مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

نقص الغرض ، الذي هو بيان عظمة قتل النفس من حيث الإثم والأثر ، فكلّ ما زاد عدد القتل ازدادت الأهميّة ، وهذا التنزيل يفضي إلى خلاف ذلك ، فإذا كان قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع ، يستلزم أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء ، لأنّ الواحد مقابل الجميع ويبقى الباقي وليس بإزائه شيء ، ولأنّ قتل الواحد إذا كان بمنزلة قتل الجميع ، فإن أريد به قتل الجميع الذي يشتمل على هذا الواحد ، كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه وغيره ، وهو باطل ، وإن أريد قتل الجميع باستثناء هذا الواحد ، كان معناه : من قتل نفسا فكأنّما قتل غيرها من النفوس ، وهو بعيد عن سياق الآية الشريفة وباطل في نفسه.

والجواب عن جميع ذلك بأنّ الآية المباركة لا تنظر إلى هذا التنزيل العددي منه ، بل تشير إلى معنى دقيق كما عرفت ، فتنزل الواحد منزلة الجميع من حيث الحقيقة الإنسانيّة ، كما عرفت آنفا.

وهذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة في القرآن الكريم التي تعطي الأهميّة للإنسانيّة ، وتثبت حقوق الإنسان التي تنادي بها الجاهلية المعاصرة ، تجاهلا منها بالحقيقة الإنسانيّة ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ).

تقرير لما كتب آنفا وتأكيد له ، وتشديد عظيم للأمر ، وتجديد للعهد ، والجملة عطف على صدر الآية الشريفة ، أي : ولقد جاءتهم رسل الله تعالى بالآيات الواضحة يحذّرونهم القتل وما يترتّب عليه من الفساد والدمار.

والتأكيد بالقسم لكمال العناية بمضمون الآية المباركة ، كما أنّه تبارك وتعالى قال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) ، تصريحا بوصول الرسالة إليهم وتناهيهم في العتو والاستكبار.

قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).

تأكيد آخر لما تقدّم ، ويستفاد منه عظيم منزلة ما ورد في الآية الشريفة من مجيء اسم الإشارة الذي وضع موضع الضمير ، للإيذان بكمال تميّزه وانتظامه

١٨١

لسلوكه مسلك الأمور المشاهدة ، وإتيان (ثمّ) الدالّ على التراخي في الرتبة والاستبعاد ، وللدلالة أيضا على أنّه متمّم للكلام السابق.

والمعنى : لقد جاءتهم رسلنا بالبراهين الواضحة ، وبيّنوا لهم آثار سفك الدماء وقتل النفس المحترمة ، وحذّروهم من عواقبها ، ولكنّهم أصرّوا على الاستكبار وأسرفوا في الأرض بالقتل ، وفرّطوا في شأن الأحياء ، وهتكوا المحارم وسفكوا الدماء وجاوزوا الحقّ ، فلم تغن عنهم تلك السيئات ، ولا اهتدت نفوسهم ولم تتهذّب عقولهم.

والإسراف في كلّ شيء هو التجاوز عن حدّ الاعتدال مع عدم المبالاة به ، قال تعالى في شأن نهي ولي المقتول عن تجاوز حدّ القصاص : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [سورة الإسراء ـ ٣٣] ، والغالب في استعماله في مورد الإنفاق ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٧].

١٨٢

بحوث المقام

بحث أدبي :

(إذ) في قوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً) ، ظرف منصوب بقوله تعالى : (نَبَأَ) وجوّز بعضهم أن يكون متعلّقا بمحذوف وقع حالا منه ، وأشكل عليه بوجوه مذكورة في الكتب المطوّلة.

وقيل : إنّه بدل من النبأ على حذف المضاف ، أي : اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت.

وردّ بأنّ (إذ) لا يضاف إليها إلّا الزمان ، نحو : يومئذ وحينئذ ، والنبأ ليس بزمان. وأجيب عنه بالمنع بأنّه لا فرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ (إذ).

وقال الزمخشري : يقال : قرّب صدقة وتقرّب بها ، لأنّ تقرّب مطاوع قرب. وردّ بأنّ تقرّب ليس من مطاوع قرب ، لاتّحاد فاعل الفعلين ، والمطاوع يختلف فيه الفاعل ، فيكون من أحدهما فعل ومن الآخر انفعال ، نحو : كسرته فانكسر ، فليس قربت صدقة وتقرّبت بها من هذا الباب.

ويجاب عن ذلك بأنّ حقيقة المطاوعة إنّما هي تجاوز الفعل عن الفاعل ، سواء كان هناك فعل آخر أم لم يكن ، ففي الحديث : «من عادى وليّا لي فقد بارزني بالمحاربة» ، وما ذكره المستشكل هو الغالب ، لا أن تتقوّم حقيقة المطاوعة به ، فافهم.

وتقدّم الكلام في قوله تعالى : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) ، ونزيد هنا أنّ المعروف في علم النحو أنّه إذا اجتمع قسم وشرط ، كان الجواب للسابق منهما إذا لم يتقدّمهما ذو خبر ، وفي المقام يمكن أن تكون الجملة جوابا للقسم ، وعرفت أنّ الجملة في غاية الفصاحة والبلاغة ، فقد تضمّنت المبالغة في نفي أنّه ليس من شأنه القتل ولا ممّن يتّصف به ، بل تبرّأ عن مقدّمات القتل ، فضلا عنه.

