مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

وقعت فيه الأمم الماضية. وقد حذّرنا الله تعالى منها أشدّ تحذير ، نسأله جلّت عظمته الهداية والتوفيق لما فيه الخير والسعادة.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).

بيان لنواقض الطهارة وموجباتها ، وهي على قسمين : الحدث الأكبر الذي يوجب الغسل ، وهي الجنابة. والحدث الأصغر الموجب للوضوء ، وهو البول والغائط. ثمّ يذكر عزوجل مسوّغات التيمّم ، وبه تتمّ الطهارات الثلاث مع ذكر موجباتها ونواقضها وواجباتها.

والجنب بضم الجيم والنون ، من أصابته الجنابة ، التي هي معروفة عند المكلّفين ، ولها سببان :

أحدهما : ما ذكره عزوجل في ما يأتي (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، الذي هو كناية عمّا يستقبح ذكره ، أي : الوقاع والجماع ، بلا فرق بين خروج المني وعدمه ، فإنّ الموجب هو الدخول.

والثاني : خروج المني في اليقظة أو المنام ، كما دلّت عليه السنّة الشريفة ، على ما يأتي في البحث الروائي.

والجنب مصدر استعمل بمعنى الوصف ، ويقع على الواحد ، والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث ، كما يقال : رجل عدل ، وامرأة عدل وقوم عدل. وتقدّم الكلام في اشتقاقه ومعناه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) [سورة النساء ، الآية : ٤٣].

والطهارة : تطلق تارة ، ويراد منها المعنى المصدري ، أي : نفس الفعل الذي هو الاغتسال. واخرى : يراد بها معنى الاسم المصدري ، أي : الأثر الحاصل من الغسل ، والمراد بها في المقام المعنى الأوّل ، أي : الاغتسال ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) [سورة النساء ، الآية : ٤٣] ، وكذلك دلّت عليه جملة من الأخبار ، وقد استدلّ بعضهم بالتبادر أيضا.

٢١

والآية الشريفة تبيّن أنّ للطهارة إطلاقين ، أحدهما نفس الفعل الذي هو الاغتسال ، كما بيّنته آية النساء والآخر الطهارة الحاصلة بالغسل ، فإنّها أثر مترتّب على الفعل الذي هو الغسل.

والجملة : عطف على جزاء الشرط الأوّل ، أي : إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم جنبا فتطهّروا.

وقيل : إنّها عطف على جملة الشرط السابق ، فلا تكون حينئذ مندرجة تحت القيام إلى الصلاة ، بل هي مستقلّة برأسها ، فتدلّ الآية الكريمة على وجوب الغسل لنفسه ، واستدلّوا على هذا القول بأمور سيأتي ذكر بعضها في البحث الأدبي.

ويستفاد من سياق الآية الكريمة المبالغة في أمر الصلاة ، والتأكيد على الطهارة ومطلوبيتها لنفسها. كما أنّها تدلّ على شرطيّة الطهارة لطبيعة الصلاة ، وكفاية الغسل للدخول في ما يشترط فيه الطهارة ، كالصلاة ، ومسّ كتابة القرآن ، وقراءة آية السجدة في سور العزائم الأربع ، والدخول في المساجد وغير ذلك ، لأنّ المسوّغ في الدخول في ذلك كلّه إنّما يكون بالطهارة ورفع الجنابة ، وهو إنّما يتحقّق بالاغتسال ، وتدلّ عليه جملة من الروايات ، والمسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع.

قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى).

شروع في مسوّغات الطهارة الترابيّة بعد ذكر الطهارة المائيّة ، وبيان لموارد ترك الوضوء والغسل وإتيان بدلهما وهو التيمّم. وقد ذكر عزوجل جملة من الأمور تجمعها عناوين ثلاثة : العجز ، والمشقّة ، وعدم وجدان الماء ، فتكون المذكورات في الآية المباركة بعض المصاديق لها ، وهي الأربعة التي يكثر ابتلاء المكلّفين بها وتصاحب فقدان الماء ، إما غالبا كالمرض والسفر ، أو اتفاقا كالتخلّي ومباشرة النساء ، فتدخل في أحد العناوين الثلاثة المتقدّمة.

ولكن ما ذكره عزوجل منه ما يكون حدثا بنفسه يستوجب الطهارة ، كالأخيرين المعطوفين على الأوّلين بكلمة (أو). ومنه ما لا يكون كذلك ، بل يكون

٢٢

مظنة لتحقّق الحدث فيه ، وهما الأوّلان ، أي : المرض والسفر ، فإنّهما ليسا بنفسهما يستوجبان الطهارة ، بل لأنّهما مظنّة لتحقّق الحدث ـ سواء أكان أصغر أم أكبر ـ فلم تكن المقابلة بين الأخيرين والأوّلين حقيقيّة ، ولذا احتمل بعضهم أن تكون (أو) بمعنى الواو ، كما في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [سورة الصفات ، الآية : ١٤٧]. ولكنه بعيد ، لما ذكرناه آنفا من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان مسوّغات التيمّم التي تجمعها العناوين المتقدّمة ، ولا ريب في أنّ شاهد الحال والعرف يقضيان باعتبار الحدث في كلّ ما يسوغ التيمّم ، فتكون (أو) باقية على ظاهرها من التقسيم والتنويع ، لكون المقام مقام التردّد فيه بالطبع ، فلا يحتاج إلى التجوّز.

