مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ).

تعليل لثبوت العذاب لهم ، والإعادة إما تأكيدا ، أو تقريرا ، أو تمهيدا لما سيأتي ، أو اهتماما بشأن هذه الأوصاف والتأثير على النفس ليعرف المخاطب آثارها الوخيمة ، فيتصدّى لإصلاح حاله ، والأوصاف التي يذكرها عزوجل هي لمجموع القوم من حيث هو ، وقد يختصّ بعضهم ببعض الأوصاف ، فإنّ قوله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) وصف لليهود الموجودين حين البعثة ، الذين وصفهم عزوجل فيما سبق ، والتابعين لهم باعتبار تقليدهم لآبائهم ، فإنّ ذلك سماع للكذب أيضا ، فإنّ اليهود سماّعون للكذب بجميع معانيه من حيث الكذب على الحقّ ، والكذب على المؤمنين ، وكذب بعضهم على بعض وتقليدهم للسلف كذبا وزورا.

قوله تعالى : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

وصف آخر قد يكون لبعض القوم إن كان المراد من السحت الرشوة ، فإنّها كانت منتشرة في طبقة خاصّة من أحبارهم وعلمائهم كما حكى عزوجل في غير هذا الموضع من القرآن الكريم ، وإن كان المراد من السحت مطلق الحرام ، فإنّ الوصف يكون لعامّة القوم لما ذكره عزوجل في مواضع متفرّقة من القرآن العظيم من أنّهم هتكوا حرمات الله تعالى وتعاطوا المنكرات واستحلّوا المحرّمات ، وتدلّ عليه صيغة المبالغة (أكّالون) ، وقد سبق في سورة النساء بعض أوصافهم فراجع.

ومادة (سحت) تدلّ على الشدّة والهلاك. يقال : سحت الشيء يسحته ، قشره قليلا قليلا ، أي : استأصله. ومنه الحرام ، لأنّه يذهب بالطاعات ويستأصلها فيسحت دين المرء ومروءته. ومنه السحت (بالفتح) لشدّة الأكل والشرب. وأسحت الشيء استأصله ، قال تعالى : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [سورة طه ، الآية : ٦١] ، أي : يستأصلكم بعذاب. فإذا كان السحت يشمل الحرام والكسب المحرّم ، فيكون له مصاديق متعدّدة. ولعلّ ما ورد في الحديث أنّ للسحت أنواعا كثيرة مأخوذ من هذه الآيات الشريفة ، ففي الخبر : «كلّ شيء غل من الإمام ، فهو سحت ، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها أجور الفواجر ، وثمن

٢٤١

الخمر والنبيذ المسكر ، والربا بعد البينة ـ أي بعد التحريم ـ فأما الرشا في الحكم ، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله» ، وسيأتي نقل بعض الروايات في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

وإطلاق الآية يشمل كلّ أنواع المحرّمات التي ارتكبها اليهود ، فإنّهم نقضوا العهود والمواثيق وهتكوا حرمات الله تعالى. وقد أخبر عزوجل عن جملة منها في عدّة مواضع ، ومن أعظم ما ارتكبه أحبار اليهود ورؤساؤهم الرشوة في الحكم ، التي أخبر بها عزوجل في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٨].

قوله تعالى : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ).

تفريع على ما سبق ، أي : إذا كان حالهم كما عرفت ، فإن جاءك اليهود للتحكيم بينهم ، فأنت مخيّر بين أن تحكم بينهم أو تعرض عنهم ، ومن المعلوم أنّ التخيير إنّما يتّبع المصالح التي يراها صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والخطاب وإن كان مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ الحكم فيه عامّ لجميع حكّام الشرع المبين.

ولعلّ ما ورد عن الباقر صلى‌الله‌عليه‌وآله مأخوذ من هذه الآية الشريفة ، قال عليه‌السلام : «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة والإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم» ، وثبوت التخيير له صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينافي الحكم بينهم بما أنزل الله ، كما في قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، فإنّه يدلّ على أنّه إذا اختار الحكم بينهم ، فلا بدّ أن يكون الحكم بما أنزل الله تعالى من القسط ، لا أن يكون بما هو الموجود عندهم.

قوله تعالى : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً).

تفصيل بعد إجمال وبيان لحال الأمرين ، وفيه تضمين لرسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله من أي ضرر يحتمل أن يصيبه من قبلهم ، كما أنّ فيه التقرير للتخيير المزبور بأنّه ليس

٢٤٢

عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرر لو أعرض عنهم وترك الحكم فيهم ، فإنّ الله تعالى يعصمه منهم ، وفيه التنبيه على أنّه لا يكون حكمك عن خوف منهم ولا استمالة لهم.

قوله تعالى : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ).

بيان لحال الأمر الثاني ويتضمّن التعليل أيضا. أي : وإن اخترت الحكم فإنّه ينبغي أن يكون الحكم بينهم بالعدل الذي أمر الله تعالى به ، لا بما يبغون ، فإنّ الله لا يرضى أن يجري بينهم إلّا حكمه ، فإما أن تعرض فلن يضرّوك وإن ساءهم إعراضك ، وإما أن تحكم بالقسط ، وقد تقدّم معنى القسط في سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ).

