تذكرة الفقهاء - ج ١٣

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ١٣

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-389-6
الصفحات: ٤٢١

المشتري : اشتريت ورهنت ، فالأقرب : الصحّة إن انضمّ قول البائع : « ارتهنت » أو « قبلت » لأنّ الذي وجد منه شرط إيجاب الرهن لا استيجابه ، كما لو قال : أفعل كذا لتبيعني ، لا يكون مستوجباً للبيع ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

وفي الآخَر : يتمّ العقد وإن لم ينضمّ قول البائع (١).

والوجه : الأوّل.

مسألة ١٣٧ : يشترط مع ثبوت الدَّيْن لزومه فعلاً حالة الرهن أو قوّةً قريبة من الفعل ، كالثمن في مدّة الخيار ، لقرب حاله من اللزوم ، وكما لو شرط الرهن في البيع ، فإنّ الثمن غير ثابت بَعْدُ ، ويصحّ الشرط.

ولا فرق في صحّة الرهن بالدَّيْن اللازم بين أن يكون الدَّيْن مسبوقاً بحالة الجواز أو لم يكن ، ولا بين أن يكون مستقرّاً ، كالقرض ، وأرش الجناية ، وثمن المبيع المقبوض ، أو غير مستقرّ ، كالثمن قبل قبض المبيع ، والأُجرة قبل استيفاء المنفعة ، والصداق قبل الدخول.

أمّا ما ليس بلازم ولا مصير له إلى اللزوم بحال كنجوم الكتابة عند الشيخ (٢) رحمه‌الله وعند الشافعي (٣) فلا يصحّ الرهن به ؛ لأنّ الرهن للتوثيق ، والمكاتَب بسيل من إسقاط النجوم متى شاء ، ولا معنى لتوثيقها. ولأنّه لا يمكن استيفاء الدَّيْن من الرهن ، لأنّه لو عجز صار الرهن للسيّد ، لأنّه من جملة مال المكاتب.

__________________

(١) التهذيب للبغوي ٤ : ٦ ، الوجيز ١ : ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٧.

(٢) المبسوط للطوسي ٦ : ٧٣ و ٨٢ ، الخلاف ٦ : ٢٩٣ ، المسألة ١٧.

(٣) الأُمّ ٨ : ٤٥ و ٥٠ ، الوجيز ١ : ١٦١ و ٢ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩ ، و ١٣ : ٥١٣ ، حلية العلماء ٦ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٧ ، و ٨ : ٥٠٥.

١٨١

وقال أبو حنيفة : يصحّ الرهن بها (١). وهو الوجه عندي.

ويُمنع من إثبات السبيل المكاتَب ، بل نقول : عقد الكتابة أوجب عليه المال ، فليس له إسقاطه باختياره ، بل بالعجز ، لا التعجيز من العبد ، بل من المولى.

ونمنع عدم التمكّن من استيفائه الدَّيْن من الرهن ؛ فإنّ المملوك إذا عجز ولم يعجّزه مولاه ، أمكن استيفاء الدَّيْن من الرهن. وإن عجّزه ، كان الإبراء ، فسقط الدَّيْن ، وبطل الرهن.

ولو جعلنا الخيار مانعاً من نقل الملك في الثمن إلى البائع ، فالظاهر منع الرهن عليه ؛ لوقوعه قبل ثبوت الدَّيْن ، ولا شكّ في أنّه يُباع الرهن في الثمن ما لم تمض مدّة الخيار.

وما كان الأصل في وضعه الجواز كالجُعْل في الجعالة فإن كان قبل الشروع في العمل ، لم يصح الرهن عليه ؛ لأنّه لم يجب ، ولا يُعلم إفضاؤه إلى الوجوب واللزوم.

وأمّا بعد الشروع في العمل وقبل إتمامه فالأقوى جوازه ؛ لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم ، فصار كالثمن في مدّة الخيار ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. والثاني وهو الأصحّ عندهم ـ : المنع ؛ لأنّ الموجب للجُعْل هو العمل ، وبه يتمّ الوجوب ، فكأنّه لا ثبوت له قبل العمل (٢).

أمّا بعد تمام العمل فإنّه يصحّ إجماعاً ؛ لأنّه لازمٌ حينئذٍ.

وكذا لا يجوز الرهن على الدية من العاقلة قبل الحول ؛ لأنّها لم تجب

__________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٠٧ ٤٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٥٩.

(٢) الوجيز ١: ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٠ ، حلية العلماء ٤ : ٤٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٨.

١٨٢

بَعْدُ ، ولا يُعلم إفضاؤها إلى الوجوب ، فإنّهم لو جُنّوا أو افتقروا أو ماتوا ، لم تجب عليهم ، فلا يصحّ أخذ الرهن بها. فأمّا بعد الحلول (١) فيجوز ؛ لاستقرارها.

ويحتمل جوازه قبل الحول ؛ لأصالة بقاء الحياة واليسار والعقل.

والمسابقة إن جعلناها عقداً لازماً كالإجارة ، صحّ الرهن على العوض قبل العمل ، وإلاّ فلا ؛ لأنّه لا يُعلم إفضاؤها إلى الوجوب ؛ لأنّ الوجوب إنّما يثبت بسبق غير المخرج وهو غير معلوم ولا مظنون.

