تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

قيل : نزلت هذه الآية في أربعة إخوة من ثقيف : مسعود ، وعبد ياليل ، وحبيب ، وربيعة : بنو عمرو بن عمير الثقفي ، كانوا يداينون بني المغيرة ، فلما ظهر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم الأخوة ، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة ، فنزلت (١).

وإن وجد شخص ذو عسرة فعاملوه بالحسنى والرحمة ، وأنظروه إلى ميسرة ، أو (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) غريما لكم (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) فإنه عليه الصلاة والسلام يقول : «ولا يحلّ لكم دين رجل مسلم فيؤخّره إلا كان بكلّ يوم صدقة» (٢).

فلفظ (كانَ) في الآية يحتمل أن تكون تامة ، ويحتمل أن تكون ناقصة. والعسرة : اسم من الإعسار ، وهي الحالة التي يتعسّر فيها وجود المال.

والنظرة : اسم للتأخير والتأجيل.

والميسرة : مصدر بمعنى اليسر وهو الغنى.

وقرأ نافع بضم السين ، والباقون بفتحها.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على الغرماء المعسرين بالإبراء فهو (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإنظار ، وأكثر ثوابا ، أو هو (خَيْرٌ لَكُمْ) مما تأخذونه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فضل التصدّق على الإنظار أو الأخذ.

قالوا : سبب نزول هذه الآية أن الأخوة الثقفيين طالبوا بني المغيرة برؤوس أموالهم ، فشكوا إليهم العسرة ، وقالوا : أخرونا إلى أن تدرك الغلات ، فأبوا تأخيرهم ، فنزلت هذه الآية.

ويؤخذ من الآية أن رب المال متى علم أنّ غريمة معسر وجب عليه إنظاره ، وإذا لا حظنا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب : نعلم أن الإنظار واجب عند العسر في كل دين ، لا في خصوص دين الربا.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) لما كان الذين يعاملون بالربا من العظماء أصحاب الثروة والجلال ؛ والأنصار والأعوان : كانت الحالة داعية إلى مزيد من الزجر والوعيد ، حتى يمتنعوا عن الربا وأخذ أموال الناس بالباطل. ولهذا توعّدهم الله وهدّدهم بهذه الآية أيضا فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً) أي تشتدّ فيه الأهوال ، وتعظم الخطوب ، حتى ورد أنه يجعل الولدان شيبا ، ولهول ما يقع فيه أمر الله باتّقاء نفس اليوم ، للمبالغة في التحذير عما فيه.

وقال : (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي لتوقيع الجزاء : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

__________________

(١) انظر تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٣ / ٧١).

(٢) رواه أحمد في المسند (٥ / ٣٥١).

١٨١

يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزلزلة : ٧ ، ٨] كما قال : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي جزاء ما عملت من خير أو شر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في هذه العقوبات ، لأنّها مناسبة لأسبابها الواقعة منهم. وهاهنا أمور :

الأول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ..) آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، لأنه لما حجّ نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ..) (٢) [النساء : ١٧٦] ثم نزلت وهو واقف بعرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ..) (٣) [المائدة : ٣] ثم نزل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ..) فقال جبريل عليه‌السلام : «يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة» (٤).

والثاني : قرأ أبو عمرو (تُرْجَعُونَ) بفتح التاء ، والباقون بضمها ، فبالفتح من رجع رجوعا ، وهو لازم. وبالضم من رجعه إليه رجعا ، وهو متعد ، يصحّ بناؤه للمفعول.

الثالث : معنى رجوعهم إلى الله أنهم يرجعون إلى ما أعدّ لهم من ثواب ؛ أو عقاب ؛ وقيل : معناه أنهم يكونون في يوم البعث بحالة لا يتصرّف فيهم ظاهرا وباطنا إلّا الله تعالى ، بخلاف حالتهم في الدنيا ، فإنه يتصرف بعضهم في بعض بحسب الظّاهر.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

التداين : تفاعل ، مأخوذ من الدّين ، وهو : التبايع بالدين.

__________________

(١) انظر الدر المنثور التفسير المأثور للسيوطي (١ / ٣٦٩).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٥ / ٢٢٠) ، ٦٥ ـ كتاب التفسير ، ٢٧ ـ باب (يستفتونك) حديث رقم (٤٦٠٥).

(٣) رواه البخاري في الصحيح (١ / ١٩) ، ٢ ـ كتاب الإيمان ، ٣٢ ـ باب حسن إسلام المرء حديث رقم (٤٥).

(٤) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي ، بيروت دار الفكر (١ / ٦١).

١٨٢

(وَلْيُمْلِلِ) أي يملي ، يقال أملّ إملالا إذا كان أملى إملاء.

مناسبة هذه الآية : إنّ الآيات السابقة بيّن الله فيها حكم التعامل بالربا ، وشدّد في منعه ، فأراد هنا أن يبيّن حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالدين المؤجل بطريقة تحفظ الأموال ، وتصونها عن الضياع.

ويمكن أن يقال في المناسبة : إنّه لما بيّن فيما سبق أنّ الإنفاق في سبيل الله مطلوب ، وهو يوجب نقص المال ، وإن الربا محرّم ، وهو يوجب نقص المال أيضا ، أراد هنا أن يبيّن كيفية حفظ المال الحلال ، وطريق صونه عن الضياع فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) تبايعتم وتعاملتم نسيئة (بِدَيْنٍ) بما يصحّ فيه الأجل ، كبيع سلعة حاضرة بنقود مؤجلة ، أو بسلعة أخرى مؤجلة ، وكبيع سلعة مؤجلة أي (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) مع معرفة الجنس والنوع والقدر بثمن حالّ ، وهو السلم ، أي إذا تعاملتم ببدل مؤجل (فَاكْتُبُوهُ) فاكتبوا ما يدلّ على هذا التعامل ، مع بيان الأجل بالأيام أو الأشهر أو غيرهما ، بطريقة ترفع الجهالة ، لا بمثل الحصاد والدياس مما لا يرفعها ، لأنّ الكتابة أوثق في ضبط الواقع ، وأرفع للنزاع.