١٨٣

وقوله تعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) من التطوّع ، وهو الانقياد ، وأصله طاع ، أي : انقاد ، ثمّ عدّي بالتضعيف ، فصار الفاعل مفعولا ، وقرئ فطاوعت ، بمعنى فعل ، و (له) لزيادة الربط ، ولا يتمّ الكلام والربط بدونه.

و (أصبح) في قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، بمعنى صار ، ولم يدلّ على الوقت ، والجملة تدلّ على المبالغة على خسرانه ، إذ لم يقل سبحانه : «فأصبح خاسرا».

والغراب طائر معروف ، ويجمع في القلّة على أغربة ، وفي الكثرة على غربان ، وقيل : إنّه مشتقّ من الاغتراب.

و «كيف» في قوله تعالى : (كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) ، منصوب بقوله : «يواري» ، والجملة استفهاميّة في موضع مفعول ثان ل «يريه».

والاستفهام في قوله تعالى : (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ) ، للتعجّب من عجز نفسه ، والمعروف (يا ويلتا) بألف منقلبة عن الياء ، وقرئ (يا ويلتى) على أصل ياء المتكلّم.

وما في قوله تعالى : (فَكَأَنَّما) في الموضعين كافّة مهيّئة لوقوع الفعل بعدها ، و «جميعا» حال من «الناس» ، أو تأكيد.

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على اُمور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ) على أهميّة هذا النبأ وعظمته ، ولا غرو في ذلك فإنّه أوّل قتل وقع على هذه البسيطة ، وأوّل حدث يكشف عن غريزة البشر التي جبلت على التباين والاختلاف والتحاسد ، المفضي إلى البغي والظلم والقتل وما يترتب على ذلك من آثار ، وأوّل موضوع بيّن وجه الحكمة في ما شرّعه الله تعالى من الأحكام على البغاة والظالمين والقتلة من الأفراد والجماعات والشعوب والقبائل ، وأوّل حادثة بيّنت احتياج الإنسان إلى الأحكام

١٨٤

والتشريعات والتوجيهات ، وأوّل فعل كشف عن حرية الإرادة والاختيار في الإنسان على هذه الأرض.

ولعلّ ذكر الحقّ في المقام ، لبيان تلك الوجوه وغيرها ممّا لم نذكره ، وللإشارة إلى أنّه قد ذكر فيه ما لم يستند إلى دليل معتمد ، وأنّ بني إسرائيل هم الذين حرّفوا هذا الموضوع وادخلوا فيه بعض الأباطيل.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ، على مشروعيّة تقديم القرابين ، بل هو من الفطريات ، ولم تخلو شريعة من الشرائع السماويّة منها ، وإن اختلفت في بعض الخصوصيات ، إلّا أنّها اتّفقت على أن يكون القربان خالصا لوجهه الكريم ، ولا يختصّ بنوع خاصّ ، فيشمل كلّ ما يصحّ التقرّب به إليه عزوجل.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، على حقيقة واقعيّة تدعو إليها الفطرة المستقيمة ، وقد أخبر بها هابيل في وقت لم تنطمس الفطرة بالحجب والموانع.

ويستفاد من الحصر أنّ القبول يدور مدار التقوى التي لها مراتب متفاوتة جدا ، وتختلف درجات القبول مدارها ، ومن المعلوم أنّ التقوى التي كانت مطلوبة في زمان ابني آدم ، غير التقوى المطلوبة في الشرائع المتأخّرة ، والعظمى من تلك المراتب ما عليه في شريعة الإسلام التي حوت من الكمالات أسماها ومن مراتب التقوى أكملها وأغلاها ، فكان الجزاء عظيما على قدر عظمة التشريعات فيها ، وسيأتي في البحث الكلاميّ ما يرتبط بالمقام.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، على أنّ الخوف منه جلّت عظمته هو من أعظم الحواجز عن ارتكاب المحرّمات ، وأهمّ المعدات لنيل ملكة التقوى ، والعلّة الوحيدة التي يمكن أن تكبح الشهوات والنفس الأمّارة وتقويمها بمكارم الأخلاق وتزيينها بمحامد الصفات ، وقد تقدّم الكلام في الخوف ، وذكرنا أنّه من الصفات السيئة ، إلّا الخوف من الله تعالى ، فإنّه صفة حميدة ، ولم ينلها إلّا من بلغ مرتبة من العلم والعمل الصالح.

١٨٥

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) ، على أنّ بعض المعاصي ممّا يوجب كسب مظالم الغير وتحمّل آثامه ، لشناعتها وفظاعتها ، وممّا يعتبرها العرف والعقل موجبا لتحمّل آثامه وتبعات من وقع عليه الظلم ، كالقتل العمديّ والبغي على الآخرين ، فإنّه يوجب انتقال إثم المقتول ظلما إلى قاتله ، مضافا إلى إثمه ، ويدلّ أيضا على أنّ المظلوم ممّن ينتصر الله تعالى له إن عاجلا أو آجلا.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، على حقيقة من الحقائق الواقعيّة التي يدركها الإنسان عند ما يهمّ بالمعصية وارتكاب الآثام.