والمراد بالمرض في المقام ما يضرّ معه استعمال الماء ، وما يكون سببا للعجز عن تحصيله ، بلا فرق فيه بين أن يكون شديدا أو يسيرا ، إلّا أن يكون يسيره ممّا ليس فيه مشقّة وكلفة ، بحيث لا يصدق عليه المرض عرفا.

وإنّما يحكم بالمرض وأقسامه الذي يسوّغ التيمّم التجربة وأهل الخبرة ، وتدلّ على ذلك جملة من الروايات ، وسيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أَوْ عَلى سَفَرٍ).

فرد آخر من الأفراد التي قد يبتلى بها المكلّف ممّا لا يمكن تحصيل الماء فيه ، كما يرشد إليه تنكير (سفر) ، والجملة عطف على قوله تعالى : (فَامْسَحُوا).

والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا ، فلا يستفاد من الآية المباركة أنّ هذه الجملة قيد لغيرها من المذكورات.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل السفر الطويل والقصير بما يسمّى سفرا عرفا ، بحيث يشقّ فيه تحصيل الماء ويغلب فيه فقدان الماء.

قوله تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ).

الكلام في عطف هذه الجملة نفس الكلام في سابقتها ، والتقدير : إذا قمتم إلى

٢٣

الصلاة وقد جاء أحد منكم من الغائط فلم يجد ماء ، فيتيمم. وقد ذكرنا أنّ هذا الفرد بنفسه موجب للطهارة.

والآية الشريفة في غاية الأدب ومنتهى الفصاحة ، حيث كنّي فيها عمّا يستقبح ذكره بأسلوب أدبي رفيع ، وبولغ في الإبهام من دون الإضافة التي شوب التعيين رعاية لجانب الأدب.

والغائط : المكان المنخفض من الأرض ، وقد كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس وتأدّبا. وقيل : إنّه المطمئن من الأرض. وقيل : عمق الأرض الأبعد.

وكيف ما كان ، فسمّي الحال باسم المحلّ حتّى غلب استعماله في معناه المعروف ، وهو النجوّ نفسه ، كالعذرة التي هي بمعنى عتبة الدار وفنائها ، فغلب استعمالها في معناها المعروف ، وهو ما يخرج من الأسفل من بقايا الطعام ، والمراد به في المقام مطلق الحدث الأصغر الموجب للطهارة الخارج عن أحد السبيلين ، كما بيّنته السنّة الشريفة.

قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ).

كناية عن الجماع ، وهو أيضا أدب قرآني ، صونا للسان عمّا يستقبح ذكره ، وقد ذكرنا في سورة البقرة أنّ المسّ واللمس بمعنى واحد. ولعلّ التصريح به في المقام مع أنّه داخل في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) ، لبيان أحد موجبات الجنابة ، فيكون تفسيرا لها ، أو للإشعار بأنّ الأمر ممّا تقتضيه الطبيعة كسابقه ، ولكثرة وقوعها. ولكنّهما يفترقان في أنّ الأوّل حدث أصغر يوجب الوضوء ، والثاني حدث أكبر يوجب الغسل ، بخلاف المرض والسفر اللذين هما أمران اتفاقيان.

وقد استجمعت الآية الشريفة جميع الحالات الطارئة للإنسان ، الطبيعيّة منها والاتفاقيّة ، وعالجتها بأسلوب أدبي رفيع يفهمه كلّ مكلّف ، وهو من إعجاز هذا الكتاب الكريم الذي تحدّى جميع الكتب السماويّة وخضعت له الفصاحة والبلاغة.

٢٤

وممّا ذكرناه يعرف فساد ما نسب إلى بعضهم من كفاية مطلق لمس النساء في الطهارة ، أخذا بظاهر اللفظ وإبقاء له على معناه الحقيقي من دون حمله على معناه الكنائي ، الذي هو أسلوب من الأساليب البلاغيّة المعروفة ، مع أنّ سياق الآية الكريمة لا يلائمه ، لأنّ الآية المباركة بيّنت الحدث الأكبر ابتداء ، ثمّ ذكرت الحدث الأصغر في الحالة الاعتياديّة ، ثمّ ذكر الحدث الأصغر في الحالة الاضطراريّة ، فلو حملناه على المعنى الذي ذكره يستلزم منه إهمال فرض من الفروض ، وهو الحدث الأكبر في الحالة غير الاعتيادية ، وعدم بيان حكمه ، وهو التيمّم بدل الغسل ، وأنّ به تستوفى الفروض.

قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً).

جواب الشرط «إن كنتم» ، فيكون المراد من عدم الوجود أعمّ من عدم الوجدان والعجز من تحصيله ، وعدم التمكّن من استعماله من جهة المرض وغيره ، وهو الأنسب ، والعطف بالفاء لبيان أنّ عدم الوجدان إنّما يكون معتبرا لعدم حصول هذه الأسباب.

وقال بعضهم : إنّه معطوف على قوله : «جاء» ، فيكون قيدا للسفر ، والغائط ، وما عطف عليه. ويكون حكم من كان المرض مانعا له عن تحصيله ـ لا استعماله ـ مستفادا من دليل آخر ، ولكنّه تبعيد للمسافة.