ثم أراد أن يبيّن كيفية الكتابة ، ويعيّن من يتولاها فقال : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) أي مأمون يكتب (بِالْعَدْلِ) : وهذا أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه متديّن يقظ ، ليكتب بالحق ، ويتحاشى الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة والألفاظ المشتركة ، ويوضّح المعاني ، ويتجنّب خلاف الفقهاء.

ثم أوصى الكاتب ، ونهاه عن الإباء. فقال : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أي لا يمتنع أحد من الكتاب عن (أَنْ يَكْتُبَ) وثيقة الدين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) على الطريقة التي علّمه الله في كتابة الوثائق ، أي يكتب كتابة كالتي علمه الله ، فالكاف صفة لموصوف محذوف.

أو المعنى : ولا يأب كاتب أن ينفع النّاس بكتابته ، كما نفعه الله بتعلّم الكتابة ، كما في قوله تعالى : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧].

ثم قال : (فَلْيَكْتُبْ) أي تلك الكتابة المعلّمة ، فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) إلخ. ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ) إلخ.

ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يملي على الكاتب هو المدين ، فإنّه المكلّف بأداء مضمون الكتابة ، فاللازم أن تكون الكتابة كما يراه ويعلمه ، ثم أوصاه بتقوى الله ، وبألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا حيث قال : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص (مِنْهُ شَيْئاً).

ثم بيّن أنه (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) أي ناقص العقل ، مبذرا في ماله ، (أَوْ

١٨٣

ضَعِيفاً) بأن يكون صبيا ؛ أو مجنونا ، أو شيخا كبيرا لا تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَ) أي يملي بنفسه ، بأن كان أخرسا ، أو جاهلا أو مصابا بالعمى (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) القيم عليه ، أو وكيله (بِالْعَدْلِ) أي من غير زيادة ولا نقص.

وعبر هنا بصيغة العدل الشاملة لترك الزيادة والنقص ، لأنّ المملي هنا يتصوّر منه الزيادة والنقص بمحاباة هذا أو هذا ، بخلاف ما إذا كان المملي المدين ، فإنّ المتصوّر منه النقص فقط.

ثم أرشد الله تعالى المتداينين إلى أمر آخر مفيد في ضبط الوقائع ، وحفظ الأموال فقال : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) أي اطلبوا شهيدين ليحملا الشهادة ، ويحفظا الواقع.

وقوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق باستشهدوا ، و (من) ابتدائية ، أو متعلّق بمحذوف صفة لشهيدين ، و (من) تبعيضية : أي من رجالكم المسلمين الأحرار ، فإنّ الكلام في معاملاتهم. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) الشهيدان (رَجُلَيْنِ) فليشهد رجل وامرأتان ، أو (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يكفون في الشهادة.

وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال ؛ والطلاق ؛ والنكاح ؛ والرجعة ؛ والعتق ، وكل شيء إلا الحدود والقصاص.

وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة ، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود ، والقصاص ؛ والنكاح ؛ والطلاق ، والرجعة ، والعتق. (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ).

الجار الأول ، متعلق بمحذوف صفة لرجل وامرأتان : أي كائنون مرضيين عندكم بعدالتهم ، وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود ، لكنه ذكره هنا للتشدد في اعتباره ، لأنّ اتصاف النساء به قليل.

والجار الثاني متعلق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدّر في ترضون ، العائد إلى الموصول : أي ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء ، لعلمكم بعد التّهم ، وثقتكم بهم ، وإدراج النساء في الشهداء للتغليب.

وتدل الآية على أن الشهادة نوعان : شهادة رجلين ، وشهادة رجل وامرأتين ، ولا ثالث لهما ، ولهذا قال الحنفية : الشهادة قسمان فقط كما ذكرها الله في هذه الآية ، ولم يذكر الشاهد واليمين ؛ فلا يجوز القضاء عندهم بالشاهد واليمين ، لأنه حينئذ يكون قسما ثالثا للشهادة ، مع أن الله لم يذكر لها إلا قسمين.

١٨٤

وقال المالكية والشافعية : يجوز القضاء بشاهد ويمين ، لا باعتبار أن هذا قسم ثالث للشهادة ، وإنما هو باعتبار أن القضاء باليمين وإسقاط الشاهد ترجيح لجانب المدّعي ، وأما عدم ذكر ذلك في القرآن فلا يمنع مشروعيته والعمل به. يدل على ذلك أن القضاء عند الحنفية يجوز بالنكول ، وهو قسم ثالث ، ليس له في القرآن ذكر.

والضمير في قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) يعود إلى المخاطبين المسلمين ، وهو دليل على أنه لا بد من إسلام الشهود ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وأحمد وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى (١).

ثم أراد تعليل اعتبار العدد في النساء فقال : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) أي إنما اعتبر التعدّد في شهادة النساء لما عسى أن تضلّ إحداهما ، فتذكر إحداهما الأخرى. والعلّة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير ، وكان الشأن في النساء الغفلة والنسيان ، نزّل منزلة العلة ، كما في قولهم :

أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه ، فإن العلّة هي الدفاع ، ولما كان مجيء العدو سببا فيه نزّل منزلته ، فهو علة حذف منها لام التعليل.

ويصح أن يكون مفعولا لأجله. أي إرادة (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ) إلخ.

ويقال في العلة الحقيقية هنا ما قيل في الوجه الأول ، والضلال بمعنى النسيان. وقرأ حمزة : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) بكسر (أَنْ) وجعلها شرطية مع رفع فتذكر ، و (تَضِلَ) فعل الشرط. وقوله : (فَتُذَكِّرَ) مرفوع بالضمة ، والجملة في محل جزم جواب الشرط.

