلذلك طلب التسليم منهم.

ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر ، بل

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٦ / ٣٢) ، ٦٥ ـ كتاب التفسير ، ١٠ ـ باب (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ ...) حديث رقم (٤٧٩٨) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٢٩٢) ، ٥ ـ كتاب إقامة الصلاة ، ٢٥ ـ باب الصلاة على النبي حديث رقم (٩٠٣) ، والنسائي في السنن (٣ ـ ٤ / ٥٦) ، كتاب السهو ، باب نوع آخر من الصلاة على النبي حديث رقم (١٢٩١).

٦٦٤

لقد حكى القرطبي (١) الإجماع على ذلك ، وذلك عملا بما يقتضيه الأمر (صَلُّوا) من الوجوب ، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد ، وذلك أنك تعلم أنّ الصحيح أنّ الأمر لا يقتضي التكرار ، وإنما هو للماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرّة ، وحصوله بالمرة ضرورة من ضرورات الحصول.

وذهب بعضهم إلى القول بوجوب الصلاة والتسليم في التشهد ، وقيل : هي واجبة في الصلاة من غير قيد بمكان. وقيل : يجب الإكثار منها من غير تقيّد بعدد ، وقيل : تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره فيه ، وقيل : تجب كلما ذكر.

ولعل هذا القول من قائليه مبنيّ على أنّ الأمر يفيد التكرار ، ولعلهم يستدلون بالأحاديث الترغيبية والترهيبية الواردة في فعلها وتركها ، وأنت لو اطلعت على هذه الأحاديث لفهمت من صيغتها أنّها لمجرد الترغيب ، وأنّها ككل الحسنات تتضاعف ، انظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» (٢) و «من صلّى عليّ عشرا صلّى الله عليه مائة» فإنك واجد أنّه متفق مع قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] وما قال أحد إلا أن هذا ترغيب في الإحسان.

وعلى كلّ فالآية لا دلالة لها إلا على الوجوب مرة ، فمن زاد على هذا فعليه الدليل ، ونحن لما يدل عليه ملتزمون.

وأخيرا فليلتمس القائلون بغير ما تدل عليه الآية دليلهم في غيرها ، فإن قام دليل على وجوب الصلاة والسلام في التشهد وجب ، وإن دلّ على ختام الصلاة وجب ، وإلا فالآية بمنأى عن هذا كله.

قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧)) هذا عود إلى تأكيد النهي عن أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد الأمر بالصلاة والتسليم عليه اقتضته العناية الكاملة بشأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد قيل : إنّ المراد بأذى الله ورسوله ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان ، وقيل : بل إيذاء الله تعالى : ما يكون من قبيل قول اليهود والنصارى يد الله مغلولة ، والمسيح ابن الله ، وعزير ابن الله ، وجعل الأصنام شركاء لله ، وإيذاء الرسول : انتقاصه بوصفه بالشّعر والسّحر والجنون. وقيل : إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المراد هنا هو ما كان من طعنهم في نكاح صفية بنت حيي ، إلى غير ذلك ، ولا مانع أن يكون كلّ ذلك مرادا.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن المشهور بتفسير القرطبي ، طبعة تصوير ، بيروت دار المعرفة (١٤ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٣٠٦) ، ٤ ـ كتاب الصلاة ، ١٧ ـ باب الصلاة من النبي حديث رقم (٤٠٨).

٦٦٥

وقيل : إن المقصود هنا إيذاء الرسول خاصة صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر الله عزوجل معه للتشريف ، والإشارة إلى أنّ ما يؤذي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخليق به أن يؤذي الله تعالى ، ولا يرضيه ، كما جعلت طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحبته طاعة الله تعالى ومحبته.

واللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وبعد ذلك فهناك العذاب المهين المحقّر ينتظر في الآخرة.

قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨))

لما أنهى الكلام في شأن الذين يؤذون الله ورسوله ناسب ذلك أن يقرن به ذكر الذين يتعرّضون للمؤمنين بالأذى ، والأذى هنا مطلق كالأذى في الآية السابقة ، يتناول كل ما يصدق عليه اسم الأذى ، سواء أكان بالقول أم بالفعل ، وسواء أكان إيذاء للعرض أو الشرف أو المال ، فإنّ الذين يلحقون بالمؤمنين أيّ نوع من أنواع الأذى يستحقون الجزاء الذي ذكر في الآية الكريمة ، لا يخصّ منه شيء إلا ما خصّه الله تعالى ، وهو أن يكون الإيذاء جزاء على الاكتساب ، كالإيذاء بالقصاص ، والإيذاء بقطع اليد في السرقة ، وكالإيذاء بالتعزيرات المختلفة ، وكالحقّ الوارد في

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» (١).

وقد فهم أبو بكر رضي الله عنه أنّ الزكاة حقّ المال ، فقاتل مانعيه من أجله ، وقال : والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. وحاجّه في ذلك عمر ، فقال له : إلا بحقها ، والزكاة حق الأموال ، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر.