كما أنّ القول بأنّه معطوف على «لامستم» ، لأنّه أقرب لفظا.

مردود أيضا كما هو واضح ، وقد تقدّم الكلام في هذه الآية المباركة في سورة النساء الآية ـ ٤٠.

والظاهر منها أنّ المراد بوجود الماء ، وجود ما يكفي للطهارة ، فلو وجد ما يكفي لبعض الأعضاء فقط ، فهو في حكم الفاقد لها أجمع ، كما أنّ الظاهر منها أنّه إذا كان قادرا على الطلب في الجملة يجب عليه ، إذ مع وجوده في أحد أطرافه لا ينطبق عليه عنوان أنّه لم يجد ، وسيأتي في البحث الفقهي ما يناسب الموضوع.

٢٥

قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).

التيمّم : هو القصد ، وقد استعمل في الشرع في مسح الجبهة واليدين بالتراب.

والصعيد : هو وجه الأرض. وقيل : الصعيد هو الغبار الذي يصعد ، أي : من الصعود ، ولهذا قالوا لا بدّ للمتيمم أن يعلق بيده الغبار.

ولكن ادّعى الزجاج عدم الخلاف بين أهل اللغة أنّه مطلق «وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن» ، ونقل المحقّق عن ابن الأعرابي ذلك أيضا. إذا لا وجه لهذا القول كما هو واضح.

والطيب : هو الخالص المنزّه عمّا يستخبث ويكره ، سواء كان بحسب حاله وذاته أو المراد منه أو يرغب فيه ومنه ، فيشمل الطهارة والإباحة وعدم خروجه عن حالته الطبيعيّة بالطبخ ونحوه ، فتكون من وجوه الطيب ، وهذا هو الظاهر من موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب والسنّة الشريفة ، فيكون ما ورد في السنّة الشريفة مؤكّدا لما تدلّ عليه الآية الكريمة.

وقيل : إنّ المراد بالطيب الطاهر ، فيكون دليلا على اشتراط الطهارة لما يتيمم به ، ولكنّه تخصيص للآية المباركة بغير دليل ، وقد تقدّم الكلام في سورة النساء الآية ـ ٤٠ فراجع.

قوله تعالى : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ).

بيان لكيفيّة التيمّم بعد ذكر المتيمم به بلفظ بليغ ، وهو بإيجازه يشمل كثيرا من المعاني ، وتقدّم الكلام آنفا في المسح ، والوجه ، واليدين ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها في التيمّم ما يراد منها في الوضوء ، فإنّهما من باب واحد ، إلّا أنّ في التيمّم يكفي مسح الوجه وبعض اليدين ، لمكان (الباء) ، وقد حدّدتهما السنّة الشريفة بما بين الجبينين إلى أطراف الأنف في الوجه ، وبما دون الزند إلى أطراف الأصابع في اليدين ، وسيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام.

ولكن لا ينبغي الشكّ في دلالة الآية المباركة على أنّ المسح يتقوّم بالماسح

٢٦

والممسوح والممسوح به ، وتدلّ عليه الروايات البيانيّة وغيرها التي تبيّن كيفيّة تيمّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما سيأتي في البحث الروائي.

وإنّما اكتفى القرآن الكريم بذكر تيمّم بالصعيد الطيب وذكر الممسوح به والماسح ، واستغنى عن ذكر الضرب على الصعيد أو مسّه بباطن الكفين ، لأجل التفنّن في العبارة والبراعة فيها ، إلّا أنّ الأسلوب يدلّ على ما ذكرناه كما عرفت ، والضمير في «منه» يرجع إلى الصعيد.

واختلف في «من» فقيل : إنّها تبعيضيّة ، أي : ببعض الصعيد بما علق باليدين من تراب وغبار ، فتدلّ الآية الشريفة على اشتراط العلوق ، أي : بقية الصعيد على اليدين ، فلا يصحّ التيمّم إن لم يكن عليهما بقيّة منه.

وقيل : إنّها ابتدائيّة ، أي : يجب التيمّم مبتدأ من الصعيد.

والحقّ : أنّه لا فرق بين أن تكون (من) تبعيضيّة أو ابتدائيّة في عدم استفادة العلوق باليدين في التيمّم ، فإنّ التيمّم ببعض الصعيد أو مبتدأ منه باعتبار كونه مورد ضرب اليدين أو الاعتماد عليه ، أجنبي عن تعلّقه باليدين ، إلّا أن يستفاد بضميمة القرائن الخارجيّة ، ولعلّ ما ورد في بعض الروايات من عدم اشتراط العلوق إشارة إلى ما ذكر.

وبالجملة : أنّ الآية المباركة تدلّ على وجوب ضرب اليدين على الصعيد وكونه موردا لاعتمادهما ، بلا فرق بين أن يكون مبتدأ أو يكون الضرب على بعضه ومسحهما على بعض الوجه وبعض اليدين ، كما تدلّ عليه الروايات البيانيّة ، وسيأتي نقل بعضها.

قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ).

بيان لقاعدة من القواعد التسهيليّة الامتنانيّة التي بنيت عليها الشريعة السمحاء ، وتمسّك بها الفقهاء في مواضع كثيرة في الفقه ، وأسموها ب «قاعدة نفي الحرج» ، وتعتبر من إحدى الحكم في تشريع الطهارات الثلاث التي سيذكرها جلّ

٢٧

شأنه في الآيات الكريمة التالية ، ومن سرد تلك الحكم في المقام يستفاد أهميّة تلك الأحكام وعظيم أثرها في تهذيب النفس وتزكيتها.