ثم أوصى الشهود ، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة ، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة فقال : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) لأداء الشهادة ، أو لتحمّلها ، ورجّحوا الحمل هنا على التحمّل لأنه منهي عن كتمان الشهادة ، أي بالامتناع عن الأداء بقوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) و (ما) زائدة ثم عاد إلى أمر الكتابة فأكّد طلبها حيث قال : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي لا تملّوا من كتابة الدّين ، أو الحقّ مهما كثرت معاملاتكم ، سواء كان الدين أو الحق (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) فلا تسأموا من كتابته (إِلى أَجَلِهِ) أي حال كون الدين أو الحق مستقرا في الذمة إلى أجله ، أي إلى وقت حلول الأجل الذي أقرّ به المدين (ذلِكُمْ) الذي أمرتكم به من الكتابة ، والإشهاد (أَقْسَطُ

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٨ / ٣٨) ، ٨٧ ـ كتاب المحاربين ، ٢٤ ـ باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (٦٨٤١) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٣٢٧) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٦ ـ باب رجم اليهود حديث رقم (٢٨ / ١٧٠٠).

١٨٥

عِنْدَ اللهِ) أي أعدل في إصابة حكم الله تعالى ، لأنّه متى كتب كان إلى اليقين أقرب ، وعن الكذب أبعد ، فكان أعدل عند الله.

والقسط : اسم ، والإقساط مصدر ، يقال : أقسط يقسط إقساطا إذا عدل ، فهو مقسط ، ومنه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة : ٤٢].

وأما قسط فهو بمعنى جار كما قال تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)) [الجن : ١٥].

(ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أثبت لها ، وأعون على إقامتها (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى ارتفاع ريبكم في جنس الدّين ونوعه ؛ وقدره ؛ وأجله.

(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) أي أنكم مأمورون بالكتابة إذا كان التعامل بالدين ، لكن إن كانت معاملاتكم (تِجارَةً حاضِرَةً) بحضور البدلين ، (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) أي تتعاملون بالبدلين يدا بيد (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) إثم في عدل الكتابة لبعده حينئذ عن التنازع.

(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) : أي إذا كان التعامل يدا بيد فلا بأس من عدم الكتابة ، ولكن ينبغي الإشهاد على هذا التعامل ، فإنّ اليد الظاهرة ربما لا تكون محقّة ، فالإشهاد أحوط.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) أي لا يضارر ـ بالكسر ـ كاتب ولا شهيد بترك الإجابة ، أو بالتغيير والتحريف في الكتابة والشهادة ، أو لا يضار ـ بالفتح ـ كاتب إلخ. أي لا يجوز للطالب أن يضارر ـ بالكسر ـ الكاتب والشهيد ، بأن يقهرهما على الانحراف في الكتابة والشهادة ، ويضغط عليهما للخروج عما حدّ لهما ، (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من الضرار ، (فَإِنَّهُ) أي فعلكم هذا (فُسُوقٌ بِكُمْ) وخروج عن الطاعة ، ملتبس بكم ، أو وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه على الإطلاق فإنه فسوق إلخ.

(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما حذركم منه من الضرار ، أو من ارتكاب شيء مما نهاكم عنه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما يصلح لكم أمر الدنيا ، كما يعلّمكم ما يصلح أمر الدين (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن ، فهو يجازيكم بذلك وكرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاثة لتربية المهابة في نفس السامع ، وللإشارة إلى استقلال كل منهما بما هو مقصود منه.

وهاهنا أمور :

الأول : ذهب قوم إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجّلة واجبان بقوله (فَاكْتُبُوهُ) ، وقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) ، ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) [البقرة : ٢٨٣].

١٨٦

والجمهور على أن الكتابة والإشهاد مندوبان ، وأنّ الأمر بهما للندب ، فإنه لم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنّهم كانوا يتشدّدون فيهما ، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد ، ولم يقع نكير منهم ، فدل ذلك على أنّ الأمر للندب ، وهو مذهب الحنفية ، والمالكية ، والحنابلة.

وإنما ندب الله تعالى إلى الكتابة والإشهاد في الديون المؤجلة ، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل ، لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل ، وكذلك قد تطرأ العوارض : من موت أو غيره ، فشرع الله الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع.

الثاني : قال أكثر المفسرين : إن المبيعات على أربعة أوجه :

أحدها : بيع العين بالعين : كبيع الكتاب الحاضر بالنقد الحاضر.

والثاني : بيع الدين بالدين : كبيع أردب من القمح مثلا واجب في ذمته لزيد بإردبين من الشعير واجبين على زيد هذا للبائع الأول ، وهذا البيع باطل منهيّ عنه ، وكلاهما غير داخل في الآية.

والثالث : هو بيع العين بالدين : كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجّل.

والرابع : بيع الدين بالعين ، وهو السلم ، وكلاهما داخل في الآية.

الثالث : قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) ليس المراد أن يكتبه المتعاقدان بأيديهما. وإنما المراد توصلوا إلى كتابة ما وقع ، كما يدل عليه قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ).

وقد اختلفوا في كتابة الكاتب ، فقيل : إنها فرض كفاية ، وقيل : فرض عين على الكاتب متى طلب منه ، وكان في حال فراغه : وقيل : إنه ندب. والصحيح أنه أمر إرشاد ، فيجوز له أن يتخلّف عن الكتابة حتى يأخذ أجره.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) منقطع : كما يدل عليه التقرير المتقدم ، ويجوز أن يكون متصلا إن جعل استثناء من قوله (إِذا تَدايَنْتُمْ) إلى قوله : (فَاكْتُبُوهُ) أي إلا أن تكون تجارة حاضرة ، أي الأجل فيها قصير ، لا بمعنى حضور البدلين.

أو جعل استثناء من قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) إلخ أي إلا أن تكون تجارة حاضرة ، أي الأجل فيها قصير.

قال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)).

الآية المتقدمة ترشد إلى الاحتياط في المبايعات الواقعة بالديون المؤجلة بكتابتها

١٨٧

والإشهاد عليها ، والتمكّن من ذلك في الغالب يكون في الحضر.

أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك ، فأرشد إلى الاحتياط في حالة السفر بالرهان ، التي يستوثق بها في الحصول على المؤجل فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين ، ولم تجدوا كاتبا يكتب الدين ، فالذي يستوثق به رهان مقبوضة ، وتعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان ، فإنّ التعامل بالرهان مشروع حضرا وسفرا ، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله (١). وإنما علّق هنا على السفر لإقامة التوثق بالرهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنّة تعسّرها.

ووصف الرهن بكونه مقبوضا ظاهر في أنه ما لم يقبض لا يظهر وجه للتوثّق به ، وكونه مقبوضا يستلزم كونه معينا مفرزا ، ولهذا قال الحنفية : لا يجوز رهن المشاع بناء على هذا.

وقال المالكية : الرهن كالبيع ، وبيع المشاع جائز ، فرهن المشاع جائز أيضا ، وقد اختلف الأئمة في أن القبض شرط لصحة الرهن أم لتمامه ، فقال الحنفية والشافعية : إنه شرط صحة ، تمسّكا بقوله تعالى : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) وبما يظهر من مشروعية الرهن للتوثق ، ولا توثق إلا بالقبض.

وقال المالكية والحنابلة : إنه شرط تمام ، بمعنى أنّ الرهن يلزم بمجرّد العقد ، ويجبر الراهن على الإقباض ، ومتى قبض تمّ وكمل قياسا على سائر العقود ، فإنها تلزم بمجرّد العقد. والرهان جمع رهن : بمعنى المرهون. وقرئ : (فَرِهانٌ) بضمتين ، وهو جمع رهن أيضا.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي إن أمن بعض الدائنين بعض المدينين (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) في رعاية حقوق الأمانة فلا يجحدها ، ولا يتأخر عن دفعها. فحيث إن الدائن عوّل على أمانته ، ولم يطالبه بوثيقة ولا برهان ، ينبغي للمدين أن يعامله بالحسنى.

و (بَعْضاً) مفعول لأمن ، يقال : أمن فلان غيره إذا لم يخف خيانته. وعبّر بالذي أؤتمن بدل التعبير بالمدين للحث على الأداء ، فإنّ التعبير عنه بهذه الصيغة مما يورطه ويدفعه إلى حسن الأداء وجميل المعاملة ، وجمع بين الألوهية وصفة الربوبية في قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب إلهه المعبود بحق ، وربّه الذي يربيه ، ويلي شؤونه ، ويدير مصالحه.

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٣ / ٣٠٣) ، ٥٦ ـ كتاب الجهاد ، ٨٩ ـ باب ما قيل في درع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث رقم (٢٩١٦) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٢٢٦) ، ٢٢ ـ كتاب المساقاة ، ٢٤ ـ باب الرهن حديث رقم (١٢٤ / ١٦٠٣).

١٨٨

فالله تعالى جعل في هذه الآيات المبايعات على ثلاثة أقسام : بيع بكتابة وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة ، فلما أمر في الآية الأولى بالكتابة والإشهاد ، أشار في الآية الثانية إلى أنه ربما يتعذّر أمر الكتابة والإشهاد في حالة السفر ، فذكر نوعا آخر من الاستيثاق : وهو الرهن الذي هو أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد ، وأوصي في النوع الثالث بما يليق به ثم قال : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) بعض المفسرين يرى أن هذه الجملة كالتأكيد لقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد ، وتحمله على أداء الشهادة وهي قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها) إلخ.

وأسند الإثم إلى القلب ، لأن الكتمان مما اقترفه ، كما يسند الزنى إلى العين والأذن بمثل هذا الاعتبار.

وبعض آخر من المفسرين يصحّح ارتباط هذه الجملة بقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) على معنى أنه إذا أمن الدائن المدين ، ولم يكتب ، ولم يشهد ، ولم يأخذ رهنا لحسن ظنه به ، كان من الجائز أن يجحد المدين ، وأن يخلف ظنّ الدائن ، وكان من الجائز الذي يقع كثيرا أن يطّلع بعض الناس على هذه المعاملة. فهنا ندب الله تعالى من يطّلع على هذه المعاملة ليشهد للدائن بحقه ، وحذّره من كتمان الشهادة ، سواء أعرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لم يعرف ، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب إن كتمها ، ويدل لصحة هذا المعنى ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد» (١).

و (آثِمٌ) خبر إنّ ، و (قَلْبُهُ) مرفوع به ، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ ، و (آثِمٌ) خبرا مقدما ، والجملة خبر إنّ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيجازيكم به إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فاحذروا من الإقدام على هذا الكتمان ، وامتثلوا ما أمركم به ، والله سبحانه أعلم. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٤٤) ، ٣٠ ـ كتاب الأقضية ، ٩ ـ باب بيان خير الشهود حديث رقم (١٩ / ١٧١٩) بلفظ مختلف ورواه ابن ماجه في السنن (٢ / ٧٩٢) ، كتاب الأحكام ، باب الرجل عنده الشهادة حديث رقم (٢٢٦٤).

١٨٩

من سورة آل عمران

قال الله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨))

بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى أنه واهب الملك ، المعزّ المذلّ ، القادر على جميع الأشياء في الدنيا والآخرة ، حيث قال جلّ شأنه : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] إلى آخره نبّه المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه ، أو يستظهروا بهم لقرابة أو صداقة قديمة ، بل ينبغي أن تكون الرغبة فيما عند الله تعالى وعند أوليائه دون أعدائه.

نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود ، فقال لهم رفاعة بن المنذر وابن جبير وسعد بن خيثمة : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبوا النصيحة (١).

وقيل نزلت في عبادة بن الصامت البدري النقيب ، فقد كان له حلفاء من اليهود ، فلما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب قال له عبادة : يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فاستظهر بهم على العدو ، فأنزل الله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ).

(لا) ناهية ، فالفعل مجزوم ، أو نافية فالفعل مرفوع ، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي.

(أَوْلِياءَ) جمع ولي ، وهو الناصر والمعين ، فلا يركن المؤمنون إلى الكفار ، ويستعينوا بهم لقرابة أو محبة مع اعتقاده بطلان دينهم ، فإنّ ذلك منهيّ عنه ، لأنّ الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم.