قال بعض العامّة : إن قلنا : إنّها إجارة ، جاز أخذ الرهن بعوضها. وإن قلنا : جعالة ، فلا (٢).

وقال بعضهم : إن لم يكن فيها محلّل ، فهي جعالة. وإن كان فيها محلّل ، فعلى وجهين (٣).

وهذا كلّه بعيد ؛ لأنّ الجُعْل ليس هو في مقابلة العمل بدليل أنّه لا يستحقّه إذا كان مسبوقاً وقد عمل العمل ، وإنّما هو عوض عن السبق ، ولا تُعلم القدرة عليه. ولأنّه لا فائدة للجاعل فيه ولا هو مراد له ، وإذا لم تكن إجازةً مع عدم المحلّل فمع وجوده أولى ؛ لأنّ مستحقّ الجُعْل هو السابق ، وهو غير معيّن ، ولا يجوز استئجار رجلٍ غير معيّن.

مسألة ١٣٨ : لا يجوز أخذ الرهن بعوضٍ غير ثابتٍ في الذمّة ، كالثمن المعيّن والأُجرة المعيّنة في الإجارة ، والمعقود عليه في الإجارة إذا كان منافع معيّنة ، مثل إجارة الدار والعبد المعيّن والجمل المعيّن مدّة معلومة أو لحمل شي‌ء معيّن إلى مكانٍ معلوم ؛ لأنّه حقٌّ تعلَّق بالعين لا بالذمّة ،

__________________

(١) أي بعد حلول الحول.

(٢) المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٠.

(٣) المغني والشرح الكبير ٤ : ٣٨٠.

١٨٣

ولا يمكن استيفاؤه من الرهن ؛ لأنّ منفعة العين لا يمكن استيفاؤها من غيرها ، وتبطل الإجارة بتلف العين.

ولو وقعت الإجارة على منفعةٍ في الذمّة كخياطة ثوب ، وبناء جدارٍ جاز أخذ الرهن به ؛ لأنّه ثابت في الذمّة ، ويمكن استيفاؤه من الرهن بأن يستأجر عنه (١) مَنْ يعمل ، فجاز أخذ الرهن به ، كالدَّيْن ، ويباع عند الحاجة وتحصل المنفعة من ثمنه.

إذا عرفت هذا ، فكلّ ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به ، وما لم يجز الرهن به لم يجز أخذ الضمين به ، إلاّ ثلاثة أشياء : عهدة البيع يصحّ ضمانها ولا يصحّ الرهن بها ، والكتابة لا يصحّ الرهن بها على إشكالٍ سبق (٢) ، والأقرب : صحّة الضمان فيها ، وما لم يجب لا يصحّ أخذ الرهن به ، ويصحّ ضمانه ؛ لأنّ الرهن بهذه الأشياء يُبطل الإرفاق ، فإنّه إذا باع عبده بألف ودفع رهناً يساوي ألفاً ، فكأنّه ما قبض الثمن ولا ارتفق به. والمكاتَب إذا دفع ما يساوي كتابته ، فما ارتفق بالأجل ؛ لأنّه كان يمكنه بيع الرهن وإمضاء الكتابة ويستريح من تعطيل منافع عبده ، بخلاف الضمان. ولأنّ ضرر الرهن يعمّ ؛ لأنّه يدوم بقاؤه عند المشتري ، فيمنع البائع التصرّف فيه ، والضمان بخلافه.

ولا يجوز الرهن من المالك على الزكاة قبل الحلول ، ولا رهن العاقلة على الدية قبله ؛ لفوات الشرط ، ويجوز بعده.

مسألة ١٣٩ : لا يشترط في الدَّيْن المرهون به أن لا يكون به رهن ، بل يجوز أن يرهن بالدَّيْن الواحد رهناً بعد رهن ، ثمّ هو كما لو رهنهما معاً.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : « يستأجر من ثمنه .. ».

(٢) في ص ١٨١ ، المسألة ١٣٧.

١٨٤

ولو كان الشي‌ء مرهوناً بعشرة وأقرضه عشرةً أُخر على أن يكون‌ مرهوناً بها أيضاً ، صحّ وبه قال مالك والشافعي في القديم (١) كما تجوز الزيادة في الرهن بدَيْنٍ واحد.

والجديد : أنّه لا يجوز وبه قال أبو حنيفة كما لا يجوز رهنه عند غير المرتهن (٢) ، وإن وفى بالدينين جميعاً ، فإن أراد توثيقهما فليفسخا وليستأنفا رهناً بالعشرين ، بخلاف الزيادة في الرهن بدَيْنٍ واحد ؛ لأنّ الدّيْن يشغل الرهن ولا ينعكس ، فالزيادة في الرهن شغل فارغ ، والزيادة في الدَّيْن شغل مشغول (٣).

ويُمنع حكم الأصل ؛ فإنّه لا استبعاد في صحّة الرهن عند غير المرتهن ، ويكون موقوفاً على إجازة المرتهن ، فإن أجاز المرتهن الأوّلَ ، صحّ الثاني.