وأسلوب الآية الشريفة يدلّ على نفي جعل وتشريع كل الأحكام الإلهيّة التي يراد بها الحرج على المؤمنين ، فإنّ نفي الإرادة أبلغ من نفي الفعل وأشدّ في تأكيده ، كما عرفت في نظائر هذا الأسلوب في الآيات المباركة السابقة ، وتؤكّد ذلك أيضا دخول «من» الجارّة على مفعول «ما يريد» ، فتكون بيانيّة لا زائدة ، كما زعمه بعضهم.

ويدلّ على ما ذكرناه أيضا قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) الدالّ على نفي الحرج في ملاكات الأحكام مطلقا ، فإنّها شرّعت لأجل مصالح وحكم واقعيّة ، لا لغرض الحرج والمشقّة.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل نفي كلّ حرج ، سواء كان في التكاليف الأوليّة ، أو التكاليف الثانويّة ، فإنّه إذا عرض ما يوجب الحرج والمشقّة اتفاقا في حكم ، فإنّه ينتقل إلى البدل فيه إن كان ممّا له بدل ـ كما في الصوم وغيره من التكاليف غالبا ـ وإلّا فيسقط الحكم رأسا في تلك الأفراد الحرجيّة ، ولا يسقط غيرها.

والحرج : هو الضيق والمشقّة ، قال تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) [سورة النساء ، الآية : ٦٥] ، وقال سبحانه وتعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج ، الآية : ٧٨].

والمعنى : لم يكلّف الله تبارك وتعالى المؤمنين بتحصيل الطهارة المائيّة على وجه يستلزم الحرج والمشقّة عليهم ، إما بإتلاف مال أو بالتغرير بالنفس أو الضرر عليها ونحو ذلك ممّا فيه كلفة عليهم ، فإنّه ينتقل إلى البدل وهو الطهارة الترابيّة ، فقد كلّفهم بها بما لم يستلزم المشقّة والحرج أيضا ، وإلّا فيسقط الحكم رأسا ، كما هو مذكور الفقه ، فإنّ الله تعالى ما يريد من الأمر بالطهارة المائيّة ثمّ الترابيّة إلّا التوسعة على المؤمنين ، لا الحرج والمشقّة ، وسيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

٢٨

قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ).

حكمة اخرى ، أي : إنّما يريد الله تعالى ـ من الوضوء والغسل والتيمّم ـ تطهيركم ، فاللام تكون للتعليل. والجملة مفعول (يريد) المحذوف. وذكر الرضي أنّ اللام زائدة ، و (يطهّركم) مفعول بتقدير (أن) بعد اللام ، كما هو الشأن في نظائر المقام ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٢٦].

وكيف ما كان ، فإنّ إطلاق الطهارة يشمل الطهارة المعنويّة الحاصلة من رفع الحدث بأحد تلك الأسباب الثلاثة التي يشترط الصلاة بها ، والنظافة الظاهريّة من الدرن والأوساخ. وأما الطهارة من الخبث ، فإنّها قد تحصل بالعرض ، فلا تدلّ الآية المباركة عليها.

ويستفاد من الآية الكريمة أنّ الشرط في القيام إلى الصلاة هو الطهارة ، فلو كان متطهّرا لا يجب عليه الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إليها مرّة اخرى.

قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).

الإعراب فيه كما ذكرناه في الجملة المتقدّمة ، وسبق الكلام في معنى النعمة وإتمامها في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، والمراد بالنعمة في المقام تلك الأحكام والتوجيهات والمعارف التي نزلت لتكميل الإنسان وإرشاده إلى سعادته في الدارين ، ومنها تلك التي ذكرت آنفا التي يستلزم العمل بها الدخول في ولاية الله تعالى ، الذي هو المقصد الأسنى في خلق الإنسان.

وإطلاق الآية الشريفة يشمل النعمة التي أرادها الله تعالى للمؤمنين ، وهي طهارة النفوس من درن الذنوب وآثارها وتزكيتها ، التي هي غاية خاصّة لتشريع الطهارات الثلاث ، ونعمة الدين الذي هو مجموعة أحكام وتوجيهات وإرشادات قيّمة لتكميل النفوس المستعدة وإعدادها لنيل الفيوضات الإلهيّة وهدايتها إلى ما يوجب سعادتها ، فاجتمعت في هذه الآية المباركة الغايتان الخاصّة ـ للتشريعات الثلاثة المتقدّمة ـ والعامّة لمجموعات الأحكام الإلهيّة.

٢٩

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

غاية اخرى ، وهي إعداد الإنسان إعدادا علميا وعمليا لطاعته والقيام بشكره ، ليكون سببا لدوام نعمه عزوجل ، وهو القائل : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٧].