وفي هذا المعنى نزلت آيات كثيرة (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨](لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢](لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١](لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢ / ١٥٢).

١٩٠

أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [التوبة : ٧١].

وأما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر ، مع عدم الرضا عن حالهم فذلك غير منهيّ عنه ، والموالاة لهم بمعنى الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك كفر ، لأنّ الرضا بالكفر كفر ، فلا يبقى المرء مؤمنا ، مع كونه بهذه الصفة.

(مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حال من الفاعل ، أي متجاوزين المؤمنين إلى الكفار استقلالا أو اشتراكا. فالظرف لا مفهوم له ، لأنّه لبيان الواقع ، فقد ورد في قوم مخصوصين حصلت منهم الموالاة للكفار دون المؤمنين ، وقيل : الظرف في حيّز الصفة لأولياء.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الاتخاذ ، وإنما عبّر بالفعل للاختصار ، أو لإبهام الاستهجان بذكره ، وجواب الشرط (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) وفي الكلام حذف مضاف ، أي (فَلَيْسَ مِنَ) ولاية (اللهِ فِي شَيْءٍ) أو من دين الله ، وتنوين (شَيْءٍ) للتحقير ، وذلك لأنّ موالاة المتضادين لا تكاد توجد.

قال الشاعر :

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني

صديقك ، ليس النّوك عنك بعازب

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، والعامل فيه (لا يَتَّخِذِ) فلا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم.

وقيل : استثناء مفرّغ من المفعول لأجله ، فالمعنى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لشيء من الأشياء إلا للتقية (مِنْهُمْ) من جهتهم ، (تُقاةً) مفعول به ، أي شيئا يتّقى منه ، فالجار والمجرور حال من تقاة ، حيث تقدّم عليها ، والمعنى : إلا أن تتقوا شيئا يتّقى منه حاصلا من جهتهم ، كالقتل وسلب المال مثلا أو (تُقاةً) بمعنى اتقاء ، فتكون مفعولا مطلقا ، و (تُقاةً) متعلقة به في مكان المفعول الأول ، والمفعول الثاني محذوف للعلم به ، وعدّي بمن ، لأنه بمعنى خاف ، فالمعنى إلا أن تخافوا منهم ضررا خوفا.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) إي عقاب نفسه ، وفي ذلك تهديد عظيم مشعر بتناهي الاتخاذ في القبح ، حيث ربط التحذير بنفسه ، لأنه لو حذف وقيل : ويحذركم الله ، فإنه لا يفيد صدور العقاب من الله ، بل يحتمل أن يكون منه تعالى ، وأن يكون من غيره. فلمّا قال : (نَفْسَهُ) علم أنّه صادر منه تعالى ، وذلك أعظم أنواع العقاب لكونه تعالى قادرا على ما لا نهاية له ، ولا قدرة لأحد على رفعه أو منعه مما أراد.

(وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) المرجع ، والإظهار لتربية الروعة والمهابة في النفوس ، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها.

١٩١

وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو ، وإليه ذهب بعض المالكية ، وقالت الحنفية والشافعية بالجواز ، وأنه يسهم لهم في الغنيمة ، لكن بشرط أن تكون الاستعانة على قتال المشركين لا البغاة ، وما ورد عن عائشة رضي الله عنها من رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجل مشرك كان ذا جرأة ونجدة أراد أن يحارب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وقال له : «ارجع فلن أستعين بمشرك» (١) فمنسوخ ، بدليل استعانته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهود قينقاع وقسمه لهم ، واستعانته بصفوان بن أمية في هوازن (٢).

وذكر بعضهم أنّ جواز الاستعانة مشروط بالحاجة والوثوق ، أما بغيرهما فلا يجوز ، وهو الراجح. وعلى ذلك يحمل خبر السيدة عائشة ، وما كان من السبب الثاني للنزول ، ويحصل به أيضا الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز.

ومن الناس من استدلّ بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمّالا ولا خدما ، ولا يجوز التعظيم والتوقير لهم في المجالس ، والقيام عند قدومهم ، فإنّ دلالته على التعظيم واضحة قوية.

وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التقيّة ، وعرّفوها : بالمحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.

ولما كان العدوّ نوعين : عدوا كان الاختلاف في الدين سببا لعدوانه ، والثاني ما ثبتت عداوته على الأغراض الدنيوية كالمال والمتاع والإمارة ، كانت التقية قسمين :

أما القسم الأول : فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه ، فهذا تجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه ، بشرط ألا يكون من الصبيان أو النساء أو العجزة ، فهؤلاء قد رخّص الله تعالى لهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨)) [النساء : ٩٧ ، ٩٨].

فإن كان من المستضعفين : وكان التخويف بالقتل ونحوه ممن يظنّ منهم أنهم يفعلون ما خوّفوا به ، جاز المكث والموافقة ظاهرا بقدر الضرورة ، مع السعي في حيلة للخروج والفرار بدينه.

والموافقة حينئذ رخصة ، وإظهار ما في قلبه عزيمة ، فلو مات فهو شهيد قطعا ،

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٤٤٩) ، ٣٢ ـ كتاب الجهاد ، ٥١ ـ باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر حديث رقم (١٥٠ / ١٨١٧).

(٢) رواه أبو داود في السنن (٣ / ٢٨٥) ، كتاب البيوع ، باب تضمين العارية حديث رقم (٣٥٦٢) وأحمد في المسند (٤ / ٢٢٢).

١٩٢

بدليل ما يروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، ثم قال له : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم. فتركه. ثم دعا الثاني وقال : أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصمّ ، قالها ثلاثا ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أمّا هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه ، وأخذ بفضيلة فهنيئا له ، وأمّا الآخر ، فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه» (١).

والقسم الثاني : من كانت عداوته بسبب المال والإمارة ، وقد اختلف العلماء في وجوب هجرة صاحبه ، فقال بعضهم : تجب ، لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وبدليل النهي عن إضاعة المال. وبدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (٢) ، وقال آخرون : لا تجب ، لأنّها لمصلحة دنيوية ، ولا يعود من تركها نقصان في الدين ، ولكنّ المنصف يرى أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه ، أو هتك عرضه بالإفراط.

