مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

أقول : روي قريب منه في كتب أهل السنّة وتفاسيرهم ، ويستفاد من الحديث أنّهم كانوا يعرفون أنّه النبيّ الموعود الذي بشّر به كتبهم ، ولكنّهم خالفوه وعاندوه عتوا واستكبارا ، كما أنّه يدلّ على أنّ الحكم الذي حكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله موجود في كتبهم ، وأقرّ به ابن صوريا ، ولكنّهم حرّفوه وبدّلوا دين الله تعالى كما أخبر به عزوجل. وذكر جمع من المتتبعين أنّ الموجود في التوراة الحاليّة الدائرة بينهم يقرب ممّا هو المذكور في الحديث ، راجع التوراة الأصحاح الثاني والعشرين من سفر التثنية ، كما أنّ الموجود فيها من حكم الدية يقارب ما ورد في الحديث ، راجع الأصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : إنّ الله أنزل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ـ أو ـ (الظَّالِمُونَ) ـ أو ـ (الْفاسِقُونَ) ، أنزله الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاخرى في الجاهلية حتّى ارتضوا واصطلحوا على أنّ كلّ قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتّى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ، فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ لم يظهر عليهم ، فقامت الذليلة فقالت : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، ودية بعضهم نصف دية بعض؟ إنّما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم ، فأما إذ قدم محمّد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهم ، ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم ، ففكرت العزيزة فقالت : والله ما محمّد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلّا ضيما وقهرا لهم ، فدسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبر الله رسوله بأمرهم كلّه ، وماذا أرادوا فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ـ إلى قوله ـ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، ثمّ قال : فيهم والله نزلت».

أقول : روى قريب منه القمّي في تفسيره مع الاختلاف في كيفيّة التطبيق. وممّا يهون الخطب أنّها من روايات أسباب النزول التي قلّما سلمت من الإشكال ، والعمدة هي الأخذ بظواهر الآيات وما تدلّ عليه.

٢٦١

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء ، وفتح مسامع قلبه ، ووكل به ملكا يسدده ، وإذا أراد الله بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسدّ مسامع قلبه ، ووكل به شيطانا يضلّه ، ثمّ تلا هذه الآية : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) ـ الآية ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) ، وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

أقول : الروايات في مضمون ذلك كثيرة ، وهي تبيّن كيفيّة توفيق الله عبده الذي لا بدّ له من الاستعداد والقابلية الحاصلتين من عمل العبد وكسبه.

وفي الكافي : عن عمّار بن مروان قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الغلول ، فقال : كلّ شيء غل من الإمام فهو سحت ، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت ، وللسحت أنواع كثيرة ، منها أجور الفواجر وثمن الخمر. والنبيذ المسكر ، والربا بعد البينة ، فأما الرشا في الحكم ، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وفيه : أيضا عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «السحت ثمن الميتة وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغي ، والرشوة في الحكم ، وأجر الكاهن».

أقول : الروايات في مضمون ذلك كثيرة من الخاصّة والعامّة وإن اختلفت في السعة والضيق ، وهي تدلّ على أنّ المراد من السحت مطلق الحرام ، ومن ذلك يعرف أنّ اختصاص بعض روايات السحت بالرشا في الحكم إنّما هو لأجل الأهميّة وبيان فظاعة الأمر فيه.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، قال : نسختها هذه الآية : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ).

أقول : روى قريبا منه النحاس في ناسخه ، والطبراني والحاكم ـ وصحّحه ـ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أيضا ، وتقدّم في التفسير أنّه لا منافاة بين الآيتين ، لا لأجل نزولهما دفعة واحدة ، فلا معنى للنسخ حينئذ ، فإنّ ذلك لا

٢٦٢

يستوجب منعا للنسخ لو تحقّق التنافي بين الآيتين ، بل لأجل أنّ الآية الاولى تثبت الخيار للرسول في الحكم بينهم والإعراض عنهم ، والآية الثانية تبيّن أنّه لو اختار الحكم بينهم لا بدّ أن يكون بما أنزله الله تعالى لا بما يريدونه ، وسياق الآيات أيضا يدلّ على ذلك. وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يحتاج إلى إرجاع الضمير في قوله تعالى : (بَيْنَهُمْ) إلى الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصّة ، وإن كان ذلك لا يضرّ بأصل المطلب ، فافهم.

وفي التهذيب روى الشيخ عن عبد الله بن مسكان رفعه قال : «قال رسول الله : من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه ، كان من أهل هذه الآية : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، فقلت : وكيف يجبر عليه؟ فقال : يكون له سوط وسجن فيحكم عليه ، فإن رضي بحكمه وإلّا ضربه بسوط وحبسه في سجنه».

أقول : رواه الكليني أيضا. والمراد منه هو الحكم على خلاف ما أنزله الله تعالى مطلقا عن علم به بأن يكون حكما بتّا وقطعا ، كما يدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يجبر عليه» ، لا مجرّد إنشاء الحكم.

ويستفاد من الحديث عموم الآية وشمولها لغير اليهود أيضا. ويدلّ عليه إطلاق الآيات الشريفة. ومنه يظهر أنّه لا وجه لتخصيصها باليهود كما ذهب إليه جمع.

