مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

فيه أي تعقيد وتضييق ، ولعلّه لأجل ذلك ختمت الآية المباركة بنفي الضيق والحرج.

وفي الكافي بإسناده عن حريز ، عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال : يا زرارة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزل به الكتاب عن الله تعالى ، لأنّ الله عزوجل يقول : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ثمّ قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، فعرفنا حين قال : برؤسكم ، أنّ المسح ببعض الرأس ، لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس ـ كما وصل بالوجه ـ فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّره ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس فضيعوه ، ثمّ قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ، فلما وضع الوضوء إن لم تجدوا ماء ، أثبت بعض الغسل مسحا ، لأنّه قال : (بِوُجُوهِكُمْ) ثمّ وصل بها (وَأَيْدِيَكُمْ) ، ثمّ قال : (مِنْهُ) ، أي : من ذلك التيمّم ، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه ، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ ولا يعلق ببعضها ثمّ قال : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) والحرج الضيق».

أقول : سؤال زرارة ـ مع جلالة قدره ، وأنّه من أجّلاء الأصحاب وأكابر الرواة ، وبه وبأمثاله حفظ الله الحقّ ، ولو لا هم لاندرست معالم الدين وأطفئت أنوار اليقين ـ لا موضوع له بعد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، ولعلّ ضحكه عليه‌السلام تلويح إلى ذلك. وكيف كان فالإمام عليه‌السلام استدلّ بالكتاب لجميع أجزاء الوضوء والتيمّم استدلالا وافيا غير قابل للشكّ.

وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «الأذنان ليسا

٤١

من الوجه ولا من الرأس ، قال : وذكر المسح فقال : امسح على مقدّم رأسك وامسح على القدمين وابدأه بالشقّ الأيمن».

أقول : الأذنان من الرأس في الإحرام ، وأما في الوضوء فليستا من الرأس ، بل هو منبت الشعر فقط وهو مع الأذنين رأس الصائم ، وفي الغسل مع الرقبة ، كلّ ذلك لأجل دليل خاصّ ، وإلّا فمقتضى اللغة لا تكونان منه ، وكذلك أنّهما ليستا ، من الوجه فلا يجب غسلهما ولا مسحهما ، وذيل الرواية يدلّ على الترتيب مقدّما الرجل اليمنى على اليسرى.

وفي تفسير العياشي عن زرارة بن أعين وأبي حنيفة ، عن أبي بكر ابن حرم قال : «توضّأ رجل فمسح على خفّيه فدخل المسجد ، فصلّى ، فجاء علي عليه‌السلام فوطئ على رقبته فقال : ويلك تصلّي على غير وضوء؟ فقال : أمرني عمر بن الخطاب ، فأخذ بيده فانتهى به إليه فقال : انظر ما يروي هذا عليك؟ ورفع صوته فقال : نعم أنا أمرته أنّ رسول الله مسح ، قال : قبل المائدة أو بعدها؟ قال : لا أدري ، قال : فلم تفتي وأنت لا تدري؟ سبق الكتاب الخفّين».

أقول : يعتبر في المسح المماسة ، ولا يجوز المسح على الحائل ، خفّا كان أو غيره ، والظاهر من هذه الرواية أنّ المسح على الخفّين شاع في عصر الخليفة الثاني ، وبعد نزول آية الوضوء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لم يمسح على الخفّين أصلا ، بل وقبله أيضا ، وذلك متّفق عليه ، ولأجل ذلك كان المسح على الخفّين في زمن عمر محلّ خلاف شديد بين المسلمين ، والشاهد على ذلك ما رواه الكافي بإسناده الصحيح عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : في المسح على الخفّين تقيّة؟ فقال عليه‌السلام : ثلاث لا أتقي فيهنّ أحدا : شرب المسكر ، والمسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ» ، فيستفاد منها أنّ استنكار المسح على الخفّين ممّا ذهب إليه أغلب المسلمين في زمن الخليفة الثاني كاستنكار شرب المسكر ، فلا مجال للتقيّة فيهما ، كما لا مجال لها في متعة الحجّ.

٤٢

ومن هنا لو استلزم المسح على الخفّين في مورد قتل نفس محترمة أو إهانتها أو غيرهما ، تجري التقيّة بلا شكّ ، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ.

وما قيل : إنّه ورد عن طرق العامّة أن جمعا : كبراء وبلال ، وحرير ، وغيرهم ـ رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح على الخفّين.

مردود ، أمّا أولا : فإنّه تنافيه الروايات البيانيّة التي صدرت عن المعصومين عليهم‌السلام كما تقدّم بعضها ، بل وغيرها كما ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور وغيره.

وثانيا : محمول على مورد خاصّ وفرد نادر لأجل مصالح خاصّة مسح على الخفّين ، فانتهى أمد الحكم برفعها.

