مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

مادة (حرب) تدلّ على التعدّي وما يضادّ السلم والسلام من الأذى والقتل والضرر على النفس والمال ، والحرب (بالتحريك) هو أن يسلب الرجل ماله ، يقال : حربه يحربه ـ على وزن تعب ـ إذا أخذ ماله ، فهو حريب ومحروب. والمستفاد من اشتقاق هذه الكلمة أنّ الحرب أعمّ من القتل ، فتشمل الاعتداء والسلب وإزالة الأمن والإخلال بالنظام العامّ ، ولا ريب أنّ ذلك يستلزم بحسب الطبع والعادة استعمال السلاح والتهديد ، وربّما القتل وأنحاء الأذى والضرر. وقد ورد في السنّة الشريفة تفسير الآية المباركة بشهر السيف ونحوه ممّا ستعرف ، فهو إنّما يكون من باب المثال.

والمحاربة مفاعلة ، وقد ذكرنا في مواضع متعدّدة أنّ المفاعلة لا تتقوّم حقيقة معناها بطرفين كما يدعيه بعض ، بل هذه الهيئة تدلّ على صدور الفعل من شخص وإنهائه إلى آخر ، سواء صدر منه فعل أم لا.

والمحاربة مع الله تعالى بالمعنى الحقيقيّ مستحيلة ، فلا بدّ أن يكون المراد منها مخالفة أحكامه المقدّسة والاستهزاء بتعاليمه وتشريعاته ونقضها ، كما أنّ محاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هي إبطال ولايته في الأمور التي ثبتت من جانبه عزوجل ، ويدخل فيه أذيّة أولياء الله تعالى الذين ثبتت ولايتهم من جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله تعالى ، فتكون محاربة الله ورسوله معاداة الله تعالى ومخالفة أحكامه ونقضها وعدم تنفيذها وإبطال ولاية أولياء الله تعالى وإعلان مخالفتهم ومعاداتهم.

وبعبارة اخرى : تكون المحاربة مع الله ورسوله هي عدم الإذعان لدينه بعدم حفظ الحقوق وعدم إقامة تشريعاته ، والاستهزاء بشعائر الدين ومقدّساته ، فترجع المحاربة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المحاربة مع الله تعالى ، فإنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من مظاهر الحقّ ، كما أنّ منها ولاية أولياء الله تعالى.

٢٠١

قوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً).

بيان لبعض مصاديق محاربة الله ورسوله التي تقدّم معناها ، والفساد ضدّ الصلاح ، ومن عمل شيئا كان سببا للفساد يقال : إنّه أفسده ، والسعي فسادا ، أي الإفساد في الأرض ، وهو ما كان سببا للإخلال بالنظام العامّ وإزالة الأمن والأمان ، فيدخل فيه قطع الطرق وقتل الناس ظلما وغير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في المقام ، ويرجع كلّ ذلك إلى عدم الإذعان بدين الله تعالى وتضييع الحقوق ، فيتلازم الوصفان ، ومن ذلك يعرف أنّه لا يكفي مجرّد المحاربة مع المسلمين إذا لم نرجع إلى ما ذكر. ويدلّ عليه أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينفّذ في المحاربين من الكفّار بعد الظهور عليهم والظفر بهم حدّ المحارب عليهم ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ).

بيان لحدّ المحاربة وجزائه. والجملة خبر المبتدأ في قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ). والتقتيل والتصليب والتقطيع ، تفعيل من القتل والصلب والقطع ، الدالّة على زيادة في المعنى المجرّد. ولعلّها إما لأجل الزيادة على القصاص ، لأنّه حدّ شرعيّ وحقّ إلهيّ ، لا يسقط بعفو الولي ، أو لأجل التكثير والمبالغة في القتل باعتبار الأفراد ، لأنّهم سعوا في الأرض فسادا ، والصلب قتلة مؤذية ، والكلمة مشتقّة من الصلب (بالتحريك). والصليب بمعنى الودك (الدهن) أو الصديد الذي يخرج من بدن الميت. والهيئة التي تشبه المصلوب تسمّى صليبا.

وقطع الأيدي والأرجل من خلاف ، أي : تقطع مختلفة ، بمعنى إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. وصيغة التفعيل في هذا النوع أظهر. والمراد بقطعها ، قطع بعضها دون الجميع ، أي : إحدى اليدين وإحدى الرجلين مع مراعاة الاختلاف في الجانب.

وأما النفي من الأرض ، فهو بمعنى الطرد من البلد إلى بلد آخر ، وهو مضافا إلى أنّه عقاب ظاهرا ، هو عملية إصلاحية تأديبيّة. وقيل : إنّ المراد بالنفي هو

٢٠٢

الحبس ، لكنّه لا دليل عليه ، سيما بعد كونهما عقوبتين.