وفي الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير ، قال : «سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة ، قلت : زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا ، قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقرأت عليه ، فقال : لا ، بل نزلت علينا. ثمّ لقيت مقسما ـ مولى ابن عباس ـ فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة ، قلت : زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل ولم ينزل علينا. قال : إنّه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا. وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم ، ثمّ دخلت على علي بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة وحدّثته أنّي سألت عنها

٢٦٣

سعيد بن جبير ومقسما ، قال : فما قال مقسم؟ فأخبرته بها ، قال : صدق ، ولكنّه كفر ليس ككفر الشرك ، وفسق ليس كفسق الشرك ، وظلم ليس كظلم الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال ، قال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته؟ قال : لقد وجدت له فضلا عليك وعلى مقسم».

أقول : ظهر ممّا سبق الوجه في عدم اختصاص الآيات ببني إسرائيل ، والمراد من قول علي بن الحسين عليه‌السلام : «كفر ليس ككفر الشرك ...» بعض مراتب الكفر والفسق والظلم ، وأنّ الشرك أعلاها مرتبة.

وفي تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال علي عليه‌السلام : من قضى في درهمين بغير ما أنزل الله فقد كفر. قلت : كفر بما أنزل الله ، أو بما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : ويلك إذا كفر بما أنزل على محمّد فقد كفر بما أنزل الله».

أقول : المراد منه أنّه لا فرق في موارد القضاء بغير ما أنزل الله بين أن يكون عظيما أو حقيرا. وظاهره عدم الفرق أيضا بين أن يكون الحكم بغير ما أنزله الله تعالى. وعدم الحكم بما أنزله الله تعالى ، وذيل الرواية يدلّ على أنّ ما جاء به نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ممّا أنزل الله تعالى ، فالحكم على خلافه حكم بغير ما أنزل الله ، ومن جملة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية أوصيائه المعصومين عليهم‌السلام واتّباع أوامرهم ، فيكون الردّ عليهم ردّا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والردّ عليه كفر بالله العظيم ، ويدلّ على ذلك ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة : «الرادّ علينا كالرادّ على الله تعالى».

وروى الشيخ في التهذيب عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عزوجل : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ) ، قال عليه‌السلام : هي محكمة».

أقول : ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية من الآيات الحكيمة التي قرّرتها جميع الشرائع الإلهيّة ، لا سيما الشريعة الإسلاميّة ، فقد فصّلتها وبيّنت جميع خصوصياتها.

وفي الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الرجل تكسر سنّه أو تقطع يده ، أو يقطع الشيء ، أو يجرح من بدنه فيعفو عن ذلك فيحطّ عنه قدر

٢٦٤

خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن كانت حطّت عنه خطاياه كذلك».

أقول : روى مثله الديلمي عن ابن عمر ، ويدلّ عليه بعض الروايات المنقولة عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام ، كما عرفته في التفسير. ولعلّ ذكر الدية مع أنّ العفو إنّما كان عن القصاص ، لأنّها قابلة للتبعيض ، بخلاف القصاص الذي لا يكون قابلا له.

بحث كلامي :

يدلّ قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) ، على المنزلة العظيمة التي منحها عزوجل لهذه الطوائف الثلاث ، النبيّين والربّانيين والأحبار ، فقد جعلهم تعالى حكّام الشرع المبين الذين يحكمون بما أنزل الله لبسط العدل بين الناس وإقامة النظام الربّاني فيهم ، وإيصالهم إلى الكمال المنشود ، كلّ حسب لياقته واستعداده. والمستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء هم الأصل في هذا المنصب الجليل ، ثمّ يأتي في المرتبة الثانية الربّانيون الذين هم حفظة الشرع المبين ببيان الحقائق وكشف ما أبهم من الشريعة ، ثمّ الأحبار الذين هم أمناء الله على أحكامه المقدّسة ، ولا ريب أنّ تلك لا يمكن أن تنال إلّا إذا توفّرت شروط الولاية والإمامة ، والآية تبيّن أهمّ تلك الشروط ، وهي ثلاثة :

الأوّل : كونهم ربّانيين يدعون إلى الله تعالى قولا وعملا ، وقد تقدّم الكلام في معنى هذه الكلمة في سورة آل عمران. وهي لم ترد في القرآن الكريم إلّا في صفات الأنبياء والأوصياء.

الثاني : العلم الحاصل من تعليم الله تعالى لهم خصوصيات الشريعة والكتاب ، بل الآية الكريمة تدلّ على معنى أدق ، لأنّ الحفظ يدلّ على العلم والتحفّظ على ما علم من الضياع والتبديل والتغيير ، فيكون أخصّ من مجرّد العلم ،

