مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

ومنها : النهي عن اتّباع الهوى بالانحراف عن القسط في الشهادة ، إما ميلا إلى أحد الأطراف ، أو حيفا وظلما عليه لسابق عداوة وبغضاء بينهما.

ومنها : اتّحادهما في بيان أهميّة العدل وعظيم أثره في جميع العوالم وكلّ الشؤون في عالم الشهادة ، فإنّ به تنظم حياة الإنسان الدنيويّة والاخرويّة ، ويصل كلّ فرد إلى جزاء عمله. وعليه تتوقّف استقامة الأمور ، وهو القاعدة الرصينة المحكمة التي تعتمد عليها جميع الفضائل وبه تتهذّب النفوس وتزول الرذائل ، وقد عدّه بعض أعاظم فلاسفة اليونان أساس كلّ فضيلة ، وميزان كلّ عمل وعقيدة ، وبه يميز الصالح من الأعمال عن الطالح ، فإذا انضم إليه القيام لله تعالى ، كان العمل زاكيا خالصا من كلّ ما يوجب الشين والفساد ، وصار الفرد مخلصا ودخل في زمرة عباد الله المخلصين الذين استثناهم الشيطان من غوايته ، قال تعالى حاكيا عنه : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٤٠].

ولكنهما تختلفان في الغرض الذي سيقت له الآيتان الشريفتان ، فإنّ الغرض من آية النساء هو الردع عن الانحراف في الشهادة اتباعا للهوى بالتحيّز لأحد الأطراف ، سواء كان قريبا أم بعيدا ، ابتغاء للنفع ، ولذلك أمر عزوجل بالشهادة لله ابتغاء لرضائه ، فنهى عن اتّباع الهوى ، فقال تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا). وأما آية المائدة فإنّ الغرض منها هو الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة استجابة للنزعة العصبية ، بالحيف على من له سابق عداوة معه ، فيقيم الشهادة على غير القسط والعدل انتقاما من المشهود عليه ، ولذلك أمر عزوجل بالشهادة بالقسط ، التي هي من مظاهر القيام لله تعالى ، ولذلك فرّعها عليه.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ آية النساء بمضمونها الرفيع ، كالمقتضي لآية المقام ، حيث أمر جلّ شأنه بالقيام بالقسط والشهادة لله عزوجل والنهي عن اتّباع الهوى ، فإنّه المانع عن العدل الذي به تساس العباد وتقام أركان الحياة ، ويساق الناس إلى يوم المعاد ، وبه يصل العبد إلى منزلة القيام لله تعالى بتخليص نفسه من الرذائل

٦١

والآثام ، وطاعة الله والعمل بشرائعه وتكاليفه ، وهذه المنزلة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلّا بطي مراحل ، منها : الخروج عن التكاليف الربانيّة والمواثيق الإلهيّة بسلام وأمان ، ومنها : إقامة الشهادة لله تعالى والقيام بالقسط في جميع الأمور حبّا له عزوجل ، لا يستفزه حبّ مال أو جاه أو شخص قريبا كان أم بعيدا ، فتكون آية النساء كالمقتضي لآية المائدة والمعدّ لها.

وتجمع الآيتين رابطة محكمة قويمة وهي التقوى ، لأنّها أساس الكمالات وروح كلّ عبادة وعمل صالح. ولذا أكّد عليها عزوجل وحذّر على تركها بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا).

ردع عن الظلم في الشهادة وتحذير من عدم العدل فيها ، وتقدّم الكلام في مادة (جرم) في آية ـ ٢ من هذه السورة والشنآن شدّة البغض والعداوة.

أي : ولا يحملنكم شدّة بغضكم لقومكم وعداوتكم لهم على أن لا تعدلوا في أمرهم ، بأن لا تشهدوا لهم في حقوقهم بالعدل ، فلا تظلموا أحدا حتّى لو كان عدوّا لكم.

قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى).

تأكيد على مراعاة العدل في جميع الأمور ، وفي خصوص الشهادة على المشهود له وإن أبغضه ، بأن لا تكون عداوته أو كفره مانعا عن العدل عليه ، والضمير (هو) يرجع إلى العدل الذي تضمّنه الفعل.

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ العدل من الأسباب القريبة للتقوى ، التي هي نهاية الطاعة وأسمى الكمالات وأساس المكارم ومنها تنبثق سائر الفضائل ، لأنّ العدل طاعة تناسب طاعة التقوى ، ولهذا تحقّق القرب بينهما.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

فإنّ التقوى هي الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الأحكام ،

٦٢

وفيه التأكيد الشديد على التقوى ، والتنبيه على أنّها الغرض من تشريع تلك التوجيهات الربوبيّة والأحكام التربويّة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ).

تحذير عن المخالفة والإعراض عن الطاعة ، فإنّ الله تعالى عالم بالخفايا وما خطرت على قلوبكم فكيف بأعمالكم ، فيجازيكم حسب أعمالكم ويحاسبكم بما استقرّت في نفوسكم من النوايا السيّئة.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

تأكيد لما سبق وبيان لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ، فذكر أوّلا جزاء المؤمنين الذي عملوا الصالحات ، وهي التي تصلح أمر العباد في معاشهم ومعادهم ممّا شرعه الله تعالى من الأحكام والإرشادات ، ومنها ما تقدّم في الآية السابقة من العدل والتقوى اللذين هما أساس كلّ تكليف وروح العمل الصالح ، كما عرفت آنفا.