ولفظة «أو» إنّما تدلّ على التفصيل والترديد ، المقابل لمطلق الجمع ، وأما الترتيب أو التخيير فلا بدّ أن يستفاد من القرائن الخارجيّة ، لأنّ المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة جدا ووجوه شتّى ، فقد شرّعت لكلّ مرتبة منها عقوبة معينة وحدّ خاصّ ، وفي الروايات المروية عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام الدلالة على أنّ الحدود الأربعة مترتّبة بحسب درجات المحاربة والإفساد ، وسيأتي نقل بعضها إن شاء الله تعالى.

وقيل : إنّ (أو) للتخيير ، فللإمام أن يحكم على من يشاء من المحاربين ، ويمكن إرجاعه إلى ما سبق ، وإلّا فلا دليل عليه في المقام ، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا).

الخزي الفضيحة والذلّ ، أي : ذلك الجزاء من القتل ، والصلب ، والقطع ، والنفي ذلّ وهوان للمحاربين المفسدين في الدنيا ، ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين.

قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

لا يعلم قدره لعظم جنايتهم. وإنّما اقتصر في الدنيا على الخزي وفي الآخرة على العذاب ، لأنّ الخزي في الدنيا أعظم من عذابها ، وعذاب الآخرة أعظم من الخزي في الدنيا.

والآية المباركة تدلّ على الجمع بين عقاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وهو يدلّ على عظم الجناية لما لها الأثر الكبير في النفوس وتدنيسها بارتكاب الفواحش والآثام ، وقلّما تكون جناية يجمع فيها بين الأمرين ، فإنّه قد دلّت روايات متعدّدة على أنّ الحدّ في الدنيا والجزاء الدنيويّ يرفع العقاب في الآخرة ، إلّا في بعض الجنايات ، منها هذه الجناية ، كما تدلّ عليه الآية الشريفة ، فلا يستفاد منها قاعدة كلّية.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ).

الاستثناء من عقاب المحاربين المفسدين في الأرض ، الذين حكم عليهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.

٢٠٣

وحطّ العذاب عنهم بشرط التوبة قبل القبض عليهم ، فإنّها ناشئة عن العلم بقبح عملهم والعزم على عدم العود ، وهي التوبة النصوح.

وأما بعد القبض ، فلا أثر للتوبة ، فإنّ منشأها الخوف من عقاب الدنيا ، ولذا لا يسقط الحدّ عنهم.

قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

لأنّه بالتوبة صار أهلا لمغفرته ورحمته. أي : فاعلموا أنّ الله يغفر لهم ذنوبهم ، ويرحمهم برفع العقاب عنهم.

وقيل : إنّ الآية المباركة تدلّ على تعلّق المغفرة بغير الأمر الاخرويّ. ولكن يمكن القول بشمول المغفرة والرحمة لكليهما ، العقاب الدنيويّ والعذاب الاخرويّ.

٢٠٤

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، على أنّ محاربة الله ورسوله من الأمور المبغوضة عند الفطرة الإنسانيّة ، حيث لم يذكر سبحانه وتعالى حكم المحاربة ، وأوكله إلى الفطرة ، وذكر جزاءها الذي يدلّ على أنّها من المعاصي الكبيرة التي أوعد الله تعالى عليها النّار ، والمحاربة مع الله تعالى ورسوله معلومة لكلّ إنسان تدعو فطرته إلى عبادة خالقه والوفاء بعهوده ، التي منها الالتزام بأداء التكاليف ومراعاة حقّ العبوديّة معه عزوجل ، ولأجل ذلك أطلق الكلام في المقام ولم يذكر خصوصيات المحاربة ، وإن بيّن في بعض الموارد وفي مواضع من القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، قال تعالى في النهي عن الربا : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٩].

والمستفاد من جميع ذلك أنّ المحاربة تتحقّق بمحاربة الشرع ومقاومة تنفيذه والاستهزاء بالأحكام الإلهيّة وهتك حرمات الله تعالى ، ويدلّ على ذلك التعليل الوارد في بناء المنافقين لمسجد ضرار : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ١٠٧] ، وعموم الآية الشريفة يشمل الجميع ، فلا تختصّ المحاربة بالمسلمين فقط ، بل يشمل الكفّار أيضا ، فكلّ من انطبق عليه عنوان المحارب مع الله ورسوله ، يشمله حكمه وينفذ فيه جزاؤه في جميع الأعصار وبأي شكل كانت المحاربة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) ، على أنّ مجرّد

٢٠٥

الفساد ليس كافيا في صدق عنوان المحارب على المفسد ، بل لا بدّ أن يكون سعيا منه في الفساد والإفساد. ولم يبيّن عزوجل خصوصيات الفساد في المقام ، لمعلوميته لدى كلّ عاقل ، وقد ذكر في القرآن الكريم من مصاديقه قتل النفس المحترمة ، قال تعالى حاكيا عن الملائكة : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٠].