وقد يخطر لك أن تقول : لما ذا قيل : (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) هنا ، ولم يقل في الآية المتقدمة مثله؟

ونقول : لأنّ اكتساب الأذى هناك لا يكون ، أما العباد فكل يوم يعدو بعضهم على بعض.

والمراد بالبهتان الفعل الشنيع ، والإثم المبين البيّن الظاهر. واحتماله : حمله وفي التعبير بالاحتمال إشارة إلى ثقل ما يحملون من أوزار.

ويذكر المفسّرون هنا أسبابا لنزول الآية (٢) ، فيقولون : هي في قوم آذوا عليا أو

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٥) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٨ ـ باب حديث رقم (٢٠ و ٢١) ، و (١ / ٥٣) ، ٨ ـ باب الأمر بقتال الناس حديث رقم (٣٦ / ٢٢) ، والبخاري في الصحيح (١ / ١٤) ، ٢ ـ كتاب الإيمان ، ١٧ ـ باب حديث رقم (٢٥) و (١ / ١١٨) ، ٨ ـ كتاب الصلاة ، ٢٨ ـ باب فصل استقبال القبلة حديث رقم (٣٩٢).

(٢) انظر تفصيله في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥ / ٢٢٠ ـ ٥٢١).

٦٦٦

عائشة ، وقيل في شأن النبي وصفيّة ، وقيل : في قوم كانوا يتّبعون النساء إذا برزن لحاجتهنّ. وهي بعد ثبوتها لا تقتضي حمل الآية على واحد منها ، وقد تكون الآية نزلت بعد تجمّع الأسباب.

وقد روى البيهقي في «شعب الإيمان» عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أيّ الرّبا أربى عند الله» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) الآية.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)) جرى حكم العرف بتخصيص النساء بالحرائر ، وسبب النزول الآتي يقتضيه ، وآخر الآية ظاهر فيه.

والإدناء : التقريب ، أدناني منه : قرّبني منه. وهو هنا مضمّن معنى الإرخاء والسدل ، ولذا عدّي بعلى ، يقال : إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة : أدني ثوبك على وجهك ، أي أرخيه واسدليه. والجلابيب جمع جلباب ، وقد اختلف أهل التأويل في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كله ، ويتأتى معه رؤية الطريق إذا مشت.

روى جماعة من المفسرين أنّه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء ، وكان في المدينة فسّاق لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية ، يتعرّضون للإماء ، وربما تعرضوا للحرائر ، فإذا قيل لهم يقولون : حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي ، فيستترن ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهنّ مراض القلوب.

واختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر ، فأخرج ابن جرير (١) وغيره عن ابن سيرين أنه قال : سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) فرفع ملحفة كانت عليه ، فتقنّع بها ، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين ، وغطّى وجهه ، وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر ، وروي مثل ذلك عن ابن عباس.

وفي رواية أخرى عنه أنها تلوي الجلباب فوق الجبين ، وتشدّه ، ثم تعطفه على الأنف ؛ وإن ظهرت عيناها ، لكن تستر الصدر ومعظم الوجه.

وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية (يُدْنِينَ

__________________

(١) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (٢٢ / ٣٣).

٦٦٧

عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهنّ الغربان من أكسية سود يلبسنها.

ومعنى الآية : أنّ الله جلّ شأنه يأمر الحرائر إذا خرجن لحاجة أن يتقنّعن ويستترن ، حتى يميّزن من الإماء ، فلا يتعرّض لهنّ أحد بالإيذاء. هذه طريق الجمهور في تأويل الآية.

ومن المعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة ، فلا بد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدا على ما يجب من ستر العورة ، ولذلك ترى عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها متحدة في أنّ المراد بالجلباب الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كلّه من فوق ثيابها ، كالملاءة المعروفة في عصرنا.

وعلى ذلك يكون الأمر بإدناء الجلابيب من الأدب الحسن ، زيادة في الاحتياط ، ومبالغة في التستر والاستعفاف ، وبعدا عن مظان التهمة والارتياب.

ولا يعدّ في إجراء الأمر على ظاهره من وجوب لبس الجلباب إذا كان خروج المرأة بدونه ـ وإن كانت مستورة العورة ـ مدعاة للفتنة ، وسببا في تعرّض الفساق لها ، وإيذائها بالرفث وفحش القول.

وقد يقال : إنّ تأويل الآية على هذا الوجه ، وقصرها على الحرائر ، قد يفهم منه أنّ الشارع أهمل أمر الإماء ، ولم يبال بما ينالهنّ من الإيذاء ، وتعرض الفسّاق لهن في الطرقات ، مع أنّ في ذلك من الفتنة ما فيه : فهلا كان ذلك التصون والتستر عامّا في جميع النساء؟

الجواب : أنّ الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن ، وترددهنّ في الأسواق ومحالّ البياعات في خدمة سادتهن ، وقضاء مصالحهم ، فإذا كلّفن أن يتقنّعن ، ويلبسن الجلباب السابغ كلّما خرجن ، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن ، وليس كذلك الحرائر ، فإنهنّ مأمورات بالاستقرار في البيوت ، وعدم الخروج منها إلا في أوقات الحاجة الشديدة ، فلم يكن عليهنّ من الحرج والمشقة في التقنّع والتستر ما على الإماء.