وإنّما قدّم جزاء المؤمنين اهتماما بشأنهم وتعظيما لأجرهم ، كما أنّه تعالى ذكر الإيمان والعمل كليهما ، لبيان أنّ أحدهما غير كاف للفوز بالمغفرة الإلهيّة ونيل الجزاء العظيم ، كما دلّت عليه آيات عديدة في مواضع متفرّقة ، بل لم يذكر عزوجل في القرآن الكريم الإيمان إلّا مقرونا بالعمل الصالح ، للدلالة على ذلك.

وعن بعض المفسّرين أنّ المراد من الإيمان هنا هو الحاصل بالبيعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالعمل الصالح البيعة مع علي عليه‌السلام ، وهذا تفسير بالمصداق الكامل ، لأنّ العمل الصالح أعمّ ممّا ذكر ، وأنّ المراد من الإيمان هو الإيمان بالله العظيم ، وإن استلزم ذلك الإيمان بنبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأنبياء والأوصياء.

قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

بيان لما وعد به عزوجل لهم ، وهي جملة مستأنفة تدلّ على أهميّة الموعود والتأكيد عليه. وهذا الأسلوب أبلغ من تعلّق الوعد بالموعود ، كما في قوله تعالى :

٦٣

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) [سورة الفتح ، الآية : ٢٩] ، لأنّه يدلّ على مزيد عناية ، بتقريره وإنشاء الوعد صريحا من غير دلالة عليه ضمنا ، بخلاف آية الفتح.

والمغفرة : الستر ، أي أنّ إيمانهم وعملهم الصالح يوجبان غفران الله تعالى لهم بستر ذنوبهم ومحو آثارها من نفوسهم. وأما الأجر العظيم ، فهو الجزاء المضاعف الذي لا حدّ لعظمته ، لأنّ المفاض منه كذلك.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

بيان لفرد آخر ممّن يعلمه الله تعالى ، ومن سنّته عزوجل في القرآن الكريم أن يقرن الوعد بالوعيد ، ويذكر الطائفتين المؤمنة والكافرة ، إتماما للحجّة وإيضاحا للمحجّة ووفاء بحقّ الدعوة ، ولأنّ الجمع بين الترغيب والترهيب من الأساليب البديعة في الكلام.

والجحيم اسم من أسماء النار ـ أعاذنا الله تعالى منها ـ وهو مأخوذ من الجحمة ، وهي شدّة تأجّج النار ، كما أنّه اسم لدرك من دركات النار.

وإنّما جمع عزوجل بين الكفر وتكذيب الآيات ، إما لبيان أنّ الكفر كان عن عناد واستكبار ، ولأجل الإعلام بأنّ كفرهم بلغ إلى حدّ إنكار الحقّ مع العلم بكونه حقّا ، فيخرج من لم يبلغ كفره كذلك كما في كفر المستضعفين. أو الإيماء إلى أنّ كفرهم بلغ حدّ النكوص عن طاعة الله تعالى بالإعراض عن أنبيائه وتشريعاته.

وكيف كان ، فقد ذكر عزوجل الحدّ بين الطاعة والإعراض ، ولكلّ منهما مراحل متعدّدة ومنازل كثيرة ، وعلى اختلافها تختلف درجات الثواب والعقاب.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم من النصر والعزّة والغلبة على الأعداء والمشركين ، وحفظهم من مكائدهم وشرورهم ، والآية المباركة تشمل جميع ألطافه عزوجل على المؤمنين التي خصّهم بها في جميع الغزوات والوقائع التي دارت بين

٦٤

المسلمين والكفّار ، الذين كان همّهم الوحيد محو أثر الإسلام والقضاء على دين الحقّ ، ممّن كان في عصر النزول ومن هم بعده إلى يوم القيامة.

منها : تثبيت الهمم وترسيخ العقيدة والإيمان ، والتأسّي بالسلف الصالح في تحمّلهم المشاقّ وحثّهم على تحمّل الجهد.

ومنها : الحثّ على الصبر على البلاء والمحن في سبيل الله تعالى.

ومنها : ترغيبهم إلى الشكر ، فإنّه السبب في إدامة النعمة وزيادتها ، قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٧] ، وغير ذلك من المصالح قوله تعالى : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ).

الهمّ هو القصد ، والبسط هو المدّ ، ويختلف باختلاف متعلّقه ، فإذا استعمل في اليد كان المراد به هو البطش بها بالقتل والإهلاك ، وفي اللسان هو الشتم والسباب. وفي تقديم الجار والمجرور على المقول الصريح ، لبيان أنّ ضرر البسط راجع إليهم ، وحملا للمؤمنين على الاعتداد بنعمة دفعه. والجملة بيان لبعض أفراد النعمة التي أنعم تعالى بها على المؤمنين.

قوله تعالى : (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ).

الفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها وتحقّقها بعد الهم بلا فصل ، وإظهار الأيدي «أيديهم» لزيادة التقرير.

والمعنى : أنّه منع أيديهم أن تصل إليكم وعصمكم منها بعد أن أرادوا بسطها عليكم ، وفي ذلك مزيد العناية واللطف وكمال النعمة كما لا يخفى ، حيث لم يجعلها أن تمتد إليكم بالأذى.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

تأكيد على مراعاة التقوى في عموم الأحوال ، لا سيما في ما ذكره عزوجل آنفا بأداء حقوق تلك النعمة ورعايتها ، ويستفاد من الأمر بالتقوى التحذير الشديد عن تركها ، لأنّ لها الأهميّة العظمى في الشريعة وتهذيب النفوس وتكميلها.

