مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

الدينا والآخرة ، وقد أخذ العهد المؤكّد منهم على ذلك.

والمراد من تحريم المحرّمات ، التخلية عن الرذائل مطلقا ، كما أنّ المراد من الطهارة ، الأعمّ من الظاهريّة والمعنويّة ، وبها تتحقّق التحلية ، والمراد من الولاية المفروضة على العباد ، الطريق الصحيح الواقعي الذي يوصل سالكه إلى الحقيقة ويبعّده عن السبل الفاسدة ، ولم يتمكن أحد من بيانه إلّا من كان مرتبطا بالوحي ارتباطا كاملا ، وينحصر ذلك في نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ خلفائه المعصومين عليهم‌السلام ، لما أودع عندهم من معالم الدين وأسرار الشرع المبين ، ولذلك كان أخذ الولاية لعلي عليه‌السلام فرضا عقليّا لبقاء الدين وعلّة مبقية له ، ولا ينافيه الامتنان كما تقدّم مكرّرا. وقريب من هذه الرواية غيرها.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في تفسير الآية المباركة قال : «لما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الميثاق عليهم بالولاية ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، نقضوا ميثاقه».

أقول : المراد من الميثاق العهد المؤكّد ، ونقضوا ذلك كما نقض غيرهم من الأمم السالفة التي أغواهم الشيطان ، فحلّت بهم البلايا والمحن.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ، يعني : «أهل مكّة من قبل أن يفتحها ، فكفّ أيديهم بالصلح يوم الحديبية».

أقول : الرواية من باب التطبيق وذكر بعض المصاديق.

وفي الدلائل للبيهقي بإسناده عن جابر بن عبد الله : «انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل منزلا فتفرّق الناس في العضاة يستظلّون تحتها ، فعلق صلى‌الله‌عليه‌وآله سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسلّه ثمّ أقبل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : من يمنعك مني؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله. قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثا : من يمنعك مني؟ والنبيّ يقول : الله ، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي ، وهو جالس إلى جنبه».

٨١

أقول : قريب من هذه الرواية ما أخرجه الحاكم وصحّحه ، والرواية كما قبلها من باب التطبيق. والعضاة الشجر الكبير الذي له شوك ، وشام الأعرابي السيف ، أي : أغمده وخبّأه ، والرواية تبيّن أثر الحقيقة ، وأنّ الحقّ لا تحجبه السواتر مهما كانت ، وأنّ الأعرابي تأثّر بالحقّ وجذبته الحقيقة.

وعن علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) يعني : «نقض عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، وقساوة القلب المستلزم للمعاصي المختلفة كثيرة ، منها تحريف الكلم عن مواضعه ، وهو من الآثار الوضعيّة لنقض الميثاق.

والمراد من التحريف ، تغيير أحكام الله تعالى عن واقعها المعلوم وتبديلها ، بما يوجب النفع الدنيويّ المزعوم.

وفي تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ، قال : «من نحّى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن موضعه ، والدليل على أنّ الكلمة أمير المؤمنين ، قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يعني الإمامة».

أقول : الرواية من باب التطبيق أيضا ، والكلمة هي الشيء الثابت التي لها امتيازها الخاصّ ، ولذلك فسّرت بالإمامة في الرواية. وعن ابن عباس تفسير الكلمة بحدود الله تعالى ، وهو من باب التطبيق كما هو واضح.

وفي الدّر المنثور للسيوطي عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ، قال : «نسوا الكتاب».

أقول : وفي بعض الروايات : «نسوا الولاية» ، ولا فرق بينهما ، لأنّ أحدهما يستلزم الآخر ثبوتا.

وعن علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ، قال : منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

٨٢

أقول : المراد من النسخ التخصيص ، فإنّ قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، عامّ وقوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) ، خاصّ ، وكذا الجمع بينه وبين قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وإطلاق النسخ على التخصيص شائع عند المفسّرين.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) ، قال : «قال علي عليه‌السلام : إنّ عيسى بن مريم عبد مخلوق ، فجعلوه ربّا ، (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)».

أقول : نسيان عهد الله تعالى ضياعه ، وعدم المبالاة بتكاليفه ، كما أنّ عهوده تعالى ، لطائفه التي لا تقبل الأعمال إلّا بها.

ثمّ إنّه ورد في تفسير قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، روايات دالّة على أنّه تعالى أغرى بعضهم بعضا بالخصومات والجدال في الدين واتباع الأهواء المختلفة ، وكلّ ذلك باختيارهم ، ولذلك أنّهم تأثّروا بالبعد عن الحقّ وإخفاء الحقيقة والتيه في الظلمات الماديّة ، كما نشاهد في عالمنا المعاصر.

بحث عرفاني :

معيّة الله تعالى مع العباد ، معيّة علم وقدرة ، أي : يسمع كلامهم ويرى أعمالهم ويعلم ضمائرهم ، فيجازي العباد حسب علمه جلّ شأنه ، سواء كان في عالم الشهادة أم في عالم الآخرة.