ولقد راعى الشارع هذه الحال ، فنهى الناس أن يؤذوا المؤمنين والمؤمنات جميعا ، سواء الحرائر والإماء ، وتوعّد المؤذين بالعذاب الأليم والعقاب الشديد.

ومع هذا فإنّ الشرع لم يحظر على الإماء التقنع والتستر ، ولكنّه لم يكلفهن ذلك دفعا للحرج والعسر. فللأمة أن تتقنع وتلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك. وأما نهي عمر رضي الله عنه الإماء في زمانه ، وزجره إياهنّ عن التقنع ، فإنما كان ذلك من السياسات الشرعية ، لأنّه كان يخشى إذا هنّ تشبهن بالحرائر في لباسهن وزيهنّ أن يعتدن الرقة ، ويضعفن عن الخدمة والعمل ، وتكثر مؤنهنّ على سادتهنّ.

٦٦٨

وبعد فقد اختار أبو حيان (١) في تأويل الآية الكريمة وجها غير الوجه الذي سلكه الجمهور ، فجعل الأمر بإدناء الجلابيب موجها إلى النساء جميعا ، سواء الحرائر والإماء ، وجعل معنى قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أنهنّ يعرفن بالعفة والتصون ، فلا يتعرّض لهنّ ، ولا يتلقين بما يكرهن ، فإنّ المرأة إذا بالغت في التستر والتعفف لم يطمع فيها أهل السوء والفساد ، وهو رأي تبدو عليه مخائل الجودة.

وفي «الطبقات الكبرى» أنّ أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية ـ على رأي الجمهور في تأويلها ـ أنّ ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن ، وإن لم يفعله السلف ، لأن فيه تمييزا لهم ، حتى يعرفوا ، فيعمل بأقوالهم.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) فيغفر لمن امتثل أمره ما عسى أن يصدر منه من الإخلال بالتستر (رَحِيماً) بعباده ، حيث راعى في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات ، وأرشدهم إلى هذه الآداب الحسنة الجميلة.

__________________

(١) في تفسيره البحر المحيط (٧ / ٢٥٠).

٦٦٩

من سورة سبأ

قال الله تعالى في قصة سليمان عليه‌السلام : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣))

هذا شيء من قصة نبي الله سليمان عليه‌السلام المذكورة في هذه السورة ، ولتعلم سياق الحديث فيها نذكر لك ما قبل هذه الآية. قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢)) [سبأ : ١٠ ـ ١٢].

فضمير (يَعْمَلُونَ) عائد على الجن ، وضمير (له) يعود على سليمان. فكما سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، وسخّرها عاصفة تجري إلى مسافات بعيدة ، سخّر له الجن ، وجعلهم طوع أمره ، ورهن مشيئته ، يعملون صنوفا مما يشاء من أصناف يتعذّر عملها على البشر في ذلك الوقت ، وبالسرعة التي يعملها بها الجن ، ومن هذه الأشياء المحاريب : وهي جمع محراب ، وهي القصور الشامخات ، أو البيوت المرتفعة ، أو أماكن العبادة ، وقد ذكر الله المحراب في القرآن في مواضع في سورة آل عمران (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧](فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) [آل عمران : ٣٩] وفي سورة ص (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)) [ص : ٢١].

ويقول الذين يفسرون المحراب بالقصر : إنه سمّي بذلك لأنه يحارب من أجله.

وقد يبدو من قوله تعالى : (يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) أنّه المكان المعدّ للصلاة. وأما المحاريب المعروفة الآن بما يدخل في الحائط على سمت القبلة ليتبيّن الناس منها جهة القبلة. فيقول المفسرون : إنها شيء لم يكن قد عرف في الصدر الأول.

غير أنّه قد يرجّح كون المحاريب بمعنى القصور الشامخات أنها ذكرت على أنها مما كان يعمله الجنّ لسليمان ، وقد يكون عمل القصور مما يستعصي على الناس في ذلك الزمن ، لجهلهم بفن العمارة. والتماثيل جمع تمثال بكسر التاء ، وهو بوزن تفعال ، ولم يرد هذا الوزن في القرآن إلا في لفظين (تلقآء) و (تبيان).

٦٧٠

وتمثال الشيء مثاله وصورته أيا كان المثال والصورة ، ذات جسم أو ليست ذات جسم ، فمثال الشيء ما يماثله ويحكيه.

والجفان جمع جفنة : إناء يوضع فيه الطعام ، وقيل : إناء عظيم.

والجواب أصله الجوابي جمع جابية ، وهي الحوض العظيم. والقدور جمع قدر ، وهو ما يطبخ فيه الطعام ، وراسيات : ثابتات ، إشارة إلى أنها قدور عظيمة لا تنقل من مكانها من ثقلها.

وقوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) إمّا جملة مستأنفة بتقدير القول ، أي قلنا : اعملوا يا آل داود شكرا ، أو حالية من فاعل (سخّرنا) أي سخّرنا قائلين اعملوا ، و (شكرا) مصدر وقع موقع الحال ، أي اعملوا شاكرين ، وقيل : هو مفعول لأجله ، وقيل غير ذلك.

والشكور هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضر ، قيل : هو المتوفّر على أداء الشكر ما وسعه بقلبه ولسانه لا يني.

هذا وقد جاء ذكر سليمان في القرآن الكريم ست عشرة مرة في ست من سوره : في البقرة ، وفي النساء وفي الأنعام ، وفي الأنبياء ، وفي النمل ، وفي سبأ ، وفي ص. ولم يجئ هذا الذكر لتوفية قصة بتمامها أو قصص ، وإنما هو تعداد لآلاء الله على سليمان :

منها ذكاؤه وبصره النافذ في القضاء والحكم (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) [الأنبياء : ٧٨].

ومنها تعليمه منطق الطير (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل : ١٦]. ومنها تسخير الرياح له ، تجري بأمره رخاء حيث أصاب.

ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب ، والقرآن في هذا يحدّث عن عملية صهر المعادن.

ومنها تسخير الجن ، وقد جاء الكلام عن تسخير الجن في القرآن الكريم بالآية التي معنا ، وفي قوله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)) [ص : ٣٧]. وفي قوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [النمل : ١٧] وقد صرّح القرآن الكريم في الآية التي معنا بأنّهم كانوا يعملون بين يديه بإذن ربه ، لا يستطيعون أن يحيدوا عن ذلك (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) ثم تحدّث عما كانوا يعملون فقال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ) إلخ.

هذا وقد يفهم من الآية ـ بل هي صريحة في ذلك ـ أنّ نبي الله سليمان كان

٦٧١

يتخذ التماثيل ، فالقرآن صريح في امتنان الله على سليمان بأنّه سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء عمله ، من المحاريب ؛ والتماثيل ، والجفان ، والقدور الراسيات. صحيح أنّه لم يذكر في القرآن صراحة أنّ الجن عملت له المحاريب والتماثيل والجفان ، ولكنّ تخصيص هذه الأشياء بالذكر في معرض الامتنان دليل على أنّ سليمان كان يبغي صنع هذه الأشياء ، وهو قد لا يجد من يصنعها ، أو يحذق صنعها ، فسخّر له الجن لعملها ، وأنّه يمتن عليه بذلك ، وعلى هذا ففي تسخير الله الجن لعمل ما يشاء سليمان من التماثيل إذن من الله لسليمان باتخاذها ، وهذا دليل على أنّ اتخاذها مشروع عند سليمان ، فهل الأمر كذلك في شريعتنا ، ذلك هو الذي يجمل بنا أن نتكلم فيه فنقول :

إنّ القرآن نعى على التماثيل يعكف لها (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) [الأنبياء : ٥٢] وندّد بمن يتخذون الأصنام والأوثان آلهة ، وفي القرآن من قصص إبراهيم في تحطيم الأصنام ما هو معروف ، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم حطّم الأصنام التي كانت حول الكعبة (١) ، والتي كانت على الصفا والمروة ، والدين الإسلامي دين التوحيد ، وعدوّ الشرك ، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨ و ١١٦].

والسنة قد جاءت بالنعي على التصوير والمصورين ، وبالنهي عن اتخاذ الصور ، وبالتنفير منها : وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة في الموضوع على وجوه كثيرة من الاختلاف. ولكنّها ترجع إلى خمس أمهات ننقلها لك عن القاضي أبي بكر بن العربي ، وقد كنا أحببنا أن ننقلها عن البخاري ، لكنّا وجدنا إرجاعها إلى الأمهات الخمس ويرجع الفضل فيه للقاضي أبي بكر ، فآثرنا الأخذ عنه ، فإنّ البخاريّ ذكرها في أبواب على عادته. قال القاضي رضي الله عنه (٢) : إنّ أمهات الأحاديث خمس أمهات :

الأم الأولى : ما روي عن ابن مسعود وابن عباس «أنّ أصحاب الصور يعذّبون ، أو هم أشدّ الناس عذابا» (٣). وهذا عامّ في كل صورة.

الأم الثانية : روي عن أبي طلحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٥ / ١٠٩) ، ٦٤ ـ كتاب المغازي ، ٤٩ ـ باب أين ركز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٤٢٨٧).

(٢) انظر أحكام القرآن لابن العربي ، بيروت دار الفكر. (٤ / ١٥٨٩).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٧٠) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (٩٨ / ٢١٠٩) ، والبخاري في الصحيح (٧ / ٨٥) ، ٧١ ـ كتاب اللباس ، ٨٩ ـ باب عذاب المصورين حديث رقم (٥٩٥٠).

٦٧٢

ولا صورة» (١) زاد زيد بن خالد الجهني : «إلا ما كان رقما في ثوب» (٢).