٦٥

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

أمر بالتوكّل على الله تعالى خاصّة دون غيره من الأسباب ، استقلالا ومشاركة معه عزوجل. وإنّما قدّم التقوى للإعلام بأنّ التوكّل على الله تعالى كذلك لا يمكن أن يحصل إلّا بعد معرفته عزوجل وإتيان جميع السبل الموصلة إليه تعالى وترك ما لا يرضيه ، فمن أعرض عن الطاعة وتنكّب عن سنّة الله تعالى وخالف شريعته ، لا يسمّى متوكّلا عليه عزوجل ، وتقدّم في قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٠] بحث في التوكّل يتضمّن جوانب عديدة فيه فراجع ، والآيتان متشابهتان في النسق والتعبير.

وإطلاق الآية المباركة هنا يشمل جميع الأمور التشريعيّة والتكوينيّة ، بأن يوكلوا أمر الدين عليه عزوجل ويكفّوا عن إبداء الرأي فيه ، فإنّ عليهم الطاعة في ما أنزله تعالى من التشريعات من دون تصرّف فيها ، وعليه الكلاءة لهم في جميع أمورهم ، فإنّه القادر وحده على صرف ما يريده الأعداء من السوء.

والآية المباركة تحذّر المؤمنين من ترك التقوى وترك التوكّل عليه عزوجل ، لما له من الأثر السيء ، ويظهر ذلك بوضوح فإنّه عزوجل ذكر ذلك بعد سرد أحوال أهل الكتاب ، لا سيما اليهود منهم خاصّة الّذين أخذ منهم الميثاق وأعطوا السمع والطاعة ثمّ نقضوه وأعرضوا عن الطاعة ، فابتلاهم الله تعالى بأنواع البلاء والمحن ولعنهم لعنا وبيلا ، كما حكى عزوجل أحوالهم في ما تقدّم ، فكان ذلك داعيا للمؤمنين بالتمسّك بحبل الله وإعطاء السمع والطاعة ومتابعة الرسول ، حتّى لا يقعوا في ما وقع فيه أهل الكتاب ، فكان المقام يقتضي تحذيرهم عن مخالفة التقوى وترك التوكّل على الله عزوجل ، وإن كان ظاهر الكلام بصورة الأمر فإنّه ادعى للتحذير ، وللاعتبار بأحوال الماضين.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

كلام مستأنف لمزيد التقرير على ذكر النعمة وشكرها ومراعاة حقّ الميثاق ،

٦٦

وتحذير المؤمنين من نقضه ، وتذكير لهم بما حلّ على بني إسرائيل من صنوف البلاء والمحن والعذاب جراء نقضهم المواثيق الإلهيّة ، فتكون أحوالهم داعية للاعتبار بها ، كما عرفت آنفا.

وإنّما ذكر عزوجل أسلوب القسم وأظهر الاسم الجليل ، لإفادة التأكيد وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه.

قوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً).

تذكير آخر للمؤمنين بما جرى على بني إسرائيل من أحكام دينهم وتثبيت أمرهم. والجملة تدلّ على كمال الاهتمام والتشويق لما في الالتفات في الكلام وتقديم المفعول.

ومادة (نقب) تدلّ على الأثر الحاصل في الشيء والذي له عمق ، ومنه النقب في الحائط أو الجلد ، أي : الثقب فيهما ، ومنه النقب في الجبل ، أي : الطريق فيه ، يقال : سلك الرجل المناقب ، أي : سار في طرق الجبال ، كما يقال : فلان حسن النقبة ، أي : جميل الخلقة ، ومنه النقيب بمعنى مطلق التفتيش ، قال تعالى : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) [سورة ق ، الآية : ٣٦] ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس» ، أي أفتش واكشف عنها.

والنقاب مصدر يطلق على العالم بالأشياء الكثيرة الباحث عن الأمور.

النقيب : الشريف والسيد الباحث عن أحوال القوم ، باعتبار كونه أمينا وكفيلا عليهم ويفتش عنهم ويعرف مناقبهم.

وتدلّ الآية الشريفة على أنّ النقباء في بني إسرائيل كانوا من عند الله تعالى ، بعثهم عليهم لمراعاة أحوالهم وكفالة أمورهم وإقامة شعائر دينهم.

قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ).

إيذان بالمراقبة والحفظ والمعونة والنصر ، وذلك مشروط بالطاعة وحفظ المواثيق ، كما تدلّ عليه الآية التالية. وهذا القول منه عزوجل لموسى عليه‌السلام مخاطبا به

٦٧

بني إسرائيل ، وكان الأنبياء يبلّغونهم ذلك ويذكّرونهم بحفظ المواثيق ويحذّرونهم من نقضها ويوعدونهم عليها ، كما فعله موسى عليه‌السلام لقومه.

قوله تعالى : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ).