ومنها : قطع ما أمر الله به أن يوصل ، قال تعالى : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧].

ومنها : إهلاك الحرث والنسل ، قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٠٥].

ومنها : ترك بعض الأمور الاجتماعيّة الواجبة التي لها دخل في تنظيم المجتمع الإسلاميّ وإقامة أركان العدل الإلهيّ ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) [سورة الأنفال ، الآية : ٧٣].

ومنها : الطغيان في البلاد ، قال تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) [سورة الفجر ، الآية : ١١ ـ ١٢].

ومنها : ابتغاء العلو في الأرض ، قال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) [سورة القصص ، الآية : ٨٣] ، وقد ورد في شأن فرعون : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٤].

ومنها : بخس النّاس أشياءهم ، قال تعالى : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ

٢٠٦

وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [سورة هود ـ ٨٥].

ومن ذلك يعلم أنّ ما ورد في السنّة الشريفة إنّما هو من باب المثال ، كقطع الطريق وإخافة الناس وإزاحة الأمن والأمان والسلب والنهب والإخلال بالنظام.

والظاهر من الآيات الشريفة الواردة في مواضع متفرّقة أنّ الفساد في الأرض من مظاهر محاربة الله ورسوله ، بل هما متلازمان ، فإذا اطلق أحدهما يراد به الآخر أيضا.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ، أنّ المحاربة على مراتب ودرجات ، لكلّ مرتبة منها حدّ خاصّ موكول إلى نظر الإمام العادل المخالف لهواه في تشخيصه ، ويدلّ على ما ذكرناه بعض الروايات.

والمستفاد من الآية المباركة أنّ المناط في إجراء الحدّ ليس مجرّد القتل والصلب وغيرهما ، بل الغرض هو تطهير الامّة منهم وتهذيب نفوس الأشرار ، فيحتاج إلى مزيد عناية في القتل والصلب والقطع بأن يكون كلّ واحد من الأربعة عملية إصلاحية تربويّة ، فيكون تقتيلا مع شدّة ليكون ردعا للغير وإصلاحا للامة ، وكذا الصلب والقطع.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، على أنّ الحدّ والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة إنّما يكون خاصّا بهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم ، الذين قد يتّفق أن يكون عملهم عمل المحارب ، ما لم ينطبق عليهم عنوان المحاربين ، كما يدلّ على أنّ العذاب في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير فسادهم وإفسادهم ، وذلك قد يلازم الخلود كما فصّلناه سابقا.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) على عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه ، والتصدير بجملة : «فاعلموا» ، للدلالة على تحقّق الغفران وثبوته فوق كلّ شيء من العواطف والأهواء والنزعات ، وتقدّم الكلام في نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة فراجع.

٢٠٧

بحث روائي :

في التهذيب للشيخ بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوم من بني ضبّة مرضى ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقيموا عندي ، فإذا برأتم بعثتكم في سرية ، فقالوا : أخرجنا من المدينة ، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبو الها ويأكلون من ألبانها ، فلما برأوا واشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبعث إليهم عليّا عليه‌السلام ، وإذا هم في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن ، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله ، فنزلت الآية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ).

أقول : وقريب منه ما في الكافي. وأكل اللبن محمول على أكل الأقط المتّخذ من اللبن.

وذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات تدلّ على أنّ القوم من بني عرينة أو عكل ، وسمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعينهم لأنّهم سملوا أعين الرعاة ، وفي بعضها نهي عن سمل الأعين بعد ذلك ، ولم يرد في رواياتنا سمل الأعين على ما تفحّصت عاجلا ، لأنّ ذلك من المثلة ، وقد نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها.

وكيف كان يستفاد من هذه الرواية وأمثالها أمور :

الأوّل : أنّ الخيانة والغدر والإفساد مرفوضة في الشرع بجميع وجوهها ، ولا بدّ من التصدّي لمنعها بكلّ السبل.

الثاني : أنّ جزاء الخيانة لا بدّ أن لا يتعدّاها ، لقاعدة المثليّة في العقوبات ، وقد تكون الخيانة عظيمة والغدر كبيرا ، فجزاؤهما يكون كذلك.

الثالث : أنّ الجزاء المترتّب على الخيانة المعبّر عنه في الشرع بالحدّ أو التعزير أو القصاص والنفي ، لا بدّ أن يكون تحت إشراف ولي الأمر ، سواء كان نبيّا أو نائبا عنه ، كالفقيه الجامع للشرائط ، ولا يستلزم إراقة الدماء وهدرها بلا مبرر ، لأنّه

٢٠٨

يوجب الفوضى في المجتمع.

والرواية من باب التطبيق ، وإنّ نزول الآية في واقعة لا يصير مخصّصا لها ، كما هو واضح.

وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائني ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «سئل عن قول الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ، فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟ فقال : إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ المال ، نفي من الأرض ، قلت : كيف ينفى في الأرض ، وما حدّ نفيه؟ قال : ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره ، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه ، فيفعل ذلك به سنة ، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره ، كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة ، قلت : فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال : إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها».

أقول : ظاهر الرواية الترتيب في إجراء الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد ، ولكن ذكرنا في الفقه أنّ ذلك يدور مدار نظر الحاكم الشرعيّ وما يترتّب من المصالح والمفاسد ، حسب اختلاف الظروف والأشخاص ، فيصنع بهم على قدر جنايتهم ، كما تدلّ على ذلك رواية جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية المباركة ، «قلت له : أيّ شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّاها الله عزوجل؟ قال عليه‌السلام : ذلك إلى الامام إن شاء قطع ، وإن شاء نفى ، وإن شاء صلب ، وإن شاء قتل. قلت : النفي إلى أين؟ قال عليه‌السلام : ينفى من مصر إلى آخر ، وقال : إن عليّا عليه‌السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة».

على أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرنا من التخيير للإمام الذي يراعى المصالح ، وما دلّ على الترتيب يحمل على الأولويّة والأفضليّة ، وتقدّم البحث

٢٠٩

في كتاب الحدود من (مهذب الأحكام) ، من شاء فليرجع إليه.

ثمّ إنّ المستفاد من الآية المباركة والسنّة الشريفة أنّ حدّ المحارب هو ما تقدّم بلا طرو موجب آخر ، فمن شهر سيفا أو سعى في الأرض فسادا وقتل نفسا تؤخذ منه الدية لو رضي أولياء المقتول بها ثمّ يقتل ، لأنّه محارب ومفسد ، أو ينفى من الأرض حسب ما يراه الحاكم الشرعي ، كما ورد في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أصلحك الله ، أرأيت إن عفى عنه أولياء المقتول؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام : إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله ، لأنّه قد حارب وقتل وسرق ، فقال أبو عبيدة : فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ، ألهم ذلك؟ قال : لا ، عليه القتل» وتمام الكلام موكول إلى الفقه.

وفي تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من حارب الله وأخذ المال وقتل ، كان عليه أن يقتل ويصلب ، ومن حارب وقتل ولم يأخذ المال ، كان عليه أن يقتل ولا يصلب ، ومن حارب وأخذ المال ولم يقتل ، كان عليه أن يقطع يده ورجله من خلاف ، ومن حارب ولم يأخذ المال ولم يقتل ، كان عليه أن ينفى ، ثمّ استثنى فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) ، يعني يتوبوا من قبل أن يأخذهم الإمام».

أقول : تقدّم ما يتعلّق بصدر الرواية ، وأما ذيلها فإنّ مقتضى سعة رحمته وبسط فضله وحبّه لخلقه أن يكون الأمر كذلك ، والله العالم.

وذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات توافق مضمونها مع ما تقدّم ، فلا حاجة إلى سردها والمناقشة في الأمور البسيطة فيها.

وفي الكافي بإسناده عن سورة بن كليب قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة ، فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه؟ قال : أيّ شيء يقول فيه من قبلكم؟ قلت : يقولون هذه دغارة معلنة ، وإنّما المحارب في قرى مشركة ، فقال : أيها أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشرك؟ قلت : دار الإسلام ، فقال : هؤلاء من أهل هذه الآية (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ

٢١٠

اللهَ وَرَسُولَهُ ـ إلى آخر الآية)».

أقول : ما ذكره الراوي من أنّ المحارب يختصّ بالمشركين ، وردت بذلك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور ، وإنّ مقتضاها تفوق أهل الشرك على المسلمين في هذا الحكم ، وهذا ممّا لا يرضاه العقل والنقل ، كما أشار إليه الإمام عليه‌السلام ، ولا يخفى أنّ الرواية من باب التطبيق لا التخصيص ، والله العالم.

بحث عرفاني :

تقدّم سابقا أنّ الأسباب في تطهير النفوس المنحرفة عن فطرتها المستقيمة وتزكيتها كثيرة جدا ، بل عن بعض أنّها معسورة الحصر ، وعدّوا منها الحدود والتعزيرات ، كما ورد في بعض الروايات التصريح بذلك.

والتعبير بأنّ الحدود والتعزيرات فيوضات إلهيّة ومكارم ربانيّة لأجل صلاح المجتمع وإصلاحها في عالم الشهادة والفوز بالمقامات السامية في عالم الآخرة ، كان مطابقا للواقع. هذا كلّه إذا لم تكن الجريمة ممّا يوجب غضبه تعالى وسخطه ، وإلّا لا يطهّره الحدّ والتعزير في عالم الشهادة ، لأنّ الظرف غير قابل لذلك ، فينتقم الله منه في عالم الآخرة ، ولعلّ ما ورد في بعض العقوبات أنّه لم يجعل الشارع له حدّا خاصّا في الدنيا لأجل ذلك وأنّه يوجب سخطه.