قال الله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع إثبات التوحيد ، ومحاجّة أهل الكتاب في ذلك ، وفي بعض ما استحدثوا في دينهم.

وفي هذه الآيات وما قبلها يدفع الله شبهتين من شبههم.

قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده فكيف تستحل ما كان محرّما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فما يكون لك أن تدّعي أنك مصدّق لهم ، وموافق في الدين ، ولا أن تقول إنك أولى الناس بإبراهيم.

فرد الله هذه الشبهة بقوله : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [آل عمران : ٩٣] وأنه لم يحرّم عليهم شيئا إلا ما كان عقوبة لهم ، كما جاء في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٦٠].

وأما الشبهة الثانية : فهي أنهم قالوا : إن الله وعد إبراهيم أن تكون البركة في

__________________

(١) قال السيوطي رواه ابن أبي شيبة ، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٤ / ١٣٣).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (١ / ١٢٤) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٦٢ ـ باب الدليل على أن من قصد ، حديث رقم (٢٢٦ / ١٤١).

١٩٣

نسل ولد إسحاق ، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت المقدس ، ويصلّون إليه ، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا ، ولما تحوّلت عن بيت المقدس ، وعظّمت مكانا آخر اتخذته مصلّى وقبلة ، وهو الكعبة ، فخالفت الجميع.

فردّ عليهم بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)) وتقريره أنّ البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت للناس يعظّمونه ، ويتعبدون الله فيه ، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لأجل العبادة خاصّة ، وقد قال إبراهيم : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧].

ثم بنى سليمان بن داود عليهما‌السلام بيت المقدس بعد ذلك بعدة قرون.

فماذا فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير أن امتثل أمر ربّه ، فرجع إلى قبلة أبيه إبراهيم ، واتخذها مصلّى. وأوّلية البيت قيل : أولية شرف ، وقيل : أولية زمان ، ولا مانع من أن يكون كل منهما مرادا ، فقد مرّ أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت المحرّم للعبادة ، ثم جاء سليمان وبنى بيت المقدس ، فالأولية زمانية ، وهي تستلزم أولية الشرف.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أول بيت وضع على الأرض بالنسبة للبيوت مطلقا ، فقالوا : إن الملائكة بنته قبل خلق آدم ، وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين سنة. روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول بيت وضع للناس؟ فقال : «المسجد الحرام ، ثم بيت المقدس» فقيل : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» (١).

وقد يقال : إنّ هناك تعارضا بين ما ذكرنا من أنّ بناء الكعبة كان قبل بناء بيت المقدس بعدة قرون ، وأن الذي بناه إبراهيم ، وبين ما روي من أن الذي وضعها الملائكة قبل بيت المقدس بأربعين سنة ، وقد أجيب بأنّ الوضع غير البناء ، وبأنه لعل الذي كان من إبراهيم وسليمان كان إعادة ، ومعلوم أن بين إبراهيم وسليمان عدة قرون فلا منافاة.

(لَلَّذِي بِبَكَّةَ) بكة اسم لمكة كما روي عن مجاهد ، وإبدال الميم باء كثير في كلامهم ، وقيل : هو بطن مكة حيث الحرم.

(مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) بيان لحاله الحسية الحسنة ، والمعنوية الشريفة ، وأما الأولى فهي ما ساق الله إليه من بركات الأرض ، ومن ثمار كل شيء ، ومن جميع الأقطار ، مع

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٤ / ١٦٤) ، ٦٠ ـ كتاب أحاديث الأنبياء ، ٤٠ ـ باب قول الله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) حديث رقم (٣٤٢٥) ، ومسلم في الصحيح (١ / ٣٧٠) ، ٥ ـ كتاب المساجد ، حديث رقم (١ / ٥٢٠).

١٩٤

كونه بواد غير ذي زرع ، وأما الثانية فهي جعل أفئدة الناس تهوي إليه ، وتتعلّق به ، ويأتون للحج والعمرة رجالا ، وعلى كل ضامر من كل فج ، وتولية وجوههم شطره في الصلاة ، وأيّ ساعة تمرّ ليلا أو نهارا وليس فيها من يتجه إلى ذلك البيت يصلي!! فقد أجيبت دعوة إبراهيم على أتمّ وجه (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ).

وقد أشير إلى هاتين الحالتين في قوله تعالى حكاية عن المشركين : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)) [القصص : ٥٧].

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) فيه : أي البيت دلائل وعلامات ظاهرة لا تخفى على أحد : منها مقام إبراهيم أي موضع قيامه للصلاة والعبادة ، فأيّ دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربّهم؟ وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم.

(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) آية ثانية على أنّ البيت الحرام حقيق بالتعظيم ، فقد اتفقت قبائل العرب طرّا على احترام هذا البيت وتعظيمه بنسبته إلى الله ، وقد اشتدّت مبالغة العرب في ذلك ، حتى إن من كان قاتلا ، واستباح حرماتهم ، ولجأ إلى البيت فإنه يصير آمنا ما دام فيه.

مضى على هذا عمل الجاهلية مع ما بين أهلها من اختلاف المنازع ، وتباين الأهواء والمشارب ، وتعدّد المعبودات ، وكثرة الأضغان والأحقاد ، وقد أقرّ الإسلام هذه الميزة للبيت الحرام ، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك ، ولأجل أن يعبد الله وحده ، ومع ذلك فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها حلّت له ساعة من النهار ، ولم تحل لأحد قبله ، ولن تحل لأحد بعده (١). على أنّ فتح مكة لم يؤثّر على أمر الحرم شيئا ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر مناديه أن ينادي : «من دخل داره ، وأغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» (٢).

هذا وقد اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته ، سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.

واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ، ثم لاذ إليه ؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتصّ منه ما دام فيه ،

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٢ / ٢٦٠) ، ٢٨ ـ كتاب جزاء الصيد ، ٩ ـ باب لا ينفر صيد الحرم حديث رقم (١٨٣٣).