بيان للشرط وهو مركّب من الإيمان والعمل الصالح ، وإنّما قدّم عزوجل الأخير ، لأنّهم كانوا مؤمنين بالله ورسوله ومعترفين بنبوّة موسى عليه‌السلام ، ولبيان أهميّة العمل الصالح ، مع علمه تعالى بأنّهم يعرضون عن الطاعة ، ولذا أكّده سبحانه وتعالى حيث أتى بأسلوب القسم ، وجمع بين فردين من أفراد الطاعة ، أحدهما تطهّر النفوس وتزكّيها وهي الصلاة والإقامة عليها بإتيانها تامّة جامعة للشرائط ، والثانية تطهّر الأموال وتزكّيها ، وإن كانت تطهّر النفوس من رذيلة البخل والشحّ أيضا.

قوله تعالى : (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ).

بيان للفرد الآخر من الشرط المزبور ، وهو الإيمان بجميع الرسل السابقين منهم واللاحقين والتصديق بهم. ومادة (عزر) تدلّ على المنع والذبّ ، ومنه العزر كالارز ، وهما القوة ، فإنّ في التقوية منعا لمن قويته عن غيره ، كما أنّ منه التعزير في الشرع ، وهو ما كان دون الحدّ ، لأنّه ردع ومنع عن ارتكاب القبائح والفحشاء ، فالتعزير تارة يكون بالردّ عن المرء ما يسوؤه ويضرّه ، واخرى ما يكون بردّه عمّا يضرّه ، فالأول هو تعزير الرسل والأنبياء ، والثاني هو تعزير مرتكبي القبائح. والمراد به في المقام هو النصرة مع التعظيم ، أي : ونصرتموهم ، فإنّها نصرة دين الله تعالى وتقدّس.

قوله تعالى : (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً).

أي : وأنفقتم في سبيل الله تعالى بالمعروف من دون أن يتبعه منّا ولا أذى ، وهو عامّ يشمل الإنفاق بالمال وغيره ، وقد تقدّم ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٥].

٦٨

والجملة في غاية الفصاحة والبلاغة ، فهو استعارة عن وعده الجميل وجزائه العظيم بذكر القرض الذي يقضى بمثله ، وإنّما ذكره عزوجل في المقام وأخذ عليه الميثاق لأهمّيّته في ترويض النفوس وشدّ الأزر والتعاون بين أفراد المجتمع وسدّ الحاجة ، ولأنّهم عرفوا بالشحّ والبخل فأراد سبحانه وتعالى تطهيرهم منهما ، فإنّ الشحّ رذيلة مهلكة.

قوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).

التكفير هو الستر والتغطية ، وتقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادة ، والجملة جواب للقسم ، أي : إن وفيتم بالعهد والميثاق ، بالعمل بتلك الحسنات الخمس ، لأسترن عليكم سيئاتكم بمحوها ورفع آثارها من نفوسكم فتطهر بتلك الحسنات ، فإنّها تذهب السيئات كما اقتضت سنّته عزوجل.

قوله تعالى : (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

ترتّب هذا على سابقه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة ، فإنّ العلّة في الدخول في جنّات تكون في غاية البهاء والنضرة والجمال ، إنّما يكون بتطهير النفوس من الذنوب وستر العيوب ، ضرورة تقدّم التخلية على التحلية ، فلا يدخلها إلّا من هو طاهر النفس.

قوله تعالى : (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ).

بعد بيان الوعد الجميل وما يوجب نيل الجزاء العظيم ، ذكر تعالى حكم من كفر بما هو داخل في حيّز الشرط المزبور المستلزم للكفر بالله تعالى أيضا ، تقوية للترغيب والترهيب ، فتكون الفاء للترتيب ، والمراد بقوله تعالى : (بَعْدَ ذلِكَ) ، أي : بعد أخذ العهد والميثاق على العمل بما شرطه ووعده عزوجل ، وجيء به لبيان أنّ الكفر منهم إنّما يكون عن عناد ولجاج ، وبعد تماميّة الحجّة عليهم.

ولعلّ تغيير الخطاب في الموردين حيث لم يقل : (وإن كفرتم) ، لإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب ، أو لإسقاط احتمال كفر الجميع عن حيز الاحتمال.

٦٩

قوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

أي : من كفر كفرا واضحا لا شبهة فيه ولا عذر معه ، خرج به عن السّبيل السوي الذي يوصل سالكه إلى الكمال المنشود والسعادة التي تصلح بهما دينهم ودنياهم وآخرتهم ، ويجعله أهلا لمورد الإفاضة وحبّه عزوجل وجواره في تلك الجنّات الخالدات ، ومن خرج عن سواء السّبيل يدخل في إحدى السبل الباطلة الموبقة التي تفسد الفطرة وينتهي سالكها إلى سوء العاقبة ، ويدنس النفس ، ويورد صاحبها إلى الجحيم ، بخلاف الكفر قبل ذلك ، فإنّه قد يكون معه شبهة وعذر ، فيأتي الامتحان والاختبار لكشف الحقيقة وإظهار الواقع.

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ).

تفصيل بعد إجمال ، فإنّه تعالى بعد ذكره جزاء الكفر بالميثاق الذي أخذ منهم وهو الضلال ، ففي هذه الآية الشريفة يبيّن تفصيلا لما يوجب الضلال ، كتحريف الكلم عن مواضعه ، أو نسيان الحظّ الذي أوتوه ، ونقض المواثيق ، وأنواع النقم ، كاللعن وقساوة القلوب وغيرهما.

