تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

ثم اختلفوا على أنّ الربع هو المراد بالآية. وعن ابن مسعود والحسن الثلث. وعن ابن عمر السبع. وعن قتادة العشر.

وقال الشافعي : لم تقدّر الآية الشيء الذي يؤتيه المولى ، فيكفي في الخروج من عهدة الطلب أن يؤتيه أقلّ متمول ، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ، بل الحط أولى من الإيتاء ، لأنّه المأثور عن الصحابة ، ولأنه في تحقق المقصود من الكتابة أقرب من الإيتاء.

وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال : قال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقول : إنّ ذلك أن يكاتب الرجل غلامه ، ثم يضع عنه من آخر كتابه شيئا مسمّى. قال مالك : وذلك أحسن ما سمعت ، وعلى ذلك أهل العلم وعمل الناس عندنا.

ثم اختلف هؤلا في الإيتاء : أهو على سبيل الفرض والتحتيم أم على سبيل الندب والاستحباب؟

فقال سفيان الثوري وطائفة من العلماء : إنّه ليس بواجب ، وإن يفعل ذلك حسن.

وذهب الشافعي إلى أنّ الإيتاء واجب ، وفي معناه الحط كما تقدم ، لأنّ ظاهر الأمر في الآية الوجوب ، ولا صارف عنه.

وقال جماعة من العلماء : إنما هذا أمر متوجه إلى الناس كافة أن يعطوا المكاتبين سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضة بقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ) [التوبة : ٦٠] وهذا هو مذهب الحنفية ، وحكاه أبو بكر بن العربي عن مالك. وظاهر أنّ الأمر حينئذ يكون للوجوب.

وقيل : إنّه أمر ندب للمسلمين عامة بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم.

وقيل إنه أمر للموالي أن يقرضوا المكاتبين شيئا من أموالهم لاستثماره في التجارة ونحوها إعانة لهم على أداء مال الكتابة.

الإكراه على البغاء

قال الله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفتيات : جمع فتاة ، وكلّ من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة في أيّ سن كانا.

والبغاء : زنى النساء.

والتحصن : التعفف عن الزنى.

٦٠١

والعرض : المتاع سريع الزوال. والمراد به هنا ما يعمّ أجورهنّ التي يأخذنها على الزنى بهن ؛ وأولادهن من الزنى.

أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه (١) أنّ جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة ، وأخرى يقال لها : أميمة ، كان يكرههما على الزنى ، فشكتا ذلك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية.

وقيل : نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنى ، أحدهما عبد الله بن أبي.

وقيل : كان له ست جوار أكرههن على البغاء ، وضرب عليهن ضرائب ، فشكت اثنتان منهن إلخ.

وعن علي وابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنى ، يأخذون أجورهن ، فنهوا عن ذلك في الإسلام ، ونزلت الآية.

وعلى جميع الروايات لا سبيل إلى تخصيص الآية بمن نزلت فيه ، بل هي عامة في سائر المكلّفين ، لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قد يقال : إنّ النهي عن الإكراه هنا مقيّد بأمرين : الأول : أنّهنّ يردن التحصن.

والثاني : أنّهم يبتغون عرض الحياة الدنيا ، فيلزم القائلين بالمفهوم أنّ الإكراه على الزنى جائز إذا لم يردن التحصن ، أو لم يقصدوا به عرض الحياة الدنيا ، والإكراه على الزنى غير جائز بحال من الأحوال إجماعا.

والجواب عن ذلك من وجوه :

الأول : أنّ الشرط لم يقصد به تخصيص النهي بحالة وجوده ، وإخراج ما عداها من حكمه ، بل قصد به النص على عادة من نزلت فيهم الآية ، حيث كانوا يكرهونهنّ على البغاء ، وهن يردن التعفف عنه. ومعلوم أنّه لا يعمل بمفهوم القيد إلا حيث لا يكون له فائدة غير المفهوم ، فإذا ظهر له فائدة غير المفهوم ، فلا اعتبار بمفهومه.

وهنا قد ظهر للشرط فائدة ، وهي أنّ في التنصيص على تعفف الإماء توبيخا لسادتهم ، وتقبيحا لحالهم ، حيث لم يبلغوا في محاسن الآداب والترفع عن الدنيا مبلغ الفتيات المبتذلات ، مع وفور شهوتهن ، ونقصان عقلهن ، وقصور باعهن في معرفة محاسن الأمور. وكذلك قوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) لم يقصد به التنصيص على هذه الحالة لإخراج ما عداها من الحكم ، وإنما جيء به ليسجّل عليهم عادة كانت

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ٢٣٢٠) ، ٥٤ ـ كتاب التفسير ، ٣ ـ باب قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) حديث رقم (٢٦ / ٣٠٢٩) ، وأبو داود في السنن (٢ / ٢٧٨) ، كتاب الطلاق ، باب في تعظيم الزنى حديث رقم (٢٣١١).

٦٠٢

تجري فيما بينهم أيضا ، زيادة في التشنيع عليهم ، وتقبيحا لما كانوا عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير.