(٢) انظر تفسير ابن جرير الطبري ، المسمى جامع البيان (٢ / ٣٣١ ـ ٣٣٢).

١٩٥

ولكنه لا يجالس ، ولا يعامل ، ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه ، فيقتصّ منه ، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ، ثم دخل الحرم اقتصّ منه.

وقال مالك والشافعي : يقتصّ منه في الحرم لذلك كله ، وقد روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعبيد الله بن عمير ، وسعيد بن جبير ، وطاووس ، والشعبي ، فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل.

قال ابن عباس : ولكنه لا يجالس ، ولا يؤوى ، ولا يبايع حتى يخرج من الحرم ، فيقتل ، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ.

وروى قتادة عن الحسن أنه قال : لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه ، قال : وكان الحسن يقول : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) كان هذا في الجاهلية ، لو أنّ رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرّض له حتى يخرج من الحرم. أما الإسلام فلم يزده إلا شدة ، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد.

وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا : إذا أصاب حدا في غير الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم ، حتى يقام عليه ، وروي مثل هذا عن مجاهد ، وهذا يحتمل أن يراد به أن يقاطع ، فلا يجالس ، ولا يعامل ، حتى يضطر إلى الخروج ، فيقام عليه الحد.

وفيما عدا رواية الحسن فالاتفاق حاصل بين السلف من الصحابة والتابعين أن من دخله لاجئا إليه ، وكان قد جنى في غيره أنه يقاطع حتّى يخرج فيقتص منه.

ومثل قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] وقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) [القصص : ٥٧] وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥].

قال أبو بكر الرازي (١) : ولما عبّر الله تارة بالحرم وتارة بالبيت علم أنّ حكم الحرم حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه.

ولمّا لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت ، لأنّ الله وصفه بالأمن فيه ، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه.

هذا وقد فسّر بعض العلماء الأمن هنا بالأمن في الآخرة من العذاب ، وروى في ذلك آثارا صحيحة ، ولا مانع من إرادة العموم ، بأن يفسّر بالأمن في الدنيا والآخرة.

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

__________________

(١) أحكام القرآن للإمام الرازي (٢ / ٢٠ ـ ٢٣).

١٩٦

لما ذكر الله فضائل البيت أردفه بذكر إيجاب الحج ، وفي قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وجوه من الإعراب لا نتعرض لذكرها.

والمعنى : أن الله جلت قدرته أوجب على عباده أن يحجوا إلى بيته متى تيسّر لهم الوصول إليه ، ولم يمنعهم من الوصول إليه مانع ، سواء أكان بدنيا ؛ أم ماليا ؛ أم بدنيا وماليا معا.

فالبدني كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السباع ، وعلى الجملة ألا يكون الطريق مأمونا.

والمالي كفقد الزاد والراحلة إذا كان ممن يتعسّر عليهم الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة ، والذي يجمعها فاقد الزاد والراحلة ، والمريض ، أو الذي لا يأمن الطريق.

وقد اتفق الأكثرون على أنّ الزاد والراحلة شرطان داخلان في الاستطاعة ، ويؤيد شرطيتهما ما رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسّر استطاعة السبيل بالزاد والراحلة. فقد روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من ملك زادا وراحلة تبلغه بيت الله ، ولم يحجّ ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» (١) وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

وروي عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال : «السبيل الزاد والراحلة» (٢).

وروى عطاء عن ابن عباس قال : السبيل الزاد والراحلة ، ولم يحل بينه وبينه أحد.

فأنت ترى من هذه الأخبار أن الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى ، ومن شرائط وجوب الحج.

وقد يقول قائل : إنّ الله تعالى يقول : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وقد بيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السبيل أنه الزاد والراحلة ، فيلزم ألا يجب الحج على من كان بينه وبين البيت مسافة يسيرة ، ويمكنه الذهاب إلى البيت ماشيا.

ولكنا نقول : إن الله سبحانه وتعالى لما قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وهو عامّ في القريب والبعيد ، قد لا يتيسّر له الحج ، قال : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أي أنّ

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ١٧٦) ، كتاب الحج ، باب ما جاء في التغليظ حديث رقم (٨١٢).

(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ١٧٧) ، كتاب الحج ، باب ما جاء في إيجاب الحج حديث رقم (٨١٣) وابن ماجه في السنن (٢ / ٩٦٧) ، كتاب المناسك ، باب ما يوجب الحج حديث رقم (٢٨٩٦).

١٩٧

الوجوب على المستطيع ، واقتصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البيان على الزاد والراحلة إنما كان للرد على من يزعم أنه يجب الحج على الناس مطلقا ، ولو كانوا في بلاد نائية ، ويقدرون على المشي ، بدليل أنه لم يذكر عدم المرض وأمن الطريق مثلا ، مع أنهما شرطان من شروط الاستطاعة اتفاقا ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتصر على بيان بعض الحالات ، والحالات الأخرى تؤخذ من عمومات أخرى ، كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨].

ومعلوم أنّ شرط الزاد والراحلة إنما هو لئلا يشقّ عليه ، ويناله ما يضره من المشي ، فإذا كان من أهل مكة ، أو ما قاربها ، ويمكنه الوصول إليه دون مشقة ، فهذا مستطيع ، ويجب عليه الحجّ.

وإذا كان لا يصل إليه إلا بمشقة فهذا الذي خفّف الله عنه ، ولم يلزمه الفرض حتى يكون مستطيعا إليه سبيلا : زادا وراحلة.

ويرى بعض العلماء أنّ وجود المحرم للمرأة من شرائط وجوب الحجّ مستدلا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي رحم محرم أو زوج» (١).

وروي عن ابن عباس أنه قال : خطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا تسافر امرأة إلّا ومعها ذو محرم».

فقال رجل : يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا ، قد أرادت امرأتي أن تحجّ.

فقال عليه الصلاة والسلام : «احجج مع امرأتك» (٢).