إن قلت : إنّ الصفات السيئة والأفعال القبيحة كلّها توجب غضبه وسخطه ، وإنّ الحدود جزاء شرعيّ ، وإنّ العقاب تابع لسخطه وغضبه.

قلت : أوّلا : أنّ غضبه وسخطه لهما مراتب متفاوتة شدّة وضعفا ـ بل متابينة ـ وأنّ الحدود توجب رفعهما وإزالة الجريمة والخبث الباطنيّ ، فيرضى الله عنه.

وثانيا : أنّ الحدود توجب محو الذنوب ، وإنّها كالتوبة ، وبعد ذلك لا وجه لأنّ يكون العبد مورد غضبه وسخطه.

والحاصل : أنّ الغضب الإلهيّ والسخط الربانيّ يرتفعان بما قرّره الشارع

٢١١

لرفعهما ، سواء كان حدّا أو تعزيرا أو توبة نصوحا. نعم جعل العبد نفسه مورد تعلّق غضبه تعالى ينافي العبوديّة ويضاد الانقياد ، ولا يناسب السير والسلوك ، وعن بعض أعلام العرفاء : التخلية بترك المساوئ وهجرها أولى من التحلية بفعل الحسنات. وإنّ بعض الآيات المباركة تشير إلى ذلك أيضا ، والله العالم ، وللبحث ذيل يأتي في الموارد المناسبة للآيات الشريفة.

٢١٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

لما بيّن عزوجل جزاء المحاربة وعظيم جنايتها لما لها من الأثر السيء في النفوس وتعطيل النظام ، فكان الخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ، وفي هذه الآيات الشريفة ذكر سبحانه وتعالى بعض الطرق لإصلاح النفوس وترويضها على احترام المواثيق والعهود ونبذ الفساد والإفساد ، فأمر عزوجل بالتقوى لعظيم أثرها في تهذيب الإنسان وإصلاحه ثمّ بالطاعة والإخلاص له لترويض النفوس على التوجّه إليه تعالى والتوسّل به في قضاء الحاجات وصرف النظر عمّا ليس بمحمود ، ثمّ بيّن حال الذين كفروا في يوم القيامة وسوء منقلبهم وخلودهم في النار والعذاب المقيم ، وفي ذلك الموعظة والعبرة. ثمّ ذكر جزاء السارق والسارقة اللذين يختلفان عن المحاربين في أنّهما يسرقان خفية دون المحاربين ، وجعل عقاب السارقين بما اجتمع فيه الوازع النفسيّ والتهذيب والإصلاح والخوف من العقاب والنكال والعبرة ، فلم يقتصر فيه على جانب واحد وجعل الباب مفتوحا لمن يتوب ويريد الإصلاح ، فإنّ الله غفور رحيم يقبل توبة عباده إذا صلحوا. ثمّ ختم الآيات الشريفة بإثبات القدرة التامّة ونفوذ حكمه في مخلوقاته ، زيادة في المهابة

٢١٣

وتحقيقا للهداية والموعظة التي ما برح القرآن الكريم عنهما بأساليب متعدّدة متميّزة لا تبلى جدّتها ولا تملّ قراءتها ، فإنّ كلّ أسلوب منها يتضمّن من الأمور البلاغيّة الأدبيّة ، ويتخلّله من أسماء الله وصفاته العليا ، ويشتمل على المعارف والتوجيهات وطلب تقواه تعالى والتوجّه إليه والإخلاص له ، ما يجعل الكلام محبّبا للنفوس ، ولذلك ترى أنّ القرآن وإن اشتمل على أهداف معينة وأغراض معلومة قد ذكرت في مواضع متعدّدة ، لكنّها ليست من التكرار المملّ ، وهذا من معاجز هذا الكتاب العظيم.

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ).

بيان لأحد الكمالات الواقعيّة التي لا بدّ من السعي إليها ، وتقدّم الكلام في هذا النداء الربوبيّ الذي يتضمّن من اللطف والتذكير والموعظة ما لا يتضمّنه أي خطاب آخر ، وقد أمر تعالى المؤمنين بالتقوى لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس وتكميلها بالكمالات الواقعيّة وإزالة الموانع والحجب وما يوجب سخطه عزوجل ، فيكون ترتّب ما يأتي على هذا الحكم كترتّب المعلول على العلّة التامّة.

قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

مادة (وسل) تدلّ على التقرّب والتوصّل إلى أمر بشيء. يقال : وسل إلى كذا ، أي : تقرّب إليه بشيء ، والوسيلة فعيلة بمعنى ما يتقرّب به إلى الله تعالى ويتوصّل إليه عزوجل ، من ترك المعاصي وفعل الطاعات مع الرغبة إلى من يتقرّب إليه وما يتقرّب به ، وقال الراغب : إنّها أخصّ من الوصيلة ، لتضمّنها معنى الرغبة ، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحرّي مكارم الشريعة.

