تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

عماد الدين ، فأمرت بها مستقلا ، ولم تقتصر على طلبها في عموم العبادات ، ولا شكّ أن ذلك يدلّ على تأكّدها وفرضيتها على الناس جميعا.

غير أن الشافعية قالوا : إنّ الآية آية سجدة ، وأخذوا من الأمر بالسجود فيها سجود التلاوة مطلوب لها كغيرها من بقية آيات السجود ، مستندين في هذا إلى ما يأتي :

١ ـ إنّ السجود حقيقة في المعنى المعروف : وهو وضع الجبهة على الأرض ، فمتى أمكن حمل اللفظ عليه فلا يصح العدول عنه إلا لموجب ، وهو غير موجود في الآية.

٢ ـ وقالوا : أيضا : قد ورد في السنة ما يؤيّد هذا المعنى ، ويكشف عن المراد بالسجود في الآية ، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال : «نعم فمن لم يسجدهما ، فلا يقرأهما» (١).

وأخرج أبو داود وابن ماجه والدار قطني والحاكم عن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصّل ، وفي الحج سجدتان (٢).

وكان يقول بهذا علي ، وعمر ، وابنه عبد الله ، وعثمان ، وأبو الدرداء ، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه ، وبه أخذ أيضا الإمام أحمد ، واللّيث وابن وهب ، وابن حبيب من المالكية رضي الله عنهم جميعا.

وقال أبو حنيفة (٣) ، ومالك ، والحسن ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وسفيان الثوري رضي الله عنهم : إنّ هذه الآية ليست آية سجدة ، واستدلوا بما يأتي :

١ ـ إنّ اقتران السجود بالركوع دليل أنّ المراد به سجود الصلاة ، كما في قوله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣] فإذا لم يكن هذا الاقتران موجبا لحمل السجود على سجود الصلاة ، وأنه عبر عن الصلاة بمجموع الأمرين ، فلا أقلّ من أن يكون مرجحا ، لذلك فلا يصح أن يؤخذ من الآية أنّ السجود فيها سجود التلاوة.

٢ ـ ما روي عن أبي رضي الله عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدّ في الحج سجدة واحدة (٤).

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٢ / ٤٧٠) ، كتاب الصلاة ، باب السجدة حديث رقم (٥٧٨) ، وأبو داود في السنن (١ / ٥٢١) ، كتاب الصلاة حديث رقم (١٤٠٢) ، وأحمد في المسند (٤ / ١٥١).

(٢) رواه أبو داود في السنن (١ / ٥٢١) ، كتاب الصلاة ، باب تفريع أبواب السجود حديث رقم (٤٠١) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٣٣٥) ، ٥ ـ كتاب إقامة الصلاة ، ٧٠ ـ باب عدد سجدات القرآن حديث رقم (١٠٥٧).

(٣) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٨٥).

(٤) رواه الإمام أحمد في المسند (٤ / ٣٠٥).

٥٢١

وما روي عن ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : سجدة التلاوة في الحج هي الأولى ، والثانية سجدة الصلاة.

قالوا : وهذا المروي عن ابن عباس وابن عمر هو تأويل ما روي عن عقبة بن عامر على فرض صحته ، مع أنّ فيه مقالا ، وكذا في حديث عمرو بن العاص ، وإليك ما قيل فيهما :

أما حديث عقبة فقال الترمذي وأبو داود وغيرهما : إن إسناده ليس بالقوي ، قالوا : لأنّ فيه عبد الله بن لهيعة ، وقال الحاكم : إن عبد الله بن لهيعة أحد الأئمة ، وإنما نقم اختلاطه في آخر عمره.

وأما حديث عمرو بن العاص فقيل فيه : إنّه ضعيف أيضا ، لأنّ في سنده عبد الله بن منين الذي قال فيه عبد الحق : إنّه لا يحتج به ، وقال ابن القطان : إنه مجهول ، لا يعرف له حال. وقالا أيضا : إنّ الراوي عن ابن منين هو الحارث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا ا ه.

قال الله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

الجهاد : هو بذل الطاقة ، واستفراغ الوسع في مدافعة العدو ، وهو قسمان عظيمان ، تحت كل منهما أنواع ، فالقسم الأول جهاد العدو الباطن ، وتحته نوعان :

١ ـ جهاد النفس.

٢ ـ جهاد الشيطان.

والقسم الثاني : جهاد العدو الظاهر ، وتحته ثلاثة أنواع :

١ ـ جهاد الكفار.

٢ ـ جهاد المنافقين.

٣ ـ جهاد أهل الظلم والبدع والضلالات الاعتقادية والعملية.

فالجهاد في القسم الأول يكون بمخالفة هوى النفس ، ومدافعة وساوس الشيطان. وهذا هو أصل الجهاد ، وأشدّ أنواعه ، وهو الجهاد الأكبر ، كما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عاد من غزوة تبوك قال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (١) ولهذا كان فرض عين على كل فرد ، لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ، وفرضيته ثابتة من مبدأ الإسلام.

__________________

(١) حديث ضعيف ، انظر الأسرار المرفوعة للملا علي القاري حديث رقم (٢١١).

٥٢٢

وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع ، فهو فريضة على كل مكلف على حسب استعداده ، وبقدر استطاعته ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان» (١).

أما جهاد الكفار والمنافقين ، فإنّه يكون بالحجة والبيان ، كما يكون جهاد الكفار أيضا بالسيف والسنان. فجهادهم بالحجة واجب أيضا من مبدأ البعثة ، كما في الأنواع السابقة ، يشهد لذلك قوله تعالى في سورة الفرقان : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)) [الفرقان : ٥١ ، ٥٢] فالمجاهدة بالقرآن لا شك أنها من نوع الجهاد بالحجة والبرهان ، وهذا النوع فرض كفاية على الأمة ، يتصدى له أهل القدرة عليه من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة ، العارفين بمسالك القول وطرائق الإقناع.