وأما المؤمنون الكمّل من عباده ، فلهم مزيّة على تلك المعيّة ، وهي المظهريّة لأسمائه وصفاته جلّت عظمته ، حسب تقرّبهم إلى ساحته عزوجل ، كما في كثير من الروايات ، منها روايات النوافل ، فإنّ المؤمن الواقعيّ مظهر من مظاهر أسمائه أو صفاته تعالى ، لأنّ به ظهرت الصفات السامية والكمالات الخلقيّة والمكارم النبيلة الرفيعة ، وقد اجتمع فيه جوانب متعدّدة ومظاهر متنوّعة ـ سواء كانت لنفسه أو

٨٣

لغيره ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بهم ترزقون ، وبهم تمطرون ، وبهم يدفع الله البلاء» ، فهو الجامع لاسمي الصفات ونبل الكمالات ، وهذا ممّا لا شكّ فيه ، كما دلّت عليه البراهين العقليّة والنقليّة.

ولكن هذه المناقب أو المنازل بل الرتب السامية ، لم تكن وليدة الطينة والطبيعة فقط ، بل لا بدّ لها من أسباب وشرائط تؤهّل العبد لنيل تلك المقامات والوصول إلى تلك المنازل والقمم ، وهي كما قال جلّ شأنه في كتابه الكريم : (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، وإنّما قدّم الصلاة على غيرها ، لأهمّيّتها ، وأنّ صلاة العارفين لا يوازيها شيء ـ وهي ليست كصلاة الغافلين ـ فإنّها الصلاة الدائمة بين الخالق والعبد ، وأنّها الرابطة القويّة بين الباري جلّ شأنه والمؤمن ، وبها تكشف الظلم ، وتزول الأستار ، وترفع الحجب.

وهي لا تختصّ بطائفة دون اخرى ، فتعمّ الطبقات كلّها ، ولها درجات حسب معرفة العبد وإيمانه ، لأنّها المعراج إلى الحقّ ، فيستمر العروج ويدوم إلى أن تظهر الحقيقة في نشآتها ، ويتجلّى الحقّ كما تجلّى يوم الميثاق.

ولها مراتب حسب أهلية العبد وانقطاعه إلى الله تعالى وبعده عن المادة والماديات ، وتقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ السير إلى الكمال والترقي بالمنازل والرقي إلى المقام ، لها مراتب وحظوظ وأنواع ، ولكلّ منها أسباب وشرائط ، والصلاة جامعة لها.

ولعلّ تركّبها من الطهور والركوع والسجود ـ كما ورد في بعض الروايات ـ إيماء إلى ذلك ، فبالطهارة ترتفع الخاصيّة التي توجب الحجاب عن مشاهدة الحقّ ، لأنّ بها تزال الأدناس الظاهريّة والمعنويّة ، كما بالقيام نحوه تعالى تزال الصفات الماديّة المتعلّقة بالنفس ، كالشهوات بأنواعها.

وبالركوع تزال الأنانيّة والتكبّر ، وبه تسير النفس من أوّل خطوة إلى أرقاها ، فيخضع لله عزوجل ولمن تجلّى فيه أسمائه وصفاته جلّت عظمته.

٨٤

وبالسجود تزال الأطماع البشريّة الكائنة في النفس والمرغّبة إلى الأهوية النفسانيّة ، وبه ترغم أنوف الشياطين وتبعّدهم ، كما بالتشهد ترتفع العلاقة المتعلّقة بما سواه تعالى ، فإذا تخلّص العبد من سبل الشيطان ورقى إلى تلك الدرجات مناجيا به جلّت عظمته وشاهدا له ـ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ـ حصلت المعيّة مع المظهريّة ، وبانت القاعدة المشهورة لدى العرفاء الشامخين : «قرّة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود».

وأما إيتاء الزكاة ، فإنّه إيثار لوجهه عزوجل ، لجلب رضاه والتقرّب لساحته ببذل ما تعلّق به النفس ، ولرفع حاجة المؤمن حتّى يسود العدل الاجتماعيّ الواقعي بين الأفراد.

مع أنّ كلّ ذلك لا بدّ وأن يكون مستندا إلى العقيدة الخالصة المتعلّقة بالمبدأ جلّ شأنه ، وذلك لا يتحقّق إلّا بالإيمان بالرسل كلّهم وجميعهم ، فمثل هذه العقيدة لها الدخل الكبير في إتيان العمل منزّها عن الشوائب والرذائل ، فإنّ الإيمان الصحيح الجامع للشرائط والمانع عن الأغيار والنقائص ، لا يكون إلّا كما قال تعالى : (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) ، والإيمان برسله تعالى يستلزم نصرتهم وتقويتهم بتطبيق شرائعهم وسنّتهم ، حتّى تصفو النفس وتليق بالصلة مع الله الواحد الأحد ، فحينئذ يقترض الله قرضا حسنا منه ، لأنّه تعالى شهد بعبوديّة مخلوقه ، وأنّ المولى الرءوف الرحيم لا يأنف أن يقترض من عبده ، بعد ما تخلّى بتكفير سيئاته ، وتحلّى بالمكارم في عالم الشهادة وفي عالم الآخرة ، بالدخول في الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار بالارتواء منها ، وهي نهر المعرفة ، ونهر الوصال ، ونهر الإشراق ، أو نهر التحلّي ، ونهر التقرّب ، ونهر الأنوار وغيرها ، كما سيأتي المراد منها ومن الجنّات.