والمستفاد منه أنّ النفس يصعب عليها ارتكاب المعصية ، لا سيما القتل ؛ فإنّه مستصعب عظيم على النفوس ، ولا يصل الفرد إلى حدّ الارتكاب إلّا بعد صراع بين القوى الداخليّة ، فتردّه النفس الأمّارة بالسوء طائعا منقادا ، حتّى يوقع صاحب هذه النفس في الموبقات والمهالك ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك فراجع.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) ، إمكان انتفاع الإنسان بالحسّ وتعيين خواصّ الأشياء من ناحية الحسّ الحاصل من التجربة ، وبعد ذلك يتوصّل الإنسان إلى الكلّيات من التفكّر في ما حصله من التجربة والحسّ.

وتعتبر هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة الحاكية عن حال الإنسان من حيث علومه ومعارفه ، وما يفضي به البحث العلمي المبتني على الحسّ ، ثمّ الاستنتاج والتفكّر وتنظيم القواعد والكلّيات ممّا يحسّه الإنسان من الجزئيات ، وبذلك اختلفت نظرية المعرفة الإسلاميّة عن غيرها ممّا تقصر المعرفة على واحد من تلك المنابع ، إما الحسّ أو التذكّر أو العلم الفطريّ أو غيرها ، فإنّ الإسلام لا ينكر هذا الجانب أيضا ، ويقول بتعدّد ينابيع المعرفة ، ولا يهمل الجانب الحسيّ أبدا ، ولكن لا يعدّه المنبع الوحيد في المعرفة الإنسانيّة حتّى يستلزم إشكالات متعدّدة ذكروها في الكتب الفلسفيّة ، واعتبر تلك المنابع المتعدّدة هي وحدة متكاملة يكمل أحدها الآخر ، فصارت للمعرفة مصادر متعدّدة لا يمكن

١٨٦

الاعتماد على واحد منها مع غضّ النظر عن المصادر الاخرى ، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [سورة النحل ، الآية : ٧٨] ، وآيات اخرى وردت في مواضع متفرّقة ، وبسبب هذه النظرية الشاملة اتّسعت المعرفة الإنسانيّة وشملت جميع الأمور ، حتّى ما وراء الحسّ ، وعليها ابتنت مسألة التوحيد التي هي أبعد المسائل عن الحسّ ، ولكن استثنت هذه النظرية بعض المسائل عن المعرفة أو خصّصتها ببعض الطرق والينابيع ، كما هو الشأن في استنباط الأحكام الشرعيّة وتشخيصها ، فخصّ العلم بها بالوحي والفطرة وما ورد في الكتاب والسنّة الشريفة ، وكذا في التفكّر والتذكّر ، فخصّهما بما إذا لم يكن فيه إبطال للسلوك العلميّ الفكريّ ، أو مخالفا للتقوى ، والبحث نفيس يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ) ، على أنّ هذه القصة التي ذكرت بهذا التصوير الرائع للطبع الإنسانيّ ليست هي الوحيدة في نوعها ، فإنّ الطبع يقضي باتّباع الهوى والحسد ، فيأتي بما يماثلها ، فيحمله على ارتكاب المآثم إن وافقته الأسباب على المنازعة وإبطال غرض الخلقة بارتكاب جريمة القتل ، فكانت هذه القصة هي السبب في تشريع حكم إلهيّ يحفظ الأفراد من مثل هذه الجريمة ، فاعتبر الإنسان أفراد نوع واحد وأشخاصا لحقيقة متّحدة ، يحمل الفرد الواحد من الإنسانيّة ما يحمله الكثيرون والنوع ، فجعل الاعتداء على الواحد كالاعتداء على النوع ، والإحياء له إحياء للنوع ، لما فيه من حفظ الكرامة الإنسانيّة وتحقيق الغرض الإلهيّ من خلقة هذا النوع.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ الله

١٨٧

تبارك وتعالى عهد إلى آدم عليه‌السلام أن لا يقرب هذه الشجرة ، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها فأكل منها ، وهو قول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، فلما أكل آدم من الشجرة اهبط إلى الأرض ، فولد له هابيل وأخته توأم ، وولد له قابيل وأخته توأم ، ثمّ إنّ آدم أمر هابيل وقابيل أن يقرّبا قربانا ، وكان هابيل صاحب غنم ، وكان قابيل صاحب زرع ، وقرّب هابيل كبشا من أفاضل غنمه ، وقرّب قابيل من زرعه ما لم ينق ، فتقبّل قربان هابيل ولم يتقبّل قربان قابيل ، وهو قول الله عزوجل : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ، وكان القربان تأكله النار ، فعمد قابيل إلى النّار فبنى لها بياتا ، وهو أوّل من بنى بيوت النار ، فقال : لأعبدنّ هذه النار حتّى تتقبّل منّي قرباني ، ثمّ إنّ إبليس (لعنه الله) أتاه وهو يجري من ابن أدم مجرى الدم في العروق ، فقال : يا قابيل! قد تقبّل قربان هابيل ولم يتقبّل قربانك ، وإنّك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك ويقولون : نحن أبناء الذي تقبّل قربانه ، فاقتله لئلّا يكون له عقب يفتخرون على عقبك ، فقتله ، فلما رجع قابيل إلى آدم عليه‌السلام قال : يا قابيل أين هابيل؟ فقال : اطلب حيث قرّبنا القربان ، فانطلق فوجد هابيل قتيلا ، فقال آدم عليه‌السلام : لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل ، وبكى آدم على هابيل أربعين ليلة».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأوّل : يحتمل أن يكون المراد من العهد الوارد في الآية المباركة (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ) [سورة طه ، الآية : ١١٥] ، العهد التكوينيّ ، أي : الذي ركز في عقل آدم عليه‌السلام بأن لا يقرب الشجرة الخاصّة التي تميّزت ببعض الصفات التي تنفر عنها العقل ، وأنّ ما ترتّب على مخالفة ذلك العهد من الآثار الوضعيّة ـ من الخروج عن الجنّة ، والسير الطبيعيّ الاستكماليّ في هذه الدنيا ، والخلود في الجنّة والنّار ، وغيرها ـ كانت في الأزل مقرّرة ، وأنّ إرادته تعالى تعلّقت بذلك.

