مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

اجتيازها للوصول إلى الأرض المقدّسة من بلاد الشام ، وكان طولها أربعين فرسخا.

وينتهي أحد حدودها إلى بحر فاران الذي غرق فيه فرعون ، وفاران مدينة على تل بين جبلين. وحدّها الآخر شرقا أرض بيت المقدس وجنوبيّ فلسطين ، وهي صحراء رمليّة ، وفيها مواضع صلبة قفر لا نبات بها إلّا في بعض المواضع.

ومن مدن التيه ومواضعه حويرك ، الخلصة (الوسا) والخلوص (لسا) السبأ (بيرسبه) المدرة ، وجبل هور الذي دفن فيه هارون عليه‌السلام ، والكثيب الأحمر الذي دفن فيه موسى بن عمران عليه‌السلام ، حيث كان يرى أرض فلسطين دون أن يدخلها ، وقد ورد بعض هذه الأسماء في الدعاء المعتبر المشهور بدعاء السمات.

وفي هذه الصحراء هام بنو إسرائيل ولم يدخلوا مدينة ولا آووا إلى بيت. وجاء في التوراة : «وفي هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا عليّ ... فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر ، وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ، ويحملون فجوركم حتّى يفتن جثثكم في القفر ، تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي ـ أنا الربّ قد تكلّمت لأفعلن هذا بكلّ هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ. في هذا القفر يفنون وفيه يموتون» (سفر العدد الفصل الرابع عشر الآيات ٢٢ ـ ٣٥) ، وقد ضرب موسى وهارون خيمة الاجتماع ، وهي المسماة في بعض الدعوات المعتبرة قبّة الرمّان ـ أو قبّة الزمان ـ وفيها البقعة المباركة من جانب الطور الذي هو جبل كان يذهب إليه موسى عليه‌السلام لتلقي التوراة أو للمناجاة ، كما في بعض الروايات.

مدة التيه :

اختلف المؤرخون غير المسلمين في مدّة التيه التي كتبت على بني إسرائيل ، ولكن ليس لكلّ طائفة منهم دليل صحيح تستدلّ على مدّعاها ، بحيث تقنع النفس به ، والذي صرّح به الكتاب العزيز والسنّة الشريفة أنّها أربعون سنة ، وهذه المدّة كافية لإصلاح النفس وتهذيبها من الصفات الرذيلة.

١٦١

وفي هذه المدّة لا هم مدنيّون يعيشون عيش السعة ، ولا هم بدويّون يعيشون عيشة القبائل ، وكانوا في العذاب الاصطلاحي والدوران التربويّ والمجتمع الفاقد للنظام ، فتمزّقوا وتفكّكوا ولم يبق منهم إلّا أقلّ القليل ، فدخلوا الأرض المقدّسة.

الحوادث في التيه :

ينقل المؤرخون كثيرا من الحوادث التي وقعت في التيه ، ولكنّ تلك تحتاج إلى دليل يعتمد عليه ، والمهم هو أنّ التيه ـ كما عرفت ـ عملية تأديبيّة تهذيبيّة إصلاحية أرادها الله تعالى لهم.

ولا ريب في أنّ مثل هذه العملية تحتاج إلى ظروف وأحكام خاصّة تتلائم مع وظيفة التأديب والطبيعة التي وقع فيها التيه ، والهدف الذي كتب لأجله على بني إسرائيل ، ولم يخلو من بعض المعاجز والكرامات ، إتماما للحجّة عليهم ، ونذكر في المقام بعض ما ذكره المؤرخون ووردت به بعض الروايات.

منها : أنّهم هاموا في الأرض وتاهوا فيها ، فكانوا يمشون في الأرض طول اليوم ، فإذا حلّ بهم الليل قطنوا في مكان وناموا فيه ، ثمّ إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي ابتدءوا السير منه ، وقد ذكر العلماء في تفسير ذلك وجوها ذكرنا بعضها في البحث الروائي.

ويمكن أن يكون ذلك عقوبة إلهيّة جرّاء شنيع أفعالهم ، أو لأنّهم لم يعرفوا حدود تلك الأرض التي وقع فيها التيه ولا مسارها وسائر خصوصياتها ، فكانوا يهيمون في الأرض تائهين ، فإذا تعبوا حلّوا في مكان لم يعرفوا أنّهم في نفس المكان الذي ابتدءوا منه السير.

ومنها : موت أكثرهم ، بل جميع الذين خرجوا مع موسى عليه‌السلام من مصر ، إلّا يوشع وكالب ، لعصيانهم وتمرّدهم على الله تعالى ورسوله بعد ما أرآهم عزوجل عجائب الآيات ، فأخذهم الله بذنوبهم وأهلكهم وأنشأ من بعدهم جيلا هم أقرب إلى تقبّل الأحكام ، وعدل الشريعة من آبائهم ، وجعلهم الوارثين للأرض المقدّسة.

١٦٢

ومنها : موت موسى بن عمران الذي تحمّل من العناء والتعب الشديدين في سبيل هدايتهم وإصلاح قومه ، وكذا مات هارون أخو موسى عليه‌السلام ووزيره ووصيّه ، وقد كان موتهما بلا شكّ خسارة عظيمة لقومهما ، لا سيما أنّهم كانوا يجتازون أصعب الاختبار والامتحان.

ومنها : إنشاء أماكن محترمة ومعدّة للعبادة أصبحت من شعائر الله تعالى ، كقبّة الرمّان التي كانت خيمة لموسى بن عمران وأخيه هارون ، وطور سيناء وغيرها ممّا ورد ذكره في التوراة.

ومنها : ظهور الآيات العظيمة ، كنزول المن والسلوى ، والحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عينا ، كما حكى الله تعالى في القرآن الكريم.