والباء في قوله تعالى : «فبما» للسببيّة ، و «ما» للتأكيد ، أي : بسبب نقضهم لميثاقهم ، وكفرهم بالله جلّت عظمته ، وإعراضهم عن الطاعة ، حلّت البلايا والرذائل عليهم.

والآية المباركة تدلّ على أنّ النقض هو السبب الوحيد في ما حلّ بهم من أنواع البلاء وما استحقّوه من الجزاء لا غيره ، لا استقلالا ولا انضماما.

والمراد من الميثاق هو ما ذكره عزوجل في ما سبق من الآيات ، وهو الإيمان بالله تعالى ورسله ، ونصرتهم ، وتنفيذ أحكامه المقدّسة ، وقد ذكر عزوجل أنواعا من الآثار المترتبة على الضلال ، بعضها يتعلّق بالدنيا ، والاخرى بالجزاء الاخروي ، وثالثة بالنفوس.

قوله تعالى : (لَعَنَّاهُمْ).

اللعن هو الطرد عن الرحمة الإلهيّة التي هي السبب الوحيد في السعادة

٧٠

والتوفيق للاستكمال والوصول إلى مقام القرب والدخول في النعم الأبديّة ، واللعن إنّما يتعلّق بمن انهمك في العصيان ونقض المواثيق على الدوام ، وأفسد فطرته بارتكاب الآثام وهتك حرامات الله تعالى ، وقسى قلبه بالتعدّي على حدود الرحمن ، فلم تنفعه آيات الله تعالى ومواعظه ، ولذلك اتّخذها هزوا ولعبا.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً).

أي : صلبة غليظة لا تنفعل عن الآيات والنذر ، ولا تخضع للحقّ ، كما لا تخشع لآيات السماء ، ولا تتأثّر برحمته عزوجل ، قال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [سورة الحديد ، الآية : ١٦] ، وهي مأخوذة من قسوة الحجارة ، أي : صلابتها ، بحيث لا يؤثّر فيها الماء ولا ينبت عليها الزرع والنبات.

وإنّما جعل قلوبهم كذلك ، لأنّهم انهمكوا في الطغيان بسبب نقضهم الميثاق وما يترتب عليه من الكفر والمعاصي وارتكاب الآثام ، فأثّرت تلك في نفوسهم فأبعدتهم عن الرحمة الإلهيّة وفضله العظيم ، وأقست قلوبهم حتّى لا تؤثّر فيها حجّة ولا موعظة ، ولا تكاد تركن إلى الحقّ ، وهذا معنى جعله عزوجل قلوبهم قاسية ، فإنّه حصل بفعلهم ، ومن سنّته عزوجل تأثير الأعمال والسجايا والأخلاق في القلوب والنفوس ، إلّا من أدركته الرحمة الإلهية ، ولعلّه لذلك قدّم سبحانه وتعالى اللعن على القسوة ، فإنّ الأوّل هو المقتضي للثاني.

قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).

بيان لبعض آثار قسوة القلب ، فإنّها توجب انتهاك حرمات الله تعالى وعدم تعظيم شعائره ، فلا مرتبة أعظم من الاجتراء على كلام الله تعالى بتحريفها بما لا يرضاه عزوجل والافتراء عليه ، وقد عرفوا بالتحريف ، ولعلّه لذلك أتت الجملة على صيغة المضارع لاستحضار تلك الصورة ولبيان استمرارهم عليه.

٧١

وعموم التحريف يشمل الحذف والتبديل والزيادة والتغيير والتقديم والتأخير ، وتحريف الألفاظ والمعاني بحمل اللفظ على غير ما أريد منه ، وقد حصل كلّ ذلك منهم في كلام الله تعالى ، كما حكي عنهم في غير موضع من القرآن الكريم ، وأثبتته كتب التواريخ ، فراجع كتب شيخنا البلاغي (رحمة الله عليه) ، فإنّه قد كفانا مؤنة النقل ، جزاه الله تعالى خير جزاء العاملين.

قوله تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

أي : بسبب تحريفهم لكلام الله تعالى أن فاتتهم حقائق واقعيّة ومعارف ربوبيّة وتوجيهات وإرشادات إلهيّة من الدين التي لم تكن إلّا حظا سعيدا لهم ، فأفسدوا سعادتهم بسبب هذا النسيان والضياع ، فلا يكون عقابها إلّا الشقاء والحرمان.

وقد حكى تبارك وتعالى في القرآن الكريم جملة ممّا تركوه ، كقولهم بالتشبيه ، وتحريمهم للطيبات ، والإعراض عن الإيمان بخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصيانه وغير ذلك ، ونظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٣]. وهذا من جملة الملاحم القرآنيّة التي تنبّه المؤمنين إلى لزوم الطاعة واتّباع كتاب الله تعالى وعدم الوقوع في ما وقع فيه أهل الكتاب ، وإلّا أصابهم بمثل ما أصابهم.

قوله تعالى : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ).

الخائنة بمعنى الخيانة ، كالكاذبة ، واللاغية ، والقائلة ، فتكون مصدرا على وزن فاعلة ، وقد يعبّر بصيغة الفاعل بالمصدر وبالعكس أيضا.

وقيل : إنّها وصف لمحذوف إما مذكر والهاء للمبالغة ، كما في راوية لكثير الرواية. وإما مؤنّث بتقدير موصوف مؤنّث كالفرقة ، والطائفة ونحوهما.

والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي : أنّ الخيانة عادة مستمرة فيهم ، فلا تزال تطلع

٧٢

على الخيانة منهم ، أو على طائفة خائنة منهم ، فلا تكن في مأمن من مكرهم وخيانتهم ، فإنّهم قوم لا أمان لهم مع ما هم عليه من نقض المواثيق وقساوة القلب واللعن والتحريف.

قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

تقدّم الكلام في مثل هذا الاستثناء ، وهو لا ينافي ثبوت اللعن والعذاب للمجموع من حيث هو مجموع ، ولا يختصّ بمن سبق إيمانه. بل يشمل كل من تشمله العناية الإلهية ، فيدخل في الإيمان ويصير كواحد من المؤمنين.

قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ).

بعد إعلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ في أهل الكتاب ـ لا سيما اليهود منهم ـ على خائنة يتربّصون بدين الحقّ وبرسوله والمؤمنين الدوائر ، ويضمرون السوء والعدوان ، وتحذّره صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم.

وفي هذه الآية المباركة يرشده إلى عدم المبادرة إلى العقوبة والتريث في التوبيخ والمؤاخذة ، ويأمره بالعفو عنهم والستر على مظالمهم ، والصفح عن مسيئهم ، لعلّهم يرجعون إلى دين الحقّ ويهتدون بهدي الإسلام ، ويقتدوا بالرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فينبذون العداء ويتركون البغضاء.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

تعليل للأمر السابق ، وإرشاد إلى أنّ العفو من باب الإحسان ، ويتضمّن الوعد الجميل بمعاملتهم بالإحسان الذي يحبّه الله تعالى ، والرسول أحقّ الناس أن يتبع ما يحبّه الله تعالى.

والآية الشريفة من الآيات التربويّة الإصلاحيّة التي تهذّب النفوس وتروضها على العفو والإحسان ، وتظهر أهميّة مضمونها أنّها ذكرت في آخر الآيات التي تبيّن حقيقة تلك النفوس المريضة التي اعتادت على جميع سبل الشرّ ، والقلوب القاسية التي ما برحت على هتك حرمات الله تعالى.

٧٣

ومن ذلك يعرف أنّه لا وجه للقول بنسخها ، أو أنّ المراد بها الذين تابوا أو دخلوا في الإسلام ، فإنّه لا دليل عليهما ، مع أنّ التوبة والإسلام يجبّان ما قبلهما ، فلا مؤاخذة حينئذ حتّى يأمره بالعفو والصفح ، هذا مع أنّ عموم الآية المباركة وإطلاقها يدلّان على ما ذكرناه.

قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ).

بيان حال النصارى بعد بيان نبذة من أحوال اليهود وقبائحهم ملزيد العبرة ، والنصارى اسم لاتباع عيسى بن مريم عليهما السلّام ، ولعلّ ذكره عزوجل له في المقام لمزيد التشنيع والتوبيخ ، فإنّ من يدّعي نصرة الله تعالى ويتسمّى بهذا الاسم ، لا بدّ وأن يعمل بموجبه ويلتزم بما يتعهّد ولا ينقض المواثيق ، فهم في الواقع ليسوا بنصارى وإن قالوا إنا نصارى.

وإنّما أخذ عزوجل منهم الميثاق لنصرة دين الله تعالى بشريعته ، والإيمان بالرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه‌السلام.

قوله تعالى : (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).

أي : أنّهم بسبب انهماكهم في نقض الميثاق والإقبال على الدنيا وملاذها ، نسوا النصيب الوافر من العلم والمعرفة التي ترشدهم إلى سعادتهم ، ممّا ذكرهم به عيسى بن مريم عليه‌السلام الذي كان نبي الرحمة والعطف ، والتآلف ، والصلح ، والوئام ، فقد بدّلوا كلّ ذلك إلى أضدادها ، كما حكي عزوجل عنهم ، وساروا في السبل التي تبعّدهم عن الأخلاق السامية ، والفضائل الرفيعة ، والأوصاف النبيلة وغيرها ممّا كانت هدف الأنبياء عليهم‌السلام وبنيّة المجتمع الراقي ومحور الإنسانيّة ، ولذلك فشت الصفات الرذيلة بينهم كما ذكره جلّ شأنه.

قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

مادة (غرى) تدلّ على اللصوق ، ومنه الغراء ، وهو ما يلصق به ويتّخذ من أطراف الجلود والسمك ، وهو بالمدّ أو القصر ، وأغريت فلانا بكذا إذا ألهجته فلصق

٧٤

به ، وغريت بالرجل غرى أو غراء بالمد إذا لصقت به ، والفاء للسببيّة.

والمعنى : كان نسيانهم الحظّ العظيم الذي ذكرهم به نبيّهم ، سببا لوقوعهم في معادات في الأفعال ومباغضة في القلوب ، لصقت بهم حتّى صارت من سجاياهم وصفاتهم المرتكزة في نفوسهم ، فاختلفوا من حين رفع المسيح عليه‌السلام إلى أهواء متشعّبة وفرق متعدّدة ، تبغض كلّ فرقة أختها وتلعنها ، فبدّلوا نعمة الله نقمة ووبالا عليهم والهدي ضلالا.

