مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

الذي بان فضله على جميع الأنبياء والمرسلين ، فقال تعالى (إِلَيْكَ) ، والتأكيد على كونه بالحقّ في جميع شؤونه لا يأتيه الباطل بجميع أنحائه ، ثمّ بيّن عزوجل بعض خصائصه في كونه مصداقا لما بين يديه من الكتاب ، لأنّه نازل من الله أيضا ، وفيه من الأحكام الإلهيّة والمعارف الربوبيّة ، وكونه مهيمنا على جميع الكتب الإلهيّة ، ولا ريب أنّ الهيمنة التي ذكرها عزوجل في صفات القرآن الكريم هي من جميع الجهات ، فهي هيمنة رقابة ، فما في تلك الكتب إن طابق ما في القرآن العظيم ، أخذ به ، وإلّا فلا يمكن الاعتماد عليه ، كما أنّها هيمنة علميّة ، فإنّ ما ورد في القرآن الكريم يفوق على جميع الكتب الإلهيّة ، فإنّ فيه تفصيل كلّ شيء ، ولعلّه لهذا أمر عزوجل نبيّه الكريم بالحكم بما أنزل فيه والإعراض عمّا سواه والحذر منهم بأن لا يضلّوه باتّباع أهوائهم ، فإنّهم ذوو أساليب متنوعة في إظلال الناس.

ثمّ إنّه عزوجل اهتمّ بالقرآن الكريم في هذه الآية الشريفة بما لم يهتم بغيره من التوراة والإنجيل اللذين تقدّم ذكرهما ، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ الكتب الإلهيّة السابقة إنّما هي مقدّمات لهذا الكتاب العظيم ، وأنّه يعتبر آخر حلقة من حلقات الكمال ، فليس من المعقول الإعراض عنه والتغاضي عن معارفه وأحكامه ، فلا كمال إلّا بالرجوع إليه وتطبيق أحكامه وشرائعه.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) ، على انحصار الحكم والقضاء بين الناس بما ورد في القرآن الكريم وأنّه الحقّ ، فلا يجوز الحكم بغيره وإن كان حكما في الكتب السابقة ، إلّا ما قرّرته الشريعة الإسلاميّة. ويؤكّد ذلك النهي عن اتّباع أهوائهم التي لها مظاهر مختلفة ، منها تحريف الكتب الإلهيّة وتغييرها وتبديلها ، وغير ذلك ممّا حكى القرآن الكريم عنه في مواضع متعدّدة ، وتقدّم بعض الكلام فيه.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، على حقيقة واقعيّة داخلة في صميم خلق الإنسان ، وهي اختلاف أفراد الإنسان في الاستعداد وقبولهم للكمالات ، فإنّ لكلّ فرد أو طائفة من الناس شرعة خاصّة ومنهاجا

٢٨١

معيّنا ينهجه في حياته العمليّة ، والظاهر أنّ الشرعة والمنهاج يشيران إلى ما تقوم به حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة والدنيويّة والاخرويّة ، فإنّ سعادته لا تتحقّق إلّا بتطبيقها على الوجه المطلوب.

ويستفاد من الآية الشريفة أنّ للكمال درجات متفاوتة لا يقتصر على طائفة معينة ونوع خاصّ وأمر معيّن ، فلا كمال إلّا وفوقه كمال آخر حتّى يصل إلى الكمال المطلق ، وهو الله تعالى الذي لا كمال فوقه أبدا ، وأنّ الله عزوجل قادر على أن يجعل الإنسان امّة واحدة تقتصر على كمال معيّن خاصّ لا ترى سعادتها إلّا في الوصول إلى ذلك الكمال المعيّن ، كما بالنسبة إلى الحيوانات ، فإنّها لا ترى سعادتها إلّا في درك تلك اللذّة الوقتيّة ، ثمّ بعد الوصول إليها تبقى جامدة حتّى تعود إليها الغريزة مرّة اخرى ، بخلاف الإنسان فإنّه يختلف في خلقه وتركيبه عن سائر المخلوقات ، ففيه استعداد كبير في نيل الكمالات ، فإذا وصل إلى كمال استعدّ إلى نيل كمال آخر ، ولا يحدّه عن ذلك إلّا الحوادث الكونيّة وصوارف الدهر. وكمال كلّ فرد بحسب استعداده اللائق به ، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات التي تبيّن حقيقة الإنسان من حيث حياته العمليّة ، وهي من أهمّ الآيات التي تبني أهمّ أسس علم الاجتماع ، وعلى علماء هذا العلم دراسة هذه الآية الكريمة بدقّة وتمعّن ، فإنّ فيها كنوزا ، ويفتح منها أبواب من العلوم والمعارف.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ، على أنّ الكمال الذي يسعد الإنسان إنّما يكون في الخيرات ، فلا بدّ أن تكون غاية سعيه ومجده في هذه الحياة. وهي الغاية الحميدة التي لا بدّ أن يتسابق إليها ، لأنّها الجامعة لجميع الكمالات. وإطلاق الآية يشمل كلّ خير. وقد ذكر عزوجل في القرآن الكريم مصاديق مختلفة للخير في مواضع متفرّقة ، وهي تشمل جميع الأحكام الشرعيّة والفضائل والمكارم وغيرها من الأمور التي لها المدخليّة في سعادته.

وهو يدلّ أيضا على أنّ اختلاف الشرائع لا بدّ أن يكون سببا للتنافس في الخيرات ، لا سببا للعداوة والبغضاء ، كما أنّه يدلّ على حرية الإرادة في الإنسان.