وكيف كان ، فإنّه بعد نزول الآية المباركة لا يبقى مجالا للمسح على الخفّين ، لأنّها تثبت المسح إلى الكعبين ، والخفّ ليس من القدم بالوجدان ، فاستنكار علي عليه‌السلام في محلّه.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد ، عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنّ عليا عليه‌السلام خالف القوم في المسح على الخفّين على عهد عمر بن الخطاب ، قالوا : رأينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح على الخفّين. فقال على عليه‌السلام : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا : لا ندري ، قال : ولكن أدري أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك المسح على الخفّين حين نزلت المائدة ، ولأنّ أمسح على ظهر حمار أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين ، وتلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)».

أقول : الرواية تدلّ على ما تقدّم ، والتنزيل إنّما هو في عدم الأثر.

وفيه أيضا عن محمد بن أحمد الخراساني قال : «أتي أمير المؤمنين عليه‌السلام رجل فسأله عن المسح على الخفّين ، فأطرق في الأرض مليا ثمّ رجع رأسه فقال : إنّ الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطهارة وقسّمها على الجوارح ، فجعل للوجه منه نصيبا ،

٤٣

وجعل للرأس منه نصيبا ، وجعل للرجلين منه نصيبا ، وجعل لليدين منه نصيبا ، فإن كانتا خفّاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما».

أقول : استدلاله عليه‌السلام بالآية المباركة لنفي المسح على الخفّين كان استدلالا وافيا غير قابل للخدشة ، ومنه يظهر عدم جواز المسح على العمامة أو الخمار والحذاء.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت : يمسح الرأس؟ قال : إنّ الله يقول : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، فما مسحت من رأسك فهو كذا. ولو قال : (امسحوا رؤوسكم) فكان عليك المسح كلّه».

أقول : تقدّم ما يدلّ على ذلك ، فإنّ التبعيض ظاهر من الآية الشريفة.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التيمّم فقال : إنّ عمّار بن ياسر أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أجنبت وليس معي ماء؟ فقال : كيف صنعت يا عمّار؟ فقال : نزعت ثيابي ثمّ تمعكت على الصعيد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا يصنع الحمار ، إنّما قال الله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ، ثمّ وضع يديه جميعا على الصعيد ثمّ مسحهما ثمّ مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه ثمّ ذلك إحدى يديه بالأخرى على ظهر الكفّ ، بدأ باليمين».

أقول : هذه الرواية من الروايات البيانيّة ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بيّن كيفيّة التيمّم.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) والحرج الضيق».

أقول : الآية المباركة والسنّة الشريفة هما من أدلّة «قاعدة نفي الحرج» ، التي يأتي البحث عنها.

وفي الأسماء والصفات للبيهقي بإسناده عن معاذ بن جبل قال : «مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رجل وهو يقول : اللهم إنّي أسألك الصبر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سألت البلاء فاسأله المعافاة. ومرّ على رجل وهو يقول : اللهم إنّي أسألك تمام

٤٤

النعمة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا ابن آدم هل تدري ما تمام النعمة؟ قال : يا رسول الله دعوت بها رجاء الخير. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : تمام النعمة دخول الجنّة والفوز بالنجاة من النار. ومرّ على رجل وهو يقول : يا ذا الجلال والإكرام. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد استجيب لك فسل».

أقول : عن بعض مشايخي في العرفان : أنّ ذكر «يا ذا الجلال والإكرام» له آثار كثيرة ، منها كشف المهمّات ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا اشتدّ عليكم البلاء فلوذوا بيا ذا الجلال والإكرام» ، وقد ورد هذا الذكر المبارك في كثير من الدعوات المأثورة عن أئمتنا المعصومين عليهم‌السلام.

وفي تفسير علي بن إبراهيم قال : «لما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الميثاق عليهم بالولاية قالوا : سمعنا وأطعنا ، نقضوا ميثاقه».

أقول : الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق وأكملها ، ويناسب ذلك الربط بين الآيات المباركة.

وعن الطبرسي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام : «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات ، وكيفيّة الطهارة ، وفرض الولاية».

أقول : الميثاق هو العهد المؤكّد ، وأنه تابع لمتعلّقه.

وفي الكافي باسناده عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، قال : هو الجماع ، ولكنّ الله ستير يحبّ الستر فلم يسم كما تسمّون».

أقول : من أدبه سبحانه وتعالى أن يكنّى عن مطلق ما يستقبح ذكره ، لأنّه تعالى حيي ويحبّ الحياء.

وفي الدر المنثور عن ابن عباس : «انّه كان يطوف بالبيت بعد ما ذهب بصره وسمع قوما يذكرون المجامعة ، والملامسة ، والرفث ولا يدرون معناه واحد أم شتى؟ فقال : الله أنزل القرآن بلغة كلّ حي من أحياء العرب ، فما كان منه لا يستحي الناس من ذكره فقد عناه ، وما كان منه يستحي الناس فقد كنّاه ، والعرب يعرفون

٤٥

معناه لأنّ المجامعة ، والملامسة ، والرفث ـ ووضع إصبعيه في أذنيه ثمّ قال : ألا هو النيك».