الحكمة من التيه :

ظهر ممّا ذكرنا الحكمة في التيه ، وأهمّها كما مرّ تهذيب الامّة وإصلاح المجتمع الذي ذاق طعم عذاب الذلّة والقسوة ، بحيث انهارت جميع ركائزها. ولو لا التيه لما تمكّنت بنو إسرائيل من إصلاح أنفسهم ممّا فرض عليهم في مصر ، وصارت كطبيعة ثانويّة لهم ، لا يمكن إزالتها إلّا بالدور الذي كتبه الله تعالى لهم. وقد تقدّم في التفسير بعض حكم اخرى فراجع.

بحث عرفاني

المستفاد من الآيات المباركة والسنّة الشريفة أنّ العذاب النوعيّ ـ أو الشخصيّ ـ الواقع على الأمم أو الأفراد لم يكن مجرّد نقمة من الله تعالى ، فإنّه خير محض وإليه ينتهي الخير ومنه يصدر كلّ خير ، ولا يمكن نسبة الشرّ إليه جلّت عظمته ، كما يأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالى ، فالامم التي حلّت بهم النكبات ووقع عليهم العذاب ، هي المسؤولة عن ذلك ، وهي التي

١٦٣

باختيارها أنزلت البلايا ، فإنّ العذاب والنكبات مسببات لا بدّ لها من أسباب ـ سواء كانت ظاهريّة أو معنويّة ، طبيعيّة كانت أو شرعيّة ـ وقد يكون العذاب يؤثّر تأثيرا معاكسا ، بحيث تصلح النفس ويتهذّب المجتمع وينشطه للقيام بإصلاح أسسه وركائزه ، وأكثر الأمم التي حلّ بهم العذاب كما يحكيه القرآن الكريم كان من قبيل ذلك. ومن هنا لا وقع للإشكال الذي ذكره بعض الفلاسفة من أنّ العذاب الإلهيّ ينافي محبّته لخلقه وعلاقته تعالى بهم ، لأنّ ذلك إما من الآثار الوضعيّة ، أو للإصلاح ، أو الكفّارة لبعض الأعمال السيئة ، أو للقرب إليه جلّ شأنه. ولذلك قال بعضهم : إنّ العذاب إن تعلّق به رضاه جلّت عظمته وإن كان دخول النار ، كان عذبا لأهله لا عذابا ، كما عن سيّد العرفاء أمير المؤمنين عليه‌السلام في دعواته الشريفة ، ودعاء كميل أكبر دليل على ذلك.

بل عن بعض أكابر الصوفيّة إنكار العذاب من أصله ، ولكن لا يمكن الالتزام بذلك بالأدلّة العقليّة والنقليّة ، خصوصا بالنسبة إلى الكافرين والمنافقين. وللبحث تتمّة نتعرّض لها إن شاء الله تعالى.

١٦٤

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢))

الآيات الشريفة تحكي قصة ابني آدم ، اللذين قتل أحدهما الآخر ظلما وحسدا من القاتل ، وأنّه ندم على فعلته الشنيعة ـ كما تبيّنه الآيات المباركة ـ ولما ينفعه الندم فأصبح من الخاسرين. وقد فقد صوابه فجهل ما يفعل بجسد أخيه ، حتّى تعلّم من الغراب ما تمكّن أن يواري جسده في التراب ، ويظهر من ذلك أنّه أوّل قتل وقع على وجه الأرض ، فكان ظلما فظيعا وحدثا عظيما ، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة ، فكان هذا الحدث سببا في أن يكتب عزوجل على بني إسرائيل أنّ من قتل نفسا محترمة من غير سبب شرعيّ ، يكون ظلما على الناس جميعا ، وأن من أحياها فكأنّما أحيى الناس جميعا. وقد أرسل جلّ شأنه الرسل بالبينات لهداية الناس ، إلّا أنّهم أعرضوا عن التشريعات الإلهيّة وعصوا أوامرهم وأسرفوا

١٦٥

في ذلك ، فكانت النتيجة هي انتشار الفساد وخسران الإنسان.

وممّا ذكرنا يظهر ارتباط هذه الآيات بسابقتها ، من حيث أنّها تبيّن أنّ المنشأ لقتل ابن آدم أخاه هو الحسد الكامن في النفس ، الذي له مظاهر مختلفة ، فقد ظهر في ابني آدم فأوجب قتل أحدهما الآخر ، وفي بني إسرائيل له صور ومظاهر متعدّدة ، التي أوجبت ابتعادهم عن الحقيقة وإبائهم عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعراضهم عن الحقّ استكبارا.

ثمّ إنّ هذه الآيات المباركة تمهيد لما سيأتي ذكره من بيان حكم المحاربة وبيان جنايات بني إسرائيل.

التفسير

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ).

خطاب لنبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلاوة الحقّ عليهم ، إعلاما لهم بأنّ ما هو الموجود عندهم باطل ، وإرشادا لهم بأنّه لا يمكن لأحد التقوّل في ذلك إلّا بوحي إلهيّ ، فيكون حجّة عليهم ، وتقدّم الكلام في مادة (تلو) ، وقلنا : إنّها بمعنى تبع ، ومنها التلاوة ، لمتابعة الكلمات بعضها تلو بعض. ولم تكد تستعمل إلّا في قراءة كلام الله تعالى المجيد ، قال تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢١]. أي : يقرءونه ويتّبعونه حقّ اتّباعه.

والنبأ : هو الخبر الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام ، فلا يقال لكلّ خبر نبأ.

والمراد ب (آدم) هو أبو البشر الذي ورد ذكره في القرآن الكريم بهذا الاسم. وأبناه هما اللذان من صلبه ، والمعروف في كتب التاريخ أنّهما هابيل الذي تقبّل الله تعالى قربانه المحسود عليه ، وقابيل الحاسد وهو القاتل أخاه ظلما وعدوانا.

١٦٦

وذكر بعضهم أنّ المراد بآدم رجل من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربانه ، فتقبّل من أحدهما دون الآخر ، فقتل الذي ردّ قربانه أخاه الذي تقبّل منه قربانه ، ولذلك قال تعالى بعد سرد القصة : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ).