أما الجهاد بالسيف وغيره من آلات القتال فهذا هو الذي لم يشرع إلا بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، وهو فرض كفاية على المسلمين ، يجزئ فيه أن يقوم به بعضهم متى كانوا قادرين على أن يصدوا غارات العدو ، وأن يدفعوه عن بقية المسلمين وبلادهم ، وإلا فعلى حسب ما يرى الإمام ، حتى لو أعلن النفير العام كان فرض عين على كلّ واحد من القادرين على القتال.

وبعد فقد اختلف العلماء في المراد بالجهاد في قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) فعن ابن عباس أنّ المراد به قتال الكفار والمشركين ، وهو مرويّ عن الضحاك أيضا. وعن عبد الله بن المبارك : أنه مخالفة النفس والهوى ، والأولى أن يحمل على المعنى العام الذي يشمل هذا وذاك.

وقد علمت فيما سبق أنّ الراجح في سورة الحج أنها مدنية ما عدا آيات ليست هذه الآية منها ، فلا يكون حينئذ مانع من حمل الجهاد على ما يشمل قتال الكفار وغيره ، أما على اعتبار أنها مكية فيتعين تفسير الجهاد بجهاد النفس والشيطان على ما هو معروف ، إذ إن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة.

والجهاد في الله معناه الجهاد في سبيله ، ومن أجل دينه ، وحقّ الجهاد في الله أن يكون بقوة وعزيمة صادقة ، وأن يكون خالصا لإعلاء دين الله وتأييد شريعته ، فلا ينبغي للمسلم أن يخشى في الانتصار للحق لومة لائم ، كما لا يجوز له في جهاد الكفار أن يقاتل من أجل غنيمة أو غيرها من الشهوات الدنيوية.

وعلى تفسير حق الجهاد بذلك تكون الآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى :

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٦٩) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٢ ـ باب كون النهي عن المنكر حديث رقم (٤٩).

٥٢٣

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) كما يقول مجاهد والكلبي ، فإنّهما يقولان : إنّ حقّ الجهاد غاية لا يستطيعها عامّة المكلفين ، فإنّها قد تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة ، ولكنك قد علمت الصواب في ذلك.

وإضافة (حق) إلى (جهاد) في قوله تعالى : (حَقَّ جِهادِهِ) من إضافة الصفة للموصوف : كما يقال : حق يقين ، وشبيه به قولهم فلان حق عالم ، وهو جد ذكي ، أما إضافة جهاد للضمير في قوله : (جِهادِهِ) فهي لأدنى ملابسة. وذلك لأنّ هذا الجهاد لما كان مطلوبا لله ومن أجل دينه كان خاصّا به سبحانه وتعالى ، فصحّ أن تقع فيه هذه الإضافة التي تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه وأصله : وجاهدوا في الله حق جهادكم فيه ، فحذف المضاف إليه ، والجار للضمير فاتصل الضمير بالمضاف.

(هُوَ اجْتَباكُمْ) الاجتباء : الاصطفاء والاختيار. وهذه الجملة واقعة في مقام التعليل للأمر بالجهاد ، فالله وفّق المسلمين لقبول الإسلام ، واختارهم لدينه ، وشرّفهم بأن يكونوا خدام شريعته ، يقيمونها ، ويحفظونها ممن يريدها بتحريف أو عدوان ، فجدير بمن اختارهم الله لهذا الأمر العظيم أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة في حماية دينه ، وألا يهملوا رعايته ، أو يهنوا في حراسته ، ولا شكّ أنّ الحكم بأنه سبحانه قد اجتبى المسلمين لذلك ، من خير ما يبعثهم على أن يجاهدوا في الله حق الجهاد.

(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الحرج : الضيق كما فسره بذلك ابن عباس ومجاهد.

أكد الله بهذا وجوب الجهاد على الناس ، ولزوم محافظتهم على الدين الذي اختارهم لحمايته ، فإنّه نفى أن يكون في أحكامه شيء من العسر والشدة التي تضيق بها صدورهم ، ولا تتسع لها قدرهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك مانع يمنعهم من مراعاتها ، كما لا يكون لهم عذر إذا تهاونوا فيها ، ولم يقوموا بخدمتها حق القيام ، ما دام قد تحقّق المقتضى للجهاد ، وهو اجتباؤهم ، وانتفى المانع ، وهو الحرج في التكاليف ، وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا بين المشقة في الأحكام الشرعية وبين الحرج والعسر فيها ، فإنّ الأولى حاصلة ، قلما تخلو عنها التكاليف ، فإنّ التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة.

أما المشقة الزائدة التي تصل إلى حد الحرج فهي المرفوعة عن المكلفين فقد فرض الله الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات ، وأوجب عليه أن يؤديها من قيام ، وهذا شيء لا حرج فيه ، ثم هو إذا لم يستطع الصلاة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود ، أو بالإيماء. وكذلك شريعة الصيام لا تصل فيها المشقة إلى درجة العسر ، إذ إن المفروض على الناس صيام شهر في كل عام ، ومع ذلك فقد رخّص الله

٥٢٤

للمكلّف في حالات تعظم فيها المشقة عليه أن يفطر ، فأباح الفطر لكلّ من المسافر والمريض والهرم والحامل والمرضع ، وهكذا تجد جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها مراعى فيها التخفيف والتيسير على العباد ، كما يشهد بذلك قوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وغير ذلك في هذا المعنى كثير.

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) الملة والدين والشريعة شيء واحد ، وكلمة (مِلَّةَ) منصوبة على المصدرية بفعل يدلّ عليه قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فإنه يفيد معنى التوسعة ، أي وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ، فحذف المصدر المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، ويصحّ أن تكون منصوبة على الاختصاص بفعل تقديره : أعني ملة أبيكم إبراهيم ، وقيل : إنها منصوبة على الإغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على الإعراب الأول لا يكون في الكلام دلالة على أنّ شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وحينئذ فلا مانع من تفسير الملة بالأحكام الشرعية كلها الاعتقادية والعملية ، أما الإعرابان الآخران فإنّهما يدلان على اتحاد الشريعتين ، وعلى هذا ينبغي قصر الملة على الأحكام الأصلية المتعلقة بالاعتقاد ، إذ لا شك أنها واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، بل هي واحدة في جميع الشرائع لم تتغير بتغير الأزمان والأقوام ، اقرأ قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)) [الأنبياء : ٢٥] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأنبياء أولاد علّات» (١) يريد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة ، وعلى هذا يكون تخصيص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالذكر ليقويّ تمسك المؤمنين من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريعته إذ إنّ أكثرهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فهم يحبونه حب الأبناء للآباء ، ولا شكّ أنّ هذا الحب يقوّي فيهم روح الاستمساك بشريعة نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ كانت هي شريعة أبيهم إبراهيم من قبل. وقد تبين لك من هذا معنى أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من هذه الأمة.