أقول : لعلّ وضع حبر الامّة إصبعيه في أذنيه مع أنّه يعلم شرف المكان وقداسته ، وما عرض عليه من الانقطاع إليه جلّ شأنه بذهاب بصره كما هو الغالب ، لأجل إعلامهم وتفهيمهم معاني الكلمات بتصريح يصحّ ذكره ، والله العالم.

بحث فقهي :

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام والقواعد التالية :

الأوّل : شرطية الطهارة للصلاة ، وبطلانها بلا طهارة. وهذا الشرط واقعيّ لها لا علميّ بالأدلّة الثلاثة ، فمن الكتاب الآية المباركة كما عرفت ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) [سورة النساء ، الآية : ٤٣].

ويمكن تأسيس قاعدة كلّية ، وهي : «أنّ كلّ شرط ورد في الكتاب الكريم واقعيّ ، إلّا إذا دلّ دليل معتبر على أنّه علميّ» ، كالطهارة والاستقبال في الصلاة ، والرضاء في التجارات ، وشرائط الإرث مطلقا وغيرها ، وما خرج بالدليل كالتسميّة في الذبيحة ، وسيأتي الاستدلال على هذه القاعدة والاستثناء عنها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

ومن السنّة روايات كثيرة بلغت التواتر ، ففي الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» ، وعن علي عليه‌السلام في المعتبرة : «افتتاح الصلاة الوضوء» ، وفي الصحيح أيضا عن الصادق عليه‌السلام : «الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود» ، وغيرها من الروايات التي يستفاد منها أنّ الطهارة شرط واقعي

٤٦

للصلاة ، فإذا انتفت انتفى المشروط.

ومن الإجماع ما هو ضروري بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، بل وآرائهم المتشتّتة.

وممّا ذكرنا يمكن استفادة قاعدة كلّية ، وهي : «كلّ صلاة لا تصحّ إلّا مع الطهارة» ، عدا صلاة الميت وفاقد الطهورين.

ولا فرق في الطهارة المبيحة للصلاة بين مناشئها كالوضوء والتيمّم ـ إن حصل مسوّغاته ـ وغسل الجنابة لا مطلق الغسل المندوب وغيره ، على ما ذهب إليه المشهور ، ومن فقهائنا (رضوان الله عليهم أجمعين) وهو المؤيّد المنصور.

الثاني : يستفاد من الآية المباركة اعتبار النيّة في الوضوء ، والصلاة ، لقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ) ، وقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا) ، وقوله تعالى : (فَاطَّهَّرُوا) ، وغيرها من الأفعال المتقوّمة بالقصد والإرادة ، فلا تصحّ طهارة الساهي وصلاته ، وكذا الغافل ، بل كلّ صلاة فاقدة للنيّة ، أو كلّ عبادة إذا لم يتحقّق فيها النيّة وقصد التقرّب إليه تعالى ، محكومة بالفساد.

الثالث : كفاية وضوء واحد ـ أو طهارة واحدة ـ لصلوات متعدّدة أو كلّ ما يشترط فيه الطهارة ، وكذا غسل واحد وإن تعدّدت الأسباب ، كتعدّد الجماع وغيره ، لإطلاق الآية الشريفة وكثير من الروايات ، ونصوص خاصّة ، منها : قوله عليه‌السلام : «إذا اجتمع عليك من الله حقوق ، يكفيك غسل واحد» ، ويعبّر عن ذلك بقاعدة : «التداخل» ، وهي وإن كانت خلاف الأصل ، ولكنّها في الطهارات متّفق عليها ، لما تقدّم ، والتعدّي عنها يحتاج إلى دليل.

ثمّ إنّ ظاهر الآية الشريفة تعميم الحكم لمطلق المكلّفين ـ المحدثين وغيرهم ـ أي : كلّ من قام إلى الصلاة ، ولكن خصّ ذلك بالمحدثين ، لما تقدّم من الروايات. نعم ورد في بعض الروايات : «الوضوء على الوضوء نور على نور» ، الظاهر منه الاستحباب ، فإنّ في كلّ وضوء تقرّبا إليه تعالى ، ولا يجري ذلك في غيره من ذوات الأسباب ، كغسل الجنابة وغيرها ، فتأمّل والله العالم.

٤٧

الرابع : مقتضى الأصل في الطهارات الغسل بالماء مع الشرائط ، إلّا ما دلّ دليل على بدليّة التراب ، حدثا كان أو خبثا ، ومستند هذا الأصل الآية الشريفة ، والسنن المعصوميّة ، وسيأتي في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) ما يتعلّق به.

الخامس : يستفاد من هذه الآية الكريمة وغيرها من آيات الأحكام قاعدة كلّية ، وهي : «إتيان المكلّف العمل العباديّ مباشرة مع تمكّنه ، إلّا ما خرج بالدليل» ، ويدلّ عليها قوله تعالى : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، ومن السنّة الشريفة روايات مذكورة في الأبواب المتفرّقة.