تعجيب من الله تعالى لنبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله من حالهم ، فإنّهم امّة ذات كتاب وشريعة ، فكيف يرغبون عنهما ويتحاكمون إلى نبيّ هم منكرون لنبوّته وكتابه وشريعته ، والآية الشريفة تشير إلى أنّ ذلك التحكيم له من عندهم لم يكن لمعرفة الحقّ وتطبيق العدل ، وإنّما هو لتضعيف منزلة الرسول الكريم وطلب الأهون وإن لم يكن حكم الله تعالى.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).

أي : كيف يحكمونك وعندهم ما فيه الحقّ الذي يغني عن التحكيم ثمّ يتولّون عنه من بعد ذلك التحكيم وبيان حكم الله في الواقعة ، وفي الآية التأكيد على الاستبعاد والتعجّب. ومن ذلك يعرف أنّ المراد من قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي : من بعد بيان حكم الله تعالى الموافق لكتابهم.

قوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ).

تقرير لما سبق ، وحذف المتعلّق يدلّ على العموم ، أي فما هم بالمؤمنين لكتابهم لإعراضهم عنه ، ولا بك لأنّهم لم يرتضوا بحكمك الذي وافق ما في التوراة أيضا.

والإتيان باسم الإشارة (أولئك) قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح ، ولبيان العلّة بأنّهم تميّزوا عن غيرهم أكمل تمييز حتّى انتظموا في سلك المشاهدة.

٢٤٣

وقيل : إنّه إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود بأنّهم لا يؤمنون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبحكمه أصلا ، ولا فرق بينهما.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ).

جملة مستأنفة تتضمّن التعليل لما ذكر في الآية السابقة ، ولبيان فظاعة حالهم ببيان علوّ شأن التوراة بأحسن وجه.

وهذه الآية وما بعدها تدلان على أنّ لكلّ امّة من الأمم الماضية شرائع وأحكاما أودعها عزوجل في كتب أنزلها إليهم ، ليهتدوا بهداها ويستضيئوا بنورها ، فيرشدوا إلى طريق الحقّ ويكتسبوا سعادة الدنيا والآخرة ، وأمر أنبياءه العظام أن يتحفّظوا عليها من التغيير والتبديل ، ويرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه ويحكموا بها فيما شجر بينهم ويخافوا الله فيها ولا يخشوا غيره ، وأكّد على ذلك بأنواع التأكيدات وأخذ عليهم المواثيق والعهود وحذّرهم من اتّباع الهوى ومتابعة الشيطان.

والمعنى : إنّا أنزلنا التوراة فيها من الهداية التي يهتدى بها والنور الذي يستبصر به في ظلمات الجهل والضلالة ، ومن المعارف والأحكام والإرشادات والتوجيهات. والآية وإن دلّت على أنّ التوراة فيها الهداية والنور ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٥] ، لكنّها بالنسبة إلى القرآن الكريم فهي جزئي من جزئياته ، فإنّه المهيمن على الكتب الإلهيّة والجامع لجميع المعارف والأحكام ويقتضيه السير الاستكمالي للإنسان.

قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا).

جملة مستأنفة تبيّن فضل التوراة وسموّ رتبتها ، فإنّ فيها من المعارف والأحكام ما يمكن أن يحكم بها النبيّون الذين انقادوا لله تعالى واستسلموا لأمره ، فلا يستنكفون عن قبول شيء من أحكامه وشرائعه. والجملة تدلّ على عظم شأن النبيّين والتنويه بفضل هذه الصفة ، فإنّ الإسلام من أشرف الأوصاف لأنّه ينبئ عن معرفة الله تعالى والإخلاص له وطاعته والاستسلام لأمره بانقياد تامّ ،

٢٤٤

والإسلام دين الله تعالى ، قال عزوجل (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩]. فهو دين جميع الأنبياء ، وأنّه الدين الواحد الذي يجمع جميع الأديان الإلهيّة ، وفيه التعريض باليهود بأنّهم بمعزل عن الإسلام ودين الله تعالى.

واللام في (للذين) للاختصاص ، أي : يحكمون لأجلهم وبما يرجع نفعه إليهم ، فهم المستفيدون من تلك الأحكام ، لأنّها نزلت في سبيل سعادتهم سواء أكانت تلك الأحكام لهم أم عليهم ، وفيه التعريض بهم أيضا بأنّهم أعرضوا عمّا هو نافع لهم.

ولا تختصّ الآية الشريفة بأنبياء بني إسرائيل ، فإنّ في التوراة أحكاما إلهيّة لا تقتصر على امّة واحدة ، وإنّ القرآن العظيم مصدق لها كما نطق به التنزيل غير موضع.

قوله تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ).

الربّانيون : أي المنسوبون إلى الربّ ، وهم العلماء المنقطعون إلى الله تعالى العرفاء به علما وعملا ، الذين لهم شأن في تربية الناس بالتربية الربّانيّة. وفي الحديث المعروف عن علي عليه‌السلام : «أنا ربّانيّ هذه الامّة» ، أي : مربّيهم تربية إلهيّة.

وتقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٦].

ومادة (حبر) تدلّ على الجمال والزينة ، ويقال : شعر محبّر ، أي : مزيّن بنكت البلاغة. وثوب محبّر ، أي : منقش بالنقوش ، ومنها الحبرة ، أي : البردة ، وهي ثوب ذو خطوط بألوان متعدّدة.