وفي رواية عن أبي طلحة نحوه ، فقلت لعائشة : هل سمعت هذا؟ فقالت : لا ، وسأحدثكم ، خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة ، فأخذت نمطا فسترته على الباب ، فلما قدم ورأى النّمط عرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه ، وقال : «إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» قالت : فقطّعت منه وسادتين ، وحشوتهما ليفا ، فلم يعب ذلك عليّ (٣).

الأم الثالثة : قالت عائشة : كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوّلي هذا ، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا» (٤).

الأم الرابعة : روي عن عائشة قالت : دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة ، فتلوّن وجهه ، ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون خلق الله» (٥) قالت عائشة : فقطّعته ، فجعلت منه وسادتين.

الأم الخامسة : قالت عائشة : كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إليه ، ثم قال : أخّريه عني ، فجعلت منه وسادتين فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتفق بهما (٦).

وفي رواية في حديث النمرقة. قالت : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسّدها ، فقال : «إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة ، وإنّ الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة» (٧).

هذه هي الأمهات الخمس التي جمعها ابن العربي ، ومن الحقّ أن نذكر لك ما

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٦٩) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (٨٤ / ٢١٠٦) ، والبخاري في الصحيح (٧ / ٨٤) ، ٧١ ـ كتاب اللباس ، ٨٨ ـ باب التصاوير حديث رقم (٥٩٤٩).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٦٥) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب تحريم تصوير الحيوان حديث رقم (٨٣ / ٢١٠٦) ، والبخاري في الصحيح (٧١ / ٨٧) ، ٧٧ ـ كتاب اللباس ، ٩٢ ، باب من كره القعود ، حديث رقم (٥٩٥٨).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٦٦) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب تصوير الحيوان حديث رقم (٢١٠٧).

(٤) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٦٦) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب حديث رقم (٢١٠٧) و (٨٨ / ٠٠٠).

(٥) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٦٦) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس حديث رقم (٩٢ / ٠٠٠) ، والبخاري في الصحيح (٧ / ٨٧) ، ٧٧ ـ كتاب اللباس ، ٩٥ ـ باب من لم يدخل بيتا حديث رقم (٥٩٦١).

(٦) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١١٦٦) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب حديث رقم (٩٢ / ٠٠٠) ، والبخاري في الصحيح (٧ / ٨٦) ، ٧٧ ـ كتاب اللباس ، ٩٣ ـ باب كراهية الصور حديث رقم (٥٩٥٤).

(٧) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٦٦٦) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب حديث رقم (٩٦ / ٠٠٠) ، والبخاري في الصحيح (٧ / ٨٧) ، ٧٧ ـ كتاب اللباس ، ٩٥ ـ باب من لم يدخل حديث رقم (٥٩٦١).

٦٧٣

جمع به بين هذه الأحاديث قال : تبين بهذه الأحاديث أنّ الصور ممنوعة على العموم ، ثم جاء إلى ما كان رقما في ثوب ، فخصّ من جملة الصور ، ثم يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة في الثوب المصور : «أخّريه عني ، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا» فثبتت الكراهة فيه.

ثم بهتك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثوب المصوّر على عائشة منع منه ، ثم بقطعها لها وسادتين ، حتى تغيرت الصورة ، وخرجت عن هيئاتها ، بأنّ جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز ، لقولها في النمرقة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فمنع منه ، وتوعّد عليها.

وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أنّ ذلك كان جائزا في الرقم في الثوب ، ثم نسخة المنع ، فهكذا استقرّ فيه الأمر والله أعلم.

هكذا يرى ابن العربي أنّ المنع في الأول كان عاما ، ثم استثنيت منه أشياء رخّص فيها ، ثم زال ذلك بالرجوع إلى المنع في الكل ، ونحن نرى أنّ هذه الطريقة في الجمع بعيدة. إذ فيها إثبات النسخ لجواز اتخاذ بعض الصور ، والرجوع إلى الحظر الذي ادعى أنه عام.

ومعلوم أنّ النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ ، وإلا إذا كان يكفي الإمكان فلقائل أن يقول : إن أحاديث المنع يحتمل أن تكون متقدمة ، ثم جاءت أحاديث الترخيص.

ومن أجل ذلك نرى أنّ الذي يذهب إليه ابن العربي بعيد ، وأنّ الأولى في الجمع أن يقال : تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسّدا لذي روح ، ويستأنس له بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعضها : «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله» وروي من طريق آخر : «يقال لهم : أحيوا ما خلقتم» بل في بعضها ما هو تحد قوي بنفخ الروح «يعذّب حتّى ينفع فيه الروح ، وما هو بنافخ» (١).