وهذا يدل على أن المرأة إذا أرادت الحجّ ليس لها أن تحج إلا مع زوج ، أي ذي رحم محرم ، من وجوه :

أحدها : أن السائل فهم من قوله : لا تسافر ... إلخ ذلك ، ولذلك سأله عن امرأته التي تريد الحج ماذا يفعل ، وقد اكتتب في الغزو؟ ولم ينكر النبي عليه ذلك.

وثانيها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : حج مع امرأتك وفي ذلك دلالة على أنه حين قال : «لا تسافر امرأة ... إلخ أراد ما يعم سفر الحج.

ثالثها : أنه أمره بترك الغزو وهو فرض للحج مع امرأته ، ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٩٧٧) ، ١٥ ـ كتاب الحج ، ٧٤ ـ باب سفر المرأة حديث رقم (٤٢٣ / ١٣٤٠).

(٢) رواه أحمد في المسند (١ / ٢٢٢).

١٩٨

وفي عدم سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل عن حج امرأته أفرض هو أم تطوّع دليل على أنه لا فرق بين أن يكون الحج فرضا أو تطوعا.

وقد ورد في السنة ما يؤخذ منه باقي شروط الاستطاعة ، كاستمساك من يجد الراحلة عليها.

هذا وقد اختلف في حج الفقير البعيد عن البيت الذي لا يجد الزاد والراحلة. إذا أمكنه المشي ، فقال الشافعية والحنفية : لا حج عليه ، وإن حج أجزأه ذلك عن حجة الإسلام.

وحكي عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي ، وروي عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلّغه كائنا ما كان.

وأنت ترى أن الآية بظاهرها ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الاستطاعة الزاد والراحلة» يدلان على أنّ لا حج عليه ، غير أنه متى وصل إلى هناك في أشهر الحج ، فكأنه صار من أهل مكة ، فيكون حكمه كحكمهم ، فإذا فعله أغناه ذلك عن الفرض.

وقد حكى الجصاص (١) الخلاف بين الحنفية والشافعية في العبد إذا حجّ ، هل يجزئه أم لا؟

قال الشافعية : يجزئه ، واستدلّ الشافعيّ بقياس العبد على الفقير ، فإذا قلتم : إن الفقير إذا حجّ فقد أجزأه ذلك ، وهو لا يجب عليه ، فكذا العبد وأيضا العبد لا تجب عليه الجمعة ، وإذا فعلها أجزأته عن الظهر ، فكذا إذا فعل الحجّ.

واستدل الحنفية بما روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ، ثمّ لم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» (٢) فعلم من ذلك أن شرط الحج ملك الزاد والراحلة ، والعبد ليس أهلا للملك بحال ، فلا يكون أهلا للخطاب بالحج بحال ، فلم يجزئه حجّه ، كما إذا حج الصبيّ ، فإنه إذا بلغ مستكملا الشروط وجب عليه الحج.

وأجابوا عن القياس على الفقير ؛ بأن الفقير أهل لأن يملك ، وقد يعرض الملك له في الطريق ، فهو بهذه العرضية أهل في الجملة ، فإذا وصل إلى مكة وهو لا يملك ، فقد سقط هذا الشرط في حقه ، لأنه صار من أهل مكة. وأما العبد فالمانع من خطابه رقّه ، وهو إنما يفارقه بالعتق.

واستدلوا أيضا بما روي عن جابر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن صبيا حجّ عشر حجج ، لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا».

__________________

(١) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٢ / ٢٦).

(٢) سبق تخريجه.

١٩٩

هذا ملخّص كلام الجصّاص.

ولكنّ المعروف في مذهب الشافعي أنّ العبد إذا حجّ لم تجزئه حجته عن حجة الإسلام إذا عتق.

ولعلّ خلاف الشافعي فيمن أحرم بالحج ، ثم عتق وهو واقف بعرفة ، أو قبل الوقوف بها فإن حجه يجزئه عن حجة الإسلام ، خلافا لأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما. أما إذا كان العتق بعد فوات الحج ، فإنه لا يجزئه ، قال النووي من الشافعية : وهذا لا خلاف فيه عندنا ، وبه قال العلماء كافة.

ثم إنّ الحج لا يجب إلا مرة واحدة ، لأنّه ليس في الآية ما يوجب التكرار ، وقد روي عن ابن عباس أنّ الأقرع بن حابس سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله الحجّ في كل سنة أو مرة واحدة فقال : «بل مرّة ، فمن زاد فتطوع» (١).

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) قيل : إنّ هذا الكلام مستقلّ بنفسه ، وهو وعيد عام لكلّ من كفر بالله ، ولا تعلّق له بما قبله.

وقيل : إنه متعلّق بما قبله ، ومن القائلين بهذا من حمله على تارك الحجّ ، ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوبه.

فأما الذين حملوه على تارك الحج فقد عوّلوا على ظاهر الآية ، حيث أوجب الله الحجّ ، ثم أتبعه بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ففهم منه أنّ هذا الكفر هو ترك ما تقدم ، واستندوا إلى ما ورد من قوله عليه الصلاة والسّلام : «من استطاع ومات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا».

وعن سعيد بن جبير : لو مات جار لي وله ميسرة ، ولم يحجّ لم أصلّ عليه.

وتأويل هذه الأخبار عند الجمهور أنّ الغرض منها التنفير من ترك الحجّ ، والتغليظ على المستطعين ، حتى يؤدّوا الفريضة ، فهو نظير قوله عليه الصلاة والسلام : «من أتى امرأة حائضا في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد».

واستدلّ الأكثرون لمذهبهم بما روي عن الضحاك في سبب النزول قال : لما نزلت آية الحجّ ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين وقال : «إنّ الله كتب عليكم الحجّ فحجوا البيت» فلم يقبله إلّا المسلمون ، وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٢ / ٦٨) ، كتاب المناسك ، باب فرض الحج حديث رقم (١٧٢١) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ٩٦٣) ، كتاب المناسك باب الخروج حديث رقم (٢٨٨٦).

٢٠٠