والآية الشريفة جمعت كلّ ما له دخل في سعادة الإنسان وما يهديه إلى الكمال المنشود ، ومن ذلك كلّه يظهر أهميّة الأحكام الإلهيّة في حياة الإنسان الظاهريّة والمعنويّة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

ترغيب إلى دوام طاعة الله سبحانه وتعالى ، وحثّ على الوفاء بعهده ، وتذكير لهم بما أنعم الله تعالى على المؤمنين من الفيوضات العليّة والمواهب الجميلة والدخول في الإسلام الذي جمعهم بعد أن كانوا متباغضين متفرّقين ، وأرشدهم إلى الكمالات والمعارف الواقعيّة بعد أن كانوا في جاهلية عمياء ، مع أنّ حالهم في الإسلام من حيث أمنهم وغناهم ، وصفاء قلوبهم ، وخلوص نياتهم ، وطهارة أعمالهم معروف لا يمكن إنكاره ، وتبيّن هذه الآية المباركة قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣].

فيكون المراد بالنعمة في المقام تفضيلهم على سائر الناس بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، وأنزل عليهم الكتاب الذي اشتمل على جميع المعارف الواقعيّة والتوجيهات الربوبيّة الذي فيه تفصيل كلّ شيء ، وشرع الأحكام والتشريعات التي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس وتزكيتها ، ويجمع الكلّ الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى دينا لهم ومنهاجا ، ولعلّ في الآية الشريفة الإشارة إلى ما ذكر في أوائل هذه السورة في قوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

قوله تعالى : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ).

الميثاق هو العهد المؤكّد ، وتذكيرهم بالميثاق لأجل دوام الطاعة وحثّهم على

٣٠

العمل بما أخذ عليهم من الميثاق ، والمراد به تلك العهود والأحكام التي أنزلها الله تعالى عليهم وأخذ منهم العهد بالعمل بها ، والدخول في ولاية الله تعالى التي تستلزم قبول ولاية رسوله الكريم ومن نصبه صلى‌الله‌عليه‌وآله وليا على المؤمنين.

قوله تعالى : (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا).

بيان لقوله تعالى : (واثَقَكُمْ بِهِ) وتذكير لهم بوجوب مراعاته بعد التزامهم بالسمع والطاعة والمحافظة عليه ، فقد أعطوا السمع والطاعة للرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يطيعوا الله تعالى في تعليماته وتوجيهاته ، منها تلك التي يتعلّق بالطهارات الثلاث ، وتحريم المحرّمات ، والدخول في ولاية الله تعالى والرسول والمؤمنين.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

تأكيد آخر على المحافظة على عهود الله تعالى ومراعاة أحكامه المقدّسة ، فلا يكونوا كالذين أخذ الله منهم الميثاق فنسوا حظا ممّا ذكروا به ، وقد حرّفوا الكلم عن مواضعه ، ونقضوا حدود الله بالزيادة والنقصان فيها ، كما حكي عنهم عزوجل في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

تحذير لهم في نسيان نعمه ، ونقض مواثيقه ، وما تنطوي عليه ضمائرهم من الخيانة والسوء ، فإنّ الله تعالى عالم بخفايا القلوب وما تضمره النفوس ، ولعلّ الأمر بالتقوى في آخر الآيات المتقدّمة ، لأنّها روح تلك التشريعات ، وبها تتّصف بالخلوص ، ويسلم العمل عن كلّ نقص وعيب.

٣١

بحوث المقام

بحث أدبي :

اختلف العلماء في إعراب الآية الشريفة اختلافا كبيرا ، وقد ذكرنا شطرا منه في التفسير ، ونذكر الشطر الآخر في هذا البحث.

قال بعض العلماء : إنّ الوجه مشتقّ من المواجهة ، واشتقاق الثلاثي من المزيد إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه شائع ، بل قال بعضهم : إنّ ما ذكر من منع الثلاثي من المزيد إنّما هو في الاشتقاق الصغير ، وأما في الاشتقاق الكبير الذي يكون بين كلمتين بينهما تناسب في اللفظ والمعنى ، فهو جائز.

ثمّ إنّهم اختلفوا في معنى (إلى) في قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فقيل : إنّها بمعنى (مع) ، كما في قوله تعالى : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) [سورة هود ، الآية : ٥٢] ، وقوله تعالى : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٢] ، وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٢].

ويردّ عليه : أنّه لا إشكال في مجيء (إلى) بمعنى (مع) ، إلّا أنّ الآية المباركة كما تحتملها تحتمل أن تكون بمعنى (من) ، كما ذكره بعض أعاظم النحويين كابن هشام في المغني وغيره ، مستشهدين بقول الشاعر :

تقول وقد عاليت بالكور فوقها

أيسقى فلا يروى إليّ ابن احمرا

أراد منّي. ونحن في غنى عن هذا الخلاف ، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على تحديد المغسول كما ذكرنا في التفسير ، فتكون (إلى) بمعناها الحقيقي وهو الانتهاء ، ومجيئها بمعان اخرى في غير المقام لا يصير دليلا على كونها في المقام كذلك ، لا سيما أنّ بعض الآيات التي استشهد بها في إثبات المطلوب إنّما كان لأجل قرائن خاصّة

٣٢

حفّت بها ، مثلا فقد ضمن الأكل في قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) معنى يتعدّى بهذا الحرف (إلى) ، كالضمّ ونحوه.