والأقرب : أنّه لا يبطل الرهن الأوّل ، بل يتقدّم الثاني ، فإن فضل بعد دَيْن الثاني شي‌ء ، اختصّ بالأوّل ، فإن كان قد بقي من العين شي‌ء ، اختص الأوّل به. وإن بِيع الجميع وفضل من الثمن فضلة ، اختصّ الأوّل بها ؛ لأنّه كقيمة المتلف من الرهن يختصّ المرتهن بها دون غيره من الدُّيّان.

سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهر ؛ فإنّ الدينين إذا كانا لواحدٍ ، لم يحصل من التنازع ما إذا تعدّد.

ولو جنى العبد المرهون ففداه المرتهن بإذن الراهن على أن يكون العبد مرهوناً بالفداء والدَّيْن الأوّل ، صحّ عندنا ، وبه قال الشافعي (٤).

__________________

(١) التهذيب للبغوي ٤ : ٣٣ ، الوجيز ١ : ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٢) في الطبعة الحجريّة و « ج » : « المرهون » بدل « المرتهن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) التهذيب للبغوي ٤ : ٣٣ ، الوجيز ١ : ١٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

١٨٥

ولأصحابه طريقان :

أظهرهما عندهم : القطع بالجواز ؛ لأنّه من مصالح الرهن من حيث [ إنّه ] (١) يتضمّن استبقاءه (٢).

والثاني : أنّه (٣) على القولين (٤).

ولو اعترف الراهن بأنّه رهن على عشرين ثمّ ادّعى أنّه رهن أوّلاً بعشرة ثمّ رهن بعشرة أُخرى ونازعه (٥) المرتهن ، فلا فائدة لهذا الاختلاف عندنا وعند قديم الشافعي.

وفي الجديد : يقدّم قول المرتهن مع اليمين ؛ لأنّ اعتراف الراهن يقوّي جانبه ظاهراً (٦).

ولو قال المرتهن في جوابه : فسخنا الرهن الأوّل واستأنفنا بالعشرين ، قدّم قول المرتهن أيضاً ؛ لاعتضاد جانبه بقول صاحبه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : قول الراهن ؛ لأنّ الأصل عدم الفسخ (٧).

وفرّعوا عليه أنّه لو شهد شاهدان أنّه رهن بألف ثمّ رهن بألفين ، لم يحكم بأنّه رهن بألفين. ما لم يصرّح الشهود بأنّ الثاني كان بعد فسخ الأوّل (٨).

__________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٣) في الطبعة الحجريّة و « ج » : « أنّهما ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٥) في الطبعة الحجريّة و « ج » : « وباعه ». وهي غلط.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٧) التهذيب للبغوي ٤ : ٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

(٨) التهذيب للبغوي ٤ : ٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٢٩٩.

١٨٦

الفصل الثاني : في القبض‌

مسألة ١٤٠ : اختلف علماؤنا في القبض هل هو شرط في لزوم الرهن أو لا؟ على قولين :

أحدهما : أنّه شرط وهو أحد قولي الشيخ (١) رحمه‌الله ، وقول المفيد (٢) رحمه‌الله فلو رهن ولم يقبض ، كان الرهن صحيحاً غير لازم ، بل للراهن الامتناع عن الإقباض ، والتصرّف فيه بالبيع وغيره ؛ لعدم لزومه وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في رواية. وفي الثانية : أنّه شرط في المكيل و (٣) الموزون (٤) لقوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (٥) وَصَفَها بكونها مقبوضةً.

ولقول الباقر (٦) عليه‌السلام : « لا رهن إلاّ مقبوضاً » (٧).

ولأنّه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول ، فافتقر إلى القبض كالقرض. ولأنّه

__________________

(١) النهاية : ٤٣١.

(٢) المقنعة : ٦٢٢.

(٣) في « ج » : « أو » بدل « و».

(٤) تحفة الفقهاء ٣ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٣٧ ، الهداية للمرغيناني ٤ : ١٢٦ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٩٧ ، المهذّب للشيرازي ١ : ٣١٢ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧١ ٤٧٢ ، الحاوي الكبير ٦ : ٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٧ ، المغني ٤ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٠.

(٥) البقرة : ٢٨٣.

(٦) في الطبعة الحجريّة و « ج » : « الصادق » بدل « الباقر ». وما أثبتناه هو الموافق لما في المصدر ولما في مختلف الشيعة ٥ : ٤١٨ ، ضمن المسألة ٣٧ ( الفصل الثالث : في الرهن ).

(٧) التهذيب ٧ : ١٧٦ / ٧٧٩.

١٨٧

رهن لم يقبض ، فلا يلزم إقباضه ، كما لو مات الراهن.

والثاني : أنّه ليس بشرط ، بل يلزم الرهن بمجرّد العقد وهو القول الثاني للشيخ (١) رحمه‌الله وقول ابن إدريس (٢) ، وبه قال مالك وأحمد في الرواية الأُخرى (٣) لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٤) ولأنّه عقد يلزم بالقبض فلزم قبله (٥) ، كالبيع.

ولا حجّة في وصف الرهن بالقبض ؛ لأنّ القصد بالآية كمال الإرشاد ، ولهذا أمر تعالى بالكتابة (٦) ، وليس شرطاً مع الأمر ، فكيف يكون الوصف شرطاً مع انتفاء الأمر!؟ على أنّ نفس الرهن ليس شرطاً في الدَّيْن.