وأما من زال عن تلك الدرجات وكفر بالرسل ولم يؤمن بالله العظيم ، فقد هلك وضلّ وبعد عن الفطرة المستقيمة ، ونقض الميثاق ، ولم ينل تلك الدرجات المعدّة للمؤمن ، وردّ إلى أسفل السافلين ، فصار قلبه قاسيا لم تؤثّر فيه آيات السماء ولا عجائب الأرض ، وإلى ذلك تشير الآية المباركة والله العالم.

٨٥

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

تذكير لأهل الكتاب بالحجّة بعد تقريعهم بنقض الميثاق الذي أخذ منهم على نصرة رسله وتعزيرهم ، والعمل بما أتوه من الكتاب والتشريعات الإلهيّة ، فنسوا حظّا ممّا ذكّروا به ، كما عرفت في الآيات المباركة السابقة.

وفي هذه الآيات الشريفة تذكير لهم بالإيمان برسله والكتاب الذي أنزله عزوجل عليه وتعريفهم بهما ، ويقيم سبحانه وتعالى الحجّة عليهما وينوّه بهما ويعظم شأنهما ، ثمّ يوبّخ النصارى على مقالتهم الباطلة في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلّام ، ويبطلها ببرهان قويم يقتنع به كلّ من ألقى السمع وهو شهيد ، حيث أثبت لنفسه

٨٦

الملكية التامّة على خلقه بما فيهم المسيح عليه‌السلام ، إيجادا وتدبيرا وافناء ، وأطلق السلطة التامّة له عزوجل على جميع مخلوقاته ، فهو يخلق ما يشاء ويفني ما يشاء.

ثمّ يعنّف السياق مع اليهود والنصارى في مقالتهم : نحن أبناء الله تعالى وأحباؤه ، ويردّها ، ويوعدهم على ذنوبهم. وفي ختام الآيات الشريفة يرجع إلى ما ذكره تعالى في صدرها من تذكيرهم برسالة رسوله الكريم ، ويقيم الحجّة عليهم ويفصل الكلام معهم.

وتشترك الآيات السابقة مع اللاحقة في غرض معين ، وهو إثبات الإيمان المطلوب بالبرهان ، وإبطال ما يخالفه.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا).

التفات إلى خطاب الفريقين ـ اليهود والنصارى ـ والكتاب اسم جنس يصدق على الواحد والكثير ، فيشمل كتب اليهود والنصارى.

والتعبير عنهم بهذا العنوان لزيادة التشنيع ، فإنّ أهلية الكتاب تقتضي مراعاته والعمل بما ورد من الأحكام والتوجيهات.

وفي الآية المباركة تعريف للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله وإقامة البيّنة والحجّة على صدقه وحقية الكتاب الذي انزل عليه ، وتذكير لهم بأنّ الرسول الذي أرسله الله تعالى ، شأنه التبليغ وشرح الحقائق الواقعيّة والمعارف الإلهيّة ، وبيان ما أخفوه مع علمهم بأنّه الحقّ الذي يجب الإيمان به.

ونسبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ضمير العظمة ، للتشريف والتنويه بمقامه وعظيم منزلته عنده جلّ شأنه ، وفيه الإشارة إلى وجوب اتباعه ، فإنّه من الله تعالى الذي آمنتم به عزوجل.

٨٧

قوله تعالى : (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ).

إرشاد إلى أهمّ أعمال الرسل والأنبياء ، فإنّهم عليهم‌السلام رسل الله تعالى في بيان الأحكام الإلهيّة والمعارف الربوبيّة ، وإقامة الحجّة والبرهان على ذلك.

والآية الشريفة أصدق شاهد على صدق رسالة الرسول الأمّي ، الذي لم يقرأ كتبهم ، ولكن أخبر بما أوحى الله تعالى إليه ، مع أنّ مثل هذا البيان يتطلّب الإحاطة بجميع كتبهم والعلم بمواضع التحريف والمطالب الحقّة التي وردت فيها ، ولا يحصل ذلك إلّا بوحي إلهيّ ، لدقّة الموضوع وأهميّته ، فكان هذا الإخبار والبيان لشاهد صدق على حقيّة رسالته وما أتى به صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأما إخفاء ما في التوراة والإنجيل ، فقد عرف به اليهود والنصارى ، وهو أعمّ من الحذف والتغيير في كتبهم والتبديل والتأويل الباطل ، كما حكى عزوجل عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم. ومن أهمّ ما أخفوه تلك الآيات التي وردت في كتبهم التي تبشّر برسالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاته والأحكام المقدّسة التي وردت فيها ، كما أشار إليه عزوجل في القرآن الكريم ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] ، وقال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) [سورة الفتح ، الآية : ٢٩] ، وقال تعالى : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٦].

وأما إخفاء الأحكام المقدّسة والمعارف الحقّة ، فقد حكي القرآن الكريم الشيء الكثير منه ، مثل تحريم الطيبات ، وإحلال الصيد المحرّم عليهم في يوم السبت ،

٨٨

وحكم الرجل الذي كتموه وكابروا فيه الحقّ كما بيّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي ذكره في قوله تعالى : (لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤١].

قوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

أي : ويعفو عن كثير ممّا كانوا يخفونه من الكتاب. والمراد بالعفو إما الترك ، أي : لم يذكر سبحانه كثيرا ممّا كانوا يخفونه ولم يظهره عزوجل ، فإنّ ذكر البعض يكفي لإتمام الحجّة عليهم ، ويشهد لذلك ما اشتملت عليه كتبهم ، ممّا يتعلّق بالتوحيد والنبوّة والمعاد ما لا يصحّ نسبته إليه تعالى ، كالتجسّم والحلول ، ولا انتسابه إليه جلّ شأنه ، كالكفر وارتكاب الفحشاء والزلّات ، واشتمال كتبهم على بعض العقائد الوثنيّة ، وعدم ذكر المعاد في بعضها ، مع أنّه من دعائم الإيمان والتوحيد في الأديان الإلهيّة.

أو يكون المراد من العفو هو التوبة إذا رجعوا إلى دين الحقّ ، فيكون ترغيبا لهم في الدخول في الإسلام.

واعترض على هذا الوجه بأنّ هذا الكثير كالكثير السابق ، فيتعيّن المعنى الأوّل.

ولكن يمكن المناقشة فيه بأنّ الكثير أمر نسبي ، مع أنّ الظاهر اختلاف اللفظين ، واشتهر أنّ النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة.

وكيف كان ، فالمراد واضح ، وهو إقامة الحجّة على صدق الرسالة وافتضاح أهل الكتاب.

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ).

تعظيم لشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وما انزل عليه ، فإنّ التعبير بالمجيء يدلّ على أنّ الجائي قائم به عزوجل بأي نحو كان من القيام.

والنور : معروف ، وهو الظاهر بنفسه المظهر لغيره ، فإنّه لو لا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات ، وهو على قسمين : نور ظاهريّ جسمانيّ ، ومعنويّ ،

٨٩

والثاني أهمّ من الأوّل ، وهو المراد به في المقام ، فإنّ به تحيى القلوب وتهتدي البصيرة ، وتستضيء به النفس ، ويسير به الإنسان في ظلمات الجهل والمادة ، ويسلك به الصراط المستقيم ، قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [سورة طه ، الآية : ١٢٦].

ويطلق على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في قوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٤٦] ، كما يطلق على القرآن الكريم كما في عدّة آيات ، قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٤] ، وقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [سورة التغابن ، الآية : ٨].

كما اطلق على ما انزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأحكام والإرشادات والتوجيهات ، أي الإسلام ، قال تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٥٧].

ويطلق على الفطرة أيضا ، قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [سورة النور ، الآية : ٤٠].

ويطلق على العقل أيضا ، كما في عدّة من الروايات التي ذكرت في كتاب العقل والجهل.

ويطلق النور على الله تعالى ، كما في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] ، ولكنّ هذا النور الحقيقي لا يعلم أحد كنهه إلّا الله تعالى ، فهو الحياة ، والعلم ، والإرادة وغيرها من صفات ذاته عزوجل ، ومن هذا النور يستضيء سائر الأنوار. وسيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ولأجل اختلاف المصاديق ، اختلف العلماء والمفسّرون في المراد به ، فقيل : إنّه

٩٠

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : إنّه القرآن ، فيكون قوله تعالى : (وَكِتابٌ مُبِينٌ) عطفا تفسيريّا له ، وقيل : إنّه الإسلام ، وقيل : إنّه النعم الثلاث التي خصّ بها العباد : النبوّة ، والعقل ، والكتاب ، بقرينة الآية التالية التي اشتملت على أحكام ثلاثة يرجع كلّ واحد منها إلى نعمة ممّا تقدّم ، فقوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) ، يرجع إلى قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) ، وقوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) ، يرجع إلى قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) ، وقوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، يرجع إلى قوله تعالى : (وَكِتابٌ مُبِينٌ).

والحق : أن يقال : إنّ المراد به جميع ما تقدّم ، أي الرسول ، والعقل ، والقرآن ، والإسلام ، لأنّ المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب الذين أتمّ الله تعالى الحجّة عليهم بتلك الحجج الثلاث ، مع أنّها متلازمة ، فإنّ كلّ واحدة منها تهدي إلى الاخرى وتدعو إليها ، والآثار التي ذكرها عزوجل في الآية التالية تترتّب على كلّ واحدة منها ، فإنّ بها يخرج العباد من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان ، فيكون ذكر الكتاب لبيان أهميّته وعظمته في هداية النفوس وتكميلها.

والمبين : هو الظاهر في نفسه المظهر لما يحتاج إليه الناس ، وهو من أوصاف القرآن الكريم لهدايتهم ، ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٤ ـ ١٧٥].

قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ).

الضمير في (به) يرجع إلى ما تقدّم ولا يضر توحيده على القول بتعدّد ما في الآية السابقة ، لاتّحاد المرجع في الحقيقة والواقع ، فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن يشتركان في الهداية ، وكلّ واحد منهما سبيل ظاهريّ من سبلها ، وقد نسب سبحانه وتعالى

٩١

الهداية إلى القرآن الكريم وإلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في عدّة آيات ، قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة القصص ، الآية : ٥٦] ، وقال تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الشورى ، الآية : ٥٣] ، ولكنّ الجميع يرجع إلى الله تعالى ، فإنّه الهادي حقيقة ، وغيره سبب ظاهريّ لها.