٢٦٥

فإنّ الأوّل عبارة عن إيجاب الحفظ ورؤيته في المراقبة قولا وعملا من كلّ من وجب عليه الحفظ دون الثاني ، فإنّه لم ينظر فيه هذه الخصوصية ، ولعلّ هذا الفرق أوجب أن يكون هذا الوصف من صفات الأوصياء ، كما أنّ هناك فرقا آخر أيضا ، وهو أنّ الاستحفاظ يدلّ على العلم التامّ بخصوصيات الكتاب وما أنزله الله تعالى والتكليف بالحفظ وبيان ما كمن في نفوسهم الطاهرة من العلم ، بخلاف مجرّد العلم ، ولذا اعتبر في علم المعصوم أن يكون محيطا بجميع ما تحتاج إليه الامّة من حلال الشريعة وحرامها ، والعلم بالكتاب وشؤونه. ففي الحديث المروي عن أبي عمر الزبيريّ ، المروي في تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «انّ ممّا استحقّت به الإمامة العلم المنور ـ وفي نسخة المكتونة ـ بجميع ما تحتاج إليه الامّة من حلالها وحرامها ، والعلم بكتابها خاصّة وعامّة ، والمحكم والمتشابه ، ودقائق علمه أو غرائب تأويله ، وناسخه ومنسوخه ، قلت : وما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلّا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال عليه‌السلام : قول الله تعالى فيمن أذن الله لهم بالحكومة وجعلهم أهلها : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) ، فهذه الأئمة دون الأنبياء الّذين يربّون الناس بعلمهم ، وأما الأحبار فهم العلماء دون الربّانيون ، ثمّ أخبر فقال : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) ، ولم يقل : بما حملوا منه» ، فإنّه (عليه الصلاة والسلام) يشير إلى معنى دقيق ، وهو أنّ علم الأنبياء أعلى مرتبة من علم الأوصياء الذي يختلف عن علم العلماء للذين حملوا علم الدين بالتعليم والتعلم ، والأوصياء ليسوا كذلك ، فإنّهم علموا الكتاب بما وصل إليهم من الأنبياء وما ألهمهم الله تعالى ، ولذا كلّفوا بالحفظ ويسألون عنه ، نظير قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [سورة الأحزاب ، الآية : ٨] ، أي : يسألهم عمّا كلّفوا به من الصدق في الأقوال والأفعال وما كمن في نفوسهم من صفته.

إن قلت : إنّه قد ذكر عزوجل الأحبار الذين هم علماء الدين في سياق الربّانيين ، فلم لم يشترط فيهم ما اشترط في الأنبياء والربّانيين من العلم والعصمة.

٢٦٦

قلت : إنّه مضافا إلى عدم الدليل على اشتراطها فيهم ، بل وردت الأدلة على عدمه ، لأنّ المقتضي للاشتراط في الأنبياء والأوصياء هو ما أخبر به عزوجل من صفة الاستحفاظ فيهم وتكليفهم بالحفظ ، فإنّهم رسل الله تعالى وامناؤه على الشريعة ومبيّنوا حلالها وحرامها والمكلّفون بحفظها ، واحتياج الامّة إليهم كما عرفت آنفا ، وهذا بخلاف الأحبار والعلماء ، فإنّه وإن أخذ العهد والميثاق منهم على بيان الأحكام الإلهيّة وحفظها ، إلّا أنّه مجرّد ثبوت شرعيّ ، لا ثبوت حقيقيّ مبني على العلم والعصمة عن الخطأ والغلط ، والدين الإلهيّ لا يتمّ إلّا بالأخير دون الأوّل.

الشرط الثالث : العصمة من الغلط والخطأ ، فإنّ العلم بالمعنى المزبور في الربّانيين الذي تبتني عليه الشهادة يستدعي العصمة ، فإنّها شهادة غير ما هي المتداول عند الناس ، وهي شهادة على الشريعة والكتاب كشهادتهم على الأعمال يوم القيامة ، التي تقدّم الكلام فيها في قوله تعالى (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [سورة البقرة ، الآية : ١٤٣]. وهي شهادة حضور ومراقبة وحفظ ، وهي تختصّ بالأنبياء والأوصياء ، ولا ريب أنّ مثل هذه الشهادة تستلزم العصمة ، وإلّا استلزم الخلف ، فهي شهادة حقيقيّة خالية عن الخطأ والغلط والمعاصي ، ويدلّ عليه ما ورد في الحديث المزبور المروي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام : «انّ ممّا استحقّت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار».

وممّا ذكرنا يظهر معنى قوله عليه‌السلام في الحديث المزبور : «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم» ، فإنّهم أوصياء الأنبياء والأئمة على الخلق والحجّة عليهم ، لأنّهم علموا بالكتاب حقّ العلم وشهدوا عليه بحقّ الشهادة.

والآية الشريفة وإن نزلت في الأنبياء والربانيين والأئمة من بني إسرائيل ، إلّا أنّ المناط موجود في غيرهم من الأنبياء والأئمة ، لأنّ الاستحفاظ والشهادة اللذين لا يقوم بهما إلّا الربّانيون ، يكونان في كلّ كتاب إلهيّ نزل من عند الله تعالى يشتمل

٢٦٧

على المعارف الربوبيّة والأحكام الإلهيّة ، ويدلّ على ذلك ما رواه العياشي عن مالك الجهني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) ـ إلى قوله تعالى : ـ (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ). قال عليه‌السلام : «فينا نزلت» ، لأنّ القرآن الكريم الذي احتوى من المعارف الإلهيّة على أسماها ، ومن الأحكام الشرعيّة على أكملها» ، ومن المكارم على أجلاها وأعلاها هو الذي يستدعي لأن يكونوا عليهم‌السلام المصداق الأكمل لهذه الآية الشريفة.