والوجه الثاني : أنّ قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) شرط في تصور الإكراه وتحققه ، وليس شرطا للنهي ، وهذا الوجه ضعيف ، لأنّ الإكراه قد يتصوّر إذا لم يردن التحصن ، بأن تكره على زنى غير الذي أرادته ، ولو سلّم أن الإكراه لا يتصور إلا إذا أردن التحصن ، فذكر الإكراه مغني عن هذا القيد.

والوجه الثالث : أن المفهوم اقتضى ذلك الحكم ، وهو جواز الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن ، لكن ذلك الذي اقتضاه المفهوم قد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع.

وإيثار (إِنْ) في قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) على (إذا) لأنّ إرادة التحصن من الإماء كالشأن النادر ، أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك ، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع.

(فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اختلف أهل التأويل في المغفور له من هو ، أهو المكرهون أم المكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف والخلف على أنّ المعنى : فإنّ الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن ، ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود : (مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ورويت هذه القراءة عن ابن عباس أيضا. وأورد على هذا الرأي اعتراضان :

أولهما : أنه يلزم عليه خلو جملة الجزاء من عائد على اسم الشرط.

وثانيهما : أنه لا إثم عليهن حال الإكراه ، لأنهنّ غير مكلفات ، ولا إثم دون تكليف ، فكيف تعلّقت المغفرة بهن؟

والجواب عن الأول : أن خلو الجزاء عن ضمير اسم الشرط لا محذور فيه ، لأن اللازم لانعقاد الشرطية كون الأول سببا للثاني ، وهو هنا ظاهر ، على أنّ التقدير : فإنّ الله من بعد إكراههم إياهن ، ففاعل المصدر هو العائد ، والمحذوف كالملفوظ.

والجواب عن الثاني : أن تعليق المغفرة بهن إما لأنهنّ وإن كن مكرهات لا يخلو عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلّة البشرية ، وإما لتشديد المعاقبة على المكرهين ، لأنّ الإماء مع قيام عذرهن إذا كنّ بصدد المعاقبة ، حتى احتجن إلى المغفرة ، فما حال المكرهين؟

واختار بعض العلماء أنّ المعنى : أنّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم ، أي للمكرهين ، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة. وهو تأويل ضعيف لأنّ فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى ، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين.

٦٠٣

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)) يقول الله جل ذكره : لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة آيات تبيّن لكم ما بكم الحاجة إلى بيانه من الأحكام والحدود والشرائع ، وأنزلنا لكم فيها مثلا وقصة عجيبة من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم ، وموعظة ينتفع بها المتقون.

فما تقدم من أول السورة إلى هنا يشتمل على آيات ذكر فيها الحدود والأحكام الشرعية ، وعلى قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف وقصة مريم عليهما‌السلام ، حيث اتهما بما اتهمت به عائشة رضي الله عنها من الإفك ، فبرأهما الله ، وعلى مواعظ وزواجر مثل قوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] وقوله جل شأنه : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) [النور : ١٢] إلخ.

وقال بعض العلماء المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن الكريم من الآيات والأمثال والمواعظ.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨))

روي أنّ أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها ، فنزلت هذه الآية (١).

وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو ، فدخل وعمر نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر : لوددت أنّ الله عزوجل نهى آبائنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ، فانطلق معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية ، فخرّ ساجدا شكرا لله. وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنّه قال : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات ، فيغتسلوا ، ثم يخرجون إلى الصلاة ، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات

__________________

(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٥ / ٥٥).

٦٠٤

إلا بإذن ، بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية ، فإذا صحّ أنّ سبب النزول قصة أسماء المتقدمة كان قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطابا للرجال والنساء بطرق التغليب ، لأنّ دخول سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول.

وقد يقال : الأمر في قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) للمملوكين والصغار ، وكيف يؤمر الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، ولا تكليف قبل البلوغ؟

والجواب من وجهين :

الأول : أن الأمر وإن كان كذلك في الظاهر ، لكنّه في الحقيقة للمخاطبين ، فهم أمروا أن يأمروا مماليكهم وصبيانهم بالاستئذان ، وإلى هذا المعنى يرشد كلام السدي في سبب النزول كما سبق.

وأمر المخاطبين صبيانهم بالاستئذان إنما هو من باب التأديب والتعليم ، ولا إشكال فيه ، ومثله ما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» (١).

والثاني : أنّ الأمر للبالغين من المذكورين على وجه التكليف ، ولغيرهم على وجه التأديب.

وظاهر الأمر في قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) أنّ للوجوب ، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. ولكن الجمهور على أنّه أمر استحباب وندب ، وأنّه من باب التعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب ، فلو دخل المملوك المكلّف على سيده بغير استئذان لم يكن ذلك معصية منه ، وإنما هو خلاف الأولى ، وإخلال بالأدب. نعم إذا كان يعلم أنّ في دخوله بغير إذن إيذاء لسيده كان دخوله حينئذ حراما ، لا من حيث إنه دخل بغير إذن ، بل من حيث أنه آذى غيره ، وعلى كلا القولين حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة الآتية محكم ليس بمنسوخ ولا مؤقّت بوقت قد انتهى على الصحيح.

وزعم بعض الناس أنّه منسوخ ، لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جاريا على خلافه.