وبناء على هذا ، يسقط النزاع في أنّه كيف صدر من آدم عليه‌السلام المعصية؟ فإنّ

١٨٨

العهد لم يكن مولويّا صرفا ، ويدلّ على ما ذكرنا قوله عليه‌السلام : «فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها» ، وأما وسوسة الشيطان لم يكن لأجل إغواء آدم عليه‌السلام والتسلّط عليه ، وإنّما كان لأجل إغواء ذرّيته والتسلّط عليهم ، وسيأتي في الآيات المناسبة تقييم هذا الاحتمال ودفع ما يطرأ عليه من الشبهات.

الثاني : أنّ أصل النسيان في البشر من لوازم وجوده وطبيعته. نعم للنسيان مراتب متفاوتة ، وتختلف حسب درجات الإيمان ، وحسب سير الطبيعة ، وقد يكون النسيان من الشرور التي يقرب الشيطان الإنسان إليها ، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

الثالث : أنّ تقديم القربان إليه جلّت عظمته من لوازم الإيمان والعبوديّة لله تعالى ، سواء كانت هناك شريعة ومنهج إلهيّ أو لا ، لأنّه ممّا يستحسنه العقل ويعترف به.

ولا يختصّ القربان بالذبح والنحر ـ وإن كان أفضله ـ بل يتحقّق بتقديم كلّ شيء حتّى الزرع الذي لم ينظف ، وإنّ القبول حسب مراتب الإخلاص والكمال في الشيء.

ثمّ إنّه قد ورد في كثير من الروايات أنّه كانت علامة قبول القربان من الله جلّ شأنه أن تأتي نار من السماء وتأكله. ولعلّه كان ذلك لأجل الترغيب إلى إصلاح النفس وتهذيبها ـ ولا يكون ذلك من المعجزة ، وإن كان مقتضى عموم رحمته وعدم تحديده بشيء ، وأنّه يظهر الجميل ويستر القبيح ، أن لا يظهر قبح من لم يتقبّل قربانه في هذه الدنيا. نعم عن بعض العرفاء أنّ للقبول آثارا معنويّة تظهر على النفس ، وأنّ سترها ـ خوفا من العجب ـ من أسمى الكمالات.

الخامس : ظاهر الرواية أنّ عمل قابيل لم يكن خالصا لوجهه تعالى ، ومن أثر ذلك صدر منه المعصية الشنيعة ، وكان غرضه السمعة والشهرة.

السادس : أنّ بناء قابيل بيتا للنار وعبادته لها ، لا تدلّ على أنّه كان مجوسيّا ، وإنّما كان ذلك عن حبّ للسمعة ، كما يعبد أهل الدنيا الماديات ، وإلّا كانت

١٨٩

الفطرة المستقيمة ترشد إلى الخالق الأزليّ ، خصوصا في أوّل بدأ الخلقة.

السابع : جريان إبليس مجرى الدم في عروق الإنسان ، لا يدلّ على نفي الاختيار عنه ، بل المراد السيطرة عليه في جميع مشاعره وأحاسيسه لإغوائه ، ويقابله بعث الرسل والأنبياء.

الثامن : يستفاد من الرواية أهميّة النسل والعقب للإنسان ، وأنّهم يفتخرون بمجد الآباء ، فإنّ ذلك صار سببا لإغواء قابيل.

التاسع : يستفاد من الرواية تصارع قوى الخير والشر من بدء الخلقة ، وأنّ الشرّ قد يغلب الخير ، ولكن ذلك لا ينافي الحكم والمصالح ، وقد ثبت في محلّه أنّ الشرّ قد يعقب خيرا وأنّ الخير قد يعقب شرّا ، وفي إخفاء المصالح على البشر مصالح.

العاشر : يستفاد من هذه الرواية وغيرها من الروايات الكثيرة أنّ الأرض قد تكون شريرة وملعونة ، وقد تكون خيّرة ومقدرة ، كالإنسان ، بل الزمان أيضا كذلك ، كما في غير واحد من الروايات ، والأسباب في ذلك مخفيّة علينا ، وتعيين تلك الصفات إما بواسطة الأنبياء والرسل ، أو التجربة بالآثار الوضعيّة ، وعن بعض العلماء أنّه جرّب في بعض الحيوانات وبعض البيوت.

الحادي عشر : أنّ بكاء آدم عليه‌السلام وسائر الأنبياء والأولياء على فقد عزيز لهم أو ما يرد عليهم من المصاب ، لا ينافي التوكّل والإخلاص والرضا بالقدر والقضاء ، وذلك إما أنّه لأجل الحزن الذي يرد على طبيعة البشر وأنّهم بشر ، بل عن بعض الفلاسفة أنّ الهموم والغموم تعمّ الموجودات كلّها ما سواه تعالى ، وتبرز آثارها فيها حسب وجودها.

أو لأجل الخوف منه تعالى ، لئلّا يسلب منهم جزاء النعمة التي أنعمها عليهم من القرب إليه جلّ شأنه أو المحبّة ، أو اللطف بهم.