٢٦٨

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠))

بعد ما بيّن عزوجل شأن التوراة والإنجيل وأنّهما كتاب هدى ونور ، وقد حتم على بني إسرائيل الحكم بما أنزل فيهما وإقامتهما ، وشدّد عليهم من ترك الحكم بهما ، واعتبر ذلك كفرا وظلما وفسقا ، يذكر تعالى في هذه الآيات شأن القرآن العظيم ومكانته العظيمة بين الكتب الإلهيّة ، فهو المهيمن عليهما ، وأمر نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بإقامته والحكم بما انزل فيه ، والإعراض عمّن صدّ عن الحقّ ، ثمّ بيّن سبحانه الحكمة في تعدّد الشرائع والمناهج ، واعتبرها مقدّمات لهذا الدين الذي هو المقصد والنتيجة لها ، فكان آخر الأديان الإلهيّة ، وأمر رسوله العظيم بالاستقامة والإعراض عن الكافرين ، وحذّرهم من الصدّ عن إقامة الحقّ واتّباع حكم الجاهلية ، فإنّه سيجازيهم بأعمالهم في الدنيا وسيصيبهم عذاب الآخرة بما كسبت أيديهم.

٢٦٩

التفسير

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

تعظيم لشأن القرآن الكريم ، وتنويه بعظيم فضله وتفوّقه على سائر الكتب الإلهيّة ، وبيان بأنّه الفرد الكامل الحقيق بأن يسمّى كتابا على الإطلاق ، فكان هو الجدير بأن ينصرف إليه لفظ الكتاب ، وتظهر أهميّته بعد التصريح باسم كتاب موسى عليه‌السلام ، وكتاب عيسى عليه‌السلام ، فيكون اللام للعهد والتعظيم. و (بالحق) حال مؤكّدة من الكتاب ، أي : أنزلناه حال كونه بالحقّ ، وإطلاقه يشمل نزوله وعلومه وأحكامه وجميع شؤونه ، فهو حقّ من حقّ وفي حقّ ، فلا يأتيه الباطل من أيّة جهة من جهاته.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ).

بيان لأحد أوصاف القرآن الكريم ، وهو أنّه مصدّق لما بين يديه من الكتب الإلهيّة التي نزلت من عند الله ، ومقرّر لما جاء فيها من الأحكام ، إلّا ما نسخه الإسلام ، وفي الآية الشريفة الشهادة على أنّها كتب إلهيّة ، وأنّ الرسل الذين جاءوا بها لم يفتروها من عند أنفسهم ولم يكذبوا في رسالتهم وتبليغهم بها.

قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).

وصف ثان له يدلّ على عظيم شأنه بين الكتب ، ومادة (همين) تدلّ على السلطة على شيء لأجل القيام بشئونه ، ويستلزم ذلك المراقبة والاهتمام والشهادة ، وهذه حال القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب الإلهيّة ، فإنّه القائم بشئونها والمتسلّط عليها بحفظها ومراقبتها وأنواع التصرّف فيها ، فهو كتاب تبيان لكلّ شيء ، كما وصفه عزوجل في غير المقام ، فيحفظ ما يكون قابلا للحفظ كالأصول الثابتة ، وينسخ ما يكون قابلا للتغيير والتبديل ، كالفروع التي تتغيّر حسب حاجات الإنسان وما يقع في طريق استكماله ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ

٢٧٠

عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] ، فالقرآن مصدّق لما ورد فيها أنّها من عند الله تعالى ومبيّن لها ، وله حقّ التصرّف فيها بما يشاء من النسخ والتكميل ، هذا ما يمكن أن يستفاد من هذه الكلمة بمعونة القرائن المتعدّدة الواردة في مواضع متفرّقة ، وقد ذكر العلماء والمفسّرون لها معاني متعدّدة ربّما تبلغ خمسة ، والمتمعّن فيها يرى أنّها من لوازم المعنى ، وليست هي المعنى الحقيقيّ لها ، وكم لهم خلطا بين المعنى الحقيقيّ ولوازمه ، ومن هنا جاء المشترك والمترادف ، ويحقّ لنا القول إنّ كثيرا من المعاني المترادفة أو المعاني المشتركة ترجع في حاقّ الواقع إلى معنى واحد ، لكنّه مبهم في ضمن لوازم متعدّدة ، وعلى الباحث أن يستخرج ذلك المعنى منها ويجهد في ذلك ، نظرا لدقّة الموضوع ، وقد سبق منّا بعض الموارد فراجع.

قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)

ترتّب هذا على سابقه كترتّب المعلول على العلّة التامّة ، أي : إذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته ، وأنّه الحقّ النازل من عند الله ، فهو حقّ في موافقته مع الكتب الإلهيّة ، وحقّ فيما خالفها ، فلا بدّ أن تحكم بين الناس ـ ولا سيما أهل الكتاب ـ بما أنزل الله عليك من الأحكام والشريعة ، فإنّه الحقّ الذي لا محيص عنه ، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الأمر يتعلّق بالحكم بين أهل الكتاب ، وهو وإن كان صحيحا ، لكن يبعده احتياجه إلى التقدير ، أي : إن حكمت بينهم فاحكم بما أنزل الله. فإنّه عزوجل خيّره صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الحكم والإعراض عنهم في قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، ويمكن القول بأنّ ذلك كان في وقائع خاصّة ، أو قبل أن يأمره الله بالحكم بينهم بما أنزل ، فإنّه القرآن المهيمن على الكتب ، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع ، فلا موجب لاختصاص الضمير في (بينهم) باليهود ـ كما ذكره بعضهم ـ أو بأهل الكتاب. بل الأنسب التعميم بالنسبة إلى جميع

٢٧١

وكيف كان ، فإنّ في تقديم (بينهم) الاعتناء بتعميم الحكم ، كما أنّ في وضع الموصول موضع الضمير ، التنبيه على علّية ما في حيز الصلة للحكم ، والترهيب عن المخالفة.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ).