قوله تعالى : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

أي : عند ما يحاسبهم الله تعالى في يوم القيامة سوف ينبّئهم الله تعالى بحقيقة حالهم وما هم عليه من الضلال ، ويجازيهم على كلّ ما صنعوه في الدنيا بالعقاب والعذاب.

وكلمة «سوف» لتأكيد الوعد ، والتعبير عن العمل بالصنع للإعلام برسوخهم فيه ، كما أنّ التعبير بالإنباء لبيان أنّهم لا يعلمون حقيقة حالهم ، فيكون في ذلك الوقت كشف الحقيقة لا إخبار عنها. والكلام مسوق للتوعيد والتهديد.

٧٥

بحوث المقام

بحث أدبي :

تقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح في قوله تعالى : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) ، لبيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم ، كما أنّ تقديم المفعول الصريح على الجار والمجرور في قوله تعالى : (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ، وإن كان هو على الأصل ، إلّا أنّه لزيادة التأكيد ، وإظهار الأيدي عليكم بعصمتكم منهم ومنع أيديهم أن تصل إليكم.

وقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة ، حيث اشتمل على الحكم وعلّته وبعض الخصوصات ، فتضمّن جملة من الأمور التي أوجبت كونها في غاية الفصاحة.

منها : أن يكون التوكّل على الله جلّت عظمته خاصّة دون غيره مطلقا ، وذلك بتقديم الجار والمجرور الدال على الحصر.

ومنها : اشتمال الآية الشريفة على ما يدعو إلى الامتثال ، والبعد عن الإخلال ، كما يقتضيه إيثار صيغة الأمر الغائب وإسنادها للمؤمنين.

ومنها : أنّها تدلّ على وجوب التوكّل على المخاطبين بطريق برهانيّ ، كما هو مقتضى سياقها.

ومنها : انّها تشمل على علّة الحكم ، وذلك بتقديم الجار والمجرور وإظهار الأمر الجليل.

ومنها : أنّها وإن كانت جملة تذييليّة ، إلّا أنّها تضمّنت من الأمور ما يدلّ على استقلالها.

٧٦

واللام في قوله تعالى : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) ، موطئة للقسم المحذوف.

و (قرضا) في قوله تعالى : (قَرْضاً حَسَناً) ، يحتمل المصدر ومفعول مطلق.

وقوله تعالى : (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ، قيل : إنّه دال على جواب الشرط المحذوف وساد مسدّه معنى ، وقيل : إنّه جوابه ، وقيل : إنّه جواب للقسم لما تقرّر في محلّه أنّه إذا اجتمع شرط وقسم ، أجيب السابق منهما إلّا أن يتقدمه ذو خبر ، والكلّ صحيح لا يضر بالمعنى.

وقرأ بعضهم (قسيّة) في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) ، وهي إما مبالغة قاسية ، لكونه على وزن فعيل ، أو بمعنى ردية من قولهم (درهم قسي) إذا كان مغشوشا. وقيل : إنّ قسي غير عربي بل معرب ، ولكنّه ليس بشيء.

ويشمل قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ، على الإطناب غير المخلّ بالفصاحة ، إيماء إلى أنّهم على دين النصرانيّة بزعمهم ، ولكنّهم على خلافها لعدم العمل بموجبها.

والضمير في «بينهم» في قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ) ، إما راجع إلى النصارى ، أو إلى اليهود والنصارى ، ولا ضير في ذلك ، فإنّه تعالى قد أخبر في غير هذا الموضع أنّهم على خلاف وعداوة بينهم.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على شدّة العناية بأهل الإيمان وكمال العطف والرحمة بالمؤمنين ، فقد ذكّرهم عزوجل بالنعمة لإدامة الطاعة بالشكر ، وبيّن عطفه عليهم أن صرف عنهم ما أراده الكفار من السوء لشخص الرسول الكريم الذي هو واسطة الفيض وبه حييت قلوب المؤمنين ، فكانت حياتهم متعلّقة بحياته.

وترشد الآية الشريفة إلى أهمّ أمر في هذا الدين المبين ، وهو شدّة المخالطة بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، فكأنّهم مجموعون في شخص واحد وأعضاء جسد

٧٧

متحد ، وما أراده الأعداء من السوء لشخص الرسول الكريم ، إنّما كان يرجع إلى المؤمنين أيضا ، وما صرفه عزوجل من البلاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّما صرفه عن المؤمنين ، ولا بدّ وأن تكون الحال كذلك ، لأنّ الإيمان وحدة جامعة لجميع الكمالات ، وبوتقة فيها تنصهر جميع الأغيار وما يوجب التفرقة والنفرة.

وفي الآية الشريفة درس عمليّ للمؤمنين ، باتّخاذ الحذر من الأعداء ، والرجوع إلى الإيمان وتعاليمه واجتماعهم فيه ، فإنّه الحافظ لهم ، ولا يحصل ذلك إلّا بالتقوى ، التي هي أهمّ الكمالات وأساس كلّ خير وصلاح ، والتوكّل على الله تعالى ، فإنّه عزوجل الكافي لعباده والناصر للمؤمنين المتوكّلين ، يمدهم بعونه ويفيض عليهم من رحمته وعطفه.