أو لأجل الطمع في التقرّب إليه أكثر والرجاء في الثواب ، إلى غير ذلك من الوجوه.

١٩٠

وفي تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، عن ثوير قال : «سمعت علي بن الحسين عليهما‌السلام يحدّث رجالا من قريش ، قال : لما قرّب ابنا آدم القربان ، قرّب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته ، وقرّب الآخر ضغثا من سنبل ، فتقبّل من صاحب الكبش وهو هابيل ، ولم يتقبّل من الآخر ، فغضب قابيل فقال لهابيل : «والله لأقتلنك» ، فقال هابيل : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس فعلّمه ، فقال : ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه ، فلما قتله لم يدر ما يصنع به ، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتّى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، ثمّ حفر الذي بقي في الأرض بمخالبه ودفن فيه صاحبه ، قال قابيل : (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ، فحفر له حفيرة ودفنه فيها ، فصارت سنّة يدفنون الموتى ، فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل ، فقال له آدم عليه‌السلام : أين تركت ابني؟ قال له قابيل : ارسلتني عليه راعيا ، فقال آدم : انطلق معي إلى مكان القربان ، وأوجس قلب آدم بالذي فعل قابيل ، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله ، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل ، وأمر آدم أن يلعن قابيل ، ونودي قابيل من السماء : تعست كما قتلت أخاك ، ولذلك لا تشرب الأرض الدم ، فانصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوما وليلة ، فلما جزع عليه شكا ذلك إلى الله ، فأوحى الله إليه أنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل ، فولدت حواء غلاما زكيا مباركا ، فلما كان يوم السابع أوحى الله إليه : يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّي لك فسمّه هبة الله ، فسمّاه آدم عليه‌السلام هبة الله.

أقول : الفرق بين الروايتين بسيط ، ويستفاد من الرواية الثانية أنّ العلوم مطلقا إلهاميّة ـ وإن كان يختلف سبب الإلهام ـ ولكن بعضها يرجع إلى الحسّ ، ولعلّ المعصية التي ارتكبها قابيل كانت سببا لعدم قابليته للإلهام ، وفي بعض

١٩١

الروايات : «مسخ الله عقله وخلع فؤاده تائها حتّى مات» ، ولذا الهم الغراب بذلك دون قابيل. نعم إنّ ما اقتضته الفطرة غير قابل للجهل ، كما ورد في بعض الروايات : «مهما أبهموا لا يبهموا عن ثلاث : خالقهم ، ومحلّ رزقهم ، ومحلّ سفادهم».

وأنّ فعل الغراب كان منحصرا بالفرد ولم تكن من طبيعته كذلك كما قيل ، وإن ذكر بعضهم أنّ نوعا منه يدفن موتاه وراثيا ، ومنه ذلك الغراب.

كما يستفاد منها أنّ تنبؤ آدم عليه‌السلام قتل ولده هابيل كان من الإلهام ، ولم يكن من الوحي ، لقوله عليه‌السلام : «لما أوجس في نفسه من ذلك» ، وهذا قد يعرض على الإنسان خصوصا الأخيار منهم.

وأمّا عدم شرب الأرض الدم ، فله أسباب عديدة وحكم كثيرة ، لعلّ منها بقاء أثر دم المظلوم وعدم زواله.

وأما أمر آدم عليه‌السلام لعن قابيل لأجل ما صدر منه من الفعل الشنيع باختياره ، وأنّ نداءه في السماء بواسطة بعض الملائكة ، للدلالة على بعده عن رحمته تعالى لأجل ما صدر منه.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لما أكل آدم من الشجرة اهبط إلى الأرض ، فولد له هابيل وأخته توأم ، ثمّ ولد قابيل وأخته توأم ـ إلى أن قال : ـ ثمّ إنّ آدم عليه‌السلام سأل ربّه ولدا ، فولد له غلام فسمّاه هبة الله ، لأنّ الله وهبه له وأخته توأم ، فلما انقضت نبوّة آدم عليه‌السلام واستكمل أيامه أوحى الله إليه أن يا آدم قد قضيت نبوّتك واستكملت أيامك ، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان ، والاسم الأكبر ، وميراث العلم ، وآثار علم النبوّة في العقب من ذرّيتك عند هبة الله ابنك ، فإنّي لم اقطع العلم والإيمان والاسم ، وآثار علم النبوّة في العقب من ذرّيتك إلى يوم القيامة ، ولن ادع الأرض إلّا وفيها عالم يعرف به ديني ، ويعرف به طاعتي ، ويكون نجاة لمن يولد فيما بينك وبين نوح ، وبشّر آدم عليه‌السلام بنوح وقال : إنّ الله باعث نبيّا اسمه نوح ، فإنّه يدعو إلى الله ويكذّبه قومه فيهلكهم الله تعالى بالطوفان ، وكان بين آدم ونوح عشرة آباء ، كلّهم أنبياء.

