مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

تعتبر الآيتان الشريفتان من الآيات التربويّة التهذيبيّة ، التي تهتم بالجانب المعنوي من الإنسان أكثر من الجانب المادي الذي سبق الاهتمام به في الآيات السابقة ، حيث ذكر سبحانه وتعالى فيها ما يتعلّق بلذائذ الطعام ، وطيّبات الأكل ، وملذّة النكاح وغيرها.

وخصّ تبارك وتعالى في هاتين الآيتين الشريفتين الصلاة بالذكر ؛ لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس وتكميلها ، وتعدّ بحقّ من أعظم الروابط الخلقيّة مع خالقهم وأكبر الطاعات.

ولا ريب أنّ الصلاة لها من الشروط والآداب والأحكام ما لم تكن في غيرها من الطاعات ، فذكر في الآية الأولى أعظم مقدّمة من مقدّماتها وشرطا عظيما من شروطها ، وهي الطهارة ـ الحاصلة من الوضوء والغسل والتيمّم ـ التي

٥

تعدّ هي بنفسها عبادة عظيمة يتقرّب بها إلى الله سبحانه وتعالى ، ويحفظ فيها عهدا من العهود الربوبيّة ، فهي حسن على كلّ حال ، كما ورد في الحديث ، ولأهمّيّتها فقد ذكر عزوجل حكم بعض هذه الطهارات في سورة النساء أيضا ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) [سورة النساء ، الآية : ٤٣] ، إلّا أنّ آية المقام أوضح أسلوبا وأبين حكما ، حيث ذكر مواضع الطهارة وطريقتها وموجباتها والغاية منها وشروطها.

ثمّ بيّن سبحانه وتعالى أنّ الغرض من تلك الأحكام والتكاليف هو تطهير النفوس ـ من درن الرذائل والآثام ـ والأبدان من أنواع الخبائث والأدناس. ولم يرد سبحانه وتعالى منها إيقاع المكلفين في الحرج والمشقّة ، فإنّه تعالى أعظم وأكبر من ذلك ، فقد شرّع من الأحكام في الحالات الاضطراريّة ما يهوّن عليهم ويخفّف عنهم.

وأخيرا صرّح عزوجل أنّ تلك التكاليف والتشريعات هي من المواثيق التي أخذ عزوجل العهد عليها من المؤمنين بالسمع والطاعة ، فيجب عليهم الوفاء بها وتنفيذها ومراقبته تعالى بالتقوى والشكر على تلك النّعم الإلهيّة.

وبذلك لم تخرج هاتين الآيتين الشريفتين عن الهدف الذي نزلت هذه السورة الكريمة لأجله ، وهو إعداد المؤمن إعدادا عقائديّا وعمليّا ، وتربيته بالتربية الإلهيّة ، وإرشاده إلى الكمال الواقعي والسعادة الحقيقيّة.

ويرشد إلى ذلك الابتداء بخطاب المؤمنين بالنداء الربوبي الذي يتضمّن معاني دقيقة ، وإشارات عرفانيّة ، وحقائق منطوية لم تكن في أي خطاب آخر ، مذكّرا لهم بما افتتحت به هذه السورة بالوفاء بالعهود التي أخذها الله تعالى عليهم.

٦

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي ، وذكرنا أنّه يشتمل على جملة من العهود والالتزامات والتوجيهات والإرشادات ، ويكفي في عظمته أنّه تعالى يخاطب أحبّ عباده إليه ، ويورده متى ما أراد تشريع حكم وبيان إرشاد أو توجيه ربوبي.

قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).

بيان لشرطيّة الطهارة للصلاة ، وإرشاد إلى أنّ من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفكّ الفعل عن الإرادة ، وتأكيد لحفظ شرعيّة الوضوء وحفظ صورته بالقيام بما ورد في الشريعة من الأحكام والآداب فيه.

وتقدّم الكلام في مادة (قوم) في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣] واختلف العلماء والمفسّرون في المراد من القيام في المقام ، ولكنّ الظاهر المنساق من الآية الكريمة أنّ المراد منه هو إرادة الصلاة بالتهيؤ إليها ، فإنّه قد يعبّر بالفعل ويراد منه إحدى المقدّمات القريبة منه ، كما أنّ العكس أيضا صحيح ، إما لعلاقة الملازمة والسببية ، أو لعلاقة الأوّل والمشارفة ، أو لشدّة الارتباط بينهما ، وقد ورد كلاهما في الاستعمالات الصحيحة وكلمات الفصحاء ، ففي القرآن الكريم قال تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) [سورة النساء ، الآية : ١٠٢] ، حيث استعمل الفعل وهو القيام وأريد منه المقدّمات القريبة الملازمة للقيام للصلاة ، أي : إذا أردت وأقمت لهم الصلاة ، وقال تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [سورة النساء ، الآية : ٢٠] ، أي : إذا طلّقتم زوجا وجئتم بأخرى.