ولكن هذا القول مردود من جهات ، ويكفي فيه أنّه لم يقم دليل معتبر عليه ، مع أنّ المتبادر من ذكر (آدم) في القرآن الكريم هو أبو البشر ، ولم يرد غيره بهذا الاسم فيه.

كما أنّ ذيل الآية الشريفة يدلّ على ما ذكرناه ، فإنّ أوّل قتل وقع على هذه البسيطة هو الذي حكاه عزوجل من ابني آدم ، فكان قتلا فظيعا وحدثا عظيما ، وكان سببا في تشريع قاعدة كلّية في مطلق القتل ، وفيها من الحكمة ما يستفيد منها جميع الأمم كسائر المواعظ والحكم ، حيث لا تختصّ بامة دون اخرى.

وأما وجه كتابة هذه الحكمة على بني إسرائيل ، إما لأنّ شريعتهم أوّل شريعة عامّة ، أو لأجل أنّهم امّة العناد واللجاج والاستكبار ، وتأريخهم معروف بالفتن والحروب.

وسياق الآية الشريفة يدلّ على وعظهم وتحريضهم على الإيمان ونبذ العناد مع الرسول الكريم واتّباع الحقّ.

وكيف كان ، فقد ذكر المفسّرون والعلماء في المقام روايات غربية وحكايات عجيبة ، لا يمكن الاعتماد عليها ، وإنّما ذكر عزوجل القصة على وجه الإجمال في المقام لبيان الحقّ فيها ، فإنّها لم تخل عن تحريف وتزييف فيها ، فإنّها ذكرت في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة ، وفيها من القرائن كتجسّم الباري عزوجل. ولكشف غريزة البشر وإظهار أنّ الحسد كامن في نفوسهم ، وهو الذي يؤدّي إلى التباغض والتباين والبغي والقتل ، إلّا أن يهذبه الإنسان ويستفيد منه على الوجه السليم. وقد ذكرنا أنّ الحسد أمر غريزي في كلّ إنسان ، ولا يمكن الاستغناء عنه في حياته ، إلّا أنّه لا بدّ من الاستيلاء عليه وكبح جماحه ، لئلّا يؤدّي إلى الفساد ، وقد سنّت الشرائع الإلهيّة من الأحكام والتوجيهات والإرشادات ما

١٦٧

يجعله في الطريق الصحيح والاستفادة منه على الوجه المطلوب ، ومن جملة تلك ما ورد في هذه الآيات الكريمة على ما ستعرف ، فكانت في هذه القصة العبرة والموعظة والتعريض ببني إسرائيل على ما فعلته من الجرائم وتحريضهم على الإيمان بالحقّ ونبذ الحسد والتباغض والعناد.

قوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً).

القربان كفعلان ، ما يتقرّب به إلى الله تعالى وغيره من ذبيحة وغيرها ، وهو في الأصل مصدر ، ويجمع على قرابين أيضا ، وقد غلب استعماله عندنا في ذبائح النسك. والسياق يدلّ على أنّ كلّ واحد منهما قرّب قربانا يتقرّب به إلى الله تعالى ، وتشهد به الروايات الآتية ، واحتمال أنّهما قرّبا قربانا واحدا كانا شريكين فيه ، ضعيف.

ولم تبيّن الآية الشريفة ماهيّة القربان ولا كيفيّة التقرّب به ، فإنّ لكلّ قوم شأنا فيها ، والقربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم.

قوله تعالى : (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ).

التقبّل هو القبول ، لكن مع اهتمام بالمقبول وزيادة عناية به ، فيكون أخصّا منه ، وإنّما تقبّل من أحدهما لأنّه أخلص النيّة لله تعالى ورضي بحكمه وعمد إلى أحسن ما عنده ، ولم يتقبّل من الآخر ، لأنّه لم يخلص النيّة في قربانه وسخط بحكم الله تعالى ولم ينل من التقوى شيئا.

ولم تبيّن الآية الشريفة كيفيّة القبول ولا طريق علمهما به ، ولكن ورد في بعض الروايات أنّ القبول كان محسوسا ، وذلك بورود نار إلهيّ تأكل القربان ، ويشهد له قوله تعالى : (بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ).

وكيف كان ، فهو لا يضرّ بعد أن علما بالقبول.

قوله تعالى : (قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ).

توعيد بالقتل ممّن لم يتقبّل منه القربان وهو القاتل ، لفرط الحسد الذي نشأ من قبول قربان أخيه ورفعة شأنه عند ربّه عزوجل ، والظاهر من الآية المباركة أنّ

١٦٨

الحسد هو السبب في القتل فقط ، فلم يكن هناك سبب آخر غيره ، لأنّ المقتول لم يجرم بحقّ أخيه جرما يستحقّ القتل.

قوله تعالى : (قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة في قانون المجازاة وقبول الأعمال والعبادات ، وهذه الحقيقة تبتني على قاعدتين مهمّتين ، هما أساس قانون الجزاء في الإسلام.

الاولى : ثبوت المجازاة ، الذي لا يتمّ إلّا بإيصال كلّ عامل إلى جزاء عمله وتقديره بميزان القسط والعدل ، فيثاب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء على إساءته ، ليكون سببا لارتداع الظالم الذي يعدّ جزاء أعماله بنفسه ، ويرغّب المحسن إلى الزيادة في الإحسان.

وهذه القاعدة لا تتمّ إلّا بنظام خاصّ متقن يقوم على العلم والقدرة والحكمة المتعالية ، ولذا كان من شؤون الربوبيّة العظمى لربّ العالمين ، وقد تقدّم بعض الكلام في سورة الفاتحة فراجع.