ويمكن إقامة الدليل العقليّ عليها ، فإنّ التكليف ـ أو المسؤولية المتوجّهة إلى الشخص ـ لا يسقط إلّا بقيامه بالعمل بنفسه ، ولو أتى به غيره فمقتضى الأصل بقائه وعدم سقوطه ، والفطرة المستقيمة تدلّ على ذلك أيضا. وأما الاستعانة في مقدّمات العمل العباديّ كصبّ الماء في الغسل ، فيجوز ـ حتّى ورد ذلك في غسل الميت ـ ولكن في خصوص الوضوء تكره فيه ، للنصّ المحمول عليها.

السادس : ظاهر الآية الشريفة يدلّ على إيصال الماء إلى جميع محال الوضوء أو الغسل برفع الموانع عنها ، لأنّ التعبير فيها بالغسل دون الصبّ أو الجري ، ولعلّ ما ورد في السنّة من وجوب إيصال الماء إلى جميع محالّ الوضوء أو الغسل ، مأخوذ من الآية المباركة. نعم هناك موارد خاصّة لا يضرّ الحجب ، لأدلّة خاصّة مذكورة في الفقه يعبّر عنها بالجبيرة.

كما أنّ المستفاد من إطلاق المسح في الآية المباركة بالرأس والرجل ، المسح على بعضهما ، لمكان الباء ، وجواز النكس في مسح الرأس ، بل إطلاقها يدلّ على جواز المسح بماء مستأنف ومطلق الرطوبة ، كما في التيمّم ، حيث لا حاجة فيه إلى العلوق ـ إلّا أنّ الروايات البيانيّة وغيرها قيّدت ذلك ببقيّة بلل الكفّ من الوضوء.

السابع : الآية المباركة تدلّ على وجوب الترتيب بالنيّة مقارنا لغسل الوجه

٤٨

ثمّ اليد اليمنى وبعده اليسرى ثمّ مسح الرأس ، وينتهي الوضوء بمسح القدمين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ابدءوا بما بدأ الله به».

كما يستفاد منها الموالاة ، لأنّ الأمر ـ الوارد في أعمال الوضوء المذكورة فيها بقرينة قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : «اتبع وضوءك بعضه بعضا» ، وللروايات البيانيّة والإجماع ـ للفور ، وذكرنا معنى الموالاة في كتابنا (مهذب الأحكام) في باب الوضوء.

الثامن : إطلاق الآية الكريمة يقتضي كفاية مرّة واحدة في الوجه أو اليدين ، وأنّ الغسلة الثانية مستحبّة ، لأجل روايات خاصّة ، وفي المسح يكفي مرّة ، لظاهر الآية المباركة.

التاسع : ذكر سبحانه وتعالى في الآية المباركة أصحاب الأعذار في استعمال الماء ، فمنها : المرض ، وإطلاقه يشمل جميع أقسامه وأنواعه ، بلا فرق بين أن يحصل باستعمال الماء ، أو كان حاصلا ويتأخّر البرأ منه باستعماله ، فالمدار كلّه المرض الذي يضرّه استعماله الماء ، إما بالوجدان أو بإخبار أهل الخبرة. نعم لو كان المرض لا يضرّه الماء ، كوجع الاذن مثلا ، أو الأمراض الباطنيّة التي ظهرت في هذه الأعصار ، كمرض ضغط الدم ، أو بعض أقسام الصداع ، فحينئذ يجب الوضوء بلا شكّ.

ومنها : السفر كما هو الغالب خصوصا في البراري والصحاري ، ويدلّ على ذلك تنكير (سفر).

ومنها : مطلق الحدث الأصغر ، سواء كان المحدث مسافرا أو مريضا أو صحيحا في بلده ولكن يعجزه تحصيل الماء.

ومنها : ما يوجب الغسل بالجماع أو الاحتلام ، والآية الشريفة ذكرت الفرد الغالب أو الأكثر من محلّ الابتلاء بالكناية كما تقدّم.

فهذه اصول الأعذار وما سواها يرجع إليها كما هو واضح.

٤٩

العاشر : يستفاد من الآية المباركة الواردة في التيمّم الأحكام التالية :

الأوّل : عدم وجود الماء الأعمّ من عدم الوجدان ، أو عدم التمكّن من استعماله ، سواء لم يجد ما يكفيه للطهارة ، أو وجد ما يكفيه لبعض الأعضاء فقط ، فهو في حكم العدم ، لأنّ المراد من قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا) لتحصيل الطهارة المبيحة لما هو مشروط بها.

الثاني : القصد مقارنا لضرب اليدين على الأرض ، لقوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا).

الثالث : أن يكون التيمّم بمسمّى الأرض ـ سواء كان ترابا أم صخرا أو مدرا أم حصى ـ لإطلاق الصعيد الوارد في الآية الكريمة.

الرابع : أن يكون طاهرا وغير مغصوب ، لإطلاق قوله تعالى : (طَيِّباً).