والأحبار جمع الحبر (بفتح الحاء وكسرها). والمراد بهم العلماء العاملون الذين يحكمون بما أمرهم الله تعالى ، وظاهر الآية الشريفة أنّ الربانيين هم الأئمة عليهم‌السلام دون الأنبياء المبعوثين الذين يربّون الناس بعلمهم ، والأحبار دون الربّانيين ، ويدلّ عليه بعض الأخبار.

قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ).

تعظيم لشأنهم ، والضمير يرجع إلى (الربّانيون والأحبار) ، أي : بالذي

٢٤٥

استحفظوه من كتاب الله تعالى. والمراد به التحفّظ العملي عن ظهر القلب ، يقال : حفظ فلان حرمة زيد ، أي : عمل فيه بما هو وظيفة احترامه ، ومنه قولهم : «يحفظ الرجل في ولده». وإنّما ذكر عزوجل : «استحفظوا» دون حفظوا أو حملوا ونحو ذلك ، باعتبار أنّهم حفظوها بالعمل بما ورد فيها من الأحكام ، وحفظوها بالتبين ، وحفظوها من التغيير والتبديل ، فكانوا أمناء على التوراة.

قوله تعالى : (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ).

ترتّب هذا على سابقه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة ، فإنّهم لما أمروا بحفظ التوراة فكانوا أمناء الله تعالى عليها ، فلا ريب أنّهم شهداء على كتاب الله ، بل تعتبر الشهادة من شؤون الحفظ المأمور به. ويمكن أن تكون الآية تأكيدا على ما سبق ، يعني : أنّهم مضافا إلى عملهم بكتاب الله تعالى يشهدون أنّ هذا تكليفهم أيضا.

وكيف كان ، فإنّ في الكلام تعريضا للذين هادوا في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهم خرجوا عن أهليّة حفظ التوراة والشهادة عليها ، وقد ذكر المفسّرون في الآية وجوها يبطلها السياق.

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ).

تفريع على ما سبق ، أي : لما كانت التوراة منزلة من الله تعالى ومشتملة على الهداية والنور ، وشريعة يقضي بها النبيّون والربّانيون والأحبار ، وقد أخذ منهم الميثاق على حفظها ، فاعملوا بها كما عمل السلف ، ولا تكتموا شيئا من أحكامها بأن تحرّفوها أو تعدلوا عنها خشية النّاس وخوفا منهم. وعموم الآية الشريفة يشمل جميع المخاطبين الحكّام وغيرهم من المسلمين وغيرهم ، فلا بدّ أن تكون خشيتهم من الله تعالى بالوفاء بعهده وميثاقه والعمل بشرائعه ، لا أن تكون الخشية من الناس ، وقد تقدّم الكلام في مثل هذه الآية في أوّل هذه السورة فراجع.

قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

أي : ولا تستبدلوا حكما من أحكام الله تعالى طمعا بمال أو جاه دنيويّ

٢٤٦

وغيرهما من الحظوظ الدنيويّة ، فإنّها قليلة ومسترذلة مهما بلغت من الكثرة بالنسبة إلى ما فاتهم بمخالفة الأمر والحكم الإلهيّ ، وقد تقدّم مثل هذه الآية الشريفة في سورة البقرة أيضا فراجع.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآية : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) متفرّعة على قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) ، بتقريب أنّ الآية تدلّ على أخذ العهد والميثاق منهم على الحفظ والعمل ، وأشهدهم عليه بأن لا يغيّروه فلا يخشوا في إظهاره غيره تعالى وتقدّس ، ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، واستشهد على ذلك بآيات اخرى ، كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨٧] ، وقوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ* وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٠] ، وهذا المعنى وإن كان صحيحا إلّا أنّ عموم الآية يشمل اليهود وغيرهم ، فإنّ الله قد أخذ من الجميع العهد على العمل بأحكامه وتشريعاته إلّا ما أذن بتركه. وقد بيّن تعالى أنّ التوراة فيها الهداية والنور وقد عمل بها النبيّون والربّانيون والأحبار ، وأمرهم بحفظها ، فالمناط الموجود في اليهود موجود في غيرهم أيضا ، ويدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).

تقرير لما سبق وتأكيد له وتشديد في الأمر بأبلغ وجه ، أي : كلّ من رغب عن حكم الله تعالى اتّباعا لهواه ، فأولئك هم الكافرون ، لأنّه لم يصدق بما أنزله الله تعالى ، فيكون ذلك كفرا. وفي الآية أشدّ التحذير عن الإخلال بما أنزله الله تعالى.

قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ).

بيان لبعض ما فرضه الله تعالى في التوراة قد بقيت هذه الكتابة عليهم

٢٤٧

وقرّرتها الشرائع الإلهيّة الاخرى ، وكانت خاتمتها الشريعة الإسلاميّة التي جعلت هذا الفرض قانونا إلهيّا بأبهى صورة وأبلغ تعبير في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٩] ، وقد اعتبر أحسن تشريع في هذا الموضوع ، حيث اهتمّ بجميع الجوانب المرتبطة به ، وتقدّم البحث فيه في سورة البقرة فراجع.