٢٨٢

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ، أنّ آثار الاستباق إلى الخيرات إنّما تظهر في يوم القيامة ، يوم الرجوع إلى الله تعالى والحشر إليه ويوم الجزاء أو الحقّ ، فيجزي المستبقين إلى الخيرات الجزاء الحسن ، ويجازي الذين يختلفون في هذا الأمر على أفعالهم.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الاستباق إلى الخيرات هي الوحدة الجامعة لجميع الشتات التي تجتمع فيها جميع الكمالات ، وتطرح فيها كلّ فرقة واختلاف ، وهو الطريق الموصل إلى الله تعالى ، فهذه الآية الشريفة من الحقائق الواقعيّة التي لا بدّ أن يتأمّل الإنسان في خصوصياتها ويستفيد منها في حياته العلميّة والعمليّة ، ولأجل أهميّة هذه الآية الكريمة في حياة الإنسان فقد ذكر فيها عزوجل الضمان على نفسه ، فبيّن فيها الجزاء الفاصل بين الحقّ والباطل الذي لا يبقى معه شكّ في أمر الدين والدنيا.

السادس : يستفاد من قوله تعالى (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) ، أهميّة الحكم في حياة الإنسان ، فقد تكرّر الأمر منه عزوجل لنبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ، الذي يعلم مصالحهم ويعرف خصوصياتهم وجميع شؤونهم ، فلا يحكم إلّا بالحقّ ولا ينزل إلّا ما يكون في صلاحهم وسعادتهم ، ولأجل دقّة الموضوع وخطره ، فقد نهى عزوجل عن اتّباع الأهواء التي هي أم الرذائل وأساس كلّ فساد ، لا سيما في هذا الأمر الخطير الذي قلّما يسلم منه أحد إلّا من عصمه الله تعالى ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) ، واتّباع الأهواء من موجبات الفساد ، وله مظاهر مختلفة وصور متعدّدة ، ذكر عزوجل جملة منها في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم وبيّنتها السنّة الشريفة.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ، لطف الله تعالى بعباده ، حيث لا يأخذهم بجميع ذنوبهم دفعة واحدة.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ، أنّ ما سوى

٢٨٣

حكم الله تعالى هو حكم الجاهليّة الذي لا يفي بالأغراض ولا يوصل إلى المطلوب ، ولا يسلم من اتّباع الأهواء ، ولا يرفع الخلاف ، بل يوجب الفرقة والاختلاف ، كما حكى عزوجل عنه في آيات متفرّقة.

بحث روائي :

في الكافي عن هشام بن سالم بن سليمان ، عن خالد ، عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، قال عليه‌السلام : «لا يحلف اليهوديّ ولا النصرانيّ ولا المجوسيّ بغير الله ، إنّ الله يقول : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)».

أقول : ومثله ما رواه العياشي أيضا ، وما ورد في الرواية إنّما هو من باب التطبيق ، فإنّه بعد أن أمر بالحكم بما أنزل الله تعالى بينهم ، فلا يجوز الحلف بغيره تعالى.

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، قال : «لكلّ نبيّ شريعة وطريق».

أقول : المراد منه أنّ المنهاج هو السبيل الذي يتّخذه كلّ نبيّ في هداية قومه ، ويختلف كلّ نبيّ عن آخر بما يختصّ به من مميزات شخصيّة أو نوعيّة.

وفي الكافي عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى أيضا : «والمنهاج سبيل وسنّة ، قال عليه‌السلام : وأمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل والسنّة. وكان من السبيل والسنّة التي أمر الله بها موسى أن جعل عليهم السبت».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بذلك ، وهذا الحديث يؤكّد ما ذكرناه من أنّ الطريق هو السبيل الذي يتّخذه كلّ نبيّ في هداية قومه الذين يختلفون كمّا وكيفا ، وفي سائر الخصوصيات.

وفي الكافي أيضا عن الصادق عليه‌السلام قال : «القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالجور وهو لا

٢٨٤

يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» ، وقال عليه‌السلام : «الحكم حكمان ، حكم الله وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم الله حكم بالجاهليّة».

أقول : في ذلك روايات متعدّدة عن الفريقين مذكورة في كتب التفسير ، والآيات الشريفة تدلّ على ذلك ، فقد أمر عزوجل نبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزل الله ، فهذا يختصّ بحكم الله تعالى ، ثمّ أمره عزوجل ثانيا بالحكم بينهم بما أنزل الله ونهاه عن اتّباع أهوائهم كما جاء من الحقّ ، فهو يدلّ على أنّ ما سوى حكم الله تعالى هو من اتّباع الهوى الذي نهاه عزوجل عنه ، وهو يشمل الأقسام الثلاثة ، الحكم بالجور مع العلم به ، والحكم بالجور مع عدم العلم به ، فإنّه جور أيضا بالملازمة ، والحكم بالحقّ مع عدم العلم به ، لفقد شرط الحكم بالحقّ الذي هو العلم بكونه حقّا ، وإلّا كان حكما بالجور الذي هو من اتّباع الهوى ، ويشمل الجميع حكم الجاهليّة الذي هو في مقابل حكم الله تعالى مقابلة واقعيّة ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في كتاب القضاء من مهذب الأحكام فراجع.

وفي الكافي عن الصادق عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليهما ـ : «الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم بحكم الجاهليّة ، وقد قال الله عزوجل (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)».

بحث فقهي :

الآيات الشريفة المتقدّمة من أهمّ الآيات القويمة التي تدلّ على مشروعيّة القضاء والحكم بين الناس ، وتذكر دعائهما في الإسلام ، وهي الحكم والقاضي والمقضي عليه ، وقد أكّد عزوجل عليها وذكر خصوصياتها ، ففي الحكم قال عزوجل (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، وهو يدلّ على وجوب الحكم بين الناس بما أنزله الله تعالى ، فيختصّ بالعالم بكونه ممّا أنزله الله تعالى ، وهو حكم الله.