الخامس : أن يكون المسح بباطن الكفّ ، لقوله تعالى : (فَامْسَحُوا) ، فإنّ المتبادر من المسح لغة وعرفا إمرار باطن الكفّ على الممسوح ، إلّا أن تكون قرينة على الخلاف أو مانع شرعيّ فيه.

السادس : مقتضى إطلاق الآية الشريفة كفاية وضع اليدين معا على ما يصحّ به التيمّم ، إلّا أنّ الوارد في السنّة المباركة (الضرب) ، وهو الوضع المشتمل على الاعتماد ، لا مجرّد الوضع ، لصحيحتي الكاهلي وزرارة المذكورتين في الفقه.

ولا يشترط العلوق باليد ، لإطلاق الآية الكريمة والروايات الواردة.

السابع : مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين وإلى الطرف الأعلى المتصل بالجبهة ، لأنّه القدر المتيقّن من التبعيض الوارد في الآية الشريفة ، مضافا إلى الروايات البيانيّة وغيرها.

الثامن : أن يكون المسح بباطن كلّ من كفّيه معا ، لظاهر الآية الشريفة وما ورد من الروايات. نعم لا يجب المسح بتمام كلّ من الكفّين ، ويكفي المسح ببعضهما على نحو يستوعب الجبهة والجبينين.

كما يكفي الضربة الواحدة فيه ، لظاهر الآية الشريفة ، سواء كان بدلا عن

٥٠

الوضوء أم الغسل ، ولكن المسألة محلّ خلاف ، ولا مبرّر لذكره هنا ، ومن شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).

التاسع : مسح ظاهر الكفّين ، وحدّهما الزندان ، لظاهر الآية الشريفة والروايات البيانيّة وغيرها.

العاشر : الترتيب ـ بأن يضرب على الأرض بعد النيّة ، ثمّ يمسح الوجه ، ثمّ ظاهر اليمنى باليسرى ثم ظاهر اليسرى باليمنى ـ والموالاة ، لظاهر الآية الشريفة بإعانة الروايات التي سبقت للبيان ، وذكرنا ما يتعلّق بمعنى الموالاة في الوضوء والتيمّم في الفقه.

الحادي عشر : أنّ الضرب للتيمم واحد في جميع الأغسال ، لإطلاق الآية الكريمة والروايات الواردة في بيانه.

الثاني عشر : ظاهر الآية الشريفة أنّه يباح بالتيمم كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة ، لمساوقته لما قبله ، فيجوز أن يصلّي بتيمّم واحد صلوات متعدّدة ، ولا يجب عليه الإعادة بعد المكنة من الماء ، ويتعقّب المقام فروع كثيرة ذكرناها في الفقه. كما أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التيمّم أيضا ، لما تقدّم.

الثالث عشر : يدلّ قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، على قاعدة عامّة تجري في جميع أبواب الفقه ، وهي : «قاعدة نفي الحرج» ، وأنّها من امّهات القواعد الفقهيّة ، وتختصّ بالأحكام الفرعيّة الإلزاميّة ، كما هو شأن كلّ قاعدة فقهيّة ، ومقتضاها سقوط الحكم الحرجيّ إن لم يكن له بديل لا حرج فيه ، وإلّا ينتقل الحكم إليه.

والمراد من الحرج عدم الطاقة والشدّة في امتثال الحكم أو إتيان التكليف من ناحية المكلّف ، وأما لو كان التكليف في حدّ نفسه حرجيّا بحسب الظاهر ـ كالجهاد ، والحجّ ، وأداء الحقوق الشرعيّة ، والصوم ـ فلا تشمله القاعدة أصلا ، لأنّ التشريع كذلك ، ففي الواقع لا حرج ، فالأحكام تابعة للمصالح والمفاسد.

ثمّ إنّ الحرج المنفي فيها الحرج العرفيّ الشخصيّ ، كما في المرض والخوف

٥١

وغيرهما ، لاختلاف النفوس والاستعدادات حسب الأفراد ، فإذا كان في امتثال الحكم حرج بحسب الأنظار العرفيّة والأمزجة الخاصّة ، يتبدّل الحكم أو يرتفع.

ومستند القاعدة الأدلّة الأربعة ، فمن الكتاب قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) وغيره كما يأتي.

ومن السنّة روايات مختلفة مذكورة في أبواب متفرّقة ، منها ما عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة ، كيف أصنع بالوضوء؟ فقال عليه‌السلام : تعرف هذا وأشباهه في كتاب الله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)».

ومن الإجماع ، فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.

ومن العقل حكمه بقبح التكليف في مورد الضيق والشدّة ، وأنّ العسر على الإطلاق غير مرغوب فيه ، ولعلّ ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بعثت بالشريعة السمحاء السهلاء» في مقام الامتنان إشارة إلى ذلك.

وممّا تقدّم ظهر أنّ استيعاب محال الوضوء بالتراب في التيمّم ليكون على نحو الطهارة المائيّة ، حرج مرفوع لم يكلّف الله تعالى به العباد.