وتقديم المجرور على اسم الجلالة للاهتمام ، كما أنّ إظهار الاسم الجليل ، لكمال الاعتناء بأمر الهداية.

وكيف كان ، فالآية الشريفة تبيّن أهمّ الآثار المترتّبة على هذا النور ، وهي ثلاثة :

الأوّل : أنّه يهدي بسبب رسوله وكتابه من اتّبعهما ويبتغي بذلك رضاه ، باتباع أوامره والانتهاء بنواهيه عزوجل ، فيورده تعالى سبيلا من سبل السلام التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كلّ ما يوجب شقاؤه وما يرد به إلى سوء العذاب ، فيتخلّص ممّا يلزم منه إخلال سعادته في الدنيا والآخرة.

وسبل السلام وإن كانت متعدّدة ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩] ، إلّا أنّها تتّحد في الغرض العظيم المترتّب عليها ، وهو الإيصال إلى كرامته عزوجل ، ولعلّه لأجل ذلك وصف تلك السبل بالصراط المستقيم الذي يوافق الفطرة المستقيمة في قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣].

ومن ذلك يستفاد أنّ الهداية إلى السلام والسعادة ، مشروطة باتباع رضوان الله تعالى ، وهو الإيمان المطلوب ، والإعراض عن كلّ ما يوجب سخطه ، وذلك بالاجتناب عن أنواع الظلم وما يوجب الانخراط في سلك الظالمين ، وقد أكّد عزوجل في عدّة مواضع من القرآن الكريم أنّ لا هداية لمن كان كذلك ، وأنّه محروم

٩٢

عن نيل هذه الموهبة العظيمة والكرامة الإلهيّة ، قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [سورة الجمعة ، الآية : ٥].

ويبيّن ما في هذه الآية الكريمة قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٢] ، حيث ذكر عزوجل أنّ الأمن من العذاب والهداية إلى السعادة ، مشروطان بالإيمان وترك الظلم والاجتناب عن ما يوجب الانخراط في الظالمين.

ثمّ إنّ الرضوان بكسر الراء أو ضمّها لغتان بمعنى واحد ، كما أنّ السبل بضمّ الباء والتسكين كذلك. والأوّل الرضاء الكثير وأعظمه ، فإنّ لرضائه جلّ شأنه مراتب ، وإنّ أعلى مراتبه كانت رضوانا ، بحيث أظهر كلّ واحد من الربّ والعبد الرضا العظيم لا مطلقه ، فإنّ ذلك التراضي لا الرضوان. والثاني الطرق كما تقدّم.

قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ).

هذا هو الأثر الثاني ، وهو الخروج من الظلمات التي هي فنون الكفر والضلال والجهل والعناد إلى نور الإيمان ، ولعلّ ذكره عزوجل الظلمات جمعا والنور مفردا ، إشارة إلى أنّ طريق الباطل متعدّد ، بخلاف طريق الحقّ ، فإنّه واحد وإن كان متعدّدا بحسب الظاهر والمواقف ، وقد أكّد ذلك القرآن الكريم في عدّة مواضع ، قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الانعام ، الآية : ١٥٣].

والتقييد بأنّ الخروج هذا إنّما يكون بإذنه ، لبيان أنّ أمر الهداية والدخول في الإيمان والخروج عن كلّ الظلمات ، لا بدّ وأن تكون بعلمه وتوفيقه ، وأنّه السبب الحقيقيّ فيها ، وأنّ الرسل والأنبياء والكتب الإلهيّة إنّما هي سبل ظاهريّة نازلة من السماء ، لم يكن لها الاستقلال في السببيّة ـ مقابل المبدأ تعالى ـ قال عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٥] ، فلم يقيّد عزوجل في هذه الآية الشريفة الإخراج من الظلمات إلى النور بالإذن ، لاشتمال الأمر الصادر منه تعالى على معناه ، وأنّ موسى عليه‌السلام كان واسطة في

٩٣

التبليغ ، بخلاف قوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١] ، فإنّه تعالى قيّده بالإذن ، ليخرجه عن الاستقلال في السببيّة.

وكيف كان ، فإنّ الهداية من الأمور العظيمة في حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة ، الدنيويّة والاخرويّة ، وتحتاج إلى العلم بجميع خصوصيات المهتدين وما يوجب الهداية وأثرها ، وهذا لا يمكن أن يتحقّق من غير الله تعالى ، فإنّ له السلطة التكوينيّة والتشريعيّة على خلقه ، إلّا إذا أفاض عزوجل شيئا منها على بعض المخلصين من عباده ، فيكون المراد من الإذن في الآية المباركة التوفيق الخاصّ الذي يتوقّف على العلم ، فحينئذ لا فرق بين أن يكون المراد من الإذن هو التوفيق أو العلم ، كما ذكره بعض المفسّرين.

قوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

تقدّم الكلام في الصراط المستقيم في سورة الفاتحة ، وذكرنا أنّه الصراط الموصل إلى دين الحقّ ، لا يضل سالكه ، وهو أقرب إلى الله تعالى ، وهو عين الهداية ، وفيه اجتمعت العلّة الفاعليّة والغائيّة من الإسلام ودين الحقّ المهيمن على الطرق كلّها ، فالهداية إليه هداية عامّة مهيمنة على سائر أفراد الهداية التي تتعلّق بالسبل الجزئية ، وهي التي تتّحد في الهداية إلى الصراط المستقيم ، فهذه الهداية هي الهدف من الهداية إلى السبل الجزئيّة. ولعلّ التنكير في الآية المباركة يرشد إلى ذلك ، أو لتعظيم شأن الصراط المستقيم وتفخيم أمره.

كما أنّ تكرار لفظ الهداية إمّا لأجل حيلولة قوله تعالى : (يُخْرِجُهُمْ) بين الهدايتين ، أو لبيان أنّ الهداية الثانية هي المهيمنة على الاولى ، أو لأجل أنّ الاولى هي الموجبة للهداية الثانية.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

بيان لكفر النصارى ، وما كفروا به خاصّة بعد إقامة الحجّة على أهل الكتاب

٩٤

عامّة ، والقائلون بهذه المقالة هم طائفة خاصّة من النصارى.

وظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّ القائلين بها كانوا يعتقدون العينيّة ، فإنّ القصر فيها للمسند إليه على المسند ، أي : أنّ المعبود منحصر في المسيح لا غير ، وإن أمكن تطبيق الجملة على البنوّة وعلى القول بثالث ثلاثة ، كما حكى عنهم عزوجل في ما تقدّم من الآيات المباركة ، وذكرنا ما يتعلّق بهذه العقيدة في سورة النساء مفصّلا فراجع.

والتأكيد على ذكر النسبة في المسيح لبيان أنّه عليه‌السلام منسوب ومتولّد من امرأة ومحلّ للحوادث ، وكلّ ذلك ينافي القول بألوهيّته كما عرفت.

قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً).

برهان قويم يدلّ على بطلان مقالتهم تلك ، وهو يرجع إلى أمرين أحدهما : إثبات مناقضة قولهم ، والثاني : تثبيت الألوهيّة لنفسه عزوجل ، بإثبات السلطة التامّة له تعالى ، وقدّم الثاني في الذكر بقوله تعالى : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، لأنّه الأصل ، فتكون له السلطنة التامّة على جميع خلقه ، وهم مملوكون له تعالى مسخّرون تحت إرادته وسلطانه ، يحكم فيهم بما يشاء وما يريد ، لا مانع يؤثر عليه عزوجل بأي وجه كان ويقطع تأثير سلطنته عن شيء فيغلبه عليه فيه ، فهو الله تعالى مالك الملك وحده لا شريك له ، ولا مالك غيره يبطل سلطانه أو يحدّ منه ، فإنّ مشيئته لا يردّها شيء.

والجملة في غاية الفصاحة والبلاغة ، حيث نفي الاستطاعة عن دفع الشرّ عن نفسه بنفي ما يمنع عن تأثير إرادته عزوجل وقدرته ، فها هو المسيح بن مريم لما نزل الصلب عليه لم يقدر على دفعه عن نفسه ، فاستغاث بربّه خائفا ، وجلا ، ضارعا ، خاضعا ، ليصرف عنه ذلك الكأس ، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قوله تعالى : (إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

بيان لتهافت أقوالهم في المسيح بن مريم عليه‌السلام وتناقضها ، فإنّ كون المسيح إلها

٩٥

يناقض وصفهم له بأنّه ابن مريم ، فإنّه يدلّ على كونه بشرا تامّا ، وأنّه مربوب له تعالى وواقع تحت سلطانه عزوجل وإرادته جلّ شأنه ، كسائر أفراد البشر ، مضافا إلى كون أمّه أيضا مثله في البشريّة ومسانخة له من دون ريب ، يجري عليها ما يجري على جميع من في الأرض ، فإنّ الحكم في الجميع على حدّ سواء ، وهذا من أعظم الأدلة على برهان الإمكان الذي ينافي الألوهيّة ، التي تتّصف بالوجوب.

وخلاصته : أنّ المسيح مخلوق يماثل سائر أفراد البشر ، يجوز عليه ما يجوز على غيره ، كما أنّه لا يجوز عليه ما لا يجوز عليهم ، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد ، ومنه الألوهيّة ، فإنّها لا تجوز لغيره ، فلا بدّ أن لا تجوز عليه أيضا ، كما أنّ غيره يجوز عليه الهلاك ، فيجوز عليه ذلك ، ولا مانع هناك يمنع منه ، ولو كان هو الله سبحانه وتعالى لما جاز ذلك.

وإنّما ذكر عزوجل أمّ المسيح مع اندراجها في عموم المعطوف ، لزيادة تأكيد عجز المسيح ، وزيادة للتقرير والتبكيت ، وإما لتعميم إرادة الهلاك مع حصول الغرض بقصرها على المسيح عيسى عليه‌السلام ، لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ، ببيان أنّ الكلّ تحت إرادته وقهره تعالى لا يقدر على دفع ما يريده فضلا عمّا يريده غيره.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما).

تعليل للجملة السابقة وتأكيد لما اعترف به النصارى من ثبوت الملكية المطلقة لله تعالى ، فيكون دليلا آخر لإبطال الوهيّة المسيح عيسى بن مريم ، إذ لو كان إلها لكانت له هذه الملكية المطلقة ، وقد أكّد عزوجل هذه الملكية في هذه الآية الشريفة بأمور :

منها : التصريح باسم الجلالة الدالّ على اختصاصها به تعالى ، ونفيها عن ما سواه استقلالا واشتراكا.