٢٨٥

ويستفاد منه أنّ غير ذلك هو ممّا لم ينزله الله تعالى ، فيكون حكما جاهليا. وهو يشمل الحكم بالجواز عالما به أو غير عالم ، والحكم بالحق مع الجهل به ، والثلاثة حكم الجاهليّة الذي أنكره عزوجل غاية الإنكار في قوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

ولعلّ ما ورد في الروايات من أنّ الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهليّة ، وما ورد في تقسيم الحكم والقضاة إلى أربعة ـ كما عرفت سابقا ـ كلّ ذلك مأخوذ من هذه الآيات الشريفة.

وفي القاضي ذكر عزوجل : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) ، وهو يدلّ على وجوب الحكم بالحقّ الذي يثبت بالطرق الشرعيّة المعروفة ، فلا يجوز اتّباع الهوى الذي هو خارج عن الطرق الشرعيّة ، ويشمل ذلك جميع ما ورد في آداب القاضي والقضاوة في الإسلام. منها : وجوب الإنصاف والإنصات والتسوية بين الخصوم ونحو ذلك. وأما الميل القلبي مع الحكم بين الخصوم بالحقّ ، فالآية الشريفة لا تشمله وإن دلّت بعض الروايات على كراهته أيضا ، بل وحرّمته في بعض الموارد.

وبيّن سبحانه وتعالى أنّ عدم الحكم بما أنزله الله يجعل القاضي كافرا أو ظالما أو فاسقا ، وفي المقضي له أو عليه فقد ذكر عزوجل : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ، وقال تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ، فإنّه يدلّ على لزوم مراعاة الحكم ووجوب الإذعان للحكم ، فإنّه الحقّ الذي ينبغي اتباعه وإلّا كان ظالما لنفسه فيصيبه الله بذنبه ، بل يدلّ قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، أنّ اليقين في الأحكام الربوبيّة من مقامات العبوديّة.

بحث عرفاني :

إنّ السلوك إلى الله تعالى والطريق إليه عزوجل له مظاهر مختلفة وسبل

٢٨٦

متعدّدة تختلف حسب استعداد كلّ فرد ، ولكن لا بدّ أن يكون موافقا للشرع وحكم الله تعالى ، وإلّا فلا يكون الطريق موصلا إليه عزوجل. ولعلّ ما ورد في الآيات الشريفة السابقة إشارة إلى ذلك ، فقد نزل في القرآن الكريم من الأحكام والتكاليف والكمالات ما استوعب جميع الجوانب الظاهريّة والمعنويّة للإنسان ، ممّا جعلته مهيمنا على سائر الكتب الإلهيّة فأصبح فريد نوعه ، فصار غاية للسالكين وأنيسا للمستوحشين ومجمعا للخيرات ، ففيه السبق وبه المسابقة ، وعن طريقه تستكمل النفوس وتتخلّى عن الرذائل ، ولأجل هذا أمر سبحانه نبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزله فيه بعد أن حكم عليه بأنّه المهيمن على جميع الكتب ، فإذا ثبتت له الرقابة الإلهيّة ، فلا بدّ أن تمرّ منه الطرق وتستنير به النفوس ، فإنّه وإن كان لكلّ واحد منكم شرعة لتهذيب النفوس ومنهاج للوصول إلى الكمالات واجتياز المراحل حتّى الوصول إلى الكمال المطلق ، إلّا أنّها لا بدّ أن تتوجّه إلى ما أمر الله تعالى به ، وهذا هو مطلوب العارف بالله الذي به يختلف عن غيره ، فاستبقوا الأمور الموصلة لكم إلى الكمال حتّى يستفيض كلّ بحسب استعداده ويستنير بما له من القابلية ، ولا خير إلّا فيما أنزله عزوجل ، فإنّه الموصل إليه ، وبه ترجعون إليه فينبئكم بما أوجب اختلافكم وتفرّقكم عمّا فيه الخير لكم ، فيظهر لكم آثار ما اقتضاه الاختلاف ، وهنالك الوعد الحق ، فلا تكون مظاهرهم سببا للفتنة ولا تكون موجبة للانحراف عن جادة الصواب والإعراض عن ابتغاء الخير والوصول إلى الكمال ، فإنّ الحكم هو حكم الله تعالى ، ويكفي في الإعراض والنكوص أنّ الله يحرمه من لذّة الوصال ويحجبه عن اللقاء ، ولذا كان أكثر الناس فاسقين ، لأنّهم التفتوا إلى ذواتهم ، فاشتبه عليهم حبّ الذات عن حبّ اللقاء ، فيحكمون على أنفسهم بالمحبّة والوصال ـ وشتان ما بينهما ـ وهذا هو حكم صادر عن النفس الأمّارة ، لا عن علم إلهيّ ، فصار حكما جاهليّا.

فلا تلتفت في السير غيرا وكلّ ما

سوى الله غير فاتخذ كرهه حصنا

وكلّ مقام لا تقم فيه انه

حجاب فجد بالسير واستنجد العونا

وقل ليس لي في غير ذاتك مطلب

فلا صورة تجلى ولا طرفة تجنى

٢٨٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

الآيات الشريفة الثلاثة تبيّن أهمّ الأمور الاجتماعيّة التي فيها حياة الإسلام واستقلال المسلمين وثبات عقيدتهم ، فقد حذّر سبحانه وتعالى المؤمنين اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، واعتبر توليتهم ظلما يسلب الهداية التي يحتاج إليها المسلم في حياته الظاهريّة والمعنويّة ، وهدّدهم بأنّه من فعل ذلك يكون منهم ، لا علاقة له بهذا الدين ، ثمّ ذكر عزوجل بعض صفات المنافقين الذين لم يبرح الإسلام والمسلمون يعانون منهم الأمرين ، يثبّطون العزائم ويبثّون الأكاذيب لزلزلة العقائد وإزالة الثبات والطمأنينة عن النفوس. ثمّ يبيّن حال اليهود والنصارى والذين اتّخذوهم أولياء ينتصرون بهم على الإسلام ودين الحقّ ، أنّهم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