والحديث ضعيف السند.

والفرق مع القرض ظاهر ؛ فإنّه مجرّد إرفاقٍ ، بخلاف الرهن ؛ فإنّه لا ينفكّ عن معارضةٍ ما.

مسألة ١٤١ : القبض هنا كالقبض في البيع وغيره ، وهو إمّا التخلية مطلقاً على رأي ، أو النقل والتحويل فيما يُنقل ويُحوّل ، والكيل والوزن فيما يُكال ويوزن ، والتخلية فيما لا يمكن فيه شي‌ء من ذلك.

وقال بعض الشافعيّة : لو جوّزنا التخلية في المنقول في البيع ،

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٢٣ ، المسألة ٥.

(٢) السرائر ٢ : ٤١٧.

(٣) بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤ ، التلقين ٢ : ٤١٦ ، الذخيرة ٨ : ١٠٠ ، المعونة ٢ : ١١٥٣ ، المغني ٤ : ٣٩٩ ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٠ ، الحاوي الكبير ٦ : ٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٠ ، التهذيب للبغوي ٤ : ٦ ، الوسيط ٣ : ٤٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢.

(٤) المائدة : ١.

(٥) في « ج » والطبعة الحجريّة : « فيه » بدل « قبله ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٦) البقرة : ٢٨٢.

١٨٨

لم تكف هنا ؛ لأنّ القبض (١) مستحقّ في البيع ، وهنا بخلافه (٢).

ويشترط في القبض صدوره من جائز التصرّف ، وهو الحُرّ المكلّف الرشيد غير المحجور عليه لسفهٍ أو فلْسٍ. ويعتبر ذلك حال رهنه وإقباضه ؛ لأنّ العقد والتسليم ليس بواجب ، وإنّما هو إلى اختيار الراهن فإذا لم يكن له اختيار صحيح ، لم يصح. ولأنّه نوع تصرّفٍ في المال ، فلا يصحّ من المحجور عليه من غير إذن ، كالبيع.

وتجري النيابة في القبض كما تجري في العقد ، ويقوم قبض الوكيل مقام قبضه في لزوم الرهن وسائر أحكامه.

وهل يجوز أن يستنيب المرتهن الراهنَ في القبض؟ مَنَع منه الشافعي ؛ لأنّ الواحد لا يتولّى طرفي القبض (٣).

وليس جيّداً ، كالجدّ والأب.

وحكم عبده ومدبَّره وأُمّ ولده حكمه ؛ لأنّ يدهم وجهان للشافعي :

أحدهما : الجواز ؛ لانفراده باليد والتصرّف.

وأصحّهما : المنع ، فإنّه عبده القنّ ، وهو متمكّن من الحجر عليه (٤).

مسألة ١٤٢ : لو أودع مالاً عند إنسان أو أعاره منه أو كان مستاماً أو كان

__________________

(١) في « ج » والطبعة الحجريّة : « الرهن » بدل « القبض » وذلك لا معنى له ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) الوسيط ٣ : ٤٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٨.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ١٠ ، الوسيط ٣ : ٤٨٦ ، الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٧.

(٤) الوجيز ١ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٧.

١٨٩

وكيلاً ثمّ رهنه منه ، فإن لم نشترط القبض ، فلا بحث ، ويلزم الرهن بمجرّد العقد. وإن شرطناه ، فالأقرب : أنّه يلزم الرهن بمجرّد العقد أيضاً ؛ لأنّه‌ مقبوض للمرتهن ، فيندرج تحت الآية (١) ، وبه قال أحمد ؛ فإنّ اليد ثابتة والقبض حاصل ، وإنّما تغيّر الحكم لا غير ، ويمكن تغيّر الحكم مع استدامة القبض ؛ كما لو طُولب بالوديعة فجحدها ، تغيّر الحكم ، وصارت مضمونة (٢) عليه من غير أمرٍ زائد. ولو عاد الجاحد فأقرّ بها وقال لصاحبها : خُذْ وديعتك ، فقال : دَعْها عندك وديعةً كما كانت ولا ضمان عليك فيها ، لتغيَّر الحكم من غير حدوث أمرٍ زائد (٣).

وقال الشافعي : لا يصير رهناً حتى تمضي مدّة يتأتّى قبضه فيها ، فإن كان منقولاً ، فبمضيّ مدّة يمكن نقله فيها. وإن كان مكيلاً ، فبمضيّ مدّة يمكن كيله فيها. وإن كان غير منقول ، فبمضيّ مدّة التخلية. وإن كان غائباً عن المرتهن ، لم يصر مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله ثمّ تمضي مدّة يمكن قبضه فيها ؛ لأنّ العقد يفتقر إلى القبض ، والقبض إنّما يحصل بفعله أو إمكانه (٤).

واعلم أنّ الشافعي قال في الجديد : لا بُدّ من إذنٍ جديد في القبض (٥).

ولو وهبه منه ، فظاهر قوله أنّه يحصل القبض من غير إذنٍ جديد.