ويصحّ أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام أب لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم السعيدة في الآخرة.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ١٨٣٧) ، ٤٣ ـ كتاب الفضائل ، ٤٠ ـ باب فضائل عيسى حديث رقم (١٤٣ / ٢٣٦٥) ، والبخاري في الصحيح (٤ / ١٧١) ، ٦٠ ـ كتاب الأنبياء ، ٤٨ ـ باب (واذكر في الكتاب) حديث رقم (٣٤٤٢).

٥٢٥

(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) وفي هذا اختلف العلماء في مرجع الضمير من قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) فعن ابن زيد والحسن : أن الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، سمانا المسلمين قبل نزول القرآن ، وذلك ظاهر ، وسمانا المسلمين في القرآن لأنه تسبب في هذه التسمية بقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] فلما استجاب الله دعاءه ، وجعلنا أمة مسلمة من ذريته ، كان إبراهيم كأنّه سمانا مسلمين.

وذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك إلى أن المسمّي هو الله جل شأنه ، ويؤيد هذا الرأي قراءة أبي بن كعب (الله سماكم المسلمين) وابقاء الإسناد على ظاهره خير من التأويل فيه ، وجعله مستعملا في حقيقته ومجازه.

واللام في قوله تعالى : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) إما لام العاقبة ، وهي متعلقة بسماكم على الوجهين في ضميره ، وشهادة الرسول على أمته معناها الإخبار بأنّه قد بلّغهم رسالة ربه ، وإما لام التعليل.

وعلى في قوله : (عَلَيْكُمْ) بمعنى اللام ، على حد قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] ومعنى شهادة الرسول لهم أن يزكيهم عند الله يوم القيامة ، ويشهد بعدالتهم إذا شهدوا على الأمم السابقين ويكون التعبير بعلى لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن.

وقد تبين لك أنّه لا بد على هذين الوجهين من التأويل في قوله تعالى : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) إما في (اللام) وإما في كلمة (على) والسبب في ذلك هو أنه لم يظهر للقائلين بهما الوجه في أن يعلل تعديل هذه الأمة وتسميتها مسلمة بشهادة الرسول عليها ، إذ المستقيم إنما هو تعليل ذلك بقبول شهادتها على غيرها.

والحق أنه لا حاجة لذلك التأويل ، ولا مانع من بقاء كل من : على واللام على أصل معناه ، ويكون قول شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمة علة في الحكم بعدالة ذلك الحكم الذي دلّت عليه تسميته مسلما ، إذ لا شك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسلم لله ، وأنه سيد المسلمين ، فهو داخل في قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) دخولا أوليا ، ويكون قبول الشهادة من أمته على الأمم الأخرى علة في تسميتها مسلمة كذلك. ويكون في الكلام تفصيل في الشهادة بعد إجمال في التسمية بالمسلمين ، وهذا وجه وجيه لا خفاء فيه.

قد يقال : إنه بعد هذا كله لا يظهر التعليل إلا إذا كانت التسمية بالمسلمين واقعة من الله تعالى ، كما هو أحد الرأيين ، فإنّه واضح جدا أن يقال : سماهم الله مسلمين هذه التسمية الدالّة على حكمه بعدالتهم ، ليقبل شهادتهم على غيرهم ، أما إذا كانت

٥٢٦

التسمية من إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما هو الرأي الآخر ، فلا يظهر ذلك التعليل ، إذ يكون معنى الكلام عليه : سماهم إبراهيم هذه التسمية التي تضمّنت حكمه بعدالتهم ، ليقبل الله شهادتهم على الناس يوم القيامة وفيه ما ترى.

والجواب : أنّ تسمية سيدنا إبراهيم إياهم بالمسلمين قد أقرّها الله تعالى ، فكأنّ الحكم بعدالتهم صادر منه جل شأنه ، فيكون الله هو الذي عدّلهم ليقبل شهادتهم ، وهذا الجواب مستقيم ولا غبار عليه.

وبعد ... فشهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشهادة أمته يوم القيامة يثبت بها شرف عظيم له عليه الصلاة والسلام ولهذه الأمة ، فإنّ الله تعالى يصدّق قوله يوم القيامة على أمته في دعوى تبليغه إياها ، لكن سائر المرسلين مع عصمتهم سوف يحتاجون لإثبات ما يدّعون على أقوامهم إلى من يشهد لهم بين يدي الله عزوجل.

وكذلك هذه الأمة شرّفها الله بأن جعلها أهلا للشهادة على سائر الأمم ، فهي تشهد على الناس جميعا ، ولا يشهد عليها أحد منهم ، إنما الذي يشهد عليها هو نبيّها الذي هو أشرف الخلق أجمعين. وفي هذا فضل كبير.

(وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال للأنبياء : هل بلغتم أممكم ، فيقولون : نعم بلغناهم ، فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنّهم قد بلغوا ، فتقول الأمم لهم : من أين عرفتم ، فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) قد سبق لك معنى إقامة الصلاة. أما الاعتصام فمعناه اتخاذ العصمة ، وهي ما يعصم الشيء ويمنعه مما يضره. فالاعتصام بالله هو الثقة به ، والالتجاء إليه ، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كلّ مكروه ، وقيل : إن الاعتصام بالله هو الاستمساك بدينه والتزام شريعته.

وهذه الجملة مرتبة بالفاء على ما قبلها ، من اجتباء المخاطبين ، وتسميتهم مسلمين ، وتشريفهم بقبول شهادتهم على الأمم.