ومنها : التنصيص بذكر «وما بينهما» ، على أنّ الكلّ تحت قهره ومملوكيته تعالى ، فيكون الكلام أقرب إلى التصريح وأبعد من الشبهات ، أي : أنّ له وحده

٩٦

ملك جميع الموجودات والتصرّف المطلق فيها ، إيجادا وإعداما وتربيبا ، وليس لأحد سواه ذلك ، ومن كان ذلك فهو حقيق باختصاص الألوهيّة به.

قوله تعالى : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

تعليل للجملة السابقة ، وبيان لبعض أحكام الملك والألوهيّة ، فإنّ الملكية المطلقة تقتضي ثبوت السلطنة التامّة له عزوجل وتعميم قدرته ، فلا يمنع من نفوذ مشيئته مانع ، فهو يخلق ما يشاء من الأشياء.

والآية الشريفة ردّ لمزاعم النصارى من أنّ المسيح قد صدرت منه أعمال غريبة لا تصدر من عامّة البشر ، وأنّ خلقه كان خلاف المتعارف والسنّة العامّة في خلق سائر البشر ، فإنّ كون خلقه كذلك وصدور بعض المعاجز على يديه عليه‌السلام ، لا يدلّان على كونه إلها مالكا لجميع ما في السموات والأرض ، يتصرّف فيه بما يشاء ، بل أنّ ذلك من بعض الفيوضات التي منحها عزوجل له ، إذ لا يخرج بذلك عن كونه مخلوقا كسائر خلقه يتصرّف فيهم عزوجل بما يشاء ، فبالحقيقة لا بدّ أن ينسب إليه عزوجل دون من أجراه الله تعالى على يديه.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

تقرير لمضمون ما سبق وتأكيد له ، وبيان لتعميم قدرته إلى ما هو الأوسع من عالم الوجود وإرشاد إلى برهان قويم ، وهو أنّ الإله لا بدّ أن يتّصف بتمام القدرة وشمولها لجميع الأشياء ، وإلّا فلا يكون إلها ، ولعلّه لأجل ذلك ذكر اسم الجلالة ، لبيان أنّه الإله المستجمع لجميع صفات الكمال التي منها الملكية المطلقة للسماوات والأرضين وما بينهما ، وثبوت القدرة التامّة ، فهو يخلق ما يشاء بما يشاء ، وهو يدلّ على أنّه لا شريك له في الألوهيّة.

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ).

حكاية لبعض ما صدر عن الفريقين من الدعاوي الباطلة بعد ذكر ما صدر من أحدهما في غيره عزوجل. وهذه الحكاية تدلّ على جرأتهم على الله تعالى ،

٩٧

وعدم مبالاتهم بالمواثيق والعهود التي أخذت منهم على العمل بمقتضاها ، فلا تفيد الادعاءات والشعائر في القرب إلى الله تعالى ونيل جزائه العظيم.

والابن : تارة يطلق ويراد منه المعنى الحقيقي ، وهو المراد في الاستعمالات الدائرة عند العرف ، وهو محال على الله تعالى ، لأنّه يستلزم الاختلاط والمجانسة مع مخلوقاته ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وقد نفاه عزوجل عنه في ما سبق من الآيات التي حكي فيها مقالتهم عن بنوّة المسيح وشدّد النكير على قائليها ، وأقام البراهين الكثيرة على إبطالها.

واخرى : يطلق ويراد منه المعنى المجازي ، أي : القرب والرحمة ، حيث إنّ الأولاد مقرّبون من آبائهم وموارد رحمتهم وعنايتهم ، ولعلّ هذا المعنى هو المناسب في المقام ، فيكون قوله تعالى : (وَأَحِبَّاؤُهُ) ، عطفا تفسيريّا له ، ويدلّ على ذلك أنّهم لم يدّعوا البنوّة الحقيقيّة لغير ما ادّعوها فيه كالمسيح ، وعزيز ، فلا اليهود تدّعي تلك حقيقة ولا النصارى ، فكانوا يطلقونها على أنفسهم تشريفا.

والمتتبع في كتبهم المقدّسة يرى أنّ لفظ الابن قد استعمل فيها كثيرا ، فقد اطلق على آدم عليه‌السلام وعلى يعقوب وداود وعلى أقوام ، وعلى المسيح ، ولم يريدوا منه المعنى الحقيقيّ سوى ما اطلق على الأخير فقط ، كما حكي عزوجل عنهم في عدّة آيات ، كما اطلق على الملائكة والمؤمنين الصالحين ، وهذا الاستعمال كثير في العهد الجديد ، فقد روى متى في وعظ المسيح على الجبل : «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون» (متى ـ ٥ : ٩) ، وفي الرسالة الاولى من رسالتي يوحنا : «كل من هو مولود من الله لا يعقل خطيئته لأنّ زرعه يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود من الله بهذا أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس» (يوحنا ـ ٣ الآيتان ٩ و ١٠) ، فيستفاد من ذلك أنّهم أرادوا من إطلاق الابن عليهم لأجل إظهار أنّهم مورد عنايته عزوجل وعطفه ومحبّته ، فلا يجازيهم على أفعالهم ، كما لا يؤاخذ الأب الحنون ولده المسيء ، فهم من الله تعالى بمنزلة الأبناء من الأب ، فلهم أحكام