وقال آخرون : إنّ طلب الاستئذان كان في العصر الأول إذ لم يكن لهم أبواب تغلق ولا ستور ترخى. تمسّكوا في ذلك بما أخرجه أبو داود (٢) عن عكرمة قال : إنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس رضي الله عنهما : كيف ترى فى هذه الآية التي أمرنا بها ولا يعمل بها أحد. قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الآية ،

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (١ / ١٩٧) ، كتاب الصلاة ، باب متى يؤمر الغلام حديث رقم (٤٩٥).

(٢) رواه أبو داود في السنن (٤ / ٣٨٨) ، كتاب الأدب ، باب الاستئذان حديث رقم (٥١٩٢).

٦٠٥

فقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم أو الولد أو اليتيمة والرجل على أهله ، فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور وبالخير فلم أر أحدا يعمل ذلك بعد.

وظاهر قوله تعالى : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أنّ الحكم خاص بالذكور من العبيد سواء أكانوا كبارا أم صغارا ، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد.

والجمهور على أنه عام في الذكور والإناث من الأرقّاء الكبار منهم والصغار.

وعن ابن عباس أنه خاص بالصغار ، وهو بعيد. وأبعد منه ما روي عن السلمي من تخصيصه بالإناث.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) كناية عن أنهم قصروا عن درجة البلوغ ، ولم يصلوا حدّ التكليف ، فالكلام مستعمل في لازم معناه ، لأنّ الاحتلام أقوى دلائل البلوغ ، وسيأتي لذلك مزيد شرح عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) إن شاء الله.

والجمهور على أنّ المراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان من الذكور والإناث ، سواء أكانوا أجانب أم محارم ، إلا أنّ قوله تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) يجعل اسم الموصول هنا خاصا بالمراهقين. كما أنّ وصفه بقوله تعالى : و (مِنْكُمُ) يجعله خاصا بالأحرار ويشعر بذلك أيضا ذكره في مقابلة الذين ملكت إيمانكم.

(ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) الظهيرة وقت الظهر ، وقل : شدة الحر عند انتصاف النهار.

وقد اختلف العلماء في إعراب (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) تبعا لاختلافهم في المراد بها. فالجمهور على أنّها منصوبة على الظرفية ، للاستئذان ، لأنّ المعنى : ليستأذنكم المذكورون في ثلاثة أوقات : قبل الفجر ، ووقت الظهيرة ، وبعد صلاة العشاء.

وقال أبو حيان : إنّها مفعول مطلق مبيّن للعدد ، لأنّ المعنى : ليستأذنوكم ثلاث استئذانات كما هو الظاهر ، فإنّك إذا قلت : ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «الاستئذان ثلاث» وعليه يكون قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) إلخ ظرفا لثلاث مرات.

وقد يقال : إنّ رأي أبي حيان يقتضي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات واقعا في كل وقت من الأوقات الثلاثة المذكورة بعده ، وليس هذا بمراد ، ولعلّ هذا هو الذي حمل الجمهور على العدول عن مقتضى ظاهر اللفظ إلى القول بأنه ظرف أبدل منه الأوقات الثلاثة إبدال مفصّل من مجمل. ولأبي حيان أن يقول : إنّ مجموع

٦٠٦

الاستئذانات الثلاث واقع في مجموع الأوقات الثلاثة ، فلكل وقت استئذانة واحدة ، والأمر قريب.

وقوله تعالى : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) معناه أنّ هذه الأوقات الثلاثة السالفة الذكر هي ثلاثة أوقات يختلّ فيها تستركم عادة ، فالوقت الأول : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) وقت القيام من المضاجع ، وطرح ثياب النوم ، ولبس ثياب اليقظة ، وذلك مظنة انكشاف العورة. والوقت الثاني : (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وقت يتجردون فيه عن الثياب لأجل القيلولة. والوقت الثالث : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) وقت يخلعون فيه ثياب اليقظة ويلبسون ثياب النوم ، وقد يتعاطون فيه مقدمات المباشرة.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة أنّه لا إثم في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة ، فذلك ترخيص في الدخول بغير استئذان في الأوقات الممتدة بين كل وقتين من الأوقات الثلاثة السابقة.

أما الوقتان الواقعان فيما بين صلاة الفجر والظهيرة ، وفما بين الظهيرة وصلاة العشاء ، فترك الاستئذان فيهما أمر ظاهر ، لأنّهما ليسا من أوقات العورة.

وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر فترك الاستئذان فيه غير ظاهر ، لأن هذا الوقت وقت نوم يختل فيه التستر عادة ، فكان من حقه أن يدخل في أوقات العورة التي لا يباح فيها الدخول بغير استئذان.

وللعلماء في ذلك توجيهات :

منها : أن الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة يفهم منه الأمر بالاستئذان في هذا الوقت من باب أولى ، وعليه يكون حكم هذا الوقت كالمستثنى من قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ).

ومنها : أنّه مسكوت عن حكمه لندرة الوارد فيه جدا.

ومنها : أن العادة جارية بأنّ من ورد في هذا الوقت لا يرد حتى يشعر أهل البيت ، ويعلمهم بوروده ، لما في الدخول هذا الوقت من دون إعلام من التهمة وإساءة الظن.