وهذه القاعدة لا تجري في حلّية المحرّمات ، فمن كان في حرج من عدم الاغتياب أو التهمة أو الكذب ، لا تحلّ له ، للإجماع ، ولأنّ مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص. وأنّها مقدّمة على جميع الأحكام والقواعد حتّى قاعدة : «لا ضرر».

وذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول) الفرق بين الضرر المرفوع في الشرع والحرج ، بأنّ الأوّل أعمّ من الثاني.

وقاعدة «لا حرج» كقاعدة «لا ضرر» ترخيصيّة امتنانيّة ، لا أن تكون على نحو العزيمة ، وتظهر الثمرة فيما لو ارتكب العمل مع الحرج بناء على الترخيص ، يصحّ العمل دون العزيمة.

٥٢

ودعوى : سقوط الأمر لأجل الحرج ، فلا وجه لصحّة العلم العباديّ المتقوّم بقصد الأمر.

مدفوعة : بأنّ سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك ، ومقتضى الأصل بقاؤه إلّا أن يدلّ دليل على سقوطه أيضا.

والفرق بين الحرج والضرر أنّ الأوّل أعمّ موردا من الثاني ، لشموله للمشقّة التي لا تتحمّل عادة ، وإن لم يكن نقص في البين ، وقد ثبت في محلّه أنّ الأمور إما دون الطاقة ، أو بقدرها ، أو فوقها ، والأول مورد في جملة من الأخبار ، والثاني مورد الحرج ، والثالث مورد الضرر.

ونفي الحرج كنفي الضرر يحتاج إلى التقدير ، وفيه أقوال ذكرناها في علم الأصول ، ومن شاء فليرجع إلى كتابنا (تهذيب الأصول) والله العالم.

بحث عرفاني :

الإنسان المتخلّق بأخلاق الله تعالى يكون مظهرا من صفات لطف الحقّ ، ولذا يكون قبوله قبول الحقّ ، وردّه ردّ الحقّ ، ولعنه لعن الحقّ ، ويكون دعاؤه دعاء الحقّ وكذا صلاته ، فإذا صلّوا على أحد كان صلاتهم صلاة الحقّ ، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٣] ، وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦٢] ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٤٣].

وهذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلّا بالمعرفة الكاملة والإفاقة عن الغفلة ، وفي الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب ، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا حقيقيّا ، فيكون الخطاب مع الذين قالوا : «بلى» عند ما تجلّى بقوله جلّ شأنه : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) في يوم الميثاق ، فعاينوا ثمّ : (قالُوا بَلى

٥٣

شَهِدْنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٢] ، وهم الأولياء ، أي : أهل الصف الأوّل ـ كما هو المصطلح عند العرفاء ـ.

وأهل الصف الثاني آمنوا إذا شاهدوا ، فمرتبتهم وإن كانت راقية ولكنها دون مرتبة الصف الأوّل ، كما هو واضح وهم الخواص.

وأهل الصف الثالث آمنوا بعد ما سمعوا الخطاب سماع فهم ورواية ، وهم المرتبة النازلة عن المرتبتين ، وهم المسلمون وعوام المؤمنين.

وأهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا ، لأنّهم ما عاينوا ، ولا شاهدوا ، ولا سمعوا ، فكانوا بعيدين عن خطاب الحقّ فلم يسمعوه ، وإنّما انتظروا ولم يؤمنوا حتّى سمعوا جواب أهل الصفوف ، وكان سماعهم سماع قهر ونكاية ، وهم المنافقون المذنبون.

وأهل الصف الخامس وهم اعترفوا ثمّ أنكروا ، لقربهم إلى الشيطان وبعدهم عن الرحمن ، وهم الكافرون.

وأهل الصفوف آمنوا في ذلك العالم ـ بالعيان أو المشاهدة ، أو السماع ، أو التقليد ـ كذلك آمنوا في هذا العالم حسب ذلك الإيمان ، كما سيأتي في قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا).

ولعلّ المراد من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ) من نوم الغفلة ، وخرجتم من ظلمات الجهالة ، وانتبهتم من رقدة الفرقة ومن عتاب الأحبّة ، (إِلَى الصَّلاةِ) التي بها تصفي النفوس من لوث الأشباح ، وهي المعراج للرجوع إلى مقام القرب ، وإنّها أرق وأصفى من المناجاة مع الربّ :

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا

سرّ أرقّ من النسيم إذا سرى

وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبينه وواجهه بوجهه ، وقامت الملائكة يصلّون بصلاته» ، فإذا تمّت