أقول : لا ريب أنّ التقرّب إليه تعالى والتوسّل به إلى ثوابه والزلفى منه ، إنّما

٢١٤

يشترط أن يكون موافقا لما ورد في الشرع المبين ، كما أنّ فعل الطاعات وترك المعاصي لا بدّ أن يكون مع العلم وتحرّي مكارم الشريعة ، وقد ورد في بعض الأخبار : «انّ الله لا يقبل دعاء قلب ساه أو لاه» ، فالعلم وموافقة الشرع المبين من مقوّمات التقرّب إلى الله تعالى. ومن هنا كان ابتغاء الوسيلة إليه عزوجل من شؤون العبوديّة لله تعالى ، التي لا تتحقّق إلّا بإيجاد الرابطة بين العبد وربّه ، فيكون المراد من ابتغاء الوسيلة ابتغاء الطاعة لله تعالى التي لا يمكن أن تتحقّق إلّا بذلّ العبوديّة وتوجيه المسكنة والفقر إليه عزوجل والتضرّع لدى جنابه والخشية منه تعالى ، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلّا باتّباع الشريعة والتقوى ، فكانت التقوى هي العلّة والغاية ، وهذا يدلّ على أهميّة التقوى ، فإنّه قلما اجتمع في شيء العلّة الفاعليّة والغائيّة. ولعلّه لأجل ذلك أمر بالتقوى أوّلا ، ثمّ بابتغاء الوسيلة إليه ، وهذه الآية الشريفة على إيجازها البليغ تتضمّن جميع الكمالات الواقعيّة ، فهي الذريعة لكلّ خير وسعادة ، ومنجاة من كلّ شقاء وعذاب ، وفيها تظهر حقيقة العبوديّة وتزول الحجب والأغيار ، فإنّه لا منجى إلّا بالتوسّل إليه عزوجل والإعراض عمّا سواه ، وابتغاء الوسيلة إليه تبارك وتعالى لا يختصّ بطريقة معينة ، بل كلّ ما يوجب التوسّل به إليه فهو صحيح ، ففي الحديث : «انّ الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق» ، إلّا ما ورد النهي عنه في الشريعة الغرّاء كما في عبادة الأصنام والذبح لغير الله تعالى وغيرهما ممّا حكاه عزوجل في القرآن الكريم وما ذكر في السنّة الشريفة ، وليس من الأخير التوسّل بالأنبياء والأولياء كما يزعمه بعض ، فإنّ الله تعالى جعلهم أبواب رحمته في الأرض ، وقد قال تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٩] ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ).

كمال آخر من الكمالات الواقعيّة ، وترتّبه على سابقه من قبيل ترتّب المقتضى (بالفتح) على المقتضى (بالكسر) ، فيكون المراد من الجهاد الأعمّ من الأصغر

٢١٥

والأكبر ، كما أنّ المراد من سبيله هو الجهاد في ما يرتضيه تبارك وتعالى.

فيكون المعنى : جاهدوا أنفسكم بحملها على اتّباع الحقّ وابتغاء الوسيلة إليه عزوجل ، وكفّها عن الأهواء ، وجاهدوا أعداء الله تعالى الذين يصدّون عن الحقّ ، واحتمل بعضهم أن يكون المراد منه هو الجهاد مع الكفّار ، نظرا إلى تقييده بكونه في سبيل الله تعالى ، الذي إذا ذكر مع الجهاد يكون المراد منه القتال ، بخلاف ما إذا أريد الأعمّ فإنّه يكون خاليا عن التقييد ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٩].

وعلى هذا ، يكون ذكره بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لأهمّيّته. إلّا أنّه ممّا يبعد هذا الاحتمال سياق الآية الشريفة والقرائن المحفوفة بها ، التي تدلّ على أنّ المراد منه الأعمّ ، والتقييد بكونه في سبيل الله لا يصرفه عن المعنى العامّ ، لا سيما بعد كون الجهاد مع النفس من أصعب الأمور ، وتتداخل فيه كثير من الأوهام والظنون ، وهو مزلّة الأقدام وممتحن الرجال ، فلا بدّ من تحديد مسلكه وتعيين طريقه بكونه في سبيل الله ، لئلّا يكون مرتع الشيطان ، ونظير هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢١٨].