ولأبي حيان رأي آخر في معنى الجملة ، وهو أنّ التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهن فيهن ، فتصرّف في الكلام بالحذف والإيصال. فحذف فاعل الاستئذان ، وهو الضمير المضاف إليه ، وحذف حرف الجر ، فصار بعد استئذانهن ، ثم حذف المصدر المضاف ، فصار بعدهن. وحاصل المعنى عليه : فإذا استأذنوكم في الأوقات الثلاثة ، فلا جناح عليكم ولا عليهم. وهذا المعنى وإن كان يدفع الإشكال السابق ، إلّا أنّه خلاف الظاهر ، والتصرف في الكلمة على هذا النحو تأباه جزالة النظم الجليل.

وقد علمت فيما سبق أنّ الأمر في قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) إلخ

٦٠٧

في ظاهر اللفظ موجّه لمن لم يبلغ الحلم ، وهو في الحقيقة أمر لأوليائهم أن يعلّموهم الآداب الحسنة ، ويأمروهم بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة ، فإذا اعتبر الأمر في ظاهر اللفظ قيل : ليس عليهم جناح بعدهن ، وإذا اعتبر المأمورون في الحقيقة قيل :

ليس عليكم جناح ، واقتصر عليهم. لكنّ النظم الجليل قد روعي فيه الاثنان ، فجمعهما في نفي الجناح مبالغة في الإذن بترك الاستئذان بعد الأوقات الثلاثة.

والظاهر أنّ المراد بالجناح المنفي الإثم الشرعي ، أي لا إثم عليكم ولا إثم عليهم في دخولهم عليكم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة.

ويفهم منه أنّ على المخاطبين وعلى الصغار الذين لم يبلغوا الحلم إثما إذا دخل هؤلاء الصغار في الأوقات الثلاثة من دون استئذان. وهو مشكل من وجهين :

الأول : أن المخاطبين حمّلوا تبعة فعل غيرهم ، مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

والثاني : أنّ الصغار غير مكلّفين ، فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي.

والجواب أنّه لا مانع من تأثيم المخاطبين لتركهم تعليم الصغار ، وتمكينهم إياهم من الدخول بغير استئذان في أوقات العورات. وإنّ الجناح المنفي عن الصغار الجناح العرفي ، بمعنى الإخلال بالأدب والمروءة.

نفت هذه الآية الحرج في دخول المماليك والذين لم يبلغوا الحلم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) يحظر الدخول بغير استئذان في جميع الأوقات ، فكان بين ظاهر الآيتين تعارض. وأصحّ ما دفع به هذا التعارض أنّ الآية السابقة خاصة بالأحرار البالغين ، وفي حكمهم مماليك الأجانب. وهذه الآية في الصبيان ومماليك المدخول عليه ، فلا تعارض.

ويؤخذ من تعليل الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بأنها أوقات عورة ، يختل فيها تسترهم : أن العبرة بتحقق هذا المعنى ، بقطع النظر عن خصوص الوقت ، فلو كان أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين عليهم فيها كانكشاف عورة ؛ ومداعبة زوجة. أو أمة. فإنّه ينبغي أن يستأذن مماليكهم وصبيانهم عليهم ؛ ولو كان ذلك في غير الأوقات الثلاثة. لأن المعنى الذي من أجله أمروا بالاستئذان ، وهو خشية الاطلاع على العورات متحقق. فالأمر بالاستئذان فيها ، ونفي الجناح بعدها جاريان على العادة الغالبة.

(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي وهم يطوفون عليكم (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعضكم طائف على بعض ، فحذف متعلّق الجار ، وهو كون خاصّ لدلالة ما قبله عليه.

والجملة الأولى مستأنفة لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان ، أي إن من

٦٠٨

شأنهم مخالطتكم ، والتردد عليكم بالدخول والخروج ، فرفع الحرج عنكم وعنهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة. والجملة الثانية مؤكّدة للأولى في بيان الحكمة التي من أجلها رخّص في ترك الاستئذان ، إلا أنها أشمل من الأولى ، فإنّ معناها أن كلّا منكم لا يستغني عن مخالطة الآخر ، فهم طوّافون عليكم ، وأنتم طوّافون عليهم. وفي هذا تسلية للماليك والخدم ، بأنّ التعاون في الحياة أمر مشترك بين المالك والمملوك والخادم والمخدوم.

وكان من حق المقابلة أن يقال : طوافون عليكم ، وأنتم طوافون عليهم. لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) مراعاة لجانب السادة المخدومين ، وتلطفا في التعبير عن حاجتهم إلى المماليك والخدم.

وتدل الآية الكريمة على اعتبار العلل في الأحكام الشرعية ، لأنّ الله تعالى نبّه على العلة في طلب الاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله جلّ شأنه : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ونبّه على العذر المبيح لترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة بقوله عزّ اسمه : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ).

وتدلّ الآية أيضا على أنّ من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع ؛ وينهى عن ارتكاب القبائح. على وجه التأديب والتعليم ، وليعتاده ويتمرّن عليه ، ليكون أسهل عليه عند البلوغ. قال تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] روي في تفسيرها أدّبوهم وعلّموهم.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) معنى تبيين الآيات إنزالها مبينة واضحة الدلالة على معانيها وما قصد منها.