والآيات الشريفة تبيّن حاجة المؤمنين إلى وليّ يعصمهم من أعدائهم ، يطبق فيهم ما أنزله الله تعالى ، فينهى عن موالاة الكافرين ويثبت موالاة المؤمنين وإطاعة من جعله الله وليّا يرعى شؤونهم ويدبّر أمورهم ، فكانت هذه الآيات وما بعدها حلقة وصل بين التشريع والتنفيذ والضمان على تنفيذ أحكام الله تعالى وتشريعاته. فقد أمر عزوجل في الآيات السابقة تنفيذ أحكام الله وما أنزله على رسوله والإعراض عن غيره. ويأتي في الآيات اللاحقة أنّه عزوجل أمر المؤمنين باتّباع

٢٨٨

الرسول ومن جعله الله وليّا عليهم ، ينفذ فيهم أحكامه ويسعى في تطبيق تشريعاته وأوامره ، فكان لا بدّ من الضمان على ذلك من الذين يعتبرون تهديدا على الإسلام والمسلمين ، فنهى عن مولاة الكافرين والمنافقين الذين يتربّصون بدين الله الدوائر. ومن ذلك كلّه تعتبر هذه الآيات مع سابقتها ولاحقتها على ارتباط تامّ وصلة وثيقة ، وكلّ آية منها في حدّ نفسها حلقة لا يمكن الاستغناء عنها في تثبيت ما ورد فيها من الأحكام ، وتأويلها إلى غير ظاهرها يكون إبطالا لمعانيها السامية وأحكامها القويمة ، وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره جمع في توجيه هذه الآيات وصرفها عن معانيها على ما ستعرف.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ).

خطاب تحبّب واهتمام بالمؤمنين واعتناء بالموضوع اعتناء بليغا ، وقد تقدّم الكلام في مثل هذا الخطاب. ومادة (أخذ) تدلّ على تناول شيء اعتمادا عليه. ومنه : أخذ منه العلم ، أي : تناول منه معتمدا عليه في نقله. ومنه : الاتّخاذ الذي هو الاعتماد على شيء لإعداده لأمر ما ، وهو افتعال باب ، والمعنى لا تعتمدوا على اليهود والنصارى مستنصرين بهم ، تلقون إليهم بالمودّة والمحبّة ، تعاشرونهم معاشرة الأحباب.

وقد ذكر عزوجل في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مظاهر لهذا الاتّخاذ ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [سورة الممتحنة ، الآية : ١] ، كما حدّد سبحانه وتعالى المحبّة لهم ، فقال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [سورة الممتحنة ، الآية : ٨] ، فإنّ المستفاد منه أنّ شروط المحبّة هي أن لا يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا العداء للمسلمين.

٢٨٩

وأما المحبّة ، فلا بدّ أن تقتصر على البرّ بهم والقسط إليهم ، فلا تشمل جميع أنواع المحبّة التي يجب تحقّقها بين أفراد المؤمنين. ومن ذلك يستفاد أنّ التعبير بالاتّخاذ في المقام له دلالته الخاصّة ، لا سيما بعد ذكر المتعلّق ، وهي الولاية.

وأما الولاية ، فقد تقدّم الكلام في معناها ، وذكرنا أنّ مادة (ولي) تدلّ على التبعية وتحقّق شيئين أو أكثر حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ولذلك مصاديق مختلفة ، منها : الوليّ ، وهو الذي يلي أمر غيره ، فيكون تابعا له ، كوليّ اليتيم ، ووليّ المرأة ، ووليّ الأمر ، ونحو ذلك. والتبعية تشتدّ وتضعف في الموارد ، وقد اختلط على كثير هذه المراتب ، فاعتبروا لكلّ مرتبة معنى خاصا لها ، إلّا أنّ الأمر ليس كذلك.

ومنها : الصديق والقريب ، إلى غير ذلك ممّا ذكروه ، والجميع إنّما هي مصاديق لهذه المادة التي لها مراتب مختلفة شدّة وضعفا ، فكلّما اشتدّت التبعية والقرب الذي له دواعي وأسباب متعدّدة ، كانت الولاية شديدة ، أعلاها الولاية التكوينيّة والتشريعيّة ، الثابتتان لله تعالى ورسوله وأولياء الله تعالى ، وقد جمعت في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [سورة المائدة ، الآية : ٥٥] ، فتكون جهة الولاية هي الطاعة ، وقد تكون من جهة التقوى والانتصار ، فالوليّ هو الناصر ، وإن كانت جهة الالتيام في المعاشرة والمحبّة التي هي الانجذاب الروحيّ. وإن كانت من جهة النسب ، فالوليّ هو الذي يرثه من غير مانع يمنعه ، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها في هذه المادة التي هي إلى الدواعي أقرب ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بها في غير المقام أيضا ، فالولاية نوع اقتراب ومعاشرة مع شيء ، توجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما ، ويختلف شدّة وضعفا ، كما تختلف من جهة الدواعي ، وأعظمها ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين التي هي أشدّ مراتبها التي تجتمع فيها الكثير من الجهات والدواعي ، ففيها النصرة والتقوى والمحبّة والطاعة ، والوليّ فيها هو الذي يحكم في أمره بما يشاء ، وغير ذلك ممّا ذكروه.