أي : بعد وضوح الحقّ فلا تتبّع أهواء الكافرين والمعاندين الزائفة بالإعراض والعدول عمّا جاءك من الحقّ الذي لا مرية فيه ، ولا يجوز العدول عنه ، وذكر الحقّ للتأكيد على أنّ ما سواه باطل ، وللدلالة على كمال الاجتناب عن اتّباع الأهواء ، ونهي المعصوم عليه‌السلام عن اتّباع الأهواء إما لأجل تعليم الغير ، أو لأنّ النهي لمن لا يتصوّر منه وقوع المنهي عنه جائز لا إشكال فيه.

قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).

بيان لحقيقة من الحقائق الاجتماعيّة.

وأساس هذه الحقيقة هو اختلاف استعداد أفراد الإنسان ولياقتهم ، فإنّ الله تعالى لم يخلقهم شرعا سواء في القابلية والاستعداد والملكات ، والآية الشريفة بمنزلة التعليل لما ورد قبلها من الأمر والنهي ، وفيها التأكيد على متابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والانقياد لحكمه بما أنزل الله تعالى ، لأنّ السابق وإن كان منهاجا وشريعة ، إلّا أنّ الذي كلّفوا به هو ما جاء به الرسول الأعظم ، فإنّه الحقّ دون غيره ممّا نسخته هذه الشريعة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها وأجمعها ، ولا وجه لأخذ الناقص ، ولا سيما أنّ الإنسان لم يبق على واحدة ، فهو في طريق الاستكمال والترقّي. ومادة (شرع) تدلّ على السبيل الموصل إلى المطلوب ، ومنه شريعة الماء ، أي : الطريق الموصل إليه ، ومنه أيضا : ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ، ومنه : شرع سواء ، إذا تساوى القوم في أمر ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من خمسة موارد ، قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) [سورة الجاثية ـ ١٨] ، وقال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [سورة الشورى ، الآية : ١٣] ، والشرع مصدر ثمّ جعل اسما للطريق النهج فقيل : يشرع وشرع وشريعة ، وتطلق على المادّيات كما عرفت في شريعة الماء ، وفي المعنويّات ،

٢٧٢

يقال : شريعة الله ، وهي الطريقة الإلهيّة الموصلة إلى الحياة الأبديّة ، وهي التي تطهّر العامل من درن المعاصي والأوساخ المعنويّة ، كما يطهّر الماء الأوساخ الظاهريّة.

وكيف كان ، فقد اختلفوا في معنى الشريعة ، والظاهر أنّ المراد منها هي الطريقة العمليّة التي تهدي الإنسان إلى إقامة دين الله تعالى ، فتختصّ بالأحكام العمليّة من الأحكام والفرائض والحدود ، وأما الدين ، فهو أوسع وأشمل من حيث يشمل جميع جوانب الحياة ، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [سورة الشورى ، الآية : ٢١] ، فإنّه عزوجل أنكر عليهم التشريع في الدين بغير إذن الله تعالى ، فكانت الشريعة حصّة خاصّة من الدين ، بها يتديّن المرء ، ولذا استعملت هذه الكلمة في خصوص تلك الأديان الإلهيّة السابقة التي شرّعت فيها أحكاما وفرائض ممّا ذكره عزوجل في قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى ، الآية : ١٣] ، هذا ما يتعلّق بالشريعة ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وأما المنهاج فأصله الطريق الواضح البيّن ، ومنه طريق نهج ، أي : بيّن واضح ، وأنهج الأمر ونهج ، إذا وضح. ومنهج الطريق ، ومنهاجه ، وقيل : هو الطريق الواضح في الحياة ، فإنّ لكلّ قوم عاداتهم وتقاليدهم وسننهم في الحياة ، ممّا لم تنسخه الشريعة ولم يردع عنها الله تعالى. والحقّ أنّ المنهاج هو الطريق الموضح للشريعة ، فيكون تابعا لها ، أى : لطريقة الهداية التي يهدي سالكها إلى الصلاح وتزكية النفوس. ومن هنا جاء في بعض الأخبار : «انّ المنهاج السنّة ، والشرعة السبيل ، وأمر كلّ شيء بالأخذ بالسبيل والسنّة» ، وهما مختلفان باختلاف استعداد البشر وأحوال الاجتماع ، والمراد من الجعل في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا) ، الجعل التشريعيّ التابع للجعل التكوينيّ كما عرفت ، والمعنى : جعلنا لكلّ امّة من الناس شريعة ومنهاجا لا يمكن أن تتخطّاها ، والاختلاف وإن كان في الفروع والأحكام العمليّة ، ولكن الشرائع كلّها اتّفقت على أصل الدين وجوهره ، وهو المبدأ والمعاد ، أي : توحيد الله تعالى

٢٧٣

والدعوة إليه وتسليم الوجه له ، والأنبياء مهما اختلفوا في الأحكام الفرعيّة ، إلّا أنّهم اتّفقوا في ذلك ، والآية لا تدلّ على بطلان شرع من قبلنا ، كما زعمه بعض المفسّرين ، فإنها ليست في مقام بيان هذه الجهة ، فقد تتّحد الشرائع في كثير من الأمور ، وإنّما تختلف فيما يرجع إلى استعداد البشر وحال الاجتماع والظروف التي تحيط بكلّ امّة ، وقد تبادلت الشرائع فيما بينها واختلفت في الأخذ والعطاء ، فأخذت شريعة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله الملّة الحنفيّة التي جاء بها إبراهيم عليه‌السلام ، وأقرّت كثيرا من الأحكام التي نزلت في بقية الشرائع الإلهيّة ، فإنّ طريق الهداية واحدة وإن اختلفت المسالك إليها.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