يكثر في القرآن أنّ الله جلّ شأنه بعد أن يذكر الآيات واضحة الدلالة مبيّنة بيانا يشفي الصدور ، ويعمر القلوب باليقين والاطمئنان ، ويحمل السامع على أن يستيقن أن هذا هو البيان ، لا بيان بعده ، يردف ذلك بقوله عزّ اسمه (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) فينبه المخاطبين على أنّ هذه عادة الله في آياته كلّها يبينها البيان الشافي لقوم يعقلون.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) ذو علم شامل لكل معلوم ، فيعلم ما يصلح لكم وما لا يصلح (حَكِيمٌ) فيشرع لكم من الأحكام ما يناسبكم ، ويكفل لكم السعادة في المعاش والمعاد.

قال الله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩))

قد يتوهّم بعض الناس أنّ الصبي وقد اعتاد الدخول والتردد على أهل بيت معين ؛ إذا بلغ مبلغ الرجال ؛ فلا حرج في دخوله بغير استئذان ، كسابق عادته ، فجاءت هذه

٦٠٩

الآية لدفع هذا التوهم ، وبيان أنّ الأطفال الذين قد رخّص لهم في ترك الاستئذان في غير العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا ، كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) إلخ أي فعليهم أن يستأذنوا في كلّ الأوقات ، ويرجعوا إذا قيل لهم ارجعوا.

الكلام في بلوغ الصبي

قال الله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) في القاموس الحلم بالضم والاحتلام : الجماع في النوم ، والاسم منه الحلم كعنق. وقال الراغب : الحلم زمان البلوغ سمي بذلك لكون صاحبه جديرا بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب. والصّحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم ، وهو الاحتلام المعروف. وأنّ الكلام كناية عن البلوغ والإدراك كما سبق.

جعلت الآية حدّ التكليف منوطا ببلوغ الصبي الحلم. ومثل الآية في ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاث ... وعن الصبيّ حتّى يحتلم» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غسل الجمعة واجب على كلّ حالم» وفي رواية «على كل محتلم» (٢) وفي حديث معاذ (٣) رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ، يعني الجزية. ومعنى هذه النصوص أنّ الصبي إذا بلغ أوان الاحتلام جرت عليه أحكام البالغين ، سواء احتلم أم لم يحتلم وأجمع الفقهاء على أن الغلام إذا احتلم فقد بلغ ، وكذلك الجارية إذا احتملت أو حاضت أو حملت.

لكنّهم اختلفوا في أمارات أخر تدل على البلوغ ، ويناط بها التكليف من غير احتلام ولا حيض. فعن قوم من السلف أنّهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار :

روى ابن سيرين عن أنس قال : أتي أبو بكر رضي الله عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبّر فنقص أنملة ، فخلّى عنه.

وعن علي كرم الله وجهه أنه قال : إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٤ / ١٣١) ، كتاب الحدود ، باب المجنون يسرق حديث رقم (٤٤٠٣).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٥٨٠) ، ٧ ـ كتاب الجمعة ، حديث رقم (٥ / ٨٤٦) ، والبخاري في الصحيح (١ / ٢٣٩) ، ١١ ـ كتاب الجمعة ، ٢ ـ باب فضل الغسل حديث رقم (٨٧٩).

(٣) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ٢٠) ، كتاب الزكاة ، باب ما جاء في زكاة البقر حديث رقم (٦٢٣) ، وأبو داود في السنن ، (٢ / ١٤) ، كتاب الزكاة ، باب في زكاة السائمة حديث رقم (١٥٧٦) ، والنسائي في السنن (٥ ـ ٦ / ٢٦) ، كتاب الزكاة ، باب زكاة البقر حديث رقم (٢٤٥١) ، وأحمد في المسند (٥ / ٢٣٠).

٦١٠

الحدود ، يقتص له ويقتص منه. وفقهاء الأمصار لا يجعلون ذلك من أمارات البلوغ ، فقد يكون دون البلوغ وهو طويل ، وقد يكون فوق البلوغ وهو قصير.

وعن آخرين أنهم اعتبروا الإنبات من أمارات البلوغ ، يقال : أنبت الغلام إذا نبت شعر عانته. ويقال : كناية عن ذلك : اخضرّ إزاره. والشافعي رضي الله عنه يجعل الإنبات دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر والجزية والمعاهدة وغيرها عليهم. واحتجّ له بما روى عطية القرظي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقتل من أنبت من قريظة ، واستحياء من لم ينبت ، قال : فنظروا إليّ فلم أكن أنبت فاستبقاني صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). وفي كتب المغازي والسير المعتمدة أنّ سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة أن تقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسّم الأموال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم ، ومن لم ينبت ألحق بالذرية (٢). وروى عثمان رضي الله عنه أنّه سئل عن غلام فقال : هل اخضرّ إزاره؟

وفقهاء الأمصار مجمعون على اعتبار السن في البلوغ ، إلا أنهم مختلفون في التقدير. فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن الغلام لا يبلغ إلا بعد أن يتم له ثماني عشرة سنة ، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال صاحباه والشافعي وأحمد : حدّ البلوغ بالسن في الغلام والجارية خمس عشرة سنة ، وهو رواية عن الإمام أيضا وعليه الفتوى.