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

أي : إذا تحقّق ذلك كلّه منكم فهو السبب للفوز بالفلاح ، الذي هو أقصى الغايات وأبعدها ، فإنّه الوصول إليه عزوجل والفوز بكرامته والسعادة في المعاش والمعاد ، وهذا هو الكمال الذي يسعى إليه الإنسان في سعيه وتحمّله الجهد والمشقّة في ابتغاء مرضاة الله تعالى والتقرّب إليه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

تعليل لمضمون ما قبله ، وتأكيد على وجوب مراعاة الأحكام السابقة ، وترغيب في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عزوجل ، وبيان إلى بطلان ما توسّل به الكفّار يوم القيامة للنجاة من العذاب. والآية تدلّ على أنّ سبب الفلاح والنجاة

٢١٦

كامن في نفس الإنسان ولا يجديه شيء خارج إذا لم يكن راجعا إلى كسب الإنسان وفعله ، وقد أكّد عزوجل ذلك في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [سورة الشمس ، الآية : ٩ ـ ١٠].

ومعنى الآية : أنّ الذين كفروا لو افتدوا جميع ما في الأرض لينجيهم من عذاب يوم القيامة لم ينفعهم ذلك ، ولا يكون بدلا عمّا ذكره عزوجل في صدر الآية من التقوى وابتغاء الوسيلة والمجاهدة في سبيله ، فإنّ تلك هي التي تصرف العذاب عن أنفسكم. وإنّما اقتصر عزوجل على الفدية بما في الأرض ، لأنّها أقصى ما يقدر عليه ابن آدم من الملك الدنيويّ عادة.

قوله تعالى : (وَمِثْلَهُ مَعَهُ).

زيادة في الرغبة وتأكيد على كينونة ما في الأرض ، والمثل على طريق المعيّة لا بطريق التعاقب ، لبيان فظاعة الأمر وهول الموقف.

قوله تعالى : (لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ).

أي : ليجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى : (ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

أي : لا يتقبّل الله ذلك منهم ولا ينقذهم من العذاب الذي استحقّوه بسبب أعمالهم ولا سبيل لخلاصهم منه ، بل هم في عذاب مؤلم في كمال الإيلام لهم ، لأنّ من سنّته عزوجل أنّ الذي ينجيهم من العذاب إنّما هو الإيمان والعمل الصالح. وتقدّم أنّه إنّما يتقبّل الله من المتّقين ، فلا تنفع الكافرين الفدية ، ولا ترفع عنهم العذاب الذي استحقّوه بكفرهم وسيئات أعمالهم.

قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها).

بيان لحالهم في النّار ، وهو يدلّ على كمال إحساسهم بالعذاب ، وأنّ الفطرة الأصليّة التي كانت تتألّم من العذاب في الدنيا لم تتغيّر ولم تنتف عنهم ، بل تتأثّر بالنّار ويتألّمون ويريدون الخلاص من العذاب والخروج من النار ، فإنّها دار العذاب والشقاء وما هم بخارجين منها البتة ، والجملة تدلّ على الثبوت والدوام ، والآية الشريفة تدلّ على عدم قبول الشفاعة والعدل والفدية منهم.

٢١٧

قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).

تعليل لما سبق ، وهو يدلّ على عدم تناهي العذاب كما وكيفا ومدة ، أي : لهم عذاب ثابت لا يزول ولا يفارقهم أبدا.

قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما).

جملة مستأنفة والواو للاستئناف ، ودخول الفاء على الخبر يدلّ على أنّ الكلام في مقام التفصيل.

والتقدير : وأما السارق والسارقة ... إلخ. والسرقة هي أخذ الشيء في خفية ، ومنه استراق السمع ، وسارقة النظر ، ومنها السرقة في الفقه الإسلامي ، أي : أخذ مال الغير خفية. والسرق والسرقة (بكسر الراء فيهما) اسم للشيء المسروق ، والمصدر من سرق يسرق سرقا (بفتح الراء) ، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ، ومستلب ، ومنتهب ، ومحترس الذي يسرق حريسة الجبل ، يشمل الجميع الغصب. وقد تستعمل السرقة في مطلق النقص ، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته ، وقيل : وكيف يسرق من صلاته؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يتمّ ركوعها ولا سجودها».

والقطع هو الإبانة والإزالة ، والآية الشريفة وإن كانت مطلقة ، إلّا أنّ السنّة الشريفة بيّنت شروط الحكم ، فلا يصحّ إجراء الحدّ إلّا إذا توفّرت جميع الشروط المعتبرة في السارق والشيء المسروق والمسروق منه ، فليس كلّ سرقة يجري عليها الحكم المزبور ، كما هو مذكور في الفقه. راجع كتانا مهذب الأحكام.

واليد هي الجارحة المعروفة ، وتطلق في الإنسان على المحدود من المنكب إلى أطراف الأصابع ، وقد يطلق على الأبعاض أيضا كما عرفت في آية الوضوء. والمراد منها في المقام جزء معين ، وهو الأصابع كما دلّت عليه الروايات المتعدّدة ، وسيأتي نقل بعضها.

وذهب الجمهور إلى أنّ القطع من الرسغ ، وقيل : من المنكب ، والمسألة محرّرة في الفقه.