والقول بأنّ الباء في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) زائدة ، باطل ، لأنّه خلاف الأصل ، وقد ذكرنا مرارا أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم ، فهي بمعنى التبعيض ، كما دلّت عليه الاستعمالات الفصيحة ، وانشد ابن مالك :

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

متى لجج خضر لهن نتيج

وأما قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ) ، فقد عرفت الخلاف العظيم في إعرابه وذكرنا الحقّ في التفسير ، ونزيد هنا أنّ مجال النحو واسع ، والعمدة هو الرجوع إلى العرف والأذهان المستقيمة وكلمات الفصحاء في استفادة الظاهر من الكلام وتعيين المراد منه ، كما عرفت آنفا.

ثمّ إنّه يستفاد من تغيير الأداة في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) مع أنّ الآية الشريفة تصدّرت بكلمة (إذا) ، اهتماما بأمر الصلاة والتأكيد عليها ، وأنّ (إذا) تدلّ على ما هو متيقن الوقوع ، تنبيها على أنّ المؤمن لا يكفّ عن إقامة الصلاة ولا يتركها بحال.

مع أنّ الاختلاف يرشد إلى أنّ مدخول (إذا) كثير الابتلاء ، بخلاف (ان) التي تدلّ على أنّ مدخولها نادر وقليل الحدوث.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة ، حيث يدلّ على نفي الفعل بنفي الإرادة. وقيل : إنّ هذا الأسلوب من مختصّات الكتاب العزيز. واختلف النحاة في اللام ، فقيل : إنّها زائدة لتأكيد المفعول. وقيل : إنّ المفعول مقدّر واللام للتعليل. والحقّ هو الثاني ، كما عرفت من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

٣٣

بحث دلالي :

الآيتان الشريفتان من أعظم الآيات القرآنيّة التي تبيّن أحكام الطهارات الثلاث التي يشترط بها أهمّ العبادات في الإسلام ، وهي الصلاة التي تعتبر عمود الدين ، إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها.

وقد بيّن عزوجل في هاتين الآيتين المباركتين جمع ما يتطلّبه هذا الحكم الإلهي ، فذكر تعالى واجباته ، وشروطه ، وآدابه ، والضمان على تنفيذه ، ويستفاد من الآية الكريمة أنّ هذا الحكم ممّا أخذ عزوجل عليه الميثاق ، لبيان أهميته ، ولعلّ السرّ في ذلك علمه عزوجل بتهاون جمع كبير به ، واختلاف الامّة فيه مع علمهم بأنّ له شأنا كبيرا في تطهير النفوس وتزكيتها وتوقّف امور كثيرة عليه.

ويستفاد من الآيات الشريفة اُمور :

الأوّل : يستفاد من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) اشتراط الصلاة بالطهارة ، إما أنّها واجبة لنفسها ، أو واجبة للغير ، قيل : بالثاني ، لدلالة الفاء على الترتيب ، كما يشهد بها العرف والتبادر. وقيل بالأوّل ، كما تدلّ عليه ذيل الآية المباركة (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ويشهد له بعض الأحاديث ، والفاء إنّما تدلّ على الترتيب لو لم تكن في البين قرينة على الخلاف كما في المقام ، بل يمكن أن يقال : إنّ الفاء إنّما استفيد منها الفرعيّة في المقام كما هو واضح ، أما كون الطهارة واجبة بالوجوب النفسي أو الغيري ، فلا يمكن أن تستفاد من الآية الكريمة لوحدها ، إلّا مع انضمام القرائن الخارجيّة التي تدلّ على الثاني ، كما هو الحقّ ، والمسألة محرّرة في الكتب الاصوليّة والفقهيّة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) على لزوم النيّة ، فإنّ الفعل الاختياري ، لا يقع من الفاعل بدونها ، هذا إذا لم نقل بأنّ المراد من (إذا قمتم) أردتم وقصدتم ، وإلّا فالدلالة أوضح وتدلّ عليه جملة كثيرة من الروايات ، وفي الحديث

٣٤

المعروف عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما الأعمال بالنيّات».

الثالث : يستفاد من أسلوب الآية الشريفة الترتيب ـ في واجبات الوضوء والتيمّم ـ والموالاة بينها ، فيجب غسل الوجه ثمّ اليدين ، ثمّ مسح الرأس ، ثمّ مسح الرجلين تسبقها النيّة ، ولعلّ ما ورد في الأخبار : «ابدءوا بما بدأ الله» ، مأخوذ من مثل هذه الآيات الشريفة ، وتدلّ عليها روايات متعدّدة.

وقد يستدلّ على الترتيب بالواو التي تفيد الترتيب ، كما صرّح به بعض أعاظم النحويين. ولكنّه مشكل ، فإنّها حقيقة في مطلق الجمع ، وأما الترتيب فهو يستفاد من القرائن.

وكيف كان ، فإنّ سياق الآية المباركة بل ظاهرها الذي هو الترتيب فهو يستفاد من في مقام البيان ، يفيد ما تقدّم.