وبهذا يكون قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» مرادا منه الذين يصوّرون صور الأجسام ذوات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال : إن صاحبها يضاهي بها خلق الله ، وهذا أيضا إنما يكون إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح ، وإذا يكون تصوير الجمادات كالجبال والأنهار والكائنات النامية التي ليست بذات روح خارجة من الحظر ، لأنّها ليست مما تناولها النصّ بإشارة «يشبهون خلق الله» ، وبإشارة «يقال لهم أحيوا ما خلقتم» وحتى «ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ» إذ كل هذه الجمادات والنباتات لا تجتمع فيها كلّ هذه الصفات ، فتكون

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١٦٧١) ، ٣٧ ـ كتاب اللباس ، ٢٦ ـ باب حديث رقم (١٠٠ / ٢١١٠) ، والبخاري في الصحيح (٣ / ٥٤) ، ٣٤ ـ كتاب البيوع ، ١٠٤ ـ باب بيع التصاوير حديث رقم (٢٢٢٥).

٦٧٤

خارجة من الحظر ، وتبقى التماثيل المجسّمة للحيوان على هيئته الكاملة محظورات ، وهي التي تكون مرادة من النص.

وهذا تأويل قريب بالنسبة للتأويلات الأخرى ، كتأويل من يحمل «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» على بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وكتأويل من يقول : إنّ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المصورون يعذّبون» وما ماثله في المعنى : أن المراد من يجعلون لله صورة ، فإن هذه تأويلات بعيدة ، فلا دليل على التخصيص بالنسبة للأول ، ولا يتفق مع بقية الأحاديث والأخبار بالنسبة للثاني.

بقيت الأحاديث المتعارضة فيما كان رقما في ثوب ، وما ماثله من الرسوم التي لا ظلّ لها ، فقد روي في بعض الروايات عدم دخول الملائكة بيتا يحوي الكلب أو الصورة بإطلاق ، وفي بعضها استثناء الرقم في الثوب ، وفي بعضها أنه رأى صورة الطائر في ثوب اتّخذ ساترا ، فهتكه ، أو فغضب ، وقال : إنا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين ، وفي بعضها أنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون ، وكل هذه الروايات تعارض الرواية التي فيها استثناء الرقم في الثوب ، وتوافق الروايات التي جائت بالإطلاق ، ولكنّا نقول : إنّ الجمع بينها ممكن ، إذ من الممكن أن يقال : إنّه غضب لمّا رأى الصورة معلقة أمام المارّة يستقبلونها ، فربما أشعر وضعها هذا بتعظيمها ، ولو كانت على غير هذا الوضع ، ووضعت للاستعمال فلا بأس. وقد ارتفق بها وسادة.

وأما تأويل ابن العربي التوسد بأن الصورة خرجت عن هيئتها ، فلم يوجد في الأحاديث ما يدلّ عليه.

ويؤيّد هذا المعنى حديث الصورة التي كانت أمامه في الصلاة ، فأمر بإزاحتها قائلا : «كلّما رأيتها تذكّرت الدنيا» يعني أنّ هذا نوع من الزينة التي تشغل البال.

وكذلك يدلّ استعماله للوسادة التي اتّخذت من الساتر الذي كان فيه الصورة ، وأمر بإزاحته ، على أنّ المدار في النهي عن الصور ؛ والتنفير منها : ألا تتّخذ فتعظّم ، فإنّ ذاك قد يجرّ إلى عبادتها ، فالنهي عنها من باب سد الذرائع ، فإن انتفى أن تكون الصورة في وضع يشعر بالتعظيم ، وانتفى قصد التعظيم ، فقد زال النهي ، كما دلّ على ذلك فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وارتفاقه بالوسائد التي فيها الصور.

ولعلّك تقول : ما دام الأمر كذلك فلنطرد الباب على وتيرة واحدة ، فنجري الكلام في التماثيل المجسمة لذي الروح على هذا الوجه ، فنقول : فرق بين هذه وهذه ، فإنّ الصورة المجسّمة تبقى عصورا طويلة ، وقد يفضي التقادم إلى نسيان المعنى الأصلي من اتخاذها ، وينقلب الناس يعبدونها ، ويعكفون عليها.

قال ابن العربي : والذي أوجب النهي في شريعتنا ـ والله أعلم ـ ما كانت عليه

٦٧٥

العرب من عبادة الأوثان والأصنام ، فكانوا يصوّرون ويعبدون ، فقطع الله الذريعة وحمى الباب.

وقد ورد في كتب التفسير في شأن يغوث ، ويعوق ، ونسر ، وود ، وسواع : أنّهم كانوا قوما صالحين ، ثم صوّروا بعد موتهم تذكيرا بهم وبأعمالهم ، ثم انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم.

قال ابن العربي : وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات ميت صوّروه من خشب في أحسن صورة ، وأجلسوه في موضعه من بيته ، وكسوه بزّته إن كان رجلا ، وحليتها إن كانت امرأة ، وأغلقوا عليه الباب ، فإذا أصاب واحدا منهم كرب ، أو تجدّد له مكروه فتح الباب عليه ، وجلس عنده يبكي ، ويناجيه بكان وكان ، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه ، ثم يغلق الباب عليه ، وينصرف عنه ، وإن تمادى بهم الزمان تعبّدوها من جملة الأصنام والأوثان (١).