وقد ختم الله الأوامر في هاتين الآيتين بالأمر بإقام الصلاة مع سبق الأمر بها في قوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) على ما علمت ، ثم عطف عليه الأمر بإيتاء الزكاة لما تقدم لك كثيرا من أنهما أصل الخير وأسّ الفلاح ، ثم أتبعهما الأمر بالاعتصام به سبحانه وتعالى ، فإن هذا الاعتصام هو مبعث القوة ، وهو سبيل الفوز ، فمن استنصر بالله نصره ، ومن لاذ بحماه أمّنه ، ومن استعان بقوته يسّر له أمره ، وأمكنه مما يريد.

(هُوَ) المولى يطلق على معان : منها المالك ، والناصر ، والمعتق ، والجار ، وابن العم ، والحليف. وأولاها الأول ، وفي هذه الجملة (هُوَ مَوْلاكُمْ) عدة جميلة ،

٥٢٧

تشدّ العزم ، وتقوّي القلب ، وتوجب الاطمئنان وحسن الاعتماد على الله ، وهي في منزلة العلة لما قبلها من الأمر بالاعتصام ، فلذلك فصلت عنه.

والمعنى : ثقوا بالله ، والجؤوا إليه ، واحتموا بحمايته ، لأنّه هو مالككم وخالقكم ، يغار عليكم ، ويحفظكم ، ويدفع المكروه عنكم.

(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) النصير العظيم النصرة ، الكامل المعونة.

والمخصوص بالمدح ضمير يرجع إلى الله تعالى.

٥٢٨

من سورة النور

قال الله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

(وَفَرَضْناها) الفرض : قطع الشيء الصلب ، والتأثير فيه ، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه ، أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا.

(آياتٍ بَيِّناتٍ) ترد الآية في القرآن بمعنى الكلام المتصل إلى مقطعه الاصطلاحي وبمعنى العلامة ، وفي هذه السورة (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحة الدلالة على أحكامها. مثل الآيات التي نيطت بها أحكام الزنى ، والقذف ، واللعان ، والحلف على ترك الخير ، والاستئذان ، وغض البصر ، وإبداء الزينة للمحارم وغير المحارم ، وإنكاح الأيامى ، واستعفاف من لم يجد نكاحا ، ومكاتبة الأرقاء ، وإكراه الفتيات على البغاء ، وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والسلام على المؤمنين. إلى كثير من الأحكام التي ذكرت في هذه السورة.

وفي هذه السورة أيضا طائفة من الآيات الكونية ، والظواهر الطبيعية ، فيها دلالات واضحة ، وحجج قاطعة ، على توحيد الله وكمال قدرته : مثل النور والظلمة ، والتأليف بين السحاب ، وإنزال المطر من خلاله ، ووميض البرق ولمعانه ، وتقليب الليل والنهار ، واختلاف الحيوانات في أشكالها وهيئاتها وطبائعها ، مع اتحاد المادة التي منها خلقت ، إلى غير ذلك من حجج التوحيد وشواهد القدرة.

وإذا علمت أنّ إطلاق الآية على كلّ من المعنيين ـ الكلام والعلامة ـ حقيقي علمت أنّ كلمة آية مشترك لفظي ، فمن أجاز استعمال المشترك في معنييه لا مانع عنده من إرادة المعنيين جميعا في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) ومن أبى استعمال المشترك في معنييه يحتّم إرادة أحد المعنيين لا غير ، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات الآيات التي نيطت بها الأحكام في هذه السورة ، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على ما نيط بها من الأحكام ، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات ما في هذه السورة من دلائل التوحيد ، وشواهد القدرة ، ومعنى كونها بينات أن دلالتها على ما ذكر واضحة ظاهرة وعلى هذا الاحتمال يكون قوله تعالى : (وَفَرَضْناها) إشارة إلى الأحكام والحدود المبينة في السورة. وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) إشارة إلى آيات التوحيد ، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فإنّ معنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة ما كان معلوما ، والأحكام التي في هذه السورة لم تكن معلومة لهم

٥٢٩

حتى يتذكروها ، ولكن دلائل التوحيد وشواهده معروفة للناس ، ولكنهم لم يفطنوا لها ، فهم ليسوا في حاجة إلى أكثر من أن يلتفتوا إليها فيتذكروها بعد النسيان.

والمعنى : هذه سورة أنزلناها ، وفرضنا ما فيها من أحكام ، وأنزلنا فيها دلائل وعلامات على توحيد الله وكمال قدرته ، لتتذكروها ، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته جلّ شأنه.

ومعلوم أن إنزال السورة كلها يستلزم إنزال هذه الآيات منها ، فيكون التكرار في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) لكمال العناية بشأنها ، كما هي الحال في ذكر الخاصّ بعد العام.

قال الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)) الزنى مقصور في اللغة الفصحى ، وهي لغة الحجازيين. وقد يمدّ في لغة أهل نجد.

والزنى من الرجل وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك ، والزنى من المرأة تمكينها الرجل أن يزني بها.

والجلد بفتح الجيم : ضرب الجلد بكسرها. وقد جاء صوغ فعل مفتوح العين من أسماء الأعيان يقال : رأسه ، وظهره ، وبطنه ، وفأده ، وحسه : إذا أصاب رأسه وظهره وبطنه وفؤاده وحسه.

وجوّز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد مثل : عصاه ضربه بالعصا ، وسافه ضربه بالسيف ، ورمحه أي طعنه بالرمح.

والرأفة : الشفقة والعطف.

(فِي دِينِ اللهِ) في طاعته وإقامة حدّه الذي شرعه.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) شهد كسمع شهودا : حضر.

(طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنّث من الطواف ، وهو الدوران ، والإحاطة ، فهي إما صفة مفرد مؤنث أي نفس طائفة ، فتطلق حينئذ على الرجل الواحد. وإما صفة جماعة ، أي جماعة طائفة ، فتطلق على من فوق الواحد.

ويكاد اللغويون يجمعون على أنه يقال للواحد طائفة كما يقال لمن فوقه طائفة. وفي المراد بها هنا أقوال سنبينها فيما بعد.

وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) إلخ شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها في قوله جل شأنه : (وَفَرَضْناها) والرفع في قوله جلّ شأنه (الزَّانِيَةُ) عند سيبويه والخليل على أنه مبتدأ ، خبره محذوف ، والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني ، ويفهم من كلام سيبويه في «الكتاب» أن النهج المألوف

٥٣٠

في كلام العرب ـ إذا أرادوا بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه ـ أن يذكروا قبله ما هو عنوان وترجمة له ، وهذا لا يكون إلا بأن يبنى الكلام على جملتين.

وقد يقال : ما الحكمة في أن بدأ الله في الزنى بالمرأة وفي السرقة بالرجل؟

والجواب : إن الزنى من المرأة أقبح ، فإنّه يترتب عليه تلطيخ فراش الرجل ، وفساد الأنساب ، وعار على العشيرة أشد وألزم ، والفضيحة بالحمل منه أظهر وأدوم ، فلهذا كان تقديمها على الرجل أهم.

وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال ، وهم عليها أجرأ من النساء وأجلد وأخطر ، فقدّموا عليهنّ لذلك.

حدّ الزنى

كان حد الزنى في أول الإسلام ما قصّه الله علينا في سورة النساء من قوله جلّ شأنه : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)) [النساء : ١٥ ، ١٦] فكانت عقوبة المرأة أن تحبس ، وعقوبة الرجل أن يعيّر ويؤذى بالقول ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

أخرج مسلم وأبو داود والترمذي (١) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه كرب لذلك ، وتربّد وجهه ، فأنزل الله تعالى عليه ذات يوم ، فلقي كذلك ، فلمّا سرّي عنه قال : «خذوا عني ، خذوا عني ، فقد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم».

معنى تربّد : تغيّر.

وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال الله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) إلى قوله : (سَبِيلاً) فذكر الرجل بعد المرأة ، ثم جمعهما فقال : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) فنسخ الله ذلك بآية الجلد فقال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وتقدّم لك في تفسير هاتين الآيتين ما يغني عن الإعادة ، فارجع إليه في سورة النساء.

ظاهر قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أنّ أولياء الأمر من

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ٣١٦) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٣ ـ باب حد الزنا ، حديث رقم (١٣ / ١٦٩٠) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٣٢) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (١٤٣٤) ، وأبو داود في السنن (٤ / ١٣٥) ، كتاب الحدود ، باب في الرجم حديث رقم (٤٤١٥).

٥٣١

الحكام مكلّفون أن يجلدوا من زنى من ذكر أو أنثى مئة جلدة ، سواء المحصن منهم وغيره. لكنّ السنة القطعية فرّقت في الحد بين المحصن وغير المحصن. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن تقدّم من السلف وعلماء الأمة ، وأئمة المسلمين على أن من زنى وهو محصن فإنّه يرجم حتى يموت ، ولا نعلم خلافا في ذلك لأحد إلا بعض المبتدعة من الخوارج ، فإنّهم قالوا : إن الرجم غير مشروع ، وإنه لا فرق في الحدّ بين المحصن وغير المحصن ، وسنبيّن فساد مذهبهم إن شاء الله.

والقائلون بأن الرجم مشروع قد اختلفوا فيه ، أهو تمام ما على المحصن من العذاب ، أم هو والجلد قبله حد المحصن.

فإلى الأوّل ذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وإلى الثاني ذهب علي رضي الله عنه وإسحاق وأهل الظاهر ، وهو رواية عن أحمد رحمه‌الله.

فعلى رأي الجمهور يكون المراد بالزانية في الآية الكريمة البكرين ، وتكون الآية مخصوصة بالسنة القطعية ، أو بالآية المنسوخة التلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله» على كلام فيها.

وعلى رأي أهل الظاهر ، تكون الآية باقية على عمومها ، ويكون الرجم حكما زائدا في حقّ المحصن ثبت بالسنة.

والظاهر أيضا من قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أنّه يشمل الرقيق وغيره ، فيكون الحدّ في الجميع واحدا ، لكن قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) أخرج الإماء من هذا الحكم ، فإنّ الآية نزلت فيهن ، وكذلك أخرج العبيد ، لأنّه لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط.

وقال بعض أهل الظاهر عموم قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة ، إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة ، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس ، يعني وهم لا يقولون به.

ومن الظاهرية من قال : الأمة إذا تزوجت فحدّها في الزنى خمسون جلدة لقوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) إلخ. فإذا لم تتزوج فحدّها مئة جلدة للعموم في كلمة (الزَّانِيَةُ).

وجمهور الفقهاء على رد هذين الرأيين بما سلف لك هنا وفي سورة النساء.

وكذلك عموم قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلخ يشمل المسلم والكافر. غير أن الحربي لما يلتزم أحكامنا ، ولم تنله يدنا كان خارجا من هذا الحكم ، وبقي العموم فيمن عداه من المسلمين وأهل الذمة. وبهذا قال جمهور الفقهاء.

وروي عن مالك رحمه‌الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى ، قيل : وهو مبنيّ على أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة.

٥٣٢

وظاهر الآية أيضا أنّ مئة الجلدة هي تمام حد البكر ، فإنّ قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) قصد به بيان حكم الزنى ، فكان المذكور تمام حكمه ، لأنّ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر ، فيفهم منه أنّ حكم الزانية والزاني ليس إلا الجلد ، فمن زاد على الجلد تغريب عام عمل بالسنة ، وجعلها حكما على ظاهر الكتاب.

ويرى الفقهاء جميعا ما عدا أهل الظاهر أنّ حد الرقيق مطلقا نصف حد الحر ، لا فرق بين الذكر والأنثى ، ولا بين الثيب والبكر.

ويرى بعض أهل الظاهر أنّ التنصيف خاصّ بالأمة ، أما العبد فهو كالحر البكر في الحد.

ويرى بعض آخر منهم أنّ التنصيف خاص بالأمة المتزوجة. أمّا الأمة غير المتزوجة والعبد فحدّهما حدّ الحر البكر.