٥٤

التصفية ، واستخفّت الروح ورفع الحجاب ، فحينئذ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ، وقبل ذلك كلّه (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، التي توجّهتم بها إلى الأغيار ودنوتم بها إلى الشيطان ، بماء التوبة والاستغفار ، (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فاغسلوا أيديكم عن الدنيا كلّها حتّى عن الصديق الموافق والرفيق المرافق ، وفي الأثر : «انّ المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين خوفا منه». وتوجّهوا إلى بارئكم ، وخالقكم ، ورازقكم ، (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ببذل نفوسكم وفنائها حتّى تشرق عليها شوارق الأنوار ، (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) اغسلوا أرجلكم عن تراب الأنانيّة وطين الشهوة إلى أن يحصل لكم شرف حضور القلب بكعب مقام الخلّة ، (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) بالالتفات والتوجّه إلى الحجب الماديّة بالسير في الملذّات النفسانيّة ، (فَاطَّهَّرُوا) النفوس عن المعاصي ، والقلوب عن رؤية الأغيار ، بذلّ العبوديّة لله تعالى ومخالفة الهوى ، ففي الأثر : «انّ سلمان الفارسي سافر في زيارة بعض الأصحاب من العراق إلى الشام راجلا وعليه كساء غليظ غير مضموم ، فقيل له : أشهرت نفسك؟ فقال : الخير خير الآخرة ، وإنّما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد ، فإذا اعتقت لبست حلّة لا تبلى حواشيها» ، فلا بدّ بطهارة الأرواح عن الاسترواح من غيره ، (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) بمرض حبّ الدنيا وطلب الجاه ، والنيل إلى المقام (أَوْ عَلى سَفَرٍ) في متابعة الهوى والسير في زوايا الأوهام بالاستيناس مع الأغيار ، (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) في قضاء حاجة مادّية وشهوة شيطانيّة ، (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) بتحصيل لذّة من اللذّات بالبيع من الأشباح أو شراء ما يوجب الاستيناس بغيره جلّ وعلا ، (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) للطهارة عن الأدناس بالبعد عن الحقائق ، ولم يهدكم أحد إلى التوبة والاستغفار من ضعف نفوسكم ، (فَتَيَمَّمُوا) بالتمعّك في تراب أقدام الأنبياء ، فإنّه طهور للذنوب العظام وسبيل للدخول في نعم الرحمن ، فإنّ الجنّة تجرّ أهلها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنّة بالسلاسل» ، فلا تيئسوا من رحمته وفيوضاته ، (صَعِيداً طَيِّباً) فإنّ إخلاصهم لله

٥٥

تبارك وتعالى يوجب خلاصكم ونجواهم معه جلّ شأنه سبب لنجاتكم ، وفي الأثر : «من صلّى خلف مغفور ، غفر الله له» ، فطهّروا نفوسكم بالاقتداء بهم ، (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) من غبار نعالهم وشمّروا لخدمتهم ، ففي الحديث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لبلال : «ما صنعت يا بلال؟! سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة ، فقال : ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم اتطهّر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلّا صلّيت بذلك الطهور» ، فسيروا على نهجهم وتمسّكوا بهم ، (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي : اعتصموا بقوّة لهم ، لأنّهم حبل الله الأعظم ، بهم ينوّر الله تعالى قلوب العباد ، وبهم يخرجون الناس من الظلمات وترفع الحجب المهلكات ، (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، لأنّه تعالى يحبّ خلقه فلا يريد لهم الذلّة بالضيق في الحجاب ، (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي : ينقيكم من الشرك بالرقي إلى المقام الرفيع ، بالنيل إلى الإخلاص والفوز بالجزاء ، قال تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، والوصول إلى ساحة القرب بالوصال : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بكسر أنوار الهواية والاستقرار في الجنّة العالية ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) بعد هدايتكم للنعم الإلهيّة والأنوار الربانيّة والهبات السماويّة ، فاذكروا تلك النعم واشكروه حتّى يزيدكم من فضله ، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، فلا تنسوا آلائه تعالى عليكم ، وما منّ عليكم بختم النبوّة في أشرف الكائنات وفخر الموجودات ، وبالولاية لسيّد الأوصياء الذي اصطفاه لحبّه واجتباه لحضرته ، (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) في ظهر آدم وعالم الميثاق ، أو الميثاق الذي أخذه نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله حين بايعه المسلمون ، فعن أبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) قال : «بايعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسا وأوثقني سبعا وأشهد الله عليّ سبعا أن لا أخاف في الله لومة لائم» ، فهو (رضوان الله عليه) رفض الدنيا وهاجر إلى ربّه بعد ما مدّ يد البيعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودافع عن الحقّ والولاية بوحده ، حتّى عاش وحده زاهدا ومات وحده شهيدا ، وهاجر إلى ربّه مظلوما ، فسلام الله تعالى عليه حين أسلم وحين قام وقعد وحين رجع إلى

٥٦

ربّه مطمئنا وفاز بما وعد الله تعالى له على لسان النبي الأمين (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ، لأنّه أخرجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود ، فسمعتم قول ربّكم حيث قال تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، وأطعتم حيث قلتم «بلى» حسب اختلاف تأهّلكم ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في نقض ميثاقه ونسيان نعمه ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، لأنّه يعلم الأسرار والخفايا وما يكن في الصدور ، فأوفوا بعهوده ولا تنقضوها ، واتّقوه في جذب الأخلاق المرضية ، وابتغاء الوسيلة إليه بفناء الناسوتيّة في بقاء اللاهوتيّة وتخلّص العبد من ظلمة الأوصاف الناشئة من الزلات النفسانيّة ، بالجهاد في سبيل الله تعالى لاضمحلال الأنانيّة.