الثانية : وهي أنّ قبول الأعمال مطلقا إنّما يدور مدار التقوى ، التي هي أساس الكمالات ، ولا يمكن تحصيلها إلّا بجهد شخصيّ مرير ، وتدلّ عليها جملة من الأدلّة ، منها هذه الآية المباركة التي ترمز إلى معنى دقيق يعدّ بنفسه من أسس قانون المجازاة الإلهيّة ، وهو أنّ حرمان الإنسان من جزاء عمله إنّما يكون من تقصيره ، ولا بدّ من السعي في إزالة ما يكون مانعا عن القبول ، ولا يمكن ذلك إلّا بالتقوى ، فلا بدّ من الاجتهاد في تحصيلها مهما أمكن ، ليكون محظوظا عند ربّ العالمين ، لا السعي في إزالة حظّه ونعمته ، فإنّ ذلك يضرّه ولا ينفعه.

ومن ذلك يعلم أنّ القصر في قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ) قصر القلب ، ردّا لما زعمه القاتل من قبول عمله حسبانا منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقوى ، وأنّ التقي وغير التقي في ذلك على حدّ سواء ، إلّا أنّ الآية الشريفة قصرت القبول على المتقي فقط ، فلا حظّ لغيره من عمله.

والظاهر من الآية المباركة وما ورد في تفسيرها عن المعصومين عليهم‌السلام

١٦٩

والتأمّل في أحوال قابيل وارتداده عن شريعة آدم عليه‌السلام ، أنّ المراد من التقوى هنا هو الموت على الإيمان ، لا التقوى الخاصّ ، فكيف بالأخصّ ، فلا يصحّ التمسّك بهذه الآية الشريفة لعدم قبول أعمال فساق المؤمنين إن ماتوا على الدين الحقّ ، ويمكن استظهار ذلك من جملة كثيرة من الأخبار ، ومن قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٧ ـ ٨].

وكيف كان ، ففي الآية الكريمة العبرة والموعظة للعاملين بأن لا يغترّوا بأعمالهم ، إذ المناط كلّه هو التقوى ، فما أنعى هذه الآية الشريفة على العاملين أعمالهم وهي ترشد المؤمنين إلى إزالة ما يكون مانعا عن قبول أعمالهم.

قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ).

بيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق التي تحثّ الشرائع الإلهيّة إليها ، وتحرّض الناس على التحلّي بها ، وهو يرشد إلى أصل من اصول الأديان السماويّة ، وهو أصل احترام الدماء والنفوس ، الذي يعدّ من القواعد المهمّة في الفقه الإسلامي ، وفيه من الحكمة البالغة والموعظة الحسنة ما يكون سببا في السعادة والفلاح ونيل الكمالات ، ويبيّن أنّه لا بدّ من نبذ روح الانتقام وعدم إضمار السوء والشرّ بالنسبة إلى الآخرين ، حتّى إذا أرادوا الشرّ له ، لأنّ السبب في ذلك هو الخوف من الله تعالى ، الذي هو من أسمى الغايات وأجلّها.

ومن ذلك يعرف أنّ ذلك لا ربط له بمسألة وجوب الدفاع عن النفس وإن أدّى إلى القتل إذا توجّه الضرر إليها ، لأنّ المسألة تبيّن حكما شرعيّا في ظروف خاصّة ، في حين أنّ الآية المباركة تبيّن حكما أخلاقيّا يعدّ من الكمالات الواقعيّة ، فإنّها تدلّ على أنّ أحد الأخوين أضمر السوء لأخيه وأخبره بأنّه يريد قتله ظلما وعدوانا ، إلّا أنّ الأخ الآخر أظهر عدم إضمار السوء له ، ولم يرد أن يقابل الجناية بمثلها ، لا جبنا ولا خوفا منه ، بل خوفا من الله تعالى فقط ، فإنّه يرى سعادته في ذلك ، فهو وإن كان يحقّ له دفع الظلم عن نفسه ، لكنّه اختار شقاء أخيه باختياره

١٧٠

قتله لأن يسعد هو من دون أن يتلبّس بظلم ، لأنّه ينافي التقوى ، ولا يتّفق مع الخلق الكريم الذي يريد أن يتحلّى به ، ليكون أقرب إلى الكمال ، وقد أكّد ذلك كلّه ب (لام) القسم ، وبجملة النفي الاسميّة المقرون خبرها بالباء ، وذكر الصفة (بباسط) دون الفعل ، لأنّ نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل ، ولبيان التبري عن متمّمات الفعل فضلا عنه ، كلّ هذا التأكيد للإعلام بأنّه لا يضمر السوء ، وأنّه بعيد عن الانتقام ، وأنّه يسعى إلى نيل الكمال ، لا إعمال غريزة من الغرائز الإنسانيّة ونيل لذّة وقتية مباحة له من قبل الشرع ، وترك سعادة أبديّة وكمالا واقعيا ، وهذه هي روح الشرائع الإلهيّة وأصل من اصول المعارف الدينيّة أراد الأخ العالم المتّقي أن يلقيه إلى أخيه الجاهل ، ابتغاء مرضاة الله تعالى ، فهو لم يستسلم لأخيه القاتل ، وإلّا لقال : إنّك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك استسلاما لك ، وإنّما قال : «لأقتلك» ، أي : إذا أردت البغي والظلم فلم أرد ذلك لا خوفا ولا جبنا ، فكن في مأمن من قبلي ، ويدلّ على ذلك ما في بعض الروايات أنّ قابيل كان يخاف من هابيل ، وقد قتله غيلة ، فلا يعارض بأنّ قابيل وإن أفرط في الظلم ، ولكن هابيل قصّر في التصدّي عن الاعتداء ولم يقابله بالدفاع عن نفسه ، فإنّه كما عرفت لم يرد القتل فقط ، ولم يقل : إنّي لم أدافع عن نفسي.

والآية المباركة تبيّن صفاء فطرة هابيل وطهارة طينته.

قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله بألطف أسلوب وأبلغ موعظة وأحسن استعطاف ، أي : لا أريد أن يراني الله تعالى باسطا يدي لقتل أخي وظالما له ، فإنّ ذلك من موجبات سخطه وعقابه ، وهو ربّي وقد أحسن إليّ وأنعم عليّ بأنواع النعم ، وربّ العالمين الذي يربيهم بفضله وإحسانه ، فلا ريب أنّ الاعتداء عليهم أعظم مفسدة وإخلال بالغرض.

وفي الآية الشريفة : إرشاد إلى لزوم خشية الله تعالى على أتمّ وجه ، فإنّه ربّ العالمين الذي يربيهم بالعدل ، فيجازي المعتدي بالعذاب بما يغرس في نفوسهم

١٧١

غريزة الخوف منه عزوجل ، فلا يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة والخسران.

قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ).

تعليل آخر لامتناعه عن البسط وبيان له أيضا ، ولذا ترك العطف بينهما ، والمراد بالإرادة هنا هي اختيار أحد الأمرين عند دوران الأمر بين الخير والشرّ ، فإنّه قد اختار طريق الخير ، وهو الموت مع السعادة وعدم تحمّل تبعات الإثم وآثاره السيئة ، وإن استلزم شقاء أخيه باختياره السيء الحياة مع الشقاء والخسران والدخول في سخط الله تعالى ، فيتحمّل إثم فعلي لو فعلته ، الذي تركته باختيار السعادة وترك المقابلة بالمثل ، وأثم فعله الشنيع أيضا.

ومادة (بوء) تدلّ على اللزوم ، ومنه أبوء بنعمتك ، أو أبوء بذنوبي ، أي : أقرّ وألتزم ، منه الرجوع ، قال تعالى : (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [سورة الأنفال ، الآية : ١٦] ، أي : رجعوا إليه والتزموا به ، وتقدّم الكلام فيه فراجع.

وممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما قيل في المقام من أنّه ذكر إرادته لتمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب حتّى يكون هو سعيدا ، فإنّه لم يرد تمكين أخيه من قتله ، لأنّه من التسبيب إلى ضلال أحد وشقائه ، وهو ظلم محكوم بالفطرة ، وإنّما هو أراد ذلك إن اختار أخوه قتله ، وقد ذكرنا آنفا أنّه لم يمكّن نفسه من القتل أبدا ، وإلّا اشتركا في الإثم ، فالآية الكريمة بمجموعها تدلّ على أنّ هابيل لم يضمر الشرّ لأخيه أبدا ، ولم يحدّث نفسه في التعدّي على أخيه ، وإن أضمر أخوه الشرّ له ، فإنّ ذلك لا يكون سببا في الهلاك والخسران ، فإذا اختار الأخ قتله ، فإنّه يرجع إلى نفسه الشريرة ، فهو يتحمّل تبعات فعله ، لأنّه المباشر للقتل ، وتبعات إثمي لو فعلته ، فيحمّله إثم المقتول على تقدير قتله إيّاه.

أو أنّ المراد من الآية الشريفة أنّه لو اختار القتل فقتل أخاه ، تحمّل جميع آثامه ، لأنّه اعتدى على مظلوم لا يستحقّه ، فيورث القاتل جميع آثام المقتول ، الذي لو لم يقتله لجازاه الله تعالى بها ، إلّا أنّه بقتله إيّاه أورثه الله تعالى إيّاها ، وقد وردت ذلك في بعض الروايات.

١٧٢

قوله تعالى : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ).

الآية من قبيل ترتّب المسبّب على السبب ، الذي هو اختيار طريق الشرّ ، أو ارتكاب المآثم التي توجب النار ويكون من أصحابها ، فيدرك ألمها وعذابها.

قوله تعالى : (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ).

تقرير لما قبله ، وفيه التعليل على كونه من أصحاب النار التي أعدت للظالمين. وفي الآية المباركة الدلالة على أنّ تحمّل القاتل إثم المقتول إنّما هو لأجل التنبيه بالظلم ، ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [سورة النجم ، الآية : ٣٨] ، فإنّ ذلك صحيح بالنسبة إلى أصل القضية وطبع كلّ عامل.

وأما إذا كان هناك دليل من الخارج على تحمّل بعض إثم الآخرين ، فلا إشكال حينئذ والعقل لا يحكم بقبحه ، وبعبارة اخرى : أنّ مؤاخذة الإنسان بذنب غيره قبيح لو لم يكن سببا في تحمّله له ، فإنّ الأسباب تتبّع المصالح ، كما بالنسبة إلى أحكام العقل العمليّ التي تتبّع المصالح ، فإذا اعتبر الشارع أو المجتمع الإنسانيّ أنّ الفعل الصادر عن أحد هو فعل صادر عن غيره ، فيحكم بمؤاخذته به ، كما ورد أنّ : «من سنّ سنّة سيئة كتب له وزرها ووزر من عمل بها» ، لأنّه السبب في إيقاع غيره في الذنب ، أو كان الذنب عظيما ، له الأثر في إخلال الأمن في المجتمع وشيوع الفساد فيه ، فإنّ المجتمع قد يسلب عن الباغي جميع حسناته ويؤاخذه بسيئات غيره ، أو يعتبر أوزار المظلوم أوزارا للظالم ، لأنّه بفعله قد تملّكها بسبب الظلم عليه ، فهذه الآية الشريفة تبيّن وجه تحمّل قابيل إثم هابيل ، ولا نحتاج بعد ذلك إلى أقوال المفسّرين ، الذين لهم في تفسير هذه الآية وجوه لم يقم دليل على اعتبارها ، ولا يساعد عليها ظاهر الآية المباركة.

قوله تعالى : (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ).