ولأصحابه طرق ثلاثة.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) في « ج » والطبعة الحجريّة : « وصار مضموناً ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) المغني ٤ : ٤٠٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٦ ٤٢٧.

(٤) المغني ٤ : ٤٠٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٦ ٤٢٧.

(٥) الوسيط ٣ : ٤٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٨.

١٩٠

أظهرها : أنّ فيه قولين :

أحدهما : أنّه لا حاجة في واحد من العقدين إلى الإذن في القبض ، بل إنشاؤهما مع الذي في يده المال يتضمّن الإذن في القبض.

وأصحّهما عندهم : أنّه لا بُدّ منه ؛ لأنّ اليد الثابتة كانت من غير جهة الرهن ، ولم يجر تعرّض للقبض بحكم الرهن.

والثاني : تقرير القولين.

والفرق : أنّ الهبة عقد تمليك ، ومقصوده الانتفاع ، والانتفاع لا يتمّ إلاّ بالقبض ، والرهن توثيق ، وأنّه حاصل دون القبض ، ولهذا لو شرط في الرهن كونه في يد ثالثٍ ، جاز. ولو شرط مثله في الهبة ، فسد ، وكانت الهبة ممّن المال في يده رضا بالقبض.

والثالث : القطع باعتبار الإذن الجديد فيهما ، فيتناول قوله في الهبة ، وسواء شرط إذن جديد في القبض أو لم يشترط ، فلا يلزم العقد ما لم يمض زمان [ يتأتّى ] (١) فيه صورة القبض ، لكن إذا شرط الإذن ، فهذا الزمان معتبر من وقت الإذن ، فإن لم يشترط ، فهو معتبر من وقت العقد.

وله قولٌ آخَر : لا حاجة إلى مضيّ هذا الزمان ، ويلزم العقد بنفسه.

والأقوى عندهم : الأوّل ؛ لأنّا نجعل دوام اليد كابتداء القبض ، فلا أقلّ من زمان يتصوّر فيه ابتداء القبض. ولو كان غائباً ، اعتبر زمان يمكن المصير فيه إليه ونقله.

وهل يشترط مع ذلك نفس المصير إليه ومشاهدته؟ له وجهان :

أحدهما : نعم ، ليتيقّن حصوله ويثق به.

__________________

(١) ما بين المعقوفين من المصدر.

١٩١

وأصحّهما عندهم : لا ، ويكتفى بأنّ الأصل بقاؤه.

واختلفوا في محل القولين ، منهم مَنْ جَعَله احتياطاً. ومنهم مَنْ حمله‌ على ما إذا كان المرهون ممّا يتردّد في بقائه في يده بأن كان حيواناً غير مأمون الآفات ، أمّا إذا تيقّنه ، فلا حاجة إليه.

وعلى اشتراط الحضور والمشاهدة فهل يشترط النقل؟ وجهان :

أحدهما : نعم ؛ لأنّ قبض المنقول به يحصل.

والثاني : لا يشترط ؛ لأنّ النقل إنّما يعتبر ليخرج من يد المالك ، وهو خارج هنا.

وإذا شرط الحضور أو النقل معه ، فهل يجوز أن يوكّل؟ فيه وجهان :

أصحّهما عندهم : الجواز ، كما في ابتداء القبض.

والمنع ؛ لأنّ ابتداء القبض وهو النقل وُجد من المودع ، فليصدر تتمّته منه (١).

ولو ذهب إلى موضع المرهون فوجده قد خرج من يده ، فإن أذن له في القبض بعد العقد ، فله أخذه حيث وجده. وإن لم يأذن ، لم يأخذه حتى يقبضه الراهن ، سواء شرطنا الإذن الجديد أو لم نشرطه.

ولو رهن الأب مال الطفل من نفسه أو ماله من الطفل ، ففي اشتراط مضيّ زمان يمكن فيه القبض وجهان ، فإن شرطناه فهو ، كما لو رهن الوديعة من المودع ، فيعود الاختلاف المذكور ، وقصد الأب قبضاً وإقباضاً (٢) نازل منزلة الإذن الجديد.

أمّا لو باع المالك الوديعةَ ، أو العاريّةَ ممّن في يده ، فهل يعتبر زمان

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٣ ٤٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٨ ٣٠٩.

(٢) في الطبعة الحجريّة و « ج » : « وافياً » بدل « وإقباضاً ». والصحيح ما أثبتناه.

١٩٢

إمكان القبض لجواز التصرّف وانتقال الضمان؟ الأقرب عندنا : المنع وهو‌ أحد وجهي الشافعي (١) لأنّه مقبوض حقيقةً ، ولأنّ البيع يفيد الملك ، ولا معنى مع اجتماع الملك واليد لاعتبار شي‌ء آخَر.

والثاني : نعم (٢).

وهل يحتاج إلى الإذن في القبض؟ إن كان الثمن حالاّ ولم يوفّه ، لم يحصل القبض ، إلاّ إذا أذن البائع فيه. فإن وفّاه أو كان مؤجَّلاً؟ قال بعضهم : إنّه كالرهن (٣).

والمشهور : أنّه لا يحتاج إليه (٤).

والفرق : أنّ البيع يوجب القبض ، فدوام اليد يقع عن القبض المستحقّ ، ولا استحقاق في الرهن.