١٩٢

وأوصى آدم عليه‌السلام إلى هبة الله أن من أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه وليصدق به ، فإنّه ينجو من الغرق ، ثمّ إنّ آدم مرض المرضة التي مات فيها فأرسل إلى هبة الله ، فقال له : إن لقيت جبرئيل ومن لقيت من الملائكة فاقرأه منّي السلام وقل له : يا جبرئيل! إنّ أبي يستهديك من ثمار الجنّة ، فقال جبرئيل : يا هبة الله! إنّ أباك قد قبض وما نزلنا إلّا للصلاة عليه فارجع ، فرجع فوجد آدم عليه‌السلام قد قبض ، فأراه جبرئيل كيف يغسّله ، فغسّله حتّى إذا بلغ الصلاة عليه قال هبة الله : يا جبرئيل! تقدّم فصلّ على آدم ، فقال له جبرئيل : إنّ الله أمرنا أن نسجد لأبيك آدم وهو في الجنّة ، فليس لنا أن نؤم شيئا من ولده ، فتقدّم هبة الله فصلّى على أبيه آدم وجبرئيل خلفه وجنود الملائكة ، وكبّر عليه ثلاثين تكبيرة فأمره جبرئيل فرفع من ذلك خمسا وعشرين تكبيرة ، والسنّة اليوم فينا خمس تكبيرات ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكبّر على أهل بدر سبعا وتسعا. ثمّ إنّ هبة الله لما دفن آدم أتاه قابيل فقال : يا هبة الله! إنّي قد رأيت أبي آدم عليه‌السلام قد خصّك من العلم بما لم يخصني به أنا ، وهو العلم الذي دعاه به أخوك هابيل فتقبّل منه قربانه ، وإنّما قتلته لكي لا يكون له عقب يفتخرون على عقبي يقولون : نحن أبناء الذي تقبّل منه قربانه وأنتم أبناء الذي ترك قربانه ، وإن أظهرت من العلم الذي اختصّك به أبوك شيئا قتلتك كما قتلت أخاك هابيل ، فلبث هبة الله والعقب من بعده مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة ، حتّى بعث الله نوحا وظهرت وصية هبة الله في ولده حين نظروا في وصية آدم عليه‌السلام فوجدوا نوحا نبيّا قد بشّر به أبوهم آدم ، فآمنوا به واتّبعوه وصدقوه ، وقد كان آدم عليه‌السلام أوصى إلى هبة الله أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كلّ سنة ، فيكون يوم عيدهم يتعاهدون بعث نوح وزمانه الذي يخرج فيه ، وكذلك في وصية كلّ نبي ، حتّى بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأوّل : أنّ المواريث المعنويّة الموجودة عند الأنبياء عليه‌السلام في عالم الشهادة لا

١٩٣

تزول بموت النبيّ أو الوصيّ ، وإنّما تنتقل من نبيّ أو وصيّ ، خصوصا الاسم الأعظم منها ، فإنّه موجود عند الحجّة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

الثاني : لعلّ بشارة آدم عليه‌السلام بنوح ، لأنّه الأب الثاني للبشريّة كما هو الأب الأوّل لهم ، فله من الأهميّة ما لم تكن في غيره من الأنبياء ، كما أنّه بشّر بمحمد ، لأنّه الغاية من الخلق ، وهو أشرف الخلائق.

الثالث : أنّ تعليم الشرائع الإلهيّة كما يكون بالإلهام بواسطة الأنبياء عليهم‌السلام ، كذلك قد يكون بواسطة الملائكة في هذه الدنيا.

الرابع : تدلّ زيادة التكبيرات على شرفه وتقرّبه إلى الله تعالى ، ولذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يزيد فيها في صلاته على الشهداء ، وذلك لا ينافي الفرض الذي هو خمسة عندنا ، وأقلّ عند غيرنا ، وأنّ ما رفع جبرئيل منها كان نفلا لا فرضا.

وعن هشام بن الحكم قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لما أمر الله آدم أن يوصي إلى هبة الله ، أمره أن يستر ذلك ، فجرت السنّة في ذلك بالكتمان ، فأوصى إليه وستر ذلك».

أقول : لعلّ السرّ في كتمان الأمور التي لها شأن ـ كما حثّ عليه في كثير من الروايات ـ هو كونه أحفظ من مكائد الشيطان ، كالتحريف والتضييع وغيرها.

ثمّ إنّ هناك روايات أخرى تتعلّق بالقصة ، وفي بعضها نوع من الخلل فلا بدّ من التأويل ، فإنّ الحال والزمان لا يدعان مجالا لذكرها وتأويلها والله العالم.

وفي الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)؟ قال : له في النّار مقعد ، لو قتل الناس جميعا لم يرد إلّا ذلك المقعد».

أقول : ومثله غيره من الروايات ، وتقدّم في التفسير أنّ التنزيل في الآية المباركة حقيقيّ لما ارتسمت في نفس القاتل من الصفات السيئة ، ولا تنافي ذلك زيادة العذاب لو قتل أكثر من واحد ، كما دلّت عليه رواية حمران عن الباقر عليه‌السلام : «فإن قتل آخر؟ قال عليه‌السلام : يضاعف عليه».

١٩٤

وفي الكافي أيضا بإسناده عن سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «قلت له : قول الله عزوجل : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ، قال : من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها ، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».

أقول : المراد من الحياة والممات في الرواية الحياة المعنويّة والممات المعنويّ ، كمن أخرجها من الكفر إلى الإيمان ، وتقدّم سابقا أنّهما أفضل من الحياة الجسميّة ، كما تدلّ عليه الآيات المباركة والروايات المستفيضة ، والرواية من باب التطبيق على أكمل الأفراد وأجلاها ، أو من باب التأويل الأعظم كما في بعض الروايات ، ولا تنافي النجاة من الحرق والغرق وغيرهما ، لشمول الإحياء له كما هو المعلوم.