الآية الشريفة في غاية الفصاحة والبلاغة تبيّن الصراع المرير داخل النفس الإنسانيّة بين قوى الخير وقوى الشرّ ، وتغلّب النفس الأمّارة وانقيادها لتنفيذ الشرّ ، ولا ريب أنّ ذلك لا بد أن يمرّ بمراحل وخطوات وهمسات في النفس

١٧٣

ووساوس ، فإن تغلّب إحدى القوّتين على الاخرى لا تكون بسهولة ، إلّا إذا اعتادت النفس على إحداها ، فتكون طوع إرادة الإنسان ، وهذا ما تدلّ عليه كلمة «طوّعت» ، التي هي أبلغ من (أطاعت) ونظيراتها ، فإنّ الاولى تدلّ على الانقياد التدريجيّ ، كما أنّ الإطاعة تدلّ على الدفعيّ ، فيستفاد منها أنّ النفس لم تصل إلى الطوع والانقياد إلّا بعد اقترابها إلى الفعل السيء تدريجا ، وفي خطوات حثيثة ، ويدلّ على ذلك سياق الآية المباركة ، فإنّها تبيّن المراحل التي تقدّمت على الفعل ، فابتدأت بإثارة النفس بقبول قربان هابيل دون قربان قابيل ، وقد بيّن أوّل السبب في عدم قبول قربان الأخير وكان عليه إزالة المانع ، إلّا أنّ الإثارة تلك تبدّلت إلى حسد رهيب في النفس استولى على مشاعره ، فنشأت الإرادة إلى القتل ، ثمّ الجزم إليه بعد انقياد النفس الأمّارة واستيلائها على العقل والفطرة ، فوقع القتل.

فالآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن واقع النفس الإنسانيّة ، والصراع الواقع بين قوى الشرّ وقوى الخير ، ولتجاذب الواقع بين دواعي الحكمة والموعظة ، وصوارف الفطرة ودواعي النفس الأمّارة.

وبالجملة : أنّ هذا التنازع يحسّ به كلّ إنسان عند إرادة ارتكاب جريمة ، أو فعل شنيع ، كما تدلّ عليه آيات أخر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وسيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

وقد اختلف المفسّرون في معنى «طوّعت» ، فذكر بعضهم بأنّها تأتي بمعنى شجّعت ، وآخرون بمعنى زيّنت ، فيكون قوله تعالى : (قَتْلَ أَخِيهِ) مفعولا به. وقيل : طاوعت أي : طاوعت له نفسه في قتل أخيه ، فالقتل منصوب بنزع الخافض.

والحقّ أن يقال : إنّ ذلك وإن كان صحيحا إلّا أنّ لها دلالتها الدقيقة ، لا تظهر في الذي ذكروه في المقام كما عرفت ، فقد انقادت له نفسه في قتل أخيه وأطاعت أمره بعد سلسلة من الصراع والتجاذب بين النفس الأمّارة والفطرة والعقل ، فكانت طاعة تدريجيّة بتذليلها ، وهذا المعنى لا يظهر في ما ذكره المفسّرون.

١٧٤

قوله تعالى : (فَقَتَلَهُ).

بعد أن لم تنفعه المواعظ والزواجر وتغلّبت صوارف الفطرة والحكمة والعقل ، فانقادت له نفسه الأمّارة ، فقتل أخاه ظلما وعدوانا.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ).

الذين خسروا كلّ ما يمكن أن ينال به الفوز والفلاح ، فقد خسر نفسه بإفساد الفطرة ، وخسر دنياه إذ بقي مدّة عمره نادما محزونا ، وخسر آخرته بارتكاب الظلم ، فلعنه الله تعالى ولعنه اللاعنون ، فلم يكن أهلا لنعيم الآخرة ، لأنّها دار المتّقين.

قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ).

إعلام لسقوط نفس قابيل عن قابلية الإلهام والإفاضة عليها بلا واسطة من الله جلّ جلاله ، أو من التعلّم من والده النبيّ المعصوم عليه‌السلام بطريق السئوال مثلا على نحو الكلّية لا لخصوص الواقعة. ثمّ لا يخفى كمال رأفته تبارك وتعالى بالصالحين من عباده ، حيث لم يرض عزوجل بأن يكون جسد عبده الصالح مورد افتراس السباع ، فدبّر تعالى له كيفيّة دفنه بهذا التدبير الحسن.

والبحث التفتيش والطلب عن شيء ، وسمّيت سورة التوبة بسورة البحث ، لما تضمّنت من البحث عن أسرار المنافقين ، وهو إثارتها والتفتيش عنها. وقيل : إنّ أصل استعماله إنّما هو في البحث في التراب ، والمراد به هنا الحفر الحاصل من استمرار البحث وإطالته ، كما يدلّ عليه الفعل المضارع.

واللام في «ليريه» للتعليل ، والضمير المستكن فيه يعود إلى الله تعالى ، أو للصيرورة والعاقبة إذا كان الضمير عائدا إلى الغراب ، والثاني هو الأقرب وإن كان المعنى صحيحا على التقديرين.

وجملة (كيف يواري) مفعول ثان (ليري) ، ومادة «ورى» تدلّ على الستر ، ومنه التواري ، أي : التستّر ، ويطلق الوراء على ما هو خلف الشيء. والمراد بالمواراة هو الدفن ، بحيث يستر الجسد عن أعين الناس. والسوأة هي ما يكرهه الإنسان ؛

١٧٥

وتطلق على العورة لما تسوء ناظرها ، والمراد بها في المقام جميع الجسد.

وظاهر الآية المباركة أنّ الله بعث غرابا إلى المكان الذي يراه القاتل ، يبحث في الأرض برجليه ويفتش فيها مستمرا حتّى إذا أحدث حفرة ، اهتدى قابيل كيف يواري جسد أخيه المقتول ، بعد أن كان متحيّرا في كيفيّة التخلّص منه. هذا هو المعنى الظاهر من الآية الشريفة.

ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى : (لِيُرِيَهُ) ، أنّ قابيل كان بعيدا عن كلّ ما يمكن أن يتوصّل به إلى كيفيّة التخلّص من سوأة أخيه ، لا سيما بعد ما ذكر أنّ ظلمه كان سببا لانقطاع الفيض عنه ، وقد تعلّم ذلك من الغراب الذي بعثه الله تعالى لأجل هذه الغاية فقط ، فلا بدّ أن يكون تعليمه له مستجمعا للخصوصيات التي توجب رفع الحيرة عنه ، التي هي من أهمّ موجبات شذوذ الذهن وعدم اهتدائه إلى شيء أيضا ، فمن المحتمل أن يكون الغراب قد تنازع مع غراب آخر فاقتتلا ، ثمّ بحث القاتل مستمرا في الأرض ليحدث حفرة يدفن فيها الغراب المقتول ، فكان في ذلك النكاية والتقريع والإرشاد والتعليم ، ولعلّ ما ورد في بعض الروايات من ذكر بعض الخصوصيات إنّما هي مأخوذة من ظاهر الآية الشريفة.

وذكر بعض المفسّرين أنّ القصد من بعث الغراب إنّما هو إراءة المواراة وكيفيّتها ، وقد حصلت ببحث الغراب في الأرض ثمّ دفنه فيها شيئا. وما ذكره صحيح ، إلّا أنّه لم يتحقّق جميع تلك الغايات التي ذكرناها آنفا ، مع أنّه لا يتّفق مع سذاجة الفهم والحيرة التي كانت مستولية على قابيل ، فكانت حالته تقتضي مزيدا من التعليم والدقّة فيه.

وكيف كان ، فقد بعث عزوجل الغراب بالخصوص ، لما ذكر أنّ من عادته دفن بعض الأشياء في الأرض ، الذي هو مظهر من مظاهر حيطته وحذره الشديد ، فقد ورد في بعض الأخبار : تعلّموا من الغراب حذره.

قوله تعالى : (قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي).

تحسّر وتلهّف وتأسّف على ما فاته من الفائدة ، وندم على إهماله التفكير في

١٧٦

الاستفادة ممّا عنده من الإمكانات في التماس الحيلة لمواراة سوأة أخيه حتّى تعلمه من الغراب بسهولة ، وتقريع للنفس بالعجز أن يكون مثل الغراب في المواراة ، وتوبيخ لها في إيقاعها في الشقاء مدّة من غير سبب ، وتأنيب للضمير في فعله الشنيع بإظهار الندامة عند ما عرف أنّه أهمل الأسباب المؤدّية إلى دفع المضرّة عن نفسه ، وبيان تألّمه على حاله ، كلّ ذلك يستفاد من ظاهر الآية الشريفة.

وكلمة «يا ويلتا» التي تدلّ على التحسّر والتلهّف تقال عند حلول الدواهي والعظائم ، والويلة كالويل الهلكة والبلية ، والألف في الكلمة بدل ياء المتكلّم. والأصل (يا ويلتي) ، والنداء للويلة لإفادة ما فاته من السبب والوسيلة ، كما عرفت آنفا.

والاستفهام للتعجّب من عجزه ، والخطاب مع نفسه كما هي العادة في مثل هذه الحالة ، وفيه التعجّب من عجزه ممّا اهتدى إليه الغراب وكونه أشرف منه.

قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

بيان للحالة التي تعرض لكلّ إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ والفعل الشنيع وارتكابه ما يكره أن يطّلع عليه الناس أو يرفضه المجتمع ، وربّما يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من الله تعالى والتألّم من التعدّي على حدوده وارتكاب ما لا يرضاه عزوجل ، وفي الحديث : «كفى بالندم توبة». وأما إذا كان سببه فوت منفعة أو حدوث مضرّة ، فلا يكون الندم حينئذ توبة ، كما هي العادة في ما إذا ظهر للإنسان بعد ارتكابه الفعل أنّه قصّر في تدبير أمره واتخاذ الحيطة اللازمة عند ارتكابه الجريمة ، ولذا لو عاد فإنّه يصلح ما فاته في المرّة الاولى ، فلا يكون مثل هذا الندم توبة.

الظاهر من الآية المباركة أنّ ندامته من جهة عجزه عن مواراة سوأة أخيه ، أو ندمه على أصل القتل قبل أن يتّخذ جميع الإجراءات ، وقبل أن يعرف ما يصنع بجسد أخيه ، فالندامة تأثير روحيّ خاصّ في الإنسان يعرض عند ارتكاب الخلاف ، ولكن يختلف أسبابها ، فقد يكون من الله تعالى ، فتكون حميدة موجبة

١٧٧

للتخفيف عن الظالم ، كما يحدث كثيرا عند المجرمين عند حصول النقمة عليهم.

وكيف كان ، فإنّ ندم قابيل لا يفيده لما ارتكبه من الفعل الشنيع الذي لا يغفر بمجرّد الندم ، لما عرفت في بحث التوبة من عدم كفاية الندم في رفع آثار الذنب في بعض الجرائم الموبقة.

قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ).

تشديد في أمر القتل وتأكيد على حرمة إراقة الدم من غير سبب شرعيّ ، وبيان إلى أنّ قتل النفس المحترمة يستعقب الغضب الربوبيّ والسخط الإلهيّ.

ومادة (أجل) تدلّ على الجرّ ، ومنه الأجل وهو الوقت الذي يجرّ إليه الأمر المتقدّم ، والآجل نقيض العاجل ، وأجل بمعنى نعم ، لأنّه انقياد إلى ما جرّ إليه ، والإجل للقطيع من بقر الوحش ، لأنّ بعضه ينجرّ إلى بعض ، كما أنّ منه قولهم : فعلت ذلك من أجل كذا (بفتح الهمزة) ، أو من إجلاك ، وقد أحل عليهم أجلا (بفتح الهمزة وقد تكسر) ، أي : جني وجرّ عليهم ، فتطلق الأجل على الجناية لأنّها تجرّ على مرتكبها الوبال لما يخاف من أجلها.