بعد هذا نقول : إنه ليس لأحد أن يحتجّ بقصة سليمان في التماثيل ، فإنّها وإن كانت في شريعة من قبلنا ، فقد وجد المغيّر في شريعتنا ، وشريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يوجد الناسخ ، وقد وجد ، على أنّ من الممكن أن يقال : إن التماثيل التي كانت في ذلك العهد يحتمل أن تكون مما أباحت شريعتنا اتخاذه ، فإن لم يصلنا من طريق قاطع أنّ التماثيل التي كانت ، إن كانت هناك تماثيل اتخذت ، كانت تماثيل لذي روح ، وحينئذ يزول الإشكال.

وإننا لننقل لك عن العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور تتميما للفائدة قال رحمه‌الله : نقلا عن ابن العربي : حاصل ما في اتخاذ الصور أنّها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع ، وإن كانت رقما فأربعة أقوال :

الأول : يجوز مطلقا ، عملا بحديث : «إلا رقما في ثوب».

الثاني : المنع مطلقا.

الثالث : إن كانت الصورة باقية بالهيئة ، قائمة الشكل حرم ، وإن كانت مقطوعة الرأس ، أو تفرّقت الأجزاء جاز ، قال : وهذا هو الأصح.

الرابع : إن كانت مما يمتهن جاز ، وإن كان معلقا لم يجز.

ونقل عن النووي أنّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظلّ لها ، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس ، أو يمتهن بالاستعمال ، كالمخاد والوسائد. والقول بجواز ذلك مروي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي.

__________________

(١) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٤ / ١٥٨٨).

٦٧٦

ونقل عن ابن العربي أيضا أنّ ذات الظل حرّمت بالإجماع ، سواء كانت مما يمتهن أم لا. قال ابن حجر : واستثني من ذلك لعب البنات.

ولعلك تريد بعد ذلك أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي أو الفتوغرافي فنقول : يمكنك أن تقول : إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب ، وقد علمت استثناءه نصا. ولك أن تقول : إن هذا ليس تصويرا ، بل حبس للصورة ، وما مثله إلا كمثل الصورة في المرآة ، لا يمكنك أن تقول : إن ما في المرآة صورة ، وأن أحدا صوّرها ، والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة ، غاية الأمر أنّ مرآة الفتوغرافية تثبت الظلّ الذي يقع عليها ، والمرآة ليست كذلك. ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت في العفريتة في حمض خاص ، فيخرج منه عدة صور. وليس هذا بالحقيقة تصويرا فإنّه إظهار واستدامة لصور موجودة ، وحبس لها عن الزوال ، فإنّهم يقولون : إنّ صور جميع الأشياء موجودة ، غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء ما لم يمنع من انتقالها مانع ، والحمض هو ذلك المانع.

وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها ، خصوصا وقد ظهر أنّ الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها.

ولعلنا بعد هذا نكون قد وفّينا الموضوع ما يستحقّ ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

٦٧٧

من سورة ص

قال الله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

وهذه قصة من قصص حياة نبي الله أيوب عليه‌السلام ، ولقد عرض القرآن الكريم لذكر أيوب عليه‌السلام في أربعة مواضع منه. فقد جاء ذكره في سورة النساء [١٦٣] في عداد الأنبياء الذين أوحي إليهم.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣)).

وجاء ذكره في سورة الأنعام [٨٣ ، ٨٤] في عداد الأنبياء من ذرية نوح عليه‌السلام : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤)).

وجاء ذكره وذكر كشف الضرّ عنه في سورة الأنبياء [٨٣ ، ٨٤] بعد ذكر تسخير الريح عاصفة لسليمان ، وعمل الجن له في قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)).

وجاء ذكره في سورة ص [٤١ ـ ٤٤] في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)) إلى (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)).

فأنت ترى أنّ أيوب قد ذكر مرّة في عداد النبيين الذين أوحي إليهم ، ومرّة في عداد من كان من ذرية نوح من النبيين ، ومرّة ثالثة في سورة الأنبياء حيث ذكر بعض ما أصابه من ضرّ مسه ، وقد سأل أرحم الراحمين كشفه ، فاستجاب له ، فكشف ما به من ضرّ ، وآتاه أهله رحمة من عنده وذكرى للعابدين.

وقد جاء ذكره في سورة ص تفصيلا بعض التفصيل لهذا الضر الذي أصابه ، وبيانا لطريق كشف الضرّ عنه ، فقد جاء في تفصيل الضرّ أنّ الشيطان مسّه بنصب

٦٧٨

وعذاب ، والنصب : بضم النون وإسكان الصاد : التعب ، كالنّصب بالفتح فيهما ، والعذاب : النكال.

وجاء في بيان كشف الضر عنه أمره أن يركض برجله ، والقول له : هذا مغتسل بارد وشراب. والمغتسل : مكان الغسل ، والشراب : ما يشرب. ثم جاء في هذا البيان أيضا أنه وهبه أهله ومثلهم معهم ، وأنّ ذلك كان رحمة منه وذكرى لأولي الألباب ، على نحو ما جاء في سورة الأنبياء تماما بفارق بسيط ، ذلك أنّه قيل في الأنبياء : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) وقيل في ص : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) وقيل في الأنبياء : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) وقيل في ص [٤٣](رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ).