وفي الكافي بإسناده عن معاوية بن عمار ، عن الصادق عليه‌السلام قال : «من يسقي الماء في موضع يوجد فيه الماء ، كان كمن أعتق رقبة ، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء ، كمن أحيا نفسا ، ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا».

أقول : الرواية من باب ذكر بعض الأفراد والمصاديق.

وعنه بإسناده أيضا عن حمران قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اسألك أصلحك الله تعالى؟ فقال : نعم ، فقلت : كنت على حال وأنا اليوم على حال أخرى ، كنت ادخل الأرض فأدعو الرجل والاثنين والمرأة ، فينقذ الله من يشاء أن اليوم لا ادعو أحدا؟ فقال : وما عليك أن تخلي بين الناس وبين ربّهم ، فمن أراد الله أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه ، ثمّ قال : ولا عليك إن أنست من أحد خيرا أن تنفذ إليه الشيء ابتداء ، قلت : أخبرني عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ، قال : من خرق أو غرق ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : تأويلها الأعظم إن دعاها فاستجابت له».

أقول : ورد في كثير من الروايات أنّ دعاء المؤمن لأخيه في ظهر الغيب لا يردّ ، وأنّ تأخير الآثار لا ينافي ذلك. وتبدّل الحالات النفسانيّة في الإنسان كثير ، مؤمنا كان أو كافرا ، والرواية من باب التطبيق ، ولعلّ المراد من التأويل الأعظم

١٩٥

ذكر أجلى المصاديق وأكملها للآية المباركة ، وهو المراد من ذلك في كلمات الأئمة عليهم‌السلام.

وفي الدرّ المنثور عن علي عليه‌السلام : «انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : بدمشق جبل يقال له قاسيون ، فيه قتل ابن آدم أخاه».

أقول : على فرض صحّة الرواية ، فإنّها لا تنافي أن يكون الدفن في محلّ آخر ، لما في بعض الروايات : «مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة».

وفي الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما قتلت نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم القاتل الأوّل كفل من دمها ، لأنّه أوّل من سنّ القتل».

أقول : وقريب منه غيره ، وإنّها مطابقة لقاعدة : «من سنّ سنّة سيئة فله وزر من عمل بها» ، ولعلّ هذا هو المراد من ذيل الآية المباركة : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، فتأمّل جيدا.

وعن ابن عباس في قوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) قال : «من قتل نبيّا أو إمام عدل ، فكأنّما قتل الناس جميعا».

أقول : الآية المباركة مطلقة ، وما ذكره ابن عباس من باب أكمل الأفراد وأجلى المصاديق أو الأولويّة ، لا من باب التخصيص.

وفي الدرّ المنثور بإسناده عن الحسن قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله لا يقبل عمل عبد حتّى يرضى عنه».

أقول : رضاء الله تعالى عن عبده يلازم التقوى وهي المناط ، لأنّ غيرها لا يقبل ، ولا يدور الإخلاص إلّا عليها ، ولكنّ الواعظين بها كثيرون والعاملين بها قليلون ، وللتقوى مراتب مختلفة ودرجات كثيرة ، كما أنّ رضاه تعالى كذلك.

واعلم : أنّ هناك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور تدلّ مضامينها على ذمّ الانقياد والجلوس بترك الدفاع ، وأنّ هابيل ترك الدفاع عن نفسه ، فوقع القتل عليه.

١٩٦

وهذه الروايات لا بدّ من حملها على ما إذا لم يستلزم تضييع الحقّ ولا التعدّي على حرمات الله تعالى ، وإلّا فإنّ الدفاع عن النفس ، وانتصار الحقّ ، وكشف الكرب عن المظلوم بردع الظالم ، وحفظ مشاعر الدين عن المعتدين بالجهاد وغيرها ، من الواجبات العقليّة النظاميّة ، أكد عليها الشرع.

ومن المحتمل أنّ الروايات صدرت عن أشخاص أرادوا منها جوانب خارجية ، لعلّ منها صرف المسلمين عن الحرب مع علي عليه‌السلام ضدّ معاوية أو الخوارج أو طلحة والزبير ، أو تجميد دوافعهم التي كانت تؤيّد الحقّ وتسانده.

وكيف كان ، فلا بدّ من حمل الروايات وإلّا فتطرح.

وهناك روايات اخرى تتعلّق بقصة قابيل ومجازاته ، ذكرها أرباب التفاسير ـ كالسيوطي وغيره ـ لا يقبلها العقل ، وهي أشبه بالقصص الوهميّة أو الخرافات الخياليّة ، فلا بدّ من طرحها أيضا والله العالم.

بحث كلامي :

وردت كلمة التقوى في القرآن والسنّة ـ بل في الكتب السماويّة ـ كثيرا ، وحثّت عليها الشرائع الإلهيّة ورغّبت إليها. وهي صفة ـ أو حالة نفسانيّة ـ تعرض على الإنسان الملتزم بالدين ، وقد تزول عنه حسب العوامل النفسيّة والمكائد الشيطانيّة ، فهي من الأمور الإضافيّة ، تختلف حسب درجات الإيمان والثقة بالمبدأ عزوجل.

وهي في اللغة : جعل النفس في وقاية ممّا يخاف. بل جعل نفس الخوف تقوى ، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه.