وكيف كان ، فقد استعملت الكلمة في التعليل ، وغالب استعمالها في الرديء والشرّ ، واسم الإشارة (ذلك) إلى قصة ابني آدم ، والجرم الذي أجراه أحد الأخوين على الآخر ظلما وعدوانا ، فأوجبت تلك الجناية أن كتب الله على بني إسرائيل هذه الحقيقة الاجتماعيّة ، التي بها تستقيم الحياة الإنسانيّة ، والتي تعدّ من أهمّ الأحكام التي تنظم العلاقات بين الأفراد ، وتستقيم أمورهم الدنيويّة التي تقتضي جلب السعادة والفوز بالفلاح.

ويستفاد من الآية المباركة التشديد في هذا القضاء الإلهيّ ، لما في طباعهم من الاستهزاء بأحكام الله تعالى والتعنّت واللجاج ، وقد عرفوا بسفك الدماء وإثارة الغضب الإلهيّ ، كما حكى عزوجل أحوالهم في القرآن الكريم ، إلّا أنّها عامّة تشمل جميع الأمم ، فإنّها من التوجيهات الربوبيّة القيّمة التي تشدّد في هذا الأمر وتعطي له أهميّة خاصّة ، ويثبت للإنسان قيمته الواقعيّة من بين الموجودات.

١٧٨

وذكر بعضهم أنّ اسم الإشارة يرجع إلى قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ، أي : كان ذلك سببا لندامته ، ولكنّه بعيد كما هو معلوم ، فإنّ ندامته لم تغيّر الواقع ، وإنّ جنايته هي التي سببت ندامته ، فكانت فاجعة عجيبة وسببا للكتابة على بني إسرائيل.

قوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ).

استثناء من قتل النفس المحرّم ، وهو ما إذا كان قتل النفس مقابل نفس اخرى ، أي القود والقصاص ، الذي أثبته عزوجل في قوله الآتي : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وقد أباحه في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٨].

والباء للمقابلة ، أي : من قتل نفسا بغير قتل نفس يوجب القصاص والقود ، كما ذكرنا التفصيل في الفقه ، ومن شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى : (أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ).

أي : بغير فساد ، وهو عام يشمل كلّ ما يقابل الصلاح. وقد ورد بعض المصاديق في الكتاب والسنّة ، منها ما يذكره عزوجل في الآية التالية : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً).

ومنها : الشرك وقطع الطريق والخروج على الإمام المعصوم عليه‌السلام ، ونحو ذلك ممّا ستعرف.

ومنها : القتل بغير سبب من تلك الأسباب التي أذن بها الشارع ، فالقتل كذلك يكون فسادا في الأرض.

قوله تعالى : (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

لأنّ الفعلين يشتركان في الفظاعة وهتك حرمة الدماء وعصيان الله تعالى ، ولأنّ الواحد بمنزلة النوع ، فمن استحلّ دم أحد بغير حقّ ، فقد استحلّ دم غيره وهانت عليه المآثم وارتكاب المحرّمات وهتك الحرمات بلا وازع ديني أو غيره.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً).

أي : ومن كان سببا لحياة نفس محترمة بانقاذها من الهالك وموجبات

١٧٩

الموت بوجه من الوجوه ، كانقاذ الغريق وفكّ الأسير ونحو ذلك ، فكأنّما أحيا الناس ، لأنّ الإنسانيّة حقيقة واحدة في جميع الأفراد ، ويشترك فيها الفرد كما يشترك فيها الأفراد ، ولازم ذلك أنّ قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الجميع وإحيائها بمنزلة إحياء الناس جميعا ، وأنّ الباعث في الصورة الأخيرة هو احترام الإنسانيّة ومعرفة قيمة الحياة ، ونزعة الشفقة والرحمة التي هي من صفات الباري عزوجل ، فيكون إحياء نفس واحدة احتراما للإنسانيّة وقياما بحقوقها.

يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدقّ ، وهو الإشارة إلى الطبع الإنسانيّ المشتمل على الهوى ، والحسد ، ونزعة التقلّب ، وحبّ التسلّط على الغير ، فإذا كبح جماح هذه النزعة وجعلها تحت زمام الحكمة والعقل ، تحقّقت السعادة والصلاح ، ووصل الفرد والمجتمع إلى الكمال المنشود ، وصارا من مظاهر الخالق والمعبود. وأما إذا اقترن الطبع الإنسانيّ مع الهوى والحسد ، حملاه على المنازعة والتباغض وهتك الحرمات ، وقتل النفس المحترمة ، فإنّ في ذلك الفساد وإبطالا للغرض الإلهيّ الذي من أجله خلق الله تعالى الإنسان ، لأنّه يستدعي سلب الأمان وبعث روح الانتقام والفناء والإفناء.

وهذا ما يشير إليه قول ابن آدم المقتول : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، لأنّه علم بأنّ القتل بغير الحقّ منازعة لربّ العالمين وضدّ الغرض الالهي ، فلأجل سدّ جميع أبواب العدوان ، ولئلّا يحمل الإنسان أيّ سبب واه على التعدّي والقتل والظلم ، ممّا ذكره عزوجل في الآيات المباركة السابقة من الحسد ، والكبر ، واتّباع الهوى ، وجحد الحقّ الذي طالما اتّصف اليهود بها ، وكانت الأسباب في صدور الفجائع والقبائح عنهم ، كما قصّ تعالى قصصهم ، ولأجل كلّ ذلك كتب عزوجل عليهم أنّ النفس الواحدة بمنزلة الجميع ، فيكون قتلها بمنزلة قتل الجميع ، وإحياؤها بمنزلة إحياء الجميع ، لتقوّمه بالافراد ، ولأن صلاح الفرد صلاح المجتمع.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما استشكل به في المقام من أنّ التنزيل يفضي إلى

١٨٠