وقد جاء في سورة ص زيادة لم تظهر في (سورة الأنبياء) ذلك هو قول الله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وإنما جعلنا هذه زيادة لم تظهر ، مع أنّها طريق من طرق كشف الضر الذي أصاب أيوب ، لأنا رأينا القرآن قد فصل بين الضّرّ الذي أصاب أيوب في شخصه ، وبين ما أصابه في أهله.

فقال في الأول : (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ).

وقال في الثاني : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ). فدلّ ذلك على أنه أصابه ضران : ضرّ في النفس ، وضرّ في الأهل ، وقد جاء إيتاء الأهل في السورتين نصا ، وجاء كشف الضّرّ في الأنبياء بلفظه ، وفي ص بالأمر بالرّكض بالرجل.

أما الأمر بأخذ الضّغث ، والضرب به ، فشيء جديد ، جاءت به آية مستقلة ، وهي في شأن من شؤون أيوب كان من الخير ألا يفعله حتّى لا يتأذّى به غيره.

ويكاد القرآن الكريم يكون صريحا في أنّ الضرّ الذي مسّ أيوب عليه‌السلام ضر حسيّ ، تلمسه من قول أيوب : مسني الضر ، وقوله في سورة ص : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) وفي قول الله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) وقوله لأيوب : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)) وليس بلازم في ثبوت صبر أيوب أن يكون الضر الذي أصابه قد وصل إلى الحدّ الذي عصم منه الأنبياء ، وعلى الوجه الذي ينقله المفسرون من الإسرائيليات التي لا يكاد يثبت منها شيء. بل يكفي أن يكون مرضا من الأمراض المستعصية التي ينوء بحملها الناس عادة ، ويضجرون من ثقلها ، وخصوصا إذا امتدّ الزمن بها ، وإنّك لتفهم من التعبير عنها بمس الشيطان أنها مما لا يؤلف عادة ، وكلّ غريب غير مألوف يقال فيه : إنّه من فعل الشيطان.

وقد يكون التعبير عنها بأنها مس الشيطان للتأدب ، على حد ما يقال : (إن كان خيرا فمن الله ، وإن كان شرّا فمني ومن الشيطان).

٦٧٩

فإذا احتملها الإنسان ؛ وصبر عليها صحّ أن يقال فيه : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

وأما اللجوء إلى القول بأن ذلك الضّرّ هو إعراض قوم أيوب عن دعوته فرارا مما رواه المفسرون من خرافات لا تصح ، فهو ظنّ لا يغني من الحق شيئا.

فالقرآن الكريم في المواضع الأربعة التي جاء فيها ذكر أيوب لم يذكر فيها شيئا عن دعوته في قومه ، ولا شيئا مما كان من قومه ، ولو أنّ الذي أصاب أيوب من قومه في دعوته كان شيئا يصحّ أن يذكر لذكره الله في عبارة صريحة واضحة جلية ، كما هو الشأن في الذين لقوا عنتا في سبيل دعوتهم ، على أنّا لا نعتقد أنّ أحدا من الرسل لقي عنتا مثل الذي لقي إبراهيم ونوح وموسى.

لقد بلغ من عداوة قوم إبراهيم له أن قالوا : (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٦٨].

وبلغ من عناد قوم نوح أن قال فيهم : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (٦)) [نوح : ٥ ، ٦] وأن اضطر إلى أن يسأل الله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)) [نوح : ٢٦ ، ٢٧]. وحتى ابنه كان في معزل عنه ، ولم يستمع لأبيه حتى في طلب النجاة من الغرق.

ولم يكن شأن موسى مع قومه بأقلّ من هذا ، فقد أخرجه عنادهم إلى التيه ، كلّ هذا وغيره أصاب الأنبياء في دعوتهم ، ولم يحك القرآن أن أحدا منهم قال : مسني الضر ، ولا مسني الشيطان بنصب وعذاب.

وقد أمر الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولم يقل أحد : إنّ أيوب كان من أولي العزم ، مع أنّ الله يقول فيه : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) ولقد كان صبر أيوب مضرب الأمثال ، وأولو العزم من الرسل هم الذين أصابهم عنت معارضة الدعوى ، فصبروا ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتأسّى بهم.

ترانا قد أطلنا في غير ما هو مقرّر علينا ، ولكن جرّنا إليه أنّا أردنا أن نبيّن المخاطب في قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ).

والضغث : في اللغة قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس : وهو عثكال النخل.

والحنث : يطلق على الإثم ، وعلى الخلف في اليمين ، وعلى هذا فقد أمر الله أيوب أن يأخذ قبضة من حشيش ، أو حزمة حطب ، فيضرب بها ، ونهاه أن يحنث.

وإذن لقد كان أيوب حلف ليضرب ، وكان هذا الضرب مؤذيا وإذا تركه أيوب يكون حانثا مخالفا ليمينه ، فنهاه الله أن يحنث ، وأوجد له المخرج من إيقاع الذي

٦٨٠