مسألة ١٤٣ : لو رهن المالك ماله المغصوب في يد الغاصب ، صحّ الرهن؟

وعلى قولنا بعدم اشتراط القبض يصير رهناً بمجرّد العقد.

وعلى القول باشتراطه لا بُدّ من مضيّ زمانٍ يمكن فيه تجديد القبض مع إذنٍ في القبض كما تقدّم جديدٍ ، وهو أحد قولي الشافعي (٥).

والثاني : القطع في الغصب بافتقاره إلى إذنٍ جديد ؛ لأنّ يده غير صادرة عن إذن المالك أصلاً (٦).

إذا عرفت هذا ، فإذا رهن الغصب أو المستعار المشروط فيه الضمان‌ أو المستام أو المبيع فاسداً ، صحّ الرهن إجماعاً.

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩ ٣١٠.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩ ٣١٠.

١٩٣

وهل يزول الضمان بالرهن؟ قال الشيخ (١) : لا يزول ، ويثبت فيه حكم الرهن ، والحكم الذي كان ثابتاً فيه يبقى (٢) بحاله وبه قال الشافعي ومالك وأبو ثور (٣) لقوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (٤).

ولأنّ الدوام أقوى من الابتداء ، ودوام الرهن لا يمنع ابتداء الضمان ، فإنّ المرتهن إذا تعدّى في المرهون ، يصير ضامناً ، ويبقى الرهن بحاله ، فلأن لا يرفع ابتداء الرهن دوام الضمان كان أولى. ولأنّه لا تنافي بين الرهن وثبوت الضمان ، كما لو تعدّى في الرهن ، فإنّه يصير مضموناً ضمانَ الغصب ، وهو رهن كما كان ، فكذلك ابتداؤه ؛ لأنّه أحد حالتي الرهن.

وقال أبو حنيفة وأحمد : يزول الضمان وهو منقول عن مالك أيضاً لأنّه مأذون له في إمساكه رهناً (٥) ، لم يتجدّد منه فيه عدوان ، فلم يضمنه ، كما لو قبضه منه ثمّ أقبضه إيّاه أو أبرأه من ضمانه (٦).

ومنعوا عدم التنافي ؛ فإنّ يد الغاصب عادية يجب عليه إزالتها ، ويد‌ المرتهن محقّة جَعَلها الشرع له ، ويد المرتهن أمانة ، ويدلُّ الغاصب

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٢٨ ، المسألة ١٧.

(٢) في « ج » والطبعة الحجريّة : « فيبقى ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٣٩ ، التهذيب للبغوي ٤ : ٢٠ ، الوسيط ٣ : ٤٨٨ ، الوجيز ١ : ١٦٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٠٩ ٣١٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٣ ، الذخيرة ٨ : ١١٤ ، المغني ٤ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٧ ، وحكاه عنهم أيضاً الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٢٢٨ ، المسألة ١٧.

(٤) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٩٦ / ٣٥٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٦٦ / ١٢٦٦ ، مسند أحمد ٥ : ٦٣٨ / ١٩٦٢٠.

(٥) في « ج » والطبعة الحجريّة : « وهنا » بدل « رهناً ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) المغني ٤ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٢٧ ٤٢٨ ، الحاوي الكبير ٦ : ٤٠ ، التهذيب للبغوي ٤ : ٢٠ ، الوسيط ٣ : ٤٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٥ ، الذخيرة ٨ : ١١٤.

١٩٤

والمستام (١) ونحوهما (٢) يد ضامنة ، وهُما متنافيان.

ولأنّ السبب المقتضى للضمان زال ، فزال الضمان لزواله ، كما لو ردّه إلى مالكه ، وذلك لأنّ سببَ الضمان الغصبُ أو العاريةُ ونحوهما ، وهذا لم يبق غاصباً ولا مستاماً (٣) ، ولا يبقى الحكم مع زوال سببه وحدوث سبب يخالفه حكمه ، وأمّا إذا تعدّى في الرهن ، فإنّه يضمن ؛ لعدوانه ، لا لكونه غاصباً ولا مستاماً (٤) ، وهنا قد زال سبب الضمان ولم يحدث ما يوجبه ، فلم يثبت (٥).

ويُمنع استلزام إذن الإمساك رهناً لعدم الضمان ، فإنّ المرتهن إذا تعدّى والمودع وغيرهما من الأُمناء مأذون لهم في الإمساك مع ثبوت الضمان.

والفرق بين إقباضه بعد استعارته واستمرار القبض ظاهر ؛ فإنّ اليد في الأوّل قد زالت حقيقةً ، فلا موجب للضمان ، وغاية ثبوت الضمان الدفع إلى المالك وقد حصل ، فلا يثبت الضمان بعد الغاية له ، والإبراء بمنزلته ؛ لأنّه إسقاط ، فلا ثبوت للساقط بعده ؛ لانتفاء سببٍ جديد.

سلّمنا أنّ الغصب قد زال لكن نمنع زوال الضمان ، ولا نسلّم زوال المقتضى للضمان ؛ فإنّ اليد باقية ، والاستصحاب يقتضي استمرار الضمان.