وفي المقام يراد من القيام إرادة الصلاة ، فليس المراد منه القيام مقابل الجلوس الذي هو فعل من أفعال الصلاة ؛ لأنّه قيام للصلاة كالركوع والسجود ، لا

٧

قيام إلى الصلاة ، ويدلّ على ما ذكرنا سياق التعبير في الآية المباركة (إِلَى الصَّلاةِ) وموقعه العملي ؛ لأنّها عمل وكلّ عمل لا يتحقّق إلّا بالإرادة. وبعض الروايات ، في تفسير العياشي : «عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) قلت : ما عنى بها؟ قال عليه‌السلام : من النوم». ومثلها غيرها ، فإنّها تدلّ على أنّ المراد هو القيام التهيؤي للصلاة بالخروج عن الأحداث الموجبة للطهارة ، وذكر النوم إنّما هو من باب المثال ، فتكون هذه الروايات مخصصة لعموم الآية الشريفة الدال على وجوب الوضوء لكلّ صلاة ، فإنّها تختصّ بالمحدثين من المكلّفين ، وأما غيرهم فيستحبّ لهم الوضوء لما ورد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الوضوء على الوضوء نور على نور» ، ولما يستفاد من ذيل الآية الشريفة من أنّ الغرض من تشريع الطهارات هو تطهير النفوس والأبدان ، وهو حسن على كلّ حال ، وسيأتي في البحث الفقهي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).

تفصيل لأعمال الوضوء بتعيين مواضعه حسب الترتيب ، وهي غسل الوجه واليدين ، ومسح الرأس والرجلين.

والغسل (بالفتح) إمرار الماء على الشيء لإزالة ما عليه من الوسخ وغيره وتنظيفه منه ، وإطلاقه من دون تحديده بأمر يقتضي الأخذ بما يجري عليه العرف في الغسل بالماء على النحو الذي لا يؤتى به لإزالة الوسخ والدرن ، لاحتياجه إلى كثرة إفاضة الماء واستيلائه على الوجه ، بل يكفي فيه ما يحصل به غسل ما هو نقي عن الوسخ والحاجب للماء عن البشرة.

ولا ريب في أنّ العرف والعادة في مثل ذلك يقضي بإمرار الماء باليد اليمنى ـ المعدّة للأعمال المحترمة ـ من دون الغسل بكلتا اليدين ، إلّا في مقام كثرة الإفاضة زيادة على مسمّى الغسل ، كإزالة الخضاب ونحوه ، واستعمال اليد اليسرى لا يكون

٨

إلّا في ما هو خارج عن الغسل ، كصبّ الماء من الإناء في اليمنى ونحو ذلك ، فلا دخل لها في الغسل.

والرجوع إلى العرف في تشخيص المراد وتعيينه وبيانه هو القاعدة المتبعة في كلّ الموضوعات المأخوذة في الشريعة الإسلاميّة ، إلّا إذا أورد من الشرع بيان أو تحديد خاصّ فيجب اتباعه حينئذ ، والمسألة محرّرة في علم الأصول. هذا ما يتعلّق بالغسل.

وأما الوجوه ، فهي جمع وجه ، وهو ما يستقبل من الشيء عند المواجهة والمشافهة والرؤية ، وفي الإنسان ما فيه العين ، والأنف ، والفم ، وهي ما يستقبل عند الرؤية. وإطلاقه يشمل جميع ما يسمّى وجها عند العرف ، فيشمل شعر اللحية والشارب أيضا ، وما هو الظاهر منه دون البواطن ، لأنّها ممّا يستقبل عند الرؤية ، وحدّه عندهم من جانب الطول من قصاص شعر الناصية في مستوى الخلقة إلى آخر الذقن ، ومن جانب العرض ما دارت عليه الإبهام والوسطى ، وهذا هو المنقول في الروايات الواردة عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام ، فتدلّ على أنّه لم يرد تحديد خاصّ من الشرع المقدّس في الوجه ، فالمرجع فيه العرف ، فهو كما ذكرناه ، فإذا لم يغسله كلّه لم يتحقّق منه الامتثال.

كما أنّ المعتاد الذي ينسبق إليه الذهن أن يكون من أعلاه إلى أسفله ، دون العكس ، والعرف هو المناط في الإطلاق ، فلو أراد المتكلّم غيره ، فلا بدّ من بيانه والنصّ عليه بما يكون حاضرا في ذهن المخاطب حين الامتثال ، كما هو مفصّل في علم الأصول. وقد ذكر العلماء والمفسّرون في بيان الغسل والوجه أمورا لا تخلو عن المناقشة ، والحقّ ما ذكرناه فيهما فراجع كتب الفقه والتفسير.

قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ).

أي : واغسلوا أيديكم إلى المرافق ، تقدّم الكلام في الغسل ، والأيدي جمع يد ، وهو اسم للعضو المعروف من أطراف الأصابع إلى الكتف ، ولا يدخل في مسماّها الشعر ، فلا يكفي غسله عن غسل البشرة.

٩

ومرافق : جمع