أدلة الخوارج والرد عليها

استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بثلاثة أدلة :

الأول : أن الله تعالى قال في حق الإماء : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] فجعل حد الإماء نصف حد المحصنات من الحرائر. والرجم لا يتنصّف ، فلا يصحّ أن يكون حدّا للمحصنات من الحرائر.

والثاني : أن الله تعالى فصّل أحكام الزنى وأطنب فيها بما لم يطنب في غيرها ، والرجم أقصى العقوبات وأشدها ، فلو كان مشروعا كان أولى بالذكر.

والثالث : أن قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) يقتضي وجوب الجلد وعمومه لكل الزناة. وإيجاب الرجم على بعضهم يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد ، وهو غير جائز على مذهبهم.

وأجاب الجمهور على الأول بأن المراد من المحصنات في قوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) الحرائر. والحرائر نوعان : ثيبات وأبكار ، وحد النوعين على التوزيع الرجم وجلد مئة ، ولما كان الرجم لا يتنصّف كان العذاب مخصوصا بغير الرجم للدليل العقلي ، وكان الرجم غير مشروع في حق الأرقاء. وتقدّم لك شيء من هذا في تفسير قوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) في سورة النساء.

وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدّد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات ، وكفى بالسنة ووظيفتها البيان والتكميل ـ بيانا وتفصيلا.

٥٣٣

وعن الثالث بأنّ تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا ، لأنّ اللفظ العام في القرآن الكريم وإن كان قطعيا في متنه ظني في دلالته ، فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون ، وإن سلمنا أنّ خبر الآحاد لا يخصص القرآن فلا نسلم أنّ الرجم ثبت بطريق الآحاد ، بل هو ثابت بالتواتر. رواه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر وأبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فهو على الأقل متواتر المعنى كشجاعة علي وجود حاتم.

والآحاد إنما هي في تفاصيل صوره وخصوصياته. والخوارج كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة ، وتركهم التردد إلى علماء المسلمين والرواة منهم أوقعهم في جهالات كثيرة.

ولقد عابوا على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه القول بالرجم ، وقالوا : ليس في كتاب الله تعالى فألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا : ذلك من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفعل المسلمين. فقال : وهذا أيضا كذلك.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألهم أمر هؤلاء الخوارج ، فقد روي عن ابن عباس أنّه قال : سمعت عمر رضي الله عنه يخطب ويقول : إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه ، فإنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء ، قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف ، والله لو لا أن يقول الناس زاد في كتاب الله تعالى لكتبتها. أخرجه الستة (١).

وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال : قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى ، وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، فرجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده.

دليل الظاهرية والرد عليهم

استدل أهل الظاهر على وجوب الجلد والرجم في حد المحصن بالعموم في الآية مع ما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة» وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة».

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣١٧) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٤ ـ باب رجم الثيب حديث رقم (١٥ / ١٦٩١) ، والبخاري في الصحيح (٨ / ٣٢) ، ٨٧ ـ كتاب الحدود ، ١٦ ـ باب الاعتراف حديث رقم (٦٨٢٩) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٢٨) ، كتاب الحدود ، باب في تحقيق الرجم حديث رقم (١٤٣١) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ٨٥٣) ، ٢٠ ـ كتاب الحدود ، ٩ ـ باب الرجم حديث رقم (٢٥٥٣).

٥٣٤

وما رواه البخاري وغيره عن علي كرم الله وجهه من قوله حين جلد شراحة ثم رجمها : جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأجاب الجمهور بأن الآية مخصوصة وخبر أبي داود متروك العمل بما رواه الستة (١) عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أن أعرابيا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى ، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل».

فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مئة وتغريب عام ، وإن على امرأة هذا الرجم. فقال : «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى ، الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام ، واغد يا أنيس ـ لرجل من أسلم ـ إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجمت. فقد دل هذا الحديث على أنّ الرجم هو تمام الحد على المحصن ، ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنّ قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم ، وكذا قصة الغامدية.

وقد تكرر الرجم في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد ، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا الرجم.

وأما جلد علي كرم الله وجهه شراحة ، ثم رجمه إياها فهو رأي له لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة رضوان الله عنهم. ولعل عمله هذا محمول على مثل ما رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل زنى فجلد الحد ، ثم أخبر أنّه محصن فأمر به فرجم.

وأيضا فإنّ المعنى المعقول يأبى اجتماع الجلد مع الرجم ، لأن الجلد حينئذ يعرى عن المقصود الذي شرع الحد لأجله ، وهو الانزجار أو قصده إذ كان القتل لا حقا له.

وللشافعية قاعدة في مثل هذا وهي أن الفعل إذا كان له جهتا عموم وخصوص ،

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٨ / ٤٣) ، ٨٧ ـ كتاب الحدود ، ٣٣ ـ باب هل يأمر الإمام حديث رقم (٦٨٥٩) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٣) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (١٤٣٣) ، وأبو داود في السنن (٤ / ١٤٦) ، كتاب الحدود ، باب المرأة حديث رقم (٤٤٤٥) ، والنسائي في السنن (٧ ـ ٨ / ٦٢٢) ، كتاب القضاة حديث رقم (٥٤١٢) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ٨٥٢) ، ٢٠ ـ كتاب الحدود ، ٧ ـ باب حد الزنى حديث رقم (٢٥٤٩).

٥٣٥

وكان لكل من جهتيه حكم فإنّه إذا أوجب أعظم الأمرين بجهة خصوصه لا يوجب أدونهما بجهة عمومه : مثاله خروج المني من القبل لمّا أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوص كونه خروج مني لم يوجب أدونهما وهو الوضوء بعموم كونه خارجا ، كذلك زنى المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بخصوص كونه زنى محصن لم يوجب أدونهما وهو الجلد بعموم كونه زنى.

أقوال الفقهاء في النفي

علمت أن الحنفية (١) يقولون : إنّ النفي ليس من الحد في شيء ، وإنه مفوّض إلى رأي الإمام ، وحجتهم في ذلك ظاهر الآية الكريمة ، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مئة جلدة ، فلو كان النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب ، وجميع ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النفي لم يخرج عن كونه من أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا تقوى على نسخ الكتاب ، ولو كان النفي حدّا مع الجلد لكان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توقيف للصحابة ، لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أنّ الجلد هو جميع الحد ، ولوجب أن يكون وروده في وزن ورود نقل الآية وشهرتها. فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة ، بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد.