والجملة عطف على قوله تعالى : (أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ) ، والمراد بها بيان حكم القصاص في جميع أقسام الجنايات ، من القتل والقطع والجرح وغيرها. أما القتل ، ففي قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، أي : أنّ النفس تعادل بالنفس وتقتل بها عند القصاص منها ، وإطلاق الآية يشمل الحرّ والعبد ، ولعلّه كان في شريعة موسى عليه‌السلام كذلك ، وأما في الشريعة الإسلاميّة ، فالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.

قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِ).

الباء للمقابلة ، والمعنى : أنّ كلّ واحدة من الجوارح المذكورة تعادل بما يماثلها في باب القصاص ، فالعين تفقأ بالعين ، والأنف يجدع بالأنف ، والاذن تصلم بالإذن ، والسنّ تقطع بالسنّ إذا قلعت. وقد ذكر العلماء في إعراب هذه الجملة وجوها ، والحقّ أنّها جمل تامّة تفيد معنى تامّا لا يحتاج إلى التقدير أو التأويل ، وسيأتي في البحث الأدبيّ بعض الكلام.

قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).

أي : والجروح فيها قصاص أيضا كالجوارح ، وفي المقام فروع كثيرة مذكورة في الفقه ، راجع كتابنا (مهذب الأحكام). وفي الآية الشريفة إشعار بأنّ الحكم الذي حكموا به في الواقعة التي طلبوا من الرسول الحكم فيها ، كان مخالفا لما ورد في التوراة.

قوله تعالى : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ).

بيان لاختيار المجنيّ عليه أو وليّه في إعمال حقّه أو العفو عنه ، وقدّم الثاني

٢٤٨

ترغيبا إلى العفو وحثّا على الصدقة ، فتكون الآية نظير قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٨].

والمعنى : فمن تصدّق بما ثبت له من حقّ القصاص بالعفو عن الجاني ، فهو ـ أي : العفو ـ كفّارة لذنوب المتصدّق ، والله يعفو عنه كما عفا هو عن الجاني ، ففي الحديث عن الصادق عليه‌السلام : «يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره» ، وفي النبويّ : «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه ، إلّا رفعه الله به درجة وحطّ عنه به خطيئته». ويمكن أن يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أنّ العفو ممّن ثبت له الحقّ كفّارة عن الجاني في جنايته أيضا عند الله تعالى ، وإن لم تسقط عنه الكفّارة ظاهرا ، ولا بأس به.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

بيان للفرد الآخر ممّا يحقّ للمجنيّ عليه أو وليّه ، وهو عدم التصدّق بما ثبت له من الحقّ ، أي : فإن لم يتصدّق فليحكم بما أنزل الله تعالى ولا يتعدّاه ، فإنّ من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.

وممّا ذكرنا يظهر فساد جملة كثيرة ممّا قيل في تفسير هذه الآية الشريفة.

وإنّما ذكر عزوجل : (هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وفي السابق : (هُمُ الْكافِرُونَ) ، لأنّ الآية الاولى وردت لبيان عدم تصديقهم بما أنزله الله تعالى ، وهو يستلزم الكفر ، وفي المقام إنّما كان إعراضا في التطبيق على الوجه الذي أنزله الله اتّباعا للهوى بعد التصديق به ، فكان ظلما وذنبا كبيرا.

قوله تعالى : (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

بيان لبعض أحكام الإنجيل أثر بيان أحكام التوراة. وفي الآية الدلالة على أنّ عيسى بن مريم عليه‌السلام سلك نفس المسلك الذي سار عليه الأنبياء والربّانيون والأحبار ، في الدعوة إلى الله تعالى والإسلام له والتسليم بشرائعه وتعليماته.

ومادة (قفي) تدلّ على الاتّباع ، مأخوذة من القفا ، وهو مؤخر العنق ، وتأتي متعدّية بنفسها ، نحو : قفا فلان أثر فلان ، إذا تبعه ، وبالباء إلى المفعول الثاني مثل :

٢٤٩

قفيته بفلان إذا اتبعته إيّاه ، وتستعمل في المحسوس وغيره. يقال : فلان يقفي آباءه وأشياخه ، أي : يتلوهم ويسير على طريقتهم.

والآثار : جمع الأثر وهو ما يحصل من الشيء ، ممّا يدلّ عليه ، وقد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة ، وغلب استعمالها في الشكل الحاصل من القدم.

والمعنى : وبعثنا عيسى بن مريم عليه‌السلام بعد أولئك النبيّين الذين كانوا يحكمون بما أنزل الله تعالى في التوراة ، متبعا لآثارهم وجاريا على سنّتهم.

قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ).

جملة حاليّة من عيسى بن مريم تبيّن ما ورد في الجملة السابقة ، وتشير إلى منزلة هذا النبيّ العظيم ، وأنّ دعوته هي دعوة موسى عليه‌السلام والعمل بما ورد في التوراة من الأحكام.

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ).

أي : أعطيناه الإنجيل ، وقد وصف سبحانه وتعالى الإنجيل بأوصاف ثلاثة :

الأوّل : أنّه كتاب بشريّ ، فإنّ الإنجيل يأتي بمعنى البشارة ، وقد احتوى على جملة من التشريعات والحكم والآداب والمواعظ التي تهدي العامل بها إلى السعادة والكمال المنشودين ويبشّره بالنعيم الدائم ، ولم يبيّن عزوجل خصوصيات الإنجيل بالنسبة إلى غيره من الكتب الإلهيّة ، فإنّه تعالى قال في حقّ التوراة : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٤]. وأما القرآن فقد فصّل القول فيه ، لأنّه المهيمن على الكتب كلّها. والآيات النازلة في حقّه المفصّلة لخصوصياته وشؤونه وكيفيّة نزوله كثيرة مذكورة في مواضع متفرّقة منه.