الرابع : يستفاد من ظاهر قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، أنّ التيمّم مساوق للوضوء والغسل ، فيباح به كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة ، فيجوز أن يصلّي بتيمم واحد صلوات متعدّدة ، أو يمسّ كتابة القرآن كذلك إذا كان العذر باقيا ، ولا يجب عليه الإعادة مطلقا بعد رفع العذر.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، أنّ إرادته عزوجل تعلّقت باليسر في أحكام الدين ، لا سيما في أحكام الطهارات الثلاث ونبذ المشقّة فيها ، ولعلّ ذكره في المقام عقيب الطهارات الثلاث ، لشدّة ابتلاء المكلّفين بها ، ولعلمه تعالى بما يلاقونه من المصاعب والمتاعب ووسوسة الشيطان لهم ، خصوصا للفاقدين من المعرفة لأحكام الدين.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ، أنّ أحكام الله تعالى الفرعيّة هي من نعمه عزوجل التي أتمّها على عباده المؤمنين وأحكمها عليهم ، ويجب عليهم شكرها بالتذكير ودوام الطاعة ، لا سيما بعد أن أخذ الله تعالى عليهم الميثاق بالسمع والطاعة ، فاجتمع داعي العقل وداعي الشرع في الوفاء بعهود الله تعالى.

٣٥

ولا يخفى أنّ قوله تعالى : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) إشارة إلى ما ذكره عزوجل في أوّل هذه السورة من الوفاء بالعهود ، فيكون المقام قرينة اخرى على أنّ المراد من العقود في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هو العهود.

السابع : يستفاد من إطلاق الآية الشريفة كفاية الغسلة الواحدة ، ومسمّى المسح في الوضوء والتيمّم.

وذكر بعض المفسّرين أنّ إطلاق قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) يدلّ على وجوب غسل جملة البدن كلّه من دون استثناء ، فيدخل فيه كلّ ما يمكن إيصال الماء إليه ، إلّا ما خرج بالدليل ـ كبواطن العين والاذن والأنف والفم ـ فإنّه عزوجل لم يقيّد أن تكون الطهارة ببعضه.

والحقّ : أنّ الآية المباركة لا تدلّ على ذلك ، بل إنّ إطلاقها يدلّ على كفاية مسمّى التطهير ولو لم يستوعب جميع البدن كلّه ، وإنّ الاستيعاب قيد مشكوك وكلفة تنفى بالأصل. إلّا أنّ السنّة الشريفة البيانيّة منها وغيرها بيّنت الاستيعاب في الغسل وذكرت خصوصياته بأتمّ وجه وأكمل بيان ، فلا مجال حينئذ للأصل.

نعم ، لو فرضنا الشكّ في تحقّق الاستيعاب ، فمقتضى الأصل بقاء الجنابة ، إلّا إذا حصل الاستيعاب ، ويكفي مسمّاه.

الثامن : إطلاق قوله تعالى : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) يشمل جميع أنواع الطهارة وأقسامها من طهارة الباطن والظاهر ، ففي الحديث عن الكاظم عليه‌السلام : «من توضّأ للمغرب ، كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في النهار ، ومن توضّأ لصلاة الصبح ، كان ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليله» ، وقريب منه غيره.

وذكر بعضهم أنّ الطهارة على سبعة أوجه : طهارة العلم من الجهل ، وطهارة الذكر من النسيان ، وطهارة اليقين من الشكّ ، وطهارة العقل من الحمق ، وطهارة الظنّ من التهمة ، وطهارة الإيمان بما دونه ، وطهارة القلب من الإرادات. وإسباغ طهارة الظاهر يورث طهارة الباطن ، وإنّ إتمام الصلاة يورث الفهم واليقين والقرب لديه عزوجل.

٣٦

بحث روائي :

عن الشيخ بإسناده عن ابن بكير قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ما يعني بذلك؟ قال : إذا قمتم من النوم. قلت : ينقض النوم الوضوء؟ فقال : نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت».

أقول : يستفاد من هذه الصحيحة امور :

الأوّل : أنّ النوم ناقض للوضوء ورافع للطهارة ، ويدلّ على ذلك روايات كثيرة ذكرها المحدّثون في كتبهم واستقر عليه المذهب ، فما عن صاحب المنار في تفسيره من أنّ الشيعة ذهبوا إلى عدم نقض النوم للوضوء ، مجرّد افتراء ، وكم لهم من هذه الافتراءات على هذه الطائفة التي تلقّت أحكامها من عين صافية مرتبطة أشدّ الارتباط بالمبدأ جلّ شأنه ، لا من الأمور الوهميّة الظنيّة. وكيف كان غفر الله تعالى لنا وله.

الثاني : أنّ المدار على تحقّق النوم لا مقدّماته ، ويعرف ذلك بعلامات أقواها الغلبة على السمع ، لأنّ حاسة السمع من أدقّ الحواس ، فإذا فقدت ذهبت البقيّة غالبا ، وفي بعض الروايات : «فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، أي : لا يسمع» ، ولعلّ ما ورد في تلقين المحتضر أن يدنو الملقّن فمه إلى اذنه أو يجعله على اذنه ، لأجل هذه الجهة ، لضعف سمعه في تلك الحالة ، أعاننا الله تعالى في تلك الشدّة.

إن قلت : إنّ الواقع خلاف ذلك ، فقد يكون حسّ اللمس أقوى ، إذ النائم يحرّكه وخز الإبرة مثلا أو وخز الهوام ، مع أنّه لا يسمع صوت من بجنبه.

قلت : على فرض الكلّية في ذلك لا ينافي ما تقدّم ، لأنّ الصوت والوخز من الأمور التشكيكيّة ، قابلة للشدّة والضعف في الجسم السليم.

الثالث : أنّ النوم ناقض لمطلق الطهارة ، سواء حصلت من الوضوء أو الغسل ، مثل غسل الجنابة أو التيمّم.