وقد روى الستة (٢) غير النسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : «إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير».

قال مالك : الضفير الحبل ، وفي رواية : «فليجلدها ولا تثريب عليها» فظاهر الحديث أنّ الجلد هو تمام الحد ، ولو كان النفي من الحد لذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه غرّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر ، فلحق بهر قل فقال عمر : لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنى.

وروي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال في البكرين إذا زنيا : إنهما يجلدان ولا ينفيان ، وإنّ نفيهما من الفتنة.

فإذا كانت الأخبار المثبتة للنفي معارضة بما سمعت ، وهي بعد لم تخرج عن كونها أخبار آحاد ، فليس بجائز أن نزيد في حكم الآية بهذه الأخبار ، لأنّه يوجب

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٣٨٦).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ٣٢٨) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٦ ـ باب رجم اليهود حديث رقم (٢٠ / ١٧٠٣) ، والبخاري في الصحيح (٨ / ٣٧) ، ٨٧ ـ كتاب الحدود ، ٢١ ـ باب إذا زنت الأمة حديث رقم (٦٨٣٩) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٣٠) ، كتاب الحدود ، باب الرجم حديث رقم (١٤٣٣) ، وأبو داود في السنن (٤ / ١٥٥) ، كتاب الحدود ، باب في الأمة تزني حديث رقم (٤٤٦٩) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ٨٥٧) ، ٢٠ ـ كتاب الحدود ، ١٤ ـ باب إقامة الحدود حديث رقم (٢٥٦٥).

٥٣٦

النسخ على ما سمعت ، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ في الآية ، ولا يدفع حكم الأخبار ، وذلك بإبقاء الآية على حكمها ، وأن الجلد هو تمام الحد ، وجعل النفي على وجه التعزيز ، ويكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية ، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد ، كما أمر بشق روايا الخمر ، وكسر الأواني ، لأنّه أبلغ في الزجر ، وأحرى بقطع العادة.

والقائلون بأن النفي من تمام الحد احتجوا بحديث عبادة بن الصامت وقد تقدم ، وفيه تنصيص على أن النفي من الحد ، وقد ورد مثله في قصة العسيف ، وتكرّر ذكر النفي فيها على أنّه من الحد ، ولا مانع من الزيادة على حكم الآية بخبر الآحاد.

على أنّه ليس ذلك زيادة في حكم الآية ، فإنّ إيجاب الجلد المفهوم من الآية مشترك بين إيجاب الجلد مع التغريب ، وإيجابه مع نفي التغريب ، ولا إشعار في الآية بأحد القسمين ، إلا أن عدم التغريب للبراءة الأصلية ، فإيجابه بخبر الواحد لا يدفع حكم الآية ، ولا يزيل إلا محض البراءة الأصلية.

والحاصل أنّ القائلين بالنفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بلا شرط شيء ، والقائلين بعدم النفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بشرط لا شيء.

أقوال الفقهاء في حد الذمي المحصن

ترى الحنفية (١) أنّ حدّ الذمي المحصن هو الجلد لا الرجم ، واحتجوا على ذلك بأمور :

١ ـ منها ما رواه إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أشرك بالله فليس بمحصن» (٢) ووجه الدلالة فيه أن الإحصان هنا ظاهر في إحصان الرجم ، فيكون هذا الحديث معارضا لما ثبت من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من رجم اليهوديين ، وليس تاريخ يعرف به تقدم أحدهما على الآخر ، فنرجع إلى الترجيح ، والترجيح معنا ، إذ المعلوم أنه إذا تعارض القول والفعل ، ولم يعلم المتقدم من المتأخر ، يقدّم القول على الفعل ، ولأنّ هذا القول موجب لدرء الحد ، والفعل يوجب استيفاءه ، والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض ، لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، ورجم الذمي حدّ تمكنت فيه الشبهة ، فيجب درؤه.

٢ ـ وإن النعمة في حق المسلم أعظم ، فكانت جنايته أغلظ ، كقوله تعالى في أمهات المؤمنين : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠].

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ٣٨٥).

(٢) رواه الدار قطني في سننه (٢ / ٢٥٠ ، ٣ / ١٤٧) ، كتاب الحدود. عن ابن عمر.

٥٣٧

٣ ـ وإن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع ، فكذا إحصان الرجم ، والجامع كمال النعمة.

ويرى الشافعية أنّ حد الذمي المحصن الرجم ، وحجتهم في ذلك عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين».

وما ثبت في «الصحيحين» (١) من أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم يهوديين زنيا ، فإن كان ذلك منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكما بشرعه فهو ظاهر ، وإن كان حكما بشرع من قبله فقد صار شرعا له ، وأيضا فإنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزاجر.

ثم أجابوا عن أدلة الحنفية فقالوا في الحديث : إنه مضطرب ، قال فيه إسحاق : قد رفع هذا الخبر مرة ووقف على ابن عمر مرة أخرى ، ورواه الدار قطني في «سننه» وقال : لم يرفعه غير إسحاق بن راهويه ، ويقال : إنه رجع عنه ، والصواب تفسير الإحصان في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أشرك بالله فليس بمحصن» بالتزويج يجعل الحديث في ظاهره مصادما للواقع ، فينبغي أن يكون المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتصّ له من المسلم ، فيكون الذمي الثيب محصنا إحصان الرجم ، فثبت رجمه لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وزنى بعد إحصان».

وأجابوا عن قول الحنفية : أن النعمة في حق المسلم أعظم إلخ بأنه معارض بأن الإسلام من كسب العبد ، وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا في تخفيف العقوبة فلا أقل من ألا تكون سببا في زيادتها.

وأجابوا عن القياس على حد القذف بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامة للمقذوف ، والكافر لا يكون محلا للكرامة ، وصيانة العرض.