ويستفاد من جملة (آتيناه) أنّه تعالى أعطاه هذا الكتاب دفعة واحدة. والإنجيل بكسر الهمزة وهو اسم أعجمي.

الثاني : أنّ فيه الهداية والنور ، أي : يشتمل على ما يهدي من الزيغ والضلال ، ونور يبصر به طالب الحقّ ، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك بالنسبة إلى التوراة

٢٥٠

أيضا ، فإنّ الكتب الإلهيّة كلّها تشترك في ذلك. والظاهر أنّ المراد من الهداية هي تلك المعارف التي تهدي إلى الاعتقاد الصحيح والإيمان الحقّ. والنور هو تلك التشريعات التي تهدي إلى تعيين الحقّ في مجال العمل ، وكلاهما يشترك في تعيين الصراط المستقيم وتمييزه عن السبل الباطلة.

قوله تعالى : (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ).

وصف ثالث للإنجيل بأنّه مصدّق لما ورد في التوراة من أحكام الله تعالى. ويستفاد منه أنّ شريعة عيسى عليه‌السلام لم تكن إلّا امتدادا لشريعة موسى عليه‌السلام ، وأنّ الإنجيل تابع للتوراة ويدعو إليها إلّا ما استثنى ، على ما حكاه عزوجل في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٠]. ومن ذلك يظهر أنّه ليس من التكرار المؤكّد ، بل الآية الاولى وصف لنفس الرسول عيسى بن مريم عليهما‌السلام ، فإنّه مصدّق لما جاء به من قبل موسى عليه‌السلام ، والثانية وصف للإنجيل ، فإنّ ما جاء فيه إمضاء لما جاء في التوراة ، فتكون شريعتهما واحدة إلّا ما ذكره عزوجل في القرآن الكريم ، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

بعد بيان اشتراك الإنجيل مع التوراة في كونها هدى ونورا ، ذكر عزوجل ما يتميّز به الإنجيل ، وهو كونه هدى يهتدي به المتّقون في استكمال نفوسهم وتزيينها بالفضائل ومكارم الأخلاق ، فإنّ أكثر ما ورد في الإنجيل هو من المواعظ والحكم ، فيكون قوله تعالى : (مَوْعِظَةً) عطف تفسيريّ لقوله : (هُدىً) ، ولذا كانت شريعة موسى عليه‌السلام تأسيسيّة مشتملة على دستور في الحياة ومنهج عمليّ للإنسان. وأما شريعة عيسى عليه‌السلام ، فهي شريعة إمضائية تقريريّة إصلاحية أكثر اهتمامها بإصلاح النفوس من مفاسد الأخلاق بسبب انتشار الفساد الأخلاقي في اليهود ، كما حكاه عزوجل في القرآن الكريم ، وبهذا يتميّز أهل الإنجيل عن غيرهم. وممّا ذكر عزوجل المتّقين لأنّهم هم الذين يؤثّر الوعظ فيهم ، فيكون الوعظ وعظا لهم دون غيرهم.

٢٥١

قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ).

أي : أنّ أهل الإنجيل لما علموا بأنّ ما ورد فيه هو من الله تعالى ، فلا بدّ أن يذعنوا به ، ويستسلموا لأحكامه تسليم إذعان وطاعة ، ومن جملة ما يجب الإذعان به هو الإيمان برسالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله والطاعة له.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

تشديد في الأمر وتأكيد في الحكم بما أنزل الله ، والفسق هو الخروج عن طريق الشرع المبين والعقل ، أي : أنّ أهل الإنجيل إذا لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ، لأنّهم حرّفوا دين الله وخرجوا عمّا أمره عزوجل بالاعتقاد بالوحدانيّة والعمل بشريعة موسى عليه‌السلام ، فهم بدّلوا ذلك وأسّسوا لهم دينا مستقلا ، واعتقدوا التثليث ونبذوا الوحدانيّة المأمور بها ، ففسقوا عن أمر ربّهم.

والآيات مطلقة لا تختصّ بقوم أو طائفة معينة ، وهي تشمل جميع صور الحكم التي هي أربع :

الاولى : ما إذا علم بما أنزل الله ولكنّه أعرض عنه وعانده ، فهذا كافر ويدخل في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ).

الثانية : ما إذا علم بما أنزل الله ولكنّه ردّه بأن غيّره أو بدّله ، وهذا ظلم يدخل في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

الثالثة : ما إذا لم يعلم بما أنزل الله تعالى وحكم به ، فهذا هو الفسق ويدخل تحت قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

الرابعة : ما إذا علم بما أنزل الله تعالى وحكم به فهو الحقّ ، ويدلّ عليه قوله تعالى فيما يأتي : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].