إذا عرفت هذا ، فلو أراد المرتهن البراءة عن الضمان ، فليردّه إلى‌ الراهن ثمّ له الاسترداد بحكم الرهن.

__________________

(١) في المصدر : « والمستعير » بدل « والمستام ».

(٢) في « ج » والطبعة الحجريّة : « ونحوها ». والصحيح ما أثبتناه كما في المصدر.

(٣) في المصدر : « مستعيراً » بدل « مستاماً ».

(٤) في المصدر : « مستعيراً » بدل « مستاماً ».

(٥) المغني ٤ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٨.

١٩٥

ولو امتنع الراهن من قبضه ومن الإبراء من ضمانه ، قال بعض الشافعيّة : له أن يجبره عليه (١).

وليس بجيّد ؛ إذ لا يجب على صاحب الحقّ ترك حقّه ، وقد ثبت للراهن ضمانٌ على المرتهن ، فكيف يجب عليه إسقاطه عنه!؟.

ولو أودع الغاصبَ المالَ المغصوب ، فالأقوى هنا سقوط الضمان وهو أصحّ وجهي الشافعيّة (٢) لأنّ مقصودَ الإيداع الاستئمانُ ، والضمان والأمانة لا يجتمعان ، ولهذا لو تعدّى المودع في الوديعة ، ارتفعت الوديعة ، بخلاف الرهن ؛ لأنّ الغرض منه التوثيق ، إلاّ أنّ الأمانة من مقتضاه ، وهو مع الضمان قد يجتمعان.

والثاني : أنّه لا يبرأ ، كما في الرهن (٣).

ولو آجر العينَ المغصوبة ، فالأولى أنّ الإجارة لا تفيد البراءة ؛ لأنّه ليس الغرض منها الائتمان ، بخلاف الوديعة.

وللشافعيّة وجهان (٤).

ولو وكّله في بيع العبد المغصوب أو إعتاقه ، فالأقرب : بقاء الضمان ؛ لأنّه أولى من الإجارة به ، لأنّ في الإجارة تسليطاً على القبض والإمساك ، بخلاف التوكيل.

وللشافعيّة وجهان (٥).

وفي معنى الإجارة والتوكيل ما إذا قارضه على المال المغصوب ، أو

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٣) الحاوي الكبير ٦ : ٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٤) الحاوي الكبير ٦ : ٤٢ ، الوسيط ٣ : ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

(٥) الوسيط ٣ : ٤٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١٠.

١٩٦

كانت جارية فتزوّجها منه.

ولو صرّح المالك بإبراء الغاصب عن ضمان الغصب والمال باقٍ في يده ، احتُمل عدم البراءة ؛ لأنّ الغصب سبب وجود القيمة عند التلف ، والإبراء لم يصادف حقّا ثابتاً وإن صادف سببه ، وهذا يؤكّد ما تقدّم من انتفاء البراءة مع عقود الأمانات ؛ لأنّها أدون من التصريح بالإبراء ، فإذا لم تحصل البراءة به ، فتلك العقود أولى.

ويُحتمل قويّاً فيما عدا الغصب من المستام والمبيع فاسداً أو العارية المضمونة عدم الضمان ؛ لأنّها أخفّ من ضمان الغصب ، لاستناد اليد فيها إلى رضا المالك.

مسألة ١٤٤ : استدامة القبض ليست شرطاً في لزوم الرهن وصحّته ، عند علمائنا أجمع.

أمّا على قول مَنْ لا يشترط القبض في الابتداء : فظاهر ؛ لأنّه إذا لم يكن شرطاً في الابتداء فأولى أن لا يكون في الاستدامة ، لأنّ كلّ شرطٍ يُعتبر في الاستدامة يُعتبر في الابتداء ، وقد يُعتبر في الابتداء ما لا يُعتبر في الاستدامة.

وأمّا على قول مَنْ جعل القبض شرطاً في الابتداء : فإنّه لا يجعله شرطاً في الاستدامة.

أمّا العامّة فالقائل منهم بعدم اشتراط القبض فظاهر عندهم أيضاً.

وأمّا مَنْ قال : إنّه شرط ، فقد اختلفوا.

فقال الشافعي : إنّه ليس شرطاً ؛ لأنّه عقد يُعتبر القبض في ابتدائه ، فلا تُشترط استدامته ، كالهبة (١).

__________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٢٢ ، المغني ٤ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢١ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤.

١٩٧

وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : استدامة القبض شرط ؛ لقوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١).

ولأنّها إحدى حالتي الرهن ، فكان القبض فيها شرطاً ، كالابتداء (٢).

ولا دليل في الآية على ما تقدّم. والأصل ممنوع ، مع أنّ النصّ على خلافه ، قال عليه‌السلام : « الرهن محلوب ومركوب » (٣) وليس ذلك للمرتهن إجماعاً ، فبقي أن يكون للراهن ، وهو يدلّ على عدم اشتراط استدامة القبض.

مسألة ١٤٥ : لو تصرّف الراهن في الرهن قبل الإقباض بهبة أو بيع أو عتق أو جعله صداقاً أو رهنة ثانياً أو جعله مالَ إجارة ، فعلى ما قلناه من لزوم الرهن بمجرّد العقد تكون التصرّفات موقوفةً على إجارة المرتهن ، فإن أجازها ، صحّت ، وبطلت وثيقته إلاّ في الرهن على إشكال سبق. وإن فسخها المرتهن ، بطلت.