٩٨

خاصّة تختلف عن سائر الخلق ، فيكون الغرض من هذا الاختصاص هو معافاتهم عن العذاب والعقوبة ، وأنّهم مهما عملوا من القبائح لا سبيل إلى تعذيبهم ، لأنّه يناقض ما خصّهم به من المزيّة والفضل وما حباهم من الكرامة ، فلا محالة مصيرهم إلى النعمة الدائمة والكرامة الأبديّة ، ولأجل ذلك كان الردّ عليهم حاسما وواضحا من دون تأويل وشبهة.

والآية الشريفة ترشد الناس إلى أمر عظيم ، وهو ترك التقوّل على الله تعالى والتزام الأدب معه عزوجل ، فإنّه لا يجوز نسبة صفة أو قول إليه تعالى إلّا إذا وردت الرخصة فيه ، ومن هنا كانت أسماء الله تعالى توقيفيّة ، لا بدّ من ورود الإذن في إطلاق اسم عليه جلّ شأنه.

قوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ).

احتجاج عليهم إلزاما وتبكيتا. والخطاب لنبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه واسطة الفيض ، وتتضمّن هذه الحجّة أمورا أحدها النقض عليهم ، والثاني الردّ عليهم بما هم معترفون به ، والثالث البرهان على بطلان دعواهم بالمرّة ، تأكيدا وإرشادا لهم بالابتعاد عن تلك المقالة وما يماثلها في الفساد.

أما الأمر الأوّل ، فإنّ مقالتهم تلك تقتضي عدم تعذيبهم بذنوبهم وأمنهم من كلّ عذاب دنيويّ أو اخرويّ ، مع أنّه عزوجل يجازيهم على أعمالهم ويعذّبهم بذنوبهم ويؤاخذهم على خطاياهم وما اقترفوه من المعاصي والآثام ، ومنها هذه المقالة التي تقوّلوا بها على الله تعالى بغير حجّة ولا برهان ؛ فهم كسائر أفراد البشر ، فإذا كنتم أبناء الله تعالى وأحباءه فلا بدّ أن لا يعذّبكم ، فإنّ الأب لا ينكل بابنه والمحبّ لا يعذّب حبيبه ، فلستم إذا أبناءه ولا أحباءه.

وإطلاق الآية المباركة يشمل العذاب الدنيويّ والاخرويّ ، وقد حكي عزوجل في القرآن الكريم كلا النوعين من العذاب الواقع عليهم ، لا سيما اليهود الذين قصّ القرآن المجيد الشيء الكثير من أحوالهم.

٩٩

وعذابهم هذا يختلف عن البلايا والمحن ، التي تقع على المؤمنين وأولياء الله تعالى ، فإنّها ليست مؤاخذة على ذنب عملوه ، ولا عذاب بسبب معصية اقترفوها ، ولا هي ناجمة عن سخط إلهي نكالا ووبالا عليهم ، بل هي لزيادة القرب والدرجات ونيل الكمالات أو للتربية وتهذيب النفس والسريرة ، فهي بالأحرى نعمة وكرامة على المؤمنين وعذاب ووبال على الكافرين المعاندين ، وفي الأثر المعروف : «البلاء للولاء» ، وفي الحديث : «أشدّ الناس بلاء الأنبياء عليهم‌السلام ، ثمّ الأمثل فالأمثل» ، وقد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ البلايا والمحن والمصائب الدائرة في هذا العالم إنّما يشترك فيها المؤمن الصالح والفاجر الصالح على حدّ سواء ، وهي من سنّة الله تعالى على خلقه ، وإنّما تختلف من حيث الأثر والعنوان والغرض ، فإنّها للمؤمنين كرامة ومنحة ربانيّة حاصلة من محبّة إلهيّة لهم ، وعذاب ونكال لغيرهم ، كما أثبتنا ذلك غير مرّة ، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠ ـ ١٤٠] ، فإنّه عزوجل جمع بين النوعين من البلاء الواقع على الطائفتين ، وبيّن تعالى أنّه يختلف من حيث الأثر والعنوان والغرض.

قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).

بيان للأمر الثاني من الأمور التي احتجّ الله تعالى بها عليهم ، وهو الردّ عليهم بما هم معترفون به ، فإنّهم لا ينكرون أنّهم من أفراد البشر من جنس ما خلقه الله تعالى من غير مزيّة لهم على غيرهم ، ويتضمّن هذا الدليل نفي البنوّة عنهم مطلقا ، فإنّ البشر لا يصلح لأنّ يكون ابنا لله جلّت عظمته ، لإمكان صدور القبيح والزلّات والهفوات منه ، وأنّه يؤخذ بما يصدر منه ، والابن مسانخ لأبيه ، فإذا ادّعوا بنوّتهم له تعالى ، فلا بدّ أن لا يصدر منهم ذلك ولا يؤاخذوا بما يصدر منهم.

قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

تتمّة للدليل السابق ، ويمكن أن يكون نتيجة الأدلّة التي تناقض دعواهم ،

١٠٠