والولاية قد تكون ولاية الانتصار ، فحينئذ يكون الولي هو الناصر الذي لا يمنعه شيء عن نصرة من اقترب منه ، وقد تكون ولاية المحبّة التي هي الانجذاب ،

٢٩٠

فالولي هو الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته ، وقد تكون ولاية النسب الذي هو نوع اقتراب بين المنتسبين تكوينا ، فالوليّ هو الذي يرث من الآخر من غير مانع يمنعه ، وسيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وأما سياق الآية الشريفة ، فهو يدلّ على أنّ المراد من الولاية هي ولاية النصرة والمحبّة ، اي : لا تعاشروا اليهود والنصارى معاشرة الأحباب ، تلقون إليهم بالمودّة وتستنصرونهم في بعض شؤونهم ، كما هو الأمر بالنسبة إلى ولاية المشركين. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [سورة الممتحنة ، الآية : ١] ، ويدلّ على ذلك ذيل الآية الشريفة التي تقيّد إطلاق صدرها ، فيختصّ النهي عن تلك الولاية التي توجب المحبّة والخلطة بينهم ، بحيث يستلزم النصرة والامتزاج الروحيّ ، ويرشد إلى ذلك ما اعتذر به المنافقون الذين حكى عنهم عزوجل : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) ، فتدور عليهم الدائرة فتصيبهم منهم ومن غيرهم الجور فيتأيدون بنصرة اليهود والنصارى ويتخذونهم أولياء بالمحبّة والنصرة ليسلموا من دائرتهم ودائرة غيرهم. وقد نهى عزوجل المؤمنين عن مثل هذه الولاية.

وممّا ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أنّ المراد بالولاية ولاية النصرة التي تجري بين شخصين أو قومين التحالف والتعاهد على نصرة أحدهما الاخر عند الحاجة ، كما كانت دائرة في الجاهليّة ، فيختصّ النهي بجماعة المسلمين دون جملتهم ، كيف وقد حالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يهود المدينة وقد أصرّ على ذلك وأنكر أشدّ الإنكار أن تكون ولاية المحبّة فقط ، كما ذكره جمع كثير من المفسّرين ، واعتبر كون الولاية بمعنى ولاية المحبّة ممّا تتبرّأ منه الآية الشريفة في مفرداتها واسلوبها ، كما يتبرّأ منه سبب نزولها والحالة العامّة التي كان عليها المسلمون وغيرهم في عصر التنزيل.

واستغرب أن تحمل الآية الشريفة على النهي عن المعاشرة معهم والاختلاط بهم وإن كانوا ذوي ذمّة أو عهد ، وقد كان اليهود يقيمون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع

٢٩١

الصحابة في المدينة ، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامّة.

والحقّ أنّ الآية الشريفة تدلّ على معنى أعظم ممّا ذكره ، فإنّها تدلّ على حكم اجتماعيّ له الأثر الكبير في حفظ كيان الإسلام والمسلمين وعدم ضياع معالمهم وحفظ أخلاقهم السامية ، فإنّ النهي عن محبّتهم والتودّد إليهم يستوجب كراهة عقيدتهم وأعمالهم المنافية مع تعاليم الإسلام الحنيف وعدم الاستنصار منهم ، وقد غفل عمّا ترمز إليه الآية الشريفة ، وما ذكره في توجيه مراده لا يمكن الاعتماد عليه ، فإنّ الإسلام لم يضيع حقّا من حقوق أهل الأديان الإلهيّة التي تكون في بلاده ، فإنّ التزامهم تنفيذ شروط الذمّة ممّا يجعلهم في مصاف الموادين للإسلام وعدم صدور ما يغيض المسلمين أو يكرهه الإسلام. وما ذكره من براءة الآية بمفرداتها واسلوبها من ذلك فهو عجيب ، فإنّ الآية باسلوبها الرفيع ودلالة سياقها وأجزائها تدلّ على أنّ المراد هو الأعمّ دون ولاية الحلف فقط ، فإنّ قوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، فإنّ ذلك كلّه يدلّ على أنّ المراد من الولاية الأعمّ ، ويدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٨] ، فإنّه صريح في ذلك ، ويزيد أنّ هذه الولاية المنهي عنها قد يحتاج إليها في موارد الضرورة ، كما كان هناك معاهدات وأحلاف بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين اليهود والمشركين ، فلو كانت مختصّة بولاية المحبّة فقط ، لما كان وجه لجوازها عند الضرورة ، فإنّ المحبة القلبيّة لا تصل إليها الضرورة ، كما في سائر الأمور النفسيّة والقلبيّة ، وسيأتي ما يرتبط بالمقام.

وبالجملة : الآية الشريفة تدلّ على النهي عن تولّي اليهود والنصارى بالمحبّة والنصرة ، فإنّ من تولّى قوما لحق بهم ، وقد قيل : إنّ المرء مع من أحبّ ، وتوجب الدخول في زمرتهم.

وإنّما ذكر اليهود والنصارى دون أهل الكتاب كما عبّر به في غير المقام ، لبيان

٢٩٢

سبب المعاداة بينهم وبين المسلمين ، وأنّه الأوهام الباطل ، لا من حيث كتابهم ، فإنّه لو عبّر به لكان فيه إشعار إلى قربهم من المسلمين نوعا ما يوجب إثارة المحبّة ، فلا يناسب النهي عن اتّخاذهم أولياء ، هذا بخلاف ما ورد في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥٧]. فإنّ توصيفهم باتّخاذهم دين الله هزوا يستدعي أن يكون الوصف ، أي : كونهم ذو كتاب ، ذمّا لهم ونقصا لا مدحا ، فإنّ كونهم ذوي كتاب تقتضي أن لا يتّخذوا دين دين الله هزوا ولعبا ، فإنّ ذلك يكون ادعى لأنّ لا يتّخذوا أولياء.