وعلى القول بالاشتراط يكون ذلك رجوعاً عن الرهن ، فبطل الرهن ؛ لأنّه أخرجه عن إمكان استيفاء الدَّيْن عن ثمنه أو فعل ما يدلّ على قصد‌ ذلك ، وسواء أقبض البيع والهبة والرهن الثاني ، أو لم يقبضه.

وكتابه العبد ووطؤ الجارية مع الإحبال كالبيع.

أمّا الوطؤ من غير إحبال أو التزويج فليس رجوعاً ؛ إذ لا تعلّق له بمورد الرهن ، فإنّ رهن المزوّجة ابتداءً جائز ، وبه قال الشافعي (١).

وأمّا الإجازة فإن قلنا : إنّ رهن المكري وبيعه جائز ، فهي كالتزويج ،

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) المغني ٤ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢٠ ٤٢١ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٢ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٧٤.

(٣) المستدرك للحاكم ٢ ك‍ ٥٨ ، سنن البيهقي ٦ : ٣٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

١٩٨

وإلاّ فهي رجوع.

وقال بعضهم : إنّها ليست برجوع بحال (١).

وأمّا لو دبّر العبد المرهون ، فيحتمل أن يقال : إنّه رجوع ؛ للتنافي بين مقصود التدبير ومقصود الرهن ، وإشعاره بالرجوع.

مسألة ١٤٦ : لو مات المرتهن قبل القبض ، لم يبطل الرهن ، وهو ظاهر عند مَنْ لم يعتبر القبض.

وأمّا من اعتبره فقد اختلفوا.

فقال بعضهم ببطلانه ؛ لأنّه عقد جائز ، والعقود الجائزة ترتفع بموت المتعاقدين ، كالوكالة ، وهو أحد قولي (٢) الشافعي.

وفي الآخَر : لا يبطل الرهن ، ويقوم وارثه مقامه في القبض وهو أصحّ قولَي (٣) الشافعي لأنّ مصيره إلى اللزوم ، فلا يتأثّر بموته ، كالبيع في زمن الخيار ، والدَّيْن باقٍ كما كان ، وإنّما انتقل الاستحقاق فيه إلى الورثة ، وهُمْ محتاجون إلى الوثيقة حاجة مورّثهم ، وبه قال أحمد ؛ ولأنّ المرتهن لو مات كان الدَّيْن باقياً على تأجيله ، فكان الرهن بحاله (٤).

ولو مات الراهن قبل الإقباض ، لم يبطل الرهن عند مَنْ لم يشترط القبض.

وأمّا من اشترطه فقد اختلفوا ، فللشافعي قولان :

أحدهما (٥) : أنّه يبطل ؛ لأنّه من العقود الجائزة ، كما تقدّم (٦).

__________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

(٢) في « ث » الطبعة الحجريّة : « أقوال » بدل « قولي ».

(٣) في « ث » الطبعة الحجريّة : « أقوال » بدل « قولي ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٥ ، المغني ٤ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤١٩.

(٥) في النسخ الخطية والحجرية : « فللشافعي أقوال أحدها ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٦) راجع ص ١٨٧ ، المسالة ١٤٠.

١٩٩

والثاني : أنّه لا يبطل بموت المرتهن ، ويبطل بموت الراهن.

ولأصحابه طُرق :

أحدها : أنّ في موتهما قولين نقلاً وتخريجاً :

أحدهما : أنّه يبطل بموت كلّ واحد منهما ؛ لأنّه عقد جائز ، والعقود الجائزة ترتفع بموت المتعاقدين.

وثانيهما : لا يبطل ؛ لأنّ مصيره إلى اللزوم.

والثاني تقرير القولين ، وفرّقوا بأنّ المرهون بعد موت الراهن ملك الورثة ومتعلّق حقّ الغرماء إن كان له غريمٌ آخَر ، وفي استيفاء الرهن (١) إضرار بهم ، وفي صورة موت المرتهن يبقى الدَّيْن كما كان ، وإنّما ينقل الاستحقاق فيه إلى الورثة ، وهُم يحتاجون إلى الوثيقة مورّثهم.

والثالث : القطع بعدم البطلان ، سواي مات الراهن أو المرتهن.

وإذا أثبتنا الرهن ، قام ورثة الراهن مقامه في الإقباض ، وورثة المرتهن مقامه في القبض (٢).

ثمّ اختلف أصحابه في موضع القولين.

فقال بعضهم : موضعهما رهن التبرّع ، فأمّا الرهن المشروط في البيع فإنّه لا يبطل بالموت قطعاً ؛ لتأكّده بالشرط ، واقترانه بالبيع اللازم ، فلا يبعد أن يكتسب منه صفة اللزوم.

وقال بعضهم : بل القولان جاريان في النوعين (٣).

__________________

(١) في النسخ الطبعة الحجريّة : « الراهن » بدل « الرهن ». والصحيح ما أثبتناه كما في « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) المهذّب للشيرازي ١ : ٣١٤ ، حلية العلماء ٤ : ٤١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١١.

٢٠٠