٢١٨

واستعمال الجمع (أيديهما) مع أنّ المراد منه التثنية ، إما لأجل ما قيل من أنّه استعمال شائع في أعضاء الإنسان المزدوجة ، كالقرنين والأذنين واليدين والرجلين والقدمين ، فكلّ شيء يوجد في الإنسان إذا أضيف إلى مثنى جمع ، تقول : أشبعت بطونهما وهشّمت رؤوسهما ، قال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [سورة التحريم ، الآية : ٤].

أو لأجل أنّ كلّ مفرد إذا أردت به التثنية قد يجمع ، كما حكي : وضعا رحالهما ، يريد به رحلي راحلتيهما ، وقيل غير ذلك.

والظاهر أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدق من تلك ، وهو أنّ الموضوع لما كان من الأمور الاجتماعيّة التي تضرّ بالاجتماع ويفسد أخلاق أفراد المجتمع ، فإذا قام أحد منهم بالسرقة فالمجتمع هو المسؤول عن تقويمه وتهذيبه ، وإلّا كانوا مقصّرين ، يشترك كلّ واحد من أفراده في هدم كيان المجتمع ، ولعلّه لذلك استعمل لفظ الجمع لإلقاء المسؤوليّة على المجتمع في الحفظ والتربية والإصلاح.

وكيف كان ، فالمخاطب في قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا) من له أهليّة إقامة الحدود ، كالأنبياء والأوصياء وحكّام الشرع المبين ، فليس لكلّ أحد إقامة الحدّ ، إلّا إذا رجع إليهم وأذنوا له بإقامة الحدّ. والتصريح بأنّ الحدّ يشترك فيه الرجال والنساء كما في حدّ الزنا ، لأنّ كلّ واحد من الذنبين يقع من كلّ منهما ، فأراد الله تعالى زجرهما معا والتأكيد على قبحه ، وإن كانت النساء تشترك مع الرجال في الأحكام. وإنّما قدّم السارق في آية السرقة ، وقدّم الزانية في آية الزنا ، لأنّ السرقة في الرجال أشيع منها في النساء ، لأنّها مبنيّة على القوّة ، وهي في الرجال أكثر ، كما أنّ الزنا في النساء أشيع منه في الرجال ، لأنّه مبنيّ على الشهوة ، وهي في النساء أشدّ.

قوله تعالى : (جَزاءً بِما كَسَبا).

تعليل لما سبق ، وهو منصوب إما لكونه مفعولا لأجله. أو حالا من القطع الفهوم من قوله سبحانه (فَاقْطَعُوا). والباء للسببية ، أي : فاقطعوا أيديهما جزاء

٢١٩

لهما بعملهما الشنيع وكسبهما السيء ، وإنّما ذكر الكسب لبيان أنّ السرقة إنّما تباشر بالأيدي فتقطعان لما باشراه من الكسب.

قوله تعالى : (نَكالاً مِنَ اللهِ).

مادة (نكل) تدلّ على الحجز والمنع ، واستعملت في العقوبة لأنّها تمنع الناس عن الذنب ، ومنه النّكل (بالكسر) لقيد الدابة.

ولا ريب في أنّ قطع اليد من أجدر العقوبات لمنع السرقة ، فإنّه يفضح صاحبه وتكون علامة من علامات الذلّ والعار ، ليكون منعا له عن ارتكاب الجرم ، وعبرة يعتبر بها غيره من الناس فيكونوا في مأمن من أموالهم وأرواحهم.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أي : والله غالب على أمره لا يقهره أحد ، حكيم في أفعاله وتشريعاته.

قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ).

تفريع على ما ذكره عزوجل من كون الحدّ جزاء بما كسبا ونكالا ، فإنّ الهدف من تشريعه هو المنع من السرقة ورجوع المنكول به عن معصيته. فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه على نفسه وعلى الآخرين ، ورجع عن ذنبه رجوع ندم على ما فعل ، وعزم على الترك ، وأصلح نفسه بالتزكية ، وأرجع ما سرقه إلى أصحابه ، وتفصى من تبعاته ، وقد عرفت في بحث التوبة أنّ ما اجتمع فيه حقّ الله تعالى وحقّ الناس لا تتمّ التوبة إلّا بأداء الحقّين ، ويكفي في حقّ الله تعالى الندم والعزم على الترك. وأما حقّ الناس فيعتبر فيه الإصلاح ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، ففي السرقة يجب ردّ المسروق إلى مالكه والاسترضاء منه.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ).

أي : يقبل الله تعالى توبته ، فلا يؤاخذه بالجريرة ويغفر له ويسقط عنه العذاب. وإطلاق الآية الشريفة يقتضي سقوط الحدّ عنه ، كما يدلّ عليه بعض الروايات أيضا.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

تعليل لما سبق ، أي : أنّ ذلك من مقتضى رحمته ، وهو الغفور الرحيم ، والآية

٢٢٠