الكلام فيمن يلي الحد

الخطاب في قوله تعالى : (فَاجْلِدُوا) لأولياء الأمر من الحكام ، لأنّ هذا حكم يتعلّق باستصلاح الناس جميعا ، وكل حكم من هذا القبيل فإنما تنفيذه على الإمام. وقد جعل الفقهاء مثل هذا الأمر من الأدلة على وجوب نصب الخليفة ، لأنه تعالى أمر بإقامة الحد ، ولا يقوم به إلا الإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا.

ولا نعلم خلافا في أنّ الذي يلي إقامة الحد على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه.

أما الأرقاء ففيمن يلي حدهم خلاف. فالإمامان مالك والشافعي يجيزان للسيد أن

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٢٦) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٦ ـ باب رجم اليهود ، حديث رقم (١٦٩٩) ، والبخاري في الصحيح (٨ / ٣٨) ، ٨٧ ـ كتاب الحدود ، ٢٤ ـ باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (٦٨٤١).

٥٣٨

يحد عبده وأمته في الزنى والخمر والقذف. وللشافعي في السرقة قولان ، والإمام أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يقولون لا يملك السيد أن يقيم حدا ما.

احتجّ مالك والشافعي بما أخرجه الستة (١) غير النسائي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمة : «إن زنت فاجلدوها» الحديث ، وبما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» (٢). وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه ، فجعل يضرب رجليها وساقيها ، فقال له سالم رحمه‌الله : أين قول الله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ)؟ فقال : أتراني أشفقت عليها ، إنّ الله لم يأمرني أن أقتلها. ولم يكن ابن عمر واليا ولا نائبا عن وال. وبأنّ الإمام لما ملك إقامة الحد على العبد كان السيد بإقامته أولى ، لأن تعلّق السيد بالعبد أقوى من تعلق الإمام بالرعية ، إن الملك أقوى من عقد البيعة ، وإقامة الحد من السيد إنما هي بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالحجامة والفصد.

واحتج الحنفية بأنّ قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) عامّ في كل زان وزانية ، والخطاب فيه لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون سائر الناس ، ولم يفرّق في المحدودين بين الأحرار والعبيد (٣) ، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون سائر الناس.

ثم أجاب الحنفية عن الأحاديث التي يفيد ظاهرها إثبات حد الأرقاء لمواليهم بأن المراد أن الموالي يرفعون أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا الحد عليهم ، وجلد ابن عمر بعض إمائه إن صحّ كان رأيا له لا يعارض العموم في الآية.

حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم

قال الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) فخصّ هذا الحكم بالزنى ، ومعلوم أنّ العرف واللغة يفرّقان بين الزنى واللواط ؛ والسحاق ؛ وإتيان البهائم ، فليس واحد من هذه الثلاثة الأخيرة داخلا في حكم الآية.

ولما نقل عن الشافعي في أصح قوليه : إن حكم اللواط كحكم الزنى قال بعض أصحابه : إن اللواط زنى ، لأنّه مثل الزنى في الصورة وفي المعنى ، فيكون اللائط زانيا فيدخل في عموم الآية.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ٣٣٠) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٧ ـ باب تأخير الحد رقم (١٧٠٥).

(٣) هذا كلام فيه وهم ، انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ / ٣٨٤).

٥٣٩

وهذا القول ليس بسديد لأنّه يصادم العرف واللغة ، ألا تراه لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث ، وكيف يكون اللواط زنى ، وقد اختلف الصحابة في حكمه ، وهم أعلم باللغة وموارد اللسان.

وقال بعض آخر من الشافعية : اللواط غير الزنى ، إلا أنه يقاس عليه بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر ، وهذا أيضا ليس بسديد ، لأنه بعد تسليم أن الطبع يدعو إلى اللواط فإنّ الزنى أكثر وقوعا ، وأعظم ضررا لما يترتب عليه من فساد الأنساب ، فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى.

ولعل أقوى أدلة الشافعي فيما ذهب إليه ما رواه أبو موسى الأشعري عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» (١) فإنّ هذا الخبر إن لم يدل على اشتراك اللواط والزنى في الاسم والحقيقة فلا أقل من اشتراكهما في الحكم ، وبقول الشافعي هذا قال أبو يوسف ومحمد.

والقول الثاني من قولي الشافعي في حد اللائط : إنه يقتل : إما بحز الرقبة كالمرتد ، وإما بالرجم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقول أحمد وإسحاق ، ورواية عن مالك ، وإما بالهدم عليه ، ويروى عن أبي بكر الصديق ، وإما بالرمي من شاهق ، وهو مشهور مذهب مالك.

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : ليس في اللواط (٢) حد ، بل فيه تعزير ، لأنه وطء لا يتعلق به المهر ، فلا يتعلق به الحد ، ولأنه لا يساوي الزنى في الحاجة إلى شرع الحد ، لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول به طبعا ، وليس فيه إضاعة النسب ، وأيضا

فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنى بعد إحصان ، وكفر بعد إيمان ، وقتل نفس بغير حق» (٣)

قد حظر قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث ، وفاعل ذلك خارج عن ذلك ، لأنه لا يسمى زانيا ، وأنت تعلم أنّه لم يثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قضى في اللواط بشيء ، لأنّ هذا المنكر لم تكن تعرفه العرب ، ولم يرفع إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حادثة منه ، ولكن ثبت عنه أنه قال : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أصحاب السنن الأربعة (٤) وإسناده صحيح ، وقال الترمذي : حديث حسن.

__________________

(١) رواه السيوطي في الجامع الصغير والدر المنثور.

(٢) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ / ٣٨٩).

(٣) سبق تخريجه.

(٤) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٤٧) ، كتاب الحدود ، باب ما جاء في حد اللوطي حديث رقم (١٤٥٦) ، وأبو داود في السنن (٤ / ١٥٣) ، كتاب الحدود ، باب فيمن عمل قوم لوط حديث رقم (٤٤٦٢) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ٨٥٦) ، ٢٠ ـ كتاب الحدود ، ١٢ ـ باب من عمل عمل قوم لوط حديث رقم (٢٥٦١).

٥٤٠