ومن عنايته جلّ شأنه بالمؤمنين أن سرد جملة من أحوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ليكونوا على معرفة بأحوال الماضين عن صدق ، ويتّخذوها دروسا وعبرا لهم ، لا يحيدون عنها فيقعوا في ما وقع فيه تلك الأمم ويصيبهم ما أصابهم ، فبيّن أنّه أخذ الميثاق من بني إسرائيل وأرسل عليهم النقباء ليرشدوهم إلى ما يصلحهم ويسعدهم ، وعدّد المواثيق التي أخذها منهم في المقام ، وهي جامعة لجميع الفضائل وحاوية لكلّ الكمالات ، بها تتطهّر النفوس ، وتتزكّى القلوب ، ويسعد الفرد والمجتمع ويصلان إلى الكمال المنشود ، وهي الصلاة التي هي قربان كلّ تقي ، والزكاة المطهّرة للأموال والنفوس ، والإيمان بجميع الرسل وسائط الفيض والأدلاء على الله تعالى ، الذي هو الهدف الأسمى في حياة العباد بالرجوع إلى الله عزوجل والاعتماد عليه ، فلا بدّ من دليل يرشد إليه ، وليس هو إلّا الأنبياء ، ولا يمكن الاستغناء عنهم في الحياة ، سواء كانت مادّية أم معنويّة ، فكأن الإيمان بهم شرط في إحراز كلّ كمال ، ولا يجوز التفرقة بينهم في الإيمان ، فإنّ نصرتهم إنّما تكون بالإيمان بجميعهم وتنفيذ تعاليمهم واحترامهم بما يليق بشأنهم ، فإنّ احترامهم احترام لمن أرسلهم ونصرتهم نصرته ، فكان ذلك قرضا حسنا منهم يقرضونه إلى الله

٧٨

تعالى فيوفيه بأحسن وجه.

وحذّر تعالى من الكفر وترك الطاعة ، بعد ما أخذ عليهم المواثيق وأعطوا السمع والطاعة ، فإنّ الكفر حينئذ إنّما يكون عن عناد ولجاج ، وهو يستوجب العذاب الشديد ، فليس له بعد ذلك سبيل يوصله إلى الحقّ ويهديه إلى الخير والسعادة.

وعدّد سبحانه وتعالى جملة ممّا حلّ بهم جراء نقضهم المواثيق ، حيث خرجوا عن ربقة الإنسانيّة ، وطردوا عن رحمة الله تعالى التي هي السبب في حياة الإنسان ، بل هي الحياة لوحدها وغيرها من شؤونها ولوازمها ، فتراهم قد قست قلوبهم وأحلّوا كلّ ما حرّمه الله تعالى ، وهتكوا حرماته عزوجل ، واعتادت أنفسهم على الخيانة حيث خانوا عهد الله تعالى ، فكان البغض والعداوة نتيجة حتمية لتلك الخيانة ، فلم تبق لهم وليجة بعد قطع كلّ أواصر المودّة والرحمة ، يتنافرون في الأعمال والأقوال لفقد الثقة بينهم.

وما عدّده عزوجل في هذه الآيات المباركة ، هي أمهات الرذائل التي تسلب كلّ سعادة وتضلّ عن سواء السبيل الذي يرشدنا إلى الكمال ، فيكفي في ذلك عبرة لمن اعتبر.

ثمّ إنّه يستفاد من الآيات الشريفة الأمور التالية :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) ، على أنّ ما بيّنه عزوجل من الخصال الخمس ، إنّما هو سواء السبيل الذي يورد سالكه إلى النعيم المقيم ، وهو الصراط المستقيم الذي ينبغي طلب الهداية من الله تعالى إليه ، ويجب العمل على مقتضاه.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا) ، على أنّ بعض المعاصي يوجب نسيان العلم والخروج عن حقيقته ، وتدلّ عليه جملة من الآيات الشريفة والروايات ، وفي ذلك قول الشافعي :

٧٩

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأنّ العلم نور

ونور الله لا يهدي لعاصي

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، على أنّ التوكّل على الله تعالى منضما إلى تقوى العبد التي هي عمله ومن كسبه ، هو السبب في كمال العبد والوصول إلى المقامات العالية ، وأنّه لا يمكن للمؤمن الاستغناء عن توفيقه عزوجل في الهداية والعمل بالميثاق.

وإنّما قدّم عزوجل «التقوى» ، لأنّها من عمل العبد ، وبدونه لا يمكن أن يتحقّق التوكّل ، فإنّ تركه والاعتماد على التوكّل لا يسمّى توكّلا ، بل هو من الأماني التي حذّرنا الله تعالى منها ، وهي من سبل غواية الشيطان.

ومن هذه الآية المباركة نستفيد جملة من شروط التوكّل التي تقدّم الكلام فيه ، منها العمل والاعتماد عليه وحده دون غيره من الأسباب ، لا استقلالا ولا اشتراكا ، راجع بحث التوكّل في ضمن الآية المباركة : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٦٠].

الرابع : يستفاد من الآيات الشريفة أنّ من أهمّ ثمرات العمل بالمواثيق هي معيّة الله تعالى للعاملين ، رعاية وحفظا وتربيبا وهداية دنيا وآخرة ، وهي من أعظم الأمور في حياة المؤمن الماديّة والمعنويّة.

بحث روائي :

في المجمع للطبرسي عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى :(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) : «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع ، من تحريم المحرّمات وكيفيّة الطهارة وفرض الولاية».

أقول : الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق وأكملها ، لأنّ ما بيّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع من إكمال الدين الذي يوجب السعادة والوصول إلى الكمال المنشود في

٨٠