بيان للسبب في اختلاف الشرائع ، أي : ولو شاء الله تعالى أن يجعلكم أيها الناس امّة واحدة بأن يخلقكم مع استعداد واحد لا اختلاف في القابليات ، فتتّحد جميع الشرائع والمناهج ، فيكون المراد من الجعل هو الجعل التكوينيّ ، بمعنى خلقهم على مستوى واحد من الاستعداد والتهيؤ والقابلية ، لا أن يكون المراد منه النوعيّة الواحدة ، فإنّ الناس أفراد نوع واحد ، أي : لم يخلقهم كسائر أنواع الخلق يقفون عند استعداد واحد ، بل اختلفت العطايا الإلهيّة والفيوضات الربّانيّة لأفراد هذا النوع ، فجعلهم على تفاوت كبير في القابلية والاستعداد ، فاقتضى ذلك أن تختلف الشرائع والمناهج ، لتتمّ سعادتهم وتكون سلما لارتقائهم درجات الرقي والكمال ، والأمم التي اختلفت الشرائع فيها قد ذكرها عزوجل في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ...) [سورة الشورى ، الآية : ١٣].

قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ).

تعليل لما سبق وبيان لأحد وجوه الحكمة في تردّد الشرائع ، أي : لما كانت العطايا الإلهيّة لأفراد نوع الإنسان مختلفة ومتفاوتة لجهات كثيرة وحكم متعدّدة ، فكان لا بدّ من تعدّد الشرائع طبقا لمراتب الاستعداد والقابليات ، والعلّة في ذلك هي أنّ إرادته تعالى تعلّقت بأن يكون ذلك امتحانا لكم فيما أنعم عليكم من

٢٧٤

الأحكام والتكاليف المجعولة ، ومعرفة مقدار صبركم على الطاعة وصبركم عن المعصية ، ويتميّز الصالح منكم عن الطالح والمحسن عن المسيء.

قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

بيان لحقيقة واقعيّة دخيلة في تشريع الشرائع ، ودعوة إلى التحلّي بالفضائل ومكارم الأخلاق ، بعد بيان وجه من وجوه الحكمة في اختلاف الشرائع التي أنزلها عزوجل في سبيل سعادة الإنسان ، إلى أن وصلت إلى شريعة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله التي حازت قصب السبق على جميع الشرائع ، فصارت حاوية لجميع الكمالات المعنويّة والظاهريّة ، فإذا كان أمر الشرائع هكذا فابتدروا بالالتزام بما جاء فيها من الأحكام التي في خيركم وصلاحكم ، وانتهزوا الفرصة بالمسارعة بالعمل بها ، فإنّ ذلك هو المقصود من تلك الشرائع ، فلا تشغلوا أنفسكم بما جاء فيها من الاختلاف ، فإنّه إعراض عن الهدى واتّباع للهوى ، والاستباق أخذ مسبق ، والخيرات اسم جامع لكلّ الفضائل والمكارم وما يرجع إلى صلاح الإنسان وسعادته وما ينفعه في الدنيا والآخرة ، وإتيانه جمعا إما لأجل تعدّد الشرائع أو تعدّد الخير في الشريعة الختميّة ، فتكون زيادة في الدعوة إلى الإيمان بها ، ويؤيّد الأخير قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ...) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٣] ، وتقدّم التفسير فراجع.

قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

تعليل لاستباق الخيرات ، وفيه وعد للمؤمنين الذين استبقوها وبادروا إلى طلب مرضاته عزوجل ، ووعيد لمن شغل نفسه بما كان سببا في شقائها ، فإنّ الجميع ترجعون إليه عزوجل فينبئكم بحقيقة ما كنتم فيه تختلفون ، ويحكم بالحكم الفاصل بين المحقّ والمبطل ، ويجد كلّ امرئ منهم جزاء عمله ، إن خيرا فخيرا وإن شرّ فشرّا.

قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ).

بيان للقسم الأخير من أقسام الحكم والقضاء بين الناس التي تقدّم ذكرها ،

٢٧٥

وهذا القسم يختصّ بالحكم بما أنزل الله تعالى ، وهو الحقّ الذي لا محيص عنه ، والعلم بأنّه حقّ ، ومنه يعلم أنّه لا تكرار في المقام ، فإنّ الآيات السابقة إنّما تضمّنت بقية الأقسام ، فكان الأمر بالحكم بما أنزل الله تعالى عقيبها لبيان الحكم الواقعيّ ، ونفي ما عداه ، مضافا إلى أنّ آية المقام تأمر بالحكم بما أنزل الله تعالى وتحذّر من اتّباع أهواء الناس ، لأنّ الحق قد وضعت معالمه واستقرّت دعائمه وأركانه بنزول هذه الشريعة ، فالواجب على الناس أجمعين أن يستبقوا الخيرات في تطبيقها.