والصورتان الاولى والثانية يتّصف بهما اليهود ، كما عرفت. وأما الثالثة فيتّصف بها النصارى ، فإنّهم خرجوا عن دين الله بما أوّله المتأوّلون ، فاشتبه الأمر عليهم. ولعلّ ما ورد في بعض الروايات من تقسيم القضاة إلى أربعة مأخوذ من

٢٥٢

هذه الآيات الشريفة ، وهي مطلقة لا تختصّ بالقضاء ، فتشمل التكوينيّات والتشريعيّات ، كما لا تختصّ بالحكم بغير ما أنزل الله تعالى ، بل يشمل عدم الحكم بما أنزله الله تعالى أيضا. وممّا ذكرنا يظهر السرّ فيما ورد عنهم عليهم‌السلام في القضاء : «لا يجلس فيه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقي» ، وقد اختلف المفسّرون في تفسير الآيات السابقة ، وأنت في غنى عن بيان ضعف كثير ممّا ذكروه بعد ما عرفت.

بحوث المقام

بحث أدبي :

جملة : «ولم تؤمن قلوبهم» ، حال من ضمير (قالوا). وقيل : إنّها عطف على (قالوا) ، وأما قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) ، فهو عطف على قوله : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا) ، وقوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم سماّعون ، وذكرنا ما يتعلّق بالضمير في التفسير فراجع. واللام في قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) للتقوية ، وقيل : لتضمين السماع معنى القبول. ومنه : «سمع الله لمن حمده» ، أن تقبّل منه حمده.

واعترض على ذلك بوجوه. وقيل : إنّ اللام للعلّة والمفعول محذوف ، أي : سماّعون كلامك ليكذبوا عليك. والأمر سهل بعد وضوح المعنى وتلازم الوجوه ، فإنّ الجملة جارية مجرى التعليل للنهي. والكلام في (اللام) في قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) ، نفس الكلام في (اللام) السابقة. و (آخرين) صفة ل (قوم) ، وجملة : (لم يأتوك) صفة اخرى ، وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) ، صفة ثالثة ل (قوم) ، وإتيان الفعل المضارع للدلالة على استمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى.

٢٥٣

وقيل : الجملة مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب. وقيل : خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم. وذكر (بعد) للتنبيه على معرفة مواضع الحقّ وتحريفه. و (شيئا) في قوله تعالى : (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، مفعول به ل (تملك) ، وقيل : إنّه مفعول مطلق. وتنكير (خزي) في قوله تعالى (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) للتفخيم ، وهو مبتدأ و (لَهُمْ) خبره ، و (فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) متعلّق بما يتعلّق به الخبر من الاستقرار. وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) ، الواو للحال وجملة : (عندهم التوراة) مبتدأ وخبر ، وجملة : (فيها حكم الله) حال من التوراة. و (حكم) مرفوع على الفاعليّة بالجارّ والمجرور ، أي : كائنا فيها حكم الله ، وقيل غير ذلك. وجملة : (فِيها هُدىً وَنُورٌ) اسميّة (فيها) خبر مقدّم و (هدى) مبتدأ ، والجملة حال من التوراة ، وكذا جملة : «يحكم بها النبيّون». وقوله تعالى : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) صفة أجريت على النبيّين على سبيل المدح.

واستشكل بعضهم بأنّ المدح إنّما يتحقّق بالصفات الخاصّة التي يتميّز بها الممدوح ، والإسلام أمر عامّ. ويردّ بأنّ الإسلام على درجات ، فما اختصّ به النبيّون غير ما هو الموجود عند غيرهم ، مضافا إلى أنّ الصفة قد تذكر لتعظيم نفسها ، وأنّ المتّصف بها عظيم الشأن والقدر. ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم.

وأما قوله تعالى : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ...) ، فالمعروف أنّه على النصب عطفا على النفس. وقرئ (العين) ، وما عطف عليها بالرفع باعتبار أنّها جمل معطوفة على جملة : (أَنَّ النَّفْسَ) من حيث اللفظ ، وقيل غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المفصّلة.

والنفس إن أريد منها الإنسان بعينه فهو مذكر ، ولذا يقال : ثلاثة أنفس ، على معنى ثلاثة أشخاص. وإن أريد بها الروح ، فهي مؤنّثة لا غير وتصغيرها على (نفيسة).

وأما العين بمعنى الجارحة المخصوصة ، فهي مؤنّثة ، وأشكل على إطلاق هذا القول ، والاذن مثلها. والأنف مذكّر والسنّ مؤنّثة ولا تذكّر. والقاعدة المعروفة في

٢٥٤

أعضاء الإنسان : أنّ ما منها اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل فمؤنّث ، وما منها واحد كالرأس والفم والبطن فمذكّر. ولكنّها غير مطردة ، فإنّ الحاجب والصدغ والخدّ والمرفق والزند كلّ منهما مذكّر ، مع أنّ الموجود منها في البدن اثنان. والكبد والكرش مؤنّثان وليس منهما في البدن إلّا واحد ، ونظم بعض الشعراء هذا الخلاف في قوله :

وهاك من الأعضاء ما قد عدّدته

تؤنّث أحيانا وحينا تذكّر

لسان الفتى والإبط والعنق والقفا

وعاتقه والمتن والضرس يذكر

وألحق بعضهم بما ذكر الذراع والكراع والمعي والعجز ، وبعضهم ذهب إلى تأنيث الذراع لا غير ، والتفصيل يطلب من محلّه.