وقد عرّفت في الشرع بتعاريف متعدّدة ، ولعلّ أسلمها : حفظ النفس عمّا يؤثم. وذلك بترك المحظور ، ويتحقّق باجتناب بعض المباحات ، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام ، لما روي : «الحلال بيّن والحرام بيّن ، ومن رتع حول

١٩٧

الحمى فحقيق أن يقع فيه» ، وغيره من الروايات قال الله تعالى : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٣٥].

وقيل : إنّها صفة راسخة في النفس توجب الاجتناب عن المأثم والمشتبهات ، وهذا التعريف يرجع إلى الأوّل ، وإنّما الاختلاف في التعبير.

وقيل : هي الامتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه الهوى ، وهذا أعمّ ممّا تقدّم.

وكيف كان ، فإنّه لا يمكن تحقيق التقوى إلّا بترك المشتبهات ، فضلا عن المحرّمات ، ففي رواية يونس عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : «أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك والمبلغ إلى جنّتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب ، ونأخذ بآرائنا فنهلك ، فإنّ من اتّبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غناء الناس تعظّمه وتصفه ، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني ، لأنظر مقداره ومحلّه ، فرأيته في موضع قد أحدقوا به جماعة من غثاء العامّة ، فوقفت منتبذا عنهم متغشّيا بلثام ، انظر إليه وإليهم ، فما زال يراوغهم حتّى خالف طريقهم وفارقهم ، ولم يقر ، فتفرّقت جماعة العامّة عنه لحوائجهم ، وتبعته أقتفي أثره ، فلم يلبث أن مرّ بخباز فتغفّله فأخذ من دكانه رغيفا مسارقة ، فتعجّبت منه ، ثمّ قلت في نفسي : لعلّه معاملة ، ثمّ مرّ بعده بصاحب رمّان ، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة ، فتعجّبت منه ثمّ قلت في نفسي : لعلّه معاملة ، ثمّ أقول : وما حاجته إذا إلى المسارقة ، ثمّ لم أزل اتّبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه ومضى ، وتبعته حتّى استقرّ في بقعة من صحراء ، فقلت له : يا عبد الله لقد لحقت بك وأحببت لقاءك فلقيتك ، لكنّي رأيت منك ما شغل قلبي ، وإنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي ، قال : ما هو؟ قلت : رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين ثمّ بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين ، فقال لي : قبل كلّ شيء حدّثني من أنت؟ قلت : رجل من ولد آدم من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : حدّثني ممّن أنت؟ قلت : رجل من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : أين بلدك؟ قلت :

١٩٨

المدينة ، قال : لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، قلت : بلى ، قال لي : فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرّفت به وتركك علم جدّك وأبيك ، لأنّه لا ينكر ما يجب أن يحمد ويمدح فاعله ، قلت : وما هو؟ قال : القرآن كتاب الله ، قلت : وما الذي جهلت؟ قال : قول الله عزوجل : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، وقال تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ، وإنّي لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين ، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين ، فهذه أربع سيئات. فلما تصدّقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة ، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات ، بقي ست وثلاثون. قلت : ثكلتك امّك ، أنت الجاهل بكتاب الله ، أما سمعت قول الله عزوجل : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، إنّك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين ، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين ، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنّما أضفت أربع سيئات ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات. فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته». ويستفاد من هذه الرواية أنّ القبول مطلقا يدور مدار التقوى ، ولولاها فالأعمال مجرّد صور لم يكن لها لبّ. نعم لكلّ منهما مراتب ودرجات. والتقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه ولاستقرار حبّه تعالى في القلب. وقد ذكر علماء السير والسلوك أنّ مقامات الرقي هي مراتب التقوى ، وقسّموها إلى تقوى العوامّ وتقوى الخواصّ ، وتقوى أخصّ الخواصّ. ثمّ إنّ المراد من التقوى في الآية المباركة : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، هو مجرّد التقرّب إليه عزوجل مع تقريره به ، لا التقوى المصطلح ، لتناسب ذلك لبدء التشريع وتلائمه مع بثّ النسل ، ولم تكمل الحجّة بتمام جهاتها. ولكن تقدّم أنّ للتقرب إليه تعالى مراتب ودرجات ، وأنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلّا في هذه الآية فقط.

١٩٩

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

الآيتان الشريفتان تبيّنان أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يقوم عليها النظام العامّ وثبات الأمن والأمان ، وتحرّمان المحاربة والإفساد المخلّين للنظام والموجدين للخوف العامّ.

ففي الآية الشريفة الاولى يبيّن تعالى حدّ المحاربة ، الذي هو شديد على قدر عظمة الجرم ، الذي هو المحاربة مع الله العظيم ورسوله الكريم ، وكان الحدّ مركّبا من الخزي في الدنيا بالقتل والصلب والقطع من خلاف والنفي من الأرض ، والعذاب العظيم في الآخرة.

وفي الآية الثانية يبيّن عزوجل حكم من تاب قبل القبض والاستيلاء عليه ، وغفران الله تعالى له.

ولا يخلو ارتباط هاتين الآيتين بما سبق ، كما تشمل المحاربة القتل الذي بيّنته الآيات السابقة في قصة قتل ابن آدم أخاه ، وما كتبه الله تعالى على بني إسرائيل من أجله ، الذي لا يعدو أن يكون منعا للإفساد والمحاربة ، إفساد للنظام ، فكانت هذه الآيات المباركة بيانا لعقاب الإفساد الذي خلت الآيات السابقة منه.

٢٠٠