دليل المشهور عن الإمام قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام : ١٥٢] وأقل ما قيل في بلوغ الأشدّ ثماني عشرة سنة ، فيبني الحكم عليه للتيقن ، غير أنّ الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع ، فنقص في حقهن سنة ، لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة.

وللشافعي ومن معه أنّ العادة جارية ألا يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة ، ولهم أيضا ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وله أربع عشرة سنة فلم يجزه ، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه (٣).

واعترض الجصاص عليهم بأنّ هذا الخبر لا دلالة فيه على المدعى ، لأنّ الإجازة في القتال والرد يتبعان القوة والضعف ، لا البلوغ وعدم البلوغ ، فلعلّ عدم

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٤ / ١٣٢) ، كتاب الحدود ، باب في الغلام حديث رقم (٤٤٠٤).

(٢) مسلم في الصحيح ، ٣٢ ـ كتاب الجهاد ، ٢٢ ـ باب حديث رقم (٦٤ / ١٧٦٨) ، والبخاري في الصحيح (٥ / ٦٠) ، ٦٤ ـ كتاب المغازي ، ٣١ ـ باب مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٤١٢١).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٤٩٠) ، ٣٣ ـ كتاب الإمارة ، ٢٣ ـ باب بيان سن البلوغ حديث رقم (٩ / ١٨٦٨).

٦١١

إجازته عليه الصلاة والسلام لابن عمر أولا إنما كان لضعفه ، وإجازته إياه ثانيا إنما كانت لقوته وقدرته على حمل السلاح لا لبلوغه ، ويشعر بذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن.

قال الله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

القواعد : جمع قاعد بغير تاء ، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال ابن السكيت (١) : امرأة قاعد : قعدت عن الحيض. وفي «القاموس» أنها هي التي قعدت عن الولد ، وعن الحيض ، وعن الزوج.

(لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يطمعن في النكاح لكبر سنّهنّ (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) يخلعنها (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ) أصل التبرج : التكلّف في إظهار ما يخفى. ومادة برج تدور على الظهور والانكشاف ، ومن ذلك البرج بالتحريك سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله. والبرج بالضم : الحسن. والبارجة : السفينة الكبيرة للقتال ، والمراد بالتبرج هنا : تكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.

رخّص الله للنساء العجائز اللائي أيسن ، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج ، أن يخلعن ثيابهن ، من غير أن يقصدن بخلع الثياب التبرج والتكشف للرجال ، ولم تبيّن الآية الثياب التي رخّص للقواعد أن يخلعنها. وللمفسرين في بيانها رأيان :

الأول : أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها إلى كشف العورة : كالجلباب السابغ : الذي يغطي البدن كله ، كالرداء الذي يكون فوق الثياب ، وكالقناع : الذي فوق الخمار.

وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعبي أنّ أبي بن كعب قرأ : (أن يضعن من ثيابهن).

وما أخرجه ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال : في مصحف أبي بن كعب ، ومصحف ابن مسعود (أن يضعن جلابيبهن) وهي قراءة ابن عباس أيضا. قالوا : والجلباب ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق كالملحفة ، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء ، غير متبرجات بزينة.

والرأي لثاني : أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كنّ في بيوتهن ، أو من وراء الخدور والستور. ويضعّفه أنّ للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها ، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.

__________________

(١) يعقوب بن إسحاق ، لغوي ، أديب توفي (٤٢٤ ه‍) انظر الأعلام للزركلي (٨ / ١٩٥).

٦١٢

وقد يقال : إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة فما معنى نفي الجناح فيه؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهّم حظره ومنعه؟

والجواب : أن الله تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف ، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب ، فإنّه أبعد عن الريبة بهن ، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة ، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا ، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن ، ونفى عنهن الجناح في ذلك ، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه ، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة ، وأنفى للظنّة. (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ.

وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها : وهو أنّ الله تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب ، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها ، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب ، ما دامت الفتنة مأمونة ، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد ، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع ، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة ، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن ، وانقطعت رغبتهن في الرجال.

ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه ، ووضع المرأة ثوبها ، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته ، وأمام أهله ومحارمه.

ففي «صحيح مسلم» (١) وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها ، أمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي ، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر ، تضعين ثيابك عنده.

وفي رواية : «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك» ظاهر أنّ المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تضعين ثيابك عنده» أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب.

قال الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما

__________________

(١) سبق تخريجه.

٦١٣

مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

الحرج : الضيق. ومنه الحرجة للشجر الملتف بعضه ببعض ، لضيق المسالك فيه ، والمراد بالحرج هنا الإثم.

والمفاتح : جمع مفتح أو مفتاح ، وملك المفتاح كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه ، كأن يكون وكيلا عن رب المال ، أو قيمه في ضيعته وماشيته.

والصديق : من يصدق في مودتك وتصدق في مودته ، يقع على الواحد وعلى الجمع ، والمراد به هنا الجمع.