قوله تعالى : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

بيان وتأكيد لما سبق ، وتعليل للنهي السابق في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى). والمعنى : لا تتّخذوهم أولياء لأنّهم مع تفرّقهم واختلافهم وشقاقهم ومضادتهم وتنافرهم فيما بينهم ، لكنهم أولياء في العون والنصرة على الحقّ وأهله ، فقد اتّحدت آراؤهم وتجاذبت نفوسهم بسبب تلك الولاية البغيضة التي ثبتت فيما بينهم على الاستكبار عن قبول الحقّ ، واجتمعت كلمتهم على المعاداة له وإطفاء نور الله تعالى وتناصرهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ، لأنّهم استرسلوا في اتّباع الهوى وانغمسوا في مشتهيات النفس ، فالكلّ متّفقون على الكفر ، مجمعون على مضارّتكم ومضادّتكم ، فلا يرجى منهم خير ولا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودّة والمحبّة ، فلا يتصور بينكم وبينهم موالاة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

وعيد لمن خالف النهي ، وتهديد شديد مبالغة في الزجر. و (من) تبعيضية ، والتولي : هو الاتّخاذ ، أي : ومن يتّخذهم منكم أولياء ، فإنّه يكون من جملتهم وجماعتهم ، ويكون حكمه حكمهم تنزيلا ، ومثل ذلك كثير ، فإنّ ارتكاب نهي من المناهي الشرعيّة أو إتيان فعل من أفعال أعداء الله تعالى ، أو ترك واجب من الواجبات الإلهيّة ، قد يوجب الكفر ويلحق المؤمن بالكافرين ، وإن كان على الإيمان

٢٩٣

ظاهرا ، لأنّ للإيمان والكفر مراتب متفاوتة وكثيرة ، شدّة وضعفا ، قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [سورة سورة يوسف ، الآية : ١٠٦] ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا السابقة فراجع.

والسرّ في هذا التنزيل وإلحاقهم باليهود والنصارى ، لأنّهم لم يسلكوا سبيل الهداية والرشاد الذي هو الإيمان ، بل سلكوا سبل أعداء الله تعالى ، فكانوا من أهل دينهم وملّتهم ، فيؤول أمرهم إلى ما يؤول إليه أمر الكافرين ، فلا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق في إيمانه.

والآية الشريفة إنّما تبيّن أصل التنزيل ، وأما سائر الخصوصيات فلا بدّ من الرجوع فيها إلى السنّة الشريفة ، نظير قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٩٧] ، فإنّه يدلّ على أنّ من خالف هذا الحكم يكون من الكافرين تنزيلا ، وأما الأحكام الفرعيّة المترتّبة على هذا التنزيل ، فلا يمكن أن تستفاد من إطلاق هذه الآيات ، لأنّه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

تعليل للوعيد السابق ، وبيان لجهة التنزيل ، أي : أنّ من يتولّاهم من المؤمنين لا يكون سالكا سبيل الإيمان ، بل هو ظالم مثل من تولّاهم ، والله لا يهدي القوم الظالمين ، فهم قد ظلموا أنفسهم ، لأنّهم حرموها من الهداية الإلهيّة وظلموا قومهم بمولاتهم للكفّار الذين نصبوا الحرب للمؤمنين.

قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

تفريع على ما سبق ، فإنّ من آثار عدم هداية الله تعالى للقوم الظالمين أنّهم يسارعون في الغواية والضلال وموالاة الكافرين.

ومرض القلب الذي اختصّ القرآن الكريم بذكره من أسوأ الأمراض التي تصيب الإنسان ، فإنّه يخرجه عن استقامة الفطرة والطريق السوي إلى الشكّ والريب اللذين يستوليان على عقيدته ودينه وخلقه ، فلا يمكن له أن يحصل ثبات

٢٩٤

واطمئنان واستقرار في إدراكاته الدينية ، فيكون ضعيف الإيمان متذبذبا فيه غير مستقرّ على خلق كريم ، ويظهر أثره على عمله ، فيصدر منه ما يناسب الكفر والنفاق ، كما في المقام ، فإنّك ترى أنّ مرضى القلوب يبتدرون في توثيق ولائهم مع الكافرين وتوكيده ، فيسارعون في هذا الطريق مسارعة من يرغب في شيء ويجدّ في طلبه. وسيأتي في البحث الأخلاقيّ مزيد الكلام في هذا المرض العجيب والداء العضال.

قوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِيهِمْ).

تقدّم الكلام في معنى المسارعة ، وتختلف المسارعة في الشيء عن المسارعة إليه ، فإنّ الاولى حاصلة من الداخل في الشيء والثابت فيه المستقرّ ، وإنّما كانت مسارعة من مرتبة إلى اخرى ، فهم إنّما يسارعون في مولاتهم للكافرين لزيادة تمكّنهم فيها وثباتهم عليها. بخلاف المسارعة إلى الشيء الداخل فيه من خارجه.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ).

بيان لبعض وجوه الضلال التي أوجبت المسارعة في مولاة الكافرين ، وهي خشية وقوعهم في المصائب والدواهي ، فيرجون منهم النصرة ، فهم لم يسارعوا فيهم لخشية إصابة الدائرة عليهم ، وإنّما يخشون إصابتها لهم فيستنجدونهم وتكون لهم يد عند ما تدور الدوائر وتكون للكافرين الدولة والسلطة الظاهريّة على المؤمنين ، وهذا من آثار مرض القلب الذي أحاط بهم فأخرجهم عن استقامة العقيدة وسلوك الطريق السويّ ، فلم يوقنوا بوعد الله تعالى ونصرته للمؤمنين ، ولم يعتقدوا بصدق وعد الله تعالى ، ولم يفكروا إلّا فيما يرجع إلى نفعهم الظاهريّ ، فأخطأ ظنّهم ولم يجنوا من دعواهم هذه إلّا الدخول في مسلك الكافرين والحلول معهم.

قوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة ، وهي ظهور الحقّ وغلبته على الباطل وزهوقه ، وأنّ كلّ ظلم لا بدّ أن يظهر فضيحتها ، فينقطع رجاء كلّ من طمع بالباطل وتوسّل إليه بوسائل صوّرها بصورة الحقّ ، وقد ذكر سبحانه وتعالى آنفا أنّه : (لا

٢٩٥

يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، فيفضحهم ويظهر للملأ بطلان ذرائعهم وفساد عقيدتهم ، وفي المقام بيّن عزوجل وعده للمؤمنين بالفتح والغلبة على الكافرين ، بعد ما ذكر في الآية السابقة اعتذارهم عن موالاة اليهود والنصارى وأنّهم يخشون الدائرة عليهم ، فقد تولّوا أعداء الله تعالى وخالفوا النهي الإلهيّ ، فلا بدّ من إظهار كذبهم وكشف حقيقتهم بأنّهم منافقون أظهروا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وللمؤمنين ما ليس في قلوبهم ، فكانوا في شكّ من قدرة الله تعالى على تنفيذ وعده للمؤمنين ، فالآية الشريفة وعد محتوم منه عزوجل ، لا من جهة أنّ (عسى) منه تعالى جزم ، ومن غيره ترج ، بل لأنّ سياق الكلام يدلّ على أنّه وعد محتوم ، لا سيما بعد أن تضمّن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) من الوعد ، فكان لا بدّ من تثبيت صدقه وتوكيد وعده.

ومادة (فتح) تدلّ على الفصل في الشيء والقضاء فيه ، قال تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [سورة الأعراف ، الآية : ٨٩] ، أي : افصل بيننا وبينهم. ومنه فتح البلاد ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) [سورة السجدة ، الآية : ٢٨] ، ومنه المفتاح ونحو ذلك.

واللام في الفتح للجنس وليس للعهد كما ذكره جمع من المفسّرين ، فاختلفوا في تعيينه ، فقيل : إنّه فتح مكّة الذي كان به ظهور الإسلام ، وبه أنجز الله تعالى وعده لرسوله.

وردّ بأنّه غير صحيح إلّا إذا نزلت الآيات هذه قبل فتح مكّة ، وهو أوّل الكلام ، وايّد هذا القول بأنّه المراد في أغلب موارد استعمال الفتح في القرآن الكريم ، ولكن يشكل أنّه إذا كان المراد به ذلك فقد وصفه عزوجل بأنّه لا ينفع الكافرين إيمانهم بعد الفتح ، وهو لا ينطبق على فتح مكّة ولا على غيره ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) [سورة السجدة ، الآية : ٢٨ ـ ٣٠]. ومن المعلوم أنّه لا ينطبق هذا الوصف على فتح مكّة ولا على سائر الفتوحات التي أعزّ بها الإسلام ، فإنّ الإيمان منهم يقبل ، فلا بدّ أن يكون هذا

٢٩٦

الفتح الذي لا ينفع معه الإيمان إما ذلك الفتح الذي يتبدّل فيه الحياة إلى حياة اخرى ، فيرتفع التكليف حينئذ ، كما في تبدّل نشأة الدنيا وبالآخرة ، أو لأجل تبدّل حالات الإنسان إلى حالة لا تفيد معها الإيمان بارتكابه المعاصي والآثام ، فقسى قلبه قسوة لا رجاء معها للرجوع والتوبة ، قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [سورة الانعام ، الآية : ١٥٨]. وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في مباحثنا السابقة.

وقيل : إنّ المراد به فتح بلاد اليهود كخيبر وغيرها ، وقيل : إنّه فتح بلاد النصارى.

وكيف كان ، فإنّ جنس الفتح ينطبق على كلّ فتح يظهر الله عزوجل به الإسلام ويعزّ الدين ، وينصر المؤمنين على الكافرين ، ويفضح به أعداءهم ويكشف حقيقتهم ونواياهم. فتكون الآية الشريفة من الملاجم القرآنيّة التي ينبئ فيها تعالى إعلاء كلمة الإسلام وظهوره على الكفر كلّه ، بعد ما تستقبل الامّة من الحوادث ممّا تزعزع عقيدة كلّ فرد مؤمن إلّا من عصمه الله تعالى ، فلا تختصّ الآية الشريفة بعصر النزول ولا بطائفة خاصّة ، كما ذكره المفسّرون من أنّها نزلت في المنافقين ، كعبد الله بن ابي وأصحابه الذين كانوا يشاركون المؤمنين في اجتماعاتهم ويظهرون إيمانهم والتودّد إليهم وهم يضمرون المحبّة والتولّي لليهود والنصارى ، استدرارا للطائفتين ، فإنّ حكم الآية عامّ يشملهم كما يشمل غيرهم ممّن فيه الصفات التي ذكرها عزوجل في هذه الآيات ، ومن ذلك يعرف أنّه لا وجه للإشكال بأنّ مراد الآية غير هؤلاء المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم ، إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاء مكروه يخافه على نفسه ثمّ صادف عدم وقوع ما كان يخاف وقوعه ، فإنّ الاحتياط في العمل من الطرق العقلائيّة التي لا تستتبع لوما ولا ذما.

ويردّ عليه : أنّ الاحتياط الذي لا يستتبع اللوم والذمّ هو ما كان صحيحا ومعتبرا عند العقلاء وقرّره الشرع ، لا مثل المقام الذي يكون الاحتياط فيه بين الحقّ والباطل ، وقد نهى عزوجل عن مولاة الكافرين ، فهم لم يطمئنوا بوعد الله

٢٩٧

من الفتح والنصرة ، ومن هنا كان وجه الاشتراك بين من تضمّنته الآية الشريفة وسائر المنافقين ، فإنّ للنفاق مظاهر مختلفة وسبلا متعدّدة هذه أحدها ، فلا بأس بالقول بأنّهم منافقون أظهروا الإيمان وخالطوا المؤمنين طمعا بهم إن هم ظفروا بالكافرين ، ووالوا اليهود والنصارى طمعا بهم إن هم ظفروا بالمؤمنين ووقعت الدائرة عليهم.