اللهم اجعلنا ممّن سبقت له العناية ، وأفضت عليه توفيق العبادة ، وتفضّلت عليه بالرقيّ إلى المقامات العالية ، إنك سميع مجيب.

٥٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

الخطاب للمؤمنين يذكرهم عزوجل بأهمّ قضية من القضايا التي تمسّ حياتهم الدنيويّة والاخرويّة ، والماديّة والمعنويّة ، وهي من شؤون القضية الرئيسة في جميع الأديان الإلهيّة ، وهي قضية : «لا إله إلّا الله» ، التي آمنوا وأعطوا السمع والطاعة بما تتضمّن من العهود والأحكام والتوجيهات والإرشادات والمعارف ،

٥٨

التي تعدّهم إعدادا علميا لنيل الكمالات والفوز بالسعادة ، وهي التي تجعلهم خير امّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ولا ريب أنّ هذه المنزلة العظيمة تستدعي أن يكون المؤمن مستعدا استعدادا متكاملا علميا وعمليا وخلقيا لذلك.

وهذه الآيات الشريفة تشتمل على جملة من التوجيهات والإرشادات التي تهدي المؤمنين وتهيؤهم للوصول إلى تلك المنزلة التي أرادها الله تعالى لهم ، فأمرهم عزوجل أوّلا بالقيام بوظائف العبوديّة وأداء حقوق الربوبيّة بالايتمار بأوامره والانتهاء عن مناهيه ، فإنّه أوّل المنازل ، والاستقامة عليه ، وأحكم ذلك بالأمر بابتغاء العدل في جميع الأمور ومراعاته في كلّ الأحوال ، والشهادة بالقسط ليصلوا إلى تلك المنزلة العظيمة التي هي أقرب ما يمكن أن يصل به المؤمن إلى الكمال ، وهي التقوى التي هي السبيل الأمثل في تصفية النفوس وتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالمكارم والفضائل ، وأمر بالعدل وأكّد عليه تأكيدا شديدا ، لأنّه الميزان الأقوم في تقويم الأعمال وتمييز صحيحها عن سقيمها.

ثمّ ذكر أحوال الأمم السابقة التي آمنت ثمّ نكصت عن إيمانها ، فنكثت المواثيق التي أخذها الله تعالى منهم وأعطوا السمع والطاعة عليها ، فكان عاقبتهم البعد عن الكمال ، والشقاء والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فكانت أحوالهم خير معين لتزكية النفوس ووقايتها من الوقوع في مهاوي الرذيلة والبعد عن الكمال.

كما ذكرهم بالنّعم العظيمة التي تستدعي دوام الشكر عليها واستدامة الطاعة والقيام بوظائف العبوديّة.

وقدّم عزوجل في هذه الآيات المباركة التحلية بفضيلة القيام لله تعالى والشهادة بالعدل ، والعمل به ، والتحلّي بالتقوى على التخلية عن الرذائل. مع أنّ الأمر الثاني مقدّم على الأوّل كما هو معلوم ، لأنّ ما ذكره عزوجل في المقام هو

٥٩

العلّة التامّة للتخلية عن بعض الصفات الرذيلة التي تكون مانعة عن التحلّي بمكارم الأخلاق ونيل الكمالات.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ).

القوام من صيغ المبالغة ، والمراد به كثرة القيام له عزوجل بالملازمة لأداء حقوقه ، والوفاء بعهوده ، والإخلاص في الأعمال ابتغاء لمرضاته عزوجل حتّى تصير عادة لكم ، وخلقا كريما فيكم ، فتكونوا مظهرا من مظاهر أسمائه المقدّسة ، ولتكونوا دعاة إلى الله تعالى بأعمالكم وأقوالكم.

قوله تعالى : (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ).

القسط هو العدل ، وتقدّم الكلام في اشتقاقه في قوله تعالى : (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢] ، وسبق الكلام في معناه في آية ـ ١٣٥ من سورة النساء.

والمعنى : كونوا شهداء بالعدل بابتغاء الحقيقة في الشهادة وأداء الواقع على ما هو عليه ، بغير ميل ولا حيف اتباعا للهوى ، والآية المباركة تشابه الآية الكريمة التي وردت في سورة النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (الآية : ١٣٥) ، فإنّهما تشتركان في جملة من الأمور :

منها : الأمر بالقيام بالوظائف العبودية ، والوفاء بعهود الله تعالى بتنفيذ أحكامه المقدّسة والشهادة بالقسط بإخلاص ، ابتغاء لوجه الله تعالى ورضائه ، وطلبا لإقامة القسط والعدل ، وبيان الواقع.

٦٠