وأما قوله تعالى في الآية السابقة (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) ، فإنّه أمر بالحكم بما أنزل الله تعالى بعد بيان نوعية المخالفة ، ويبيّن أنّ توليهم عنه كاشف عن إضلال إلهيّ لفسقهم ، كما قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦] ، فيكون توطئة لهذه الآية ، وهي توضح ما تضمّنته الآية السابقة وتبيّن ما أجمل فيها ، فإنّ إعراضهم عمّا أنزل الله تعالى إنّما هو لأجل كونهم فاسقين ، وقد أراد الله تعالى أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين من تفسير الآية الشريفة ، فإنّه من التطويل الذي لا طائل تحته.

قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

تحذير أكيد له صلى‌الله‌عليه‌وآله من إضلالهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصرف عن بعض ما أنزل الله إليه ، وقطع لأطماعهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإعادة (ما أنزل الله إليك) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب. فإنّ لهم أساليب متعدّدة خفيّة وجليّة في إضلال الناس وإغوائهم ، وقد حكى عزوجل جملة منها في مواضع من القرآن الكريم وكشف عن بعض أساليبهم الخبيثة التي لها تأثير كبير في هذا المجال ، قد تخفى على كثير من الناس ، إلّا من عصمه الله تعالى. ومنه يظهر أنّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحذر عن فتنتهم مع كونه معصوما ، إما لأجل إعلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله بفظاعة الأمر وشدّته ، فإنّ فتنتهم له بالصرف عن بعض ما أنزل الله إليه ولو كان أقلّ قليل ، هو عظيم عند الله تعالى ، أو لأجل التأكيد له بأنّهم جادون في إضلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو كان في أقلّ قليل من الحكم ، ولهم في ذلك أساليب متعدّدة ، أو لأجل تعليم غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله من امّته من الحذر منهم ، أو لأجل بيان أنّ

٢٧٦

العصمة فيه لا توجب سقوط التكاليف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو مختار في كلّ فعل ، إلّا أنّ العلم الذي علّمه الله تعالى يمنعه من ارتكاب السوء والفحشاء ، وقد تقدّم الكلام في ذلك فراجع.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ).

تطييب لنفس الرسول الكريم وإرشاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن لا يحزن إذا تولّوا عن الدعوة وأعرضوا عن قبول ما أنزله الله تعالى ، فإنّهم غير معجزين الله تعالى ، وأنّ حكمه نافذ وسيحاسبهم على ما أجرموا ، والآية الشريفة تبيّن ضلالهم بعد ما بيّنت أنّهم فاسقون قد خرجوا عن طاعة الله تعالى عند ما أعرضوا عن قبول حكمه ، وفي قوله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ) ، إيماء إلى أنّ توليهم هذا إنّما هو بتسخير إلهيّ ، لأنّهم سلبوا التوفيق عن أنفسهم بالإعراض عمّا أنزله الله تعالى ، فلا موجب للحزن عليهم بعد ما اختاروا ذلك بأنفسهم ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً. إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [سورة الكهف ، الآية : ٦ ـ ٨] ، فإنّه يدلّ على أنّ الله إنّما خلق الدنيا وما فيها لأجل اختبار الإنسان وامتحانه في قبوله الحقّ وتمييز المحسن الذي أحسن عملا عن المسيء الذي أساء في عمله ، فهو الذي يختار أحد الطريقين ، وقد بعث الله تعالى الأنبياء والمرسلين مبشّرين ومنذرين ، لينيروا لهم الطريق ، فلا موجب للحزن عليهم ، وإنّما ذكر عزوجل : (بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ، وهو ذنب التولّي والإعراض الذي هو ذنب عظيم ، إيذانا بأنّ لهم ذنوبا ، فهذا واحد من جملتها ، وإيماء بتغليظ العقاب ، فإنّه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم ، أيّ بعض كان ، فيهلكوا أو تسوء عاقبتهم ، فيكون الإبهام لتعظيم ذنب التولّي. وفي الآية الإشارة أيضا إلى كمال لطفه بعباده ، بأنّه لا يأخذهم بجميع ذنوبهم دفعة وحدة.

قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ).

تعليل لما سبق ، أي : أنّ الله تعالى إنّما أضلّهم ويصيبهم ببعض ذنوبهم ، لأنّهم فسقوا عن أمر ربّهم وأعرضوا عن قبول ما أنزله الله ، وفيه التسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن

٢٧٧

امتناع القوم من الإقرار بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعراضهم عن قبول الحقّ ، فإنّ أهل الإيمان قليل وأهل الفسق كثير ، فلا ينبغي أن يحزن ويعظم ذلك عنده ، كما عرفت.

قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ).

إنكار وتوبيخ وتعجيب من حالهم ، فإنّ التولّي عن حكم الله عجيب ، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب ، وفيه إشارة إلى أنّه ليس وراء ما أنزله الله تعالى إلّا حكم الجاهلية ، فإذا تولّوا عن حكم الله عزوجل فليس هناك إلّا حكم الجاهليّة الذي يبتني على اتّباع الهوى ومتابعة النفس الأمّارة ، ويستفاد من الآية الشريفة أنّهم يعلمون أنّ ما أنزل الله تعالى هو الحقّ ، فإذا تولّوا عنه فإنّما يبغون حكم الجاهلية وهذا شيء عجيب ، ولذا جاءت الجملة تفريعا على ما سبق بنحو الاستفهام ، وقد تقدّم الكلام في مادة (بغى) التي تدلّ على الطلب ، كما أنّ المراد من الجاهليّة هي كلّ ملّة باطلة وحكم جائر ، الذي يكون منشأها العناد واللجاج والإعراض عن الحكم الحقّ ، اتّباعا للهوى. وقد ورد في الحديث : «انّ الحكم حكمان ، حكم الله ، وحكم الجاهليّة» ، كما ستعرف.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً).

إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه عزوجل ، فلا أحد أحسن حكما من الله تعالى ، ولا ريب في أنّه لا يتبع حكم إلّا لحسنه.

وإنّما اطلق الحسن ، لأنّ حكم الله تعالى يجمع حسن الدنيا والآخرة ، ويجتمع فيه جميع أنحائه.

قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

تقرير لما سبق ، واللام إما بمعنى عند ، أو للبيان متعلقة بمحذوف كما في (هَيْتَ لَكَ) [سورة يوسف ، الآية : ٢٣] ، «وسقيا لك» ، أي : إنّما يتبيّن حسن الأحكام وقبحها لقوم يؤمنون ويتدبّرون الأمور ، وأما غيرهم فلا يعلمون ذلك. وإنّما أخذ عزوجل صفة اليقين للإعلام بأنّهم لو صدقوا في دعواهم الإيمان بالله تعالى ، فلا بدّ أن يذعنوا لأحكامه وآياته ولا يبغوا غيرها ، وينكروا بأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله عزوجل.

٢٧٨

بحوث المقام

بحث أدبي :

اللام في الكتاب (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) للعهد والتعظيم ، كما أنّ اللام في قوله تعالى : (مِنَ الْكِتابِ) للجنس ، ويصحّ أن تكون للعهد ، أي : تلك الكتب المعهودة ، (بِالْحَقِ) حال مؤكّدة من الكتاب.

كما أنّ قوله تعالى : (مُصَدِّقاً ...) حال اخرى من الكتاب. وأشكل على ذلك بأنّه لا يصحّ كونه حالا ممّا ذكر ، إذ لا يكون حالان لعامل واحد ، وهي حال من الضمير المستكن في الجارّ والمجرور قبله.

وتقدّم الكلام في معنى المهيمن ، وفعله هيمن والهاء أصليّة ، وله نظائر مثل بيطر ، وخيمر ، وسيطر ، وزاد بعضهم : بيقر وشيطن ، وحيعل وفيصل ، وقيل : إنّها مبدلة من الهمزة ، ومادته من الأمن ، كمهراق ، فقالوا : إنّ المهيمن أصله مؤمن ، وهو من أسمائه عزوجل ، فصغّر وأبدلت همزته هاء ، وأبطله جمع آخرون ، بل جعلوه كفرا ، لأنّ أسماء الله تعالى لا تصغّر ، وكذا كلّ اسم معظّم شرعا.

وتقديم (بينهم) في قوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) ، للاعتناء بتعميم الحكم لهم.

ووضع الموصول موضع الضمير في قوله تعالى : (بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، تنبيها على علّية ما في حيّز الصلة ، وترهيبا عن المخالفة.

واللام في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ، للاختصاص. و (منكم) متعلّق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه التنوين ، أي : ولكلّ امّة كائنة منكم.

وأشكل على ذلك بعضهم بأنّه لا تجوز الوصفية ، لأنّه يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي ، كما يوجب الفصل بين الفعل (جعلنا) ومعموله ، وهو (شرعة). وأجيب عنه في المطولات فراجع.

٢٧٩

وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ، استئناف مسوق للتعليل لاستباق الخيرات بما فيه الوعد والوعيد ، و (جميعا) حال من الضمير المجرور.

وقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، قيل : إنّه عطف على الكتاب ، والتقدير : (وأنزلنا إليك الكتاب وقولنا احكم ، وقيل : إنّها عطف على الحقّ ، ولا حاجة إلى تقدير القول. وقيل : إنّها جملة مستأنفة اسميّة ، بتقدير مبتدأ ، أي : وأمرنا أن احكم. والحقّ : إنّها جملة مستأنفة تفيد التأكيد على تثبيت حكم الله تعالى واتّباع الكتاب والحكم بما ورد فيه.

والفاء في قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : يتولّون عن قبول حكمك بما أنزل الله إليك ، فيبغون حكم الجاهليّة ، وقيل : محلّ الهمزة بعد الفاء ، وإنّما قدّمت لأنّ لها الصدارة ، وتقديم المفعول (حكم) للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجّب ، والمشهور أنّ (أفحكم) مبتدأ و (يبغون) خبره ، والعائد محذوف. وقيل : الخبر محذوف والمذكور صفته ، أي : حكم يبغون ، ولكن استضعف حذف العائد من الخبر. وأجيب عن ذلك بأنّه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصفة والصلة.

وكيف كان ، فإنّ في الآيات موارد من الالتفات يظهر للمتمعّن فيها.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على اُمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) ، على شرف القرآن الكريم وعظيم منزلته وفضله على جميع الكتب الإلهيّة ، فقد تشرّف هذا الكتاب وتعظّم بالنزول من عنده عزوجل ، فقال تعالى (وَأَنْزَلْنا) ، وقد ذكرنا في المباحث السابقة أنّ كلّ مورد كان فيه نوع اهتمام وأراد عزوجل إظهار القدرة والمهابة والعظمة فيه أسنده إليه بنون العظمة كما في المقام ، ثمّ أسنده إلى الرسول الكريم

٢٨٠