والأشتات : جمع شتّ ، صفة مشبهة على فعل كحق. يقال أمر شتّ أي متفرق.

وأصل معنى التحية طلب الحياة ، كأن يقول : حيّاك الله ، ثم توسّع فيه ، فاستعمل في كل دعاء ، وتحية الإسلام : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(مُبارَكَةً) بورك فيها بالأجر.

(طَيِّبَةً) تطيب بها نفس السامع.

اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية اختلافا كثيرا ، نشأ عنه اختلاف أهل التأويل في معنى الآية ، وأوجه اتصال جملها بعضها ببعض ، فذكروا في ذلك أقوالا كثيرة ، نذكر لك منها أقربها للصواب ، وأولاها بالاعتبار :

فمنها : ما اختاره ابن جرير (١) وهو أنّ المراد نفي الحرج عن العمي والعرج والمرضى وجميع الناس في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكر الله ، فيكون الله قد نفى الحرج عن أهل العذر أولا ، ثم نفى الحرج عن المخاطبين ، ثم جمع المخاطبين مع أهل العذر في الخطاب بقوله : (أَنْ تَأْكُلُوا) وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلّبت المخاطب فقالت : أنت وأخوك قمتما ، وأنت وزيد جلستما ، ولا تقول : أنت وأخوك جلسا.

أخرج ابن جرير (٢) عن معمر قال : قلت للزهري في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) : ما بال الأعمى ذكر هاهنا والأعرج والمريض؟ فقال : أخبرني عبيد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم ، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون :

__________________

(١) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (١٨ / ١٣٠).

(٢) المرجع نفسه (١٨ / ١٢٩).

٦١٤

قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون : لا ندخلها وهم غيّب ، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.

فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم ، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس ، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم ، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا.

وقد يقال : إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه ، وأنه كان حلالا لهم ، فما معنى نفي الحرج فيه؟

والجواب : أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما ، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم ، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته ، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا : الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء.

وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) على بيوت الزوجات والأولاد.

ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان : وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد ، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله فالمعنى : ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد ، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ.

وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث ، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان ، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام ـ قرب الجامع بينهما ، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري (١) : ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر ، فنقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر.

فإن قيل : فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟

قيل : إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد ، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه

__________________

(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٣ / ٢٥٧).

٦١٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلهم القعود عن الجهاد من غير استئذان ولا إذن ، كما أنّ للمماليك والصبيان دخول البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهلها.

ومنها : أنّ الآية تنفي الحرج عن الناس في أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض ، وفي أن يأكلوا من بيوتهم أو بيوت آبائهم إلخ. وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى ، فإنه لا يبصر موضع الطعام الطيب ، والأعرج لأنّه لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لأنه لا يستوفي حظّه من الطعام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١). ومن ذهب إلى هذا التأويل جعل كلمة (عَلَى) بمعنى (في) فقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) إلخ معناه ليس في الأعمى حرج ، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى حرج إلخ.

ومنها ما روي أنّه قد كان أهل الأعذار يتحرّجون أن يأكلوا مع الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم ، وخوفا من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت الآية (٢). أي ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في أن يأكلوا مع الأصحاء ، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا من بيوتكم إلخ.

وعلى جميع الآراء ترى الآية الكريمة قد أباحت الأكل من بيوت الأقارب : الآباء ، والأمهات ، والإخوة ، والأخوات ، والأعمام ، والعمات ، والأخوال ، والخالات.

وأباحت أيضا الأكل مما كان تحت يد الشخص وتصرفه من مال غيره ، والأكل من بيوت الأصدقاء ، ولم يذكر فيها قيد ما لإباحة الأكل من هذه البيوت ، فهي في ظاهرها تنافي قوله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» (٣) وما في حديث ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» (٤) وأيضا فإنّ إباحة الأكل من هذه البيوت ، دون شرط ولا قيد ، تدل على أنّ لهم دخولها بغير استئذان ، وهو معارض لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] فإذا كانوا ممنوعين من دخول بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بإذن ، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس وأكرمهم ، وأقلهم حجّابا ، كان دخولهم بيت غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير إذن أولى بالحظر ، وأدخل في المنع.

__________________

(١) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (١٨ / ١٢٨ ـ ١٢٩).

(٢) المصدر السابق نفسه.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) رواه أبو داود في السنن (٢ / ٣٨٦) ، كتاب الجهاد ، باب فيمن قال لا يحلب حديث رقم (٢٦٢٣).

٦١٦

من أجل ذلك قال جماعة من المفسرين : إنما كان ذلك في صدر الإسلام ، ثم نسخ بما تلونا ، واستقرت الشريعة على أنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه ، ولا ينبغي دخول البيت إلا بإذن أهله.

وقال أبو مسلم الأصفهاني : هذه الآية في الأقارب الكفرة ، أباح الله سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] وقال قتادة : الآية التي معنا على ظاهرها ، والأكل مباح دون إذن ، لكنه لا يجمل.

والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة ، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح.

وقد يقال : إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو ، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟

والجواب : أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم ، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم.