٣٧

الرابع : لا فرق في النوم بين ما حصل مقدّماته بالاختيار أو بغير الاختيار ، بواسطة دواء ـ كما إذا شرب أو بلع من الأدوية العصريّة المنوّمة ـ أو تعب ، كلّ ذلك لإطلاق ما تقدّم.

الخامس : أنّ المدار في عدم السماع النوع والغالب ، فلو كان شخص فاقد السمع لصمم أو غيره ، يرجع فيه إلى العلامات الاخرى المقرّرة في الشرع ، كالغلبة على البصر ، أو عدم الإحساس مثلا ، فإن حصل له الاطمئنان بالنوم بطلت طهارته ، وإلّا فيرجع إلى الحالة السابقة.

وفي الدر المنثور للسيوطي بإسناده عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : «انّ ذلك إذا قمتم من المضاجع ، يعني النوم».

أقول : القيام إذا تعدّى ب (إلى) يفيد العزم والإرادة كما مرّ ، وإذا تعدّى ب (من) يفيد الانتهاء ، والجامع فيه العزم ، سواء أكان بالشروع في الشيء والابتداء فيه ، أم الفراغ والانتهاء منه.

وعن الشيخ ، عن المفيد ، بإسناده عن غالب بن الهذيل قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) على الخفض أم على النصب؟ قال : بل هي على الخفض».

أقول : تقدّم أنّ الخفض هو الموافق للقواعد الأدبيّة.

وفي سنن البيهقي بإسناده عن رفاعة بن رافع : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : للمسيء صلاته : إنّها لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين».

أقول : الرواية ظاهرة بل ناصّة في مسح الرأس والرجلين كما تقدّم في التفسير ، وإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ويديه إلى المرفقين» قيد للمغسول لا للغسل ، أي : أنّ اليد إلى المرفق تغسل ، لا كلّها.

وعن البيهقي في السنن بإسناده عن جابر بن عبد الله قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه».

٣٨

أقول : الرواية تدلّ على ما ذكرنا ، وإنّها مطابقة للمرتكز العرفي.

وفي الكافي بإسناده عن الهيثم بن عروة التميمي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) فقلت : هكذا؟ ومسحت من ظهر كفّي إلى المرافق ، فقال : ليس هكذا تنزيلها ، إنّما هي : (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق) ، فقام ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه».

أقول : فسّر الإمام عليه‌السلام الآية المباركة قولا وفعلا ، والمراد من التنزيل التفسير ونقل الآية الشريفة بالمعنى.

وعن ابن عباس : «الوضوء غسلتان ومسحتان».

أقول : ورد مثله عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وهو يدلّ على مسح الرأس ، كما يدلّ على مسح الرجلين.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال : «قلت له : أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي له أن يتوضّأ ، الذي قال الله عزوجل ، فقال : الوجه الذي أمر الله بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر ، وإن نقص منه أتمّ ما دارت عليه السبابة والوسطى والإبهام من قصاص الرأس إلى الذقن ، وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه ، وما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت : الصدغ من الوجه؟ قال : لا».

أقول : ما ورد في الرواية من باب التحديد الشرعي ، والإتيان لأجل المقدّمة العلميّة ، والاحتياط لا بأس به في الزيادة ، وأما النقيصة فيأثم لعدم إتيان المأمور به ، والصدغ بضمّ الأوّل ما بين العين والاذن.

وفي الفقيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أخبرني عن حدّ الوجه ، أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال : كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء».

٣٩

أقول : طلب ما تحت الشعر بإجراء الماء عليه نحو حرج ، والآية الشريفة والرواية تنفيانه.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة وبكير : «أنّهما سألا أبا جعفر عليه‌السلام عن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدعا بطست أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فافرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردها إلى المرافق ، ثمّ غمس كفّه اليمنى ففرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع ما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه ببلل كفّه ، لا يحدث لهما ماء جديدا ، قال : ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ، ثمّ قال : إنّ الله عزوجل يقول : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) ، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلّا غسله ، وأمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلّا غسله ، لأنّ الله يقول : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، ثمّ قال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ، فقلنا : أين الكعبان؟ قال : هنا ، يعني المفصل دون عظم الساق ، فقلنا : هذا ما هو؟ فقال : هذا من عظم الساق والكعب أسفل من ذلك ، فقلنا : أصلحك الله والغرفة الواحدة تجزي للوجه ، وغرفة للذراع؟ قال : نعم إذا بالغت فيها واثنتان يأتيان على ذلك كلّه».

أقول : التور إناء صغير يجعل فيه الماء ، وهذه الصحيحة من امّهات الروايات البيانيّة التي تبيّن وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرحه شرحا وافيا غير قابل للشكّ فيه ، وقد تمسّك الفقهاء بها في باب الوضوء لنفي الشرط أو الجزء المشكوكين ، وقد جمع فيها الإمام عليه‌السلام الفرض والسنّة وتعيين السنّة لا تكون إلّا بروايات اخرى.

ويستفاد من هذه الصحيحة وأمثالها أنّ الوضوء ـ الذي هو شرط لصحّة طبيعة الصلاة التي هي عمود الدين ـ في غاية اليسر ، لعموم الابتلاء به ، ولم يكن

٤٠