وأما قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) بالنصب عطف على اسم (أنّ) و (قصاص) هو الخبر.

وفي الآيات التفات إلى الخطاب أو الغيبة ، اهتماما بشأن الموضوع وتذكيرا للمخاطب.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ، على استمرار الصراع بين الحقّ والباطل الذي هو قديم جدا ، وامتناع إبطال الحقّ وإزالته مهما بلغ الباطل من القوّة ومسارعته في ذلك ، ولا بدّ أن لا يكون ذلك موجبا لحزن أهل الحقّ. وفي الآية وعد منه عزوجل لنبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بانتصار الحقّ وزهوق الباطل ، وقد ذكر عزوجل جميع وجوه الباطل المتمثّلة بالمسارعة في الكفر ، والنفاق ، وسماع الكذب ، والعمل به ، وتحريف الكتب الإلهيّة ، وارتكاب المحرّمات ، وأكل السحت ، ثمّ ذكر أحوال أهل الكتاب بالنسبة

٢٥٥

إلى الحقّ وما أنزله الله تعالى ، وأمرهم عزوجل بتطبيق ذلك ، فكانت هذه الآيات جامعة لجملة كثيرة من وجوه الباطل التي تصدّ عن الحقّ وتمنع من تطبيقه.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) ، على أنّ النفاق من مظاهر الكفر ، بل أنّه من المسارعة فيه ، وقد قرن الله تعالى المنافقين بالذين هادوا ، الذين وصفهم عزوجل بأوصاف تدلّ على خبثهم وكمال جرأتهم على الله تعالى في نقضهم العهود والمواثيق وارتكابهم المحرّمات ، كما أنّه عزوجل وصف المنافقين بأوصاف عديدة في غير هذا الموضع من القرآن الكريم ، تدلّ على أنّهم أضرّ بالحقّ وأهله من غيرهم من الكفّار ، وشنّع عليهم ، وأظهر نواياهم الخبيثة ، وأمر المؤمنين بالحذر منهم ومعالجة النفاق وإصلاح المنافقين بطرق قويمة. فإنّه من مرض القلب الذي يصعب علاجه إلّا بما بيّنه عزوجل.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) على أنّ الإصرار على سماع الكذب مرجوح في حدّ نفسه ، وأنّ كثرة الجلوس مع الكذّابين يوشك أن يعدّ منهم ، وتدلّ عليه جملة من الأحاديث. ففي الخبر : «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمعه».

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) على أنّ التحريف إنّما كان عن علم وعمد منهم لكتاب الله تعالى وأحكامه المقدّسة وتشريعاته الحكيمة ، وهذا يدلّ على شناعة فعلهم وكمال بعدهم عن الحقيقة وضلالهم واستكبارهم على الله تعالى ، ويؤكّد ذلك قوله عزوجل حكاية عنهم : (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا).

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أنّ بعض المعاصي والآثام يوجب قطع العصمة بين من يرتكبها وبين الله تبارك وتعالى ، فلا تؤثّر شفاعة الأنبياء والمعصومين عليهم‌السلام ولا دعاؤهم في رفع ما حلّ به نتيجة المعاصي وما جناه من الأفعال الشنيعة ، وتدلّ عليه جملة من الآيات

٢٥٦

والروايات ، وتقدّم في بحث الشفاعة بعض الكلام فراجع. كما أنّ المستفاد من قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) ، أنّ الواردات الإلهيّة وتحقيق الرابطة بين الله وعبده إنّما تكون بتطهير القلوب من درن الآثام ومفاسد الأخلاق ، ولا تحصل هذه الطهارة إلّا بالتخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل ، وأنّ التصدّي من العبد لهذا الأمر يوجب تعلّق إرادة الله تعالى في التطهير والتوفيق له ، فالآية الشريفة بمنزلة التعليل لما سبق وما يذكره عزوجل من الخزي والعذاب العظيم ، وهذه من الآيات المعدودة التي تبيّن السرّ في سلب التوفيق عن العبد وانقطاع العصمة بينه وبين الله تعالى وأنبيائه العظام ، فلا تؤثّر فيه جميع الأمور إلّا ما إذا حصل من نفس العبد ما يوجب رفع المانع منه ، وقد ذكر عزوجل جملة من الموانع العظيمة في الآيات الشريفة ، وإنّما على الأنبياء بيان سبل الهداية والتوفيق ، ثمّ الحكم عليهم بما يلائم أفعالهم إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، فليس لهم التوسّط بينهم وبين الله تعالى في تطهير نفوسهم ورفع ما حلّ بهم من الخزي والنكال ما لم يطهروا قلوبهم من تلك الرذائل.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) ، أنّهم انهمكوا في ارتكاب المحرّمات وأكل الحرام من أيّ وجه كان ، حتّى غلب على الحلال وصار أمرا مستساغا عندهم ، ويمكن أن يستفاد من صيغة المبالغة تعدّد مصادر السحت وعدم اختصاصه بالرشوة فقط ، كما ذكره بعض. والآيات تدلّ على ذمّ الظلم والقدح في الحرام ، ومدح العدل والقسط بين الأنام.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ، أنّ الإيمان بالتوراة وسائر الكتب الإلهيّة والرضا بما أنزله الله تعالى فيها ، من أجزاء الإيمان المطلوب ، فقد نفى عزوجل عنهم الإيمان لمّا أعرضوا عن حكم الله تعالى فيها.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) ، أنّ العلماء في جميع الأديان الإلهيّة هم حفظة كتب الله تعالى ، يجب عليهم أن يحفظوا حدودها وأحكامها ومعارفها من التضييع والتحريف على الإطلاق ، وأن يكونوا دعاة إليها