عن الحسن أنه دخل داره ، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره ، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة ، وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا ، وضحك وقال : هكذا وجدناهم ، يريد أكابر الصحابة.

وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت : لا بد فيه من إذن صريح أو قرينة.

ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا ، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم ، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن ، فهذا الظاهر غير مراد قطعا ، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق ، ولم يقل بذلك أحد.

والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة ، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض ، ولا عبرة بنيته وقصده ، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله ، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال ، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر.

وأما قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) فللمفسرين فيه رأيان :

الأول : أنّه كلام متصل بما قبله ، ومن تمامه ، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل

٦١٧

نفسه ؛ أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل ، فالجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال نشأ مما قبلها ، كأنّه قيل : هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكروا خاصّ بما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت؟ فكان الجواب : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً).

والرأي الثاني : أنّه كلام منقطع عما قبله ، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل ، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين ، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه ، فإن لم يجد لم يأكل شيئا ، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح ، وربما كانت معه الإبل الحفّل ، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه ، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل ، قال حاتم الطائي :

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له

أكيلا ، فإنّي لست آكله وحدي

وكذلك كان ناس منهم يتحرّجون أن يأكلوا مجتمعين ، يخاف أحدهم إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه.

وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه ، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم ، وتعطيل مصالحهم ، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين ، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك ، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد ؛ وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة.

وقد يقال : إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره ، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة ، وأن تركه بغير داع مذمة. وفي الحديث : «شر الناس من أكل وحده ، وضرب عبده ، ومنع رفده».

والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده ، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا ، لا بخلا بالمشاركة ، ولا كراهة في القرى.

ووجه آخر : وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم ، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده.

(فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية ، فكأنّ الآية تشير

٦١٨

إلى أن القرابة والصداقة ليس معناهما إغفال الآداب العامة ، وإهدار الحقوق الإسلامية ، فإذا دخلت بيوت أقاربكم وأصدقائكم فلا بدّ أن تسلموا عليهم ، لأنّهم منكم بمنزلة أنفسكم ، فكأنّكم حين تسلمون عليهم تسلّمون على أنفسكم.

هذا وأخرج جماعة عن ابن عباس أنّ المراد بالبيوت هنا المساجد ، والسلام على الأنفس باق على ظاهره ، ومن دخل المسجد فعليه أن يقول : السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وروي عن عطاء أنّ المراد بالبيوت بيوت المخاطبين ، فإذا دخل الرجل بيته قال : السلام علينا من ربنا إلخ.

وعن أبي مسلم أنّ المراد بالبيوت بيوت الكفار ، وداخلها يقول ما تقدم ، أو يقول : السلام على من اتبع الهدى.

وأنت تعلم أنّ الأنسب بالمقام هو الرأي الأول ، وكلمة بيوتا وإن كانت نكرة في سياق الشرط ، إلا أنّ الفاء في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ) تؤذن بأن المراد بها البيوت المذكورة قبل. ومعنى كون التحية من عند الله أنها ثابتة بأمره تعالى ، ومشروعة من لدنه عزوجل.

قال الضحاك : في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون ، ومع البركات ثلاثون. وظاهر ذلك أنّ البادئ بالسلام يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى ، سمعت الله تعالى يقول : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم ، فيبينها لكم ، كما فصّل في هذه الآية ما أحل لكم فيها ، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.

٦١٩

من سورة لقمان

قال الله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥))

المختار عند أهل التأويل أنّ قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) إلى آخر الآيتين كلام مستأنف من الله تعالى ، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه ، ولهذا الاعتراض من البلاغة أحسن موقع ، ذلك لأنّ الفائدة فيه توكيد ما تضمّنته أولى وصايا لقمان ، وهو النهي عن الشرك ، وتقرير أنّه ظلم عظيم ، فإنه قيل : حقّا إنّ الشرك لمنهي عنه ، وإنّه لظلم عظيم مهما كانت أسبابه ، ومهما كان الحامل عليه ، فمع أننا وصّينا الإنسان بوالديه أن يبرّهما ، ويحسن إليهما ، فقد نهيناه عن إطاعتهما في الشرك لو فرض أنهما طلباه منه بإلحاح وجهد.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) هذا اعتراض أيضا بين قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) وقوله تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) لبيان العلة في الوصية ، أو في وجوب امتثالها. وقوله تعالى : (وَهْناً عَلى وَهْنٍ) حال من فاعل (حَمَلَتْهُ) على التأويل بالمشتق ، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن على وهن ، أي ذات ضعف على ضعف متتابع متزايد من حين الحمل إلى الوضع.

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) الفصال الفطام ، أي وفطامه يكون في انقضاء عامين ، أي في أوّل زمان انقضائهما.

استدل العلماء غير أبي حنيفة بقوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) على أنّ مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم عامان ، ومثل هذه الآية في ذلك قوله في سورة البقرة : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣]. وعلم [من] هذه [الآية] فائدة [فقد] استنبط علي وابن عباس وكثير غيرهما من قوله تعالى في سورة الأحقاف : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر.

روي أنّ عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر ، فقال له علي كرّم الله وجهه : قال الله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ).

٦٢٠