وكيف كان ، فالآية الشريفة من الملاحم القرآنيّة التي فيها إخبار عن حالات هذه الامّة ، ووعد منه عزوجل في نصرة هذا الدين والفصل بين المؤمنين والكافرين والمنافقين ـ فقد وعدهم الله تعالى بالفتح المبين عليهم ـ وأمر فيه إعزاز هذا الدين وإظهار الإسلام وإذلال المشركين الكافرين.

وهي لا تختصّ بحكم خاصّ ، بل تشمل كلّ ما فيه هذا المناط ولو كان من الأحكام الإلهيّة والتشريعات الربّانية التي فيها عزّة الإسلام ونصرته وغيرها.

قوله تعالى : (فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ).

أي : أنّهم أسروا في أنفسهم النفاق وتولّي اليهود والنصارى ، وجدّوا في المسارعة فيه إرضاء للشهوات الدنيئة في نفوسهم ، لينالوا به ملاذ الدنيا وإطفاء نور الله عزوجل ، وهو الذي مراد اليهود والنصارى أيضا ، ولكنّهم غفلوا عن عواقب الأمور وأنّ الله محيط بهم ، فقد يفضحهم ويقطع أملهم فيصبحوا على ما أسروه نادمين. وقد ذكر عزوجل في الآية التالية سبب ندامتهم ، وهو حبط أعمالهم وخسرانهم في صفقتهم. والندامة إنّما تحصل من ترك ما ينبغي فعله أو فعل ما ينبغي تركه ، وهم قد فعلوا كليهما ، فقد تركوا حبّ دين الله والمؤمنين ، ففعلوا العجائب في دينه تعالى ، منها الشكّ في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتولّي الكافرين ، ويكفي الواحد منهما في الندامة وقطع كلّ أمل لهم في الدارين بعد ما أنزل الله تعالى من الفتح والأمور من عنده ، وسوف يخسرون كلّ شيء ويبطل سعيهم بعد فتح الله الأكبر وظهور الحقّ ومحو الباطل وزهوقه.

٢٩٨

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ).

الجملة في مقام بيان التقريع لحالهم وتخييب رجائهم وانعكاس تقديرهم ، لوقوع ضدّ ما كانوا يتوقّعونه ويترقّبونه ممّن تولّوهم.

واختلفوا في إعرابها ، فقيل : إنّها معطوفة على ما قبلها عطف المحلّ ، و (يقول) بالرفع على أنّه مبتدأ. وقيل : إنّها مرفوعة بغير واو على أنّها جواب سؤال محذوف تقديره : فماذا يقول المؤمنون حينئذ. وقرئ : (ويقول) بالنصب عطفا على (يأتي) ، أي : فعسى الله أن يأتي بالفتح وأن يقول. وقيل : إنّها عطف على قوله : (فَيُصْبِحُوا) ، فإنّ ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم ، وقول المؤمنين : «أهؤلاء» جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم ومسارعتهم فيه.

وكيف كان ، فإنّ الجملة على كلّ حال تقريع وتوبيخ لهم كما عرفت.

أي : ويقول المؤمنون للمنافقين تعجّبا من حالهم وتقريعا لهم بعاقبة أمرهم وتبجّحا بما منّ الله على المؤمنين من الإخلاص والنصرة ، فالخطاب للمنافقين الذين في قلوبهم مرض ، واسم الإشارة لليهود والنصارى ، أي : أنّ المؤمنين يخاطبون الذين في قلوبهم مرض : أهؤلاء اليهود والنصارى الذين أقسموا بالله ببالغ الإيمان وأغلظها إنّهم لمعكم. ويمكن العكس. وقيل : إنّ المعنى : يقول المؤمنون بعضهم لبعض متعجّبين من عاقبة الذين في قلوبهم مرض : أهؤلاء الذين أقسموا بالله أغلظ الإيمان وآكدها إنّهم منكم أيها المؤمنون وعلى دينكم ، كما في قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) ، أي : يخافون.

وجميع ذلك صحيح ، وقد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم ، وكيفما كان فالآية الشريفة تعجيب لحالهم وتبجيل للمؤمنين وتكريم لهم ووعد بالنصرة والغلبة والجزاء الحسن ، ولا اختصاص لهذا القول بالدنيا ، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة بعد فضيحتهم ويأسهم وانقطاع أملهم ، بل يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا ، فإنّ المؤمن ينظر بنور الله فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران ،

٢٩٩

فيتعجّب من حالهم وهم في غفلة من عاقبة أمرهم ، فالقول يمكن أن يكون لفظيّا صادرا من المؤمنين ، ويمكن أن يكون حكاية عمّا يدور في نفوس المؤمنين لكشف حقيقة أعداء الله تعالى والمنافقين لهم في هذه الدار الفانية ، ويرشد إلى ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة في المقام ومواضع اخرى في القرآن الكريم.

قوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ).

جملة مستأنفة تبيّن حقيقة حالهم وما عليه مآلهم ، بلا فرق بين أن نقول هي حكاية المؤمنين ، أو قول الله تعالى ، فإنّ فيها التعجّب منهم من أنّه كيف آل أمرهم إلى الخسران وحبطت أعمالهم مع مسارعتهم في تولّي أعداء الله تعالى ، والشكّ في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أعطوه الأيمان المغلّظة على أنّهم مع المؤمنين ، فحبطت أعمالهم التي كانوا يتكلّفونها نفاقا ، وخسروا ما كان يترتّب عليها من الأجر والثواب لو كانوا في إيمانهم صادقين.

وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حبط الأعمال يختصّ ببعض الذنوب الكبيرة ، والمقام منها ، فإنّ النفاق والتلاعب بأحكام الله تعالى ممّا يوجب حبط الأعمال والخسران.

٣٠٠