٢٥٧

قولا وعملا. ففي الحديث : «العلماء أمناء الله في أرضه» ، فصاروا شهداء على كتاب الله تعالى ، والشهيد لا يمكن أن يخشى أحدا في شهادته ، وأنّ الخشية إنّما تكون من الله عزوجل فيما إذا خالف الميثاق الذي أخذ منه على العمل به ، فيكون قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، بيانا لحقيقة من الحقائق الواقعيّة في مجال العمل والتطبيق للشريعة الغرّاء.

التاسع : ذكرنا في التفسير وجه التكرار في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ـ أو ـ (الظَّالِمُونَ) ـ أو ـ (الْفاسِقُونَ) ، ونزيد هنا أنّ الآيات الثلاث استوعبت جميع الفروض التي يمكن فرضها في مجال العمل بالأحكام الإلهيّة ، ومن جملتها القضاء ، فهي تشمل عدم الحكم بما أنزل الله ، والحكم بغير ما أنزله عزوجل ، ويدلّ عليه ما ورد في بعض الأخبار : «الحكم حكمان : حكم الله وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية» ، كما أنّها تشمل كلّ الوجوه في الإخلال بها واستبدالها من التغيير والزيادة والنقص والتأويل الباطل ونحو ذلك ، بلا فرق في ذلك كلّه بين أن يكون عن علم أو عن جهل ، أو كان عن إعراض ونكران للحكم الذي هو الكفر ، أو بترك الحكم لأجل تغيير ما أنزله الله تعالى وتبديله وهو الظلم ، أو بالخروج عن الحدود والقيود التي لها الأثر في تهذيب النفوس وتزكيتها ، فهو الفسق ، وقد ذكر جميع الأديان الإلهيّة في هذه الآيات لبيان أنّ ما ذكر من الحقائق الإلهيّة التي لا تختصّ بدين معين.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) ، أنّ الكتب الإلهيّة كلّها تشترك في هدف واحد ، وهو هداية البشر وإنارة الطريق له ، وتكشف ما أبهم عليهم من الأحكام ، كلّ بحسب لياقته واستعداده ، وتدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة.

٢٥٨

بحث روائي :

في المجمع عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ـ الآية ، أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان ، فكرهوا رجمهما ، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ، طمعا في أن يأتي لهم برخصة ، فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم ، فقالوا : يا محمّد! أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال : وهل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا : نعم. فنزل جبرائيل بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به ، فقال جبرائيل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه لهم ، فقال النبي : هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له : ابن صوريا ، قالوا : نعم. قال : فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا : أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى. قال : فأرسلوا إليه ففعلوا ، فأتاهم عبد الله بن صوريا ، فقال له النبي : إنّي أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو ، الذي أنزل التوراة على موسى وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المن والسلوى ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذّبت أو غيّرت ما اعترفت لك ، ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال : إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة ، وجب عليه الرجم. قال ابن صوريا : هكذا أنزل الله في التوراة على موسى ، فقال له النبيّ : فماذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر الله؟ قال : كنّا إذا زنى الشريف تركناه ، وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فكثر الزنى في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه ، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه ، فقال له قومه : لا حتّى ترجم فلانا ، يعنون به ابن عمّه ، فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف

٢٥٩

والوضيع ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ يسود وجوههم ثمّ يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما ، فجعلوا هذا مكان الرجم ، فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ، ولكنّك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك ، فقال : إنّه أنشدني بالتوراة ، ولو لا ذلك لما أخبرته به ، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده ، وقال : أنا أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه ، فأنزل الله فيه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه ، فأعرض النبيّ عن ذلك ، ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه ، فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي ، فقال : صدقت ، وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه امّه شيء ، أو بامّه ليس فيه من شبه أبيه شيء ، فقال : أيّهما علا وسبق ماء صاحبه كان أشبه له ، قال : قد صدقت فأخبرني ما للرجل من الولد ، وما للمرأة منه؟ قال : فأغمي على رسول الله طويلا ، ثمّ خلي عنه محمرّا وجهه يفيض عرقا. فقال : اللحم والدم والظفر والشحم للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل. قال له : صدقت ، أمرك أمر نبي ، فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال : يا محمّد! من يأتيك من الملائكة؟ قال : جبرئيل ، قال : صفه لي ، فوصفه النبي. فقال : أشهد أنّه في التوراة كما قلت ، وأنّك رسول الله حقّا. فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه ، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير ، فقالوا : يا محمّد! إخواننا بنو النضير ، وأبونا واحد ، ونبيّنا واحد ، إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد وأعطونا ديتهم سبعين وسقا من تمر ، وإذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل وأخذوا منّا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر. وإن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منّا ، وبالرجل منهم رجلين منّا ، وبالعبد الحرّ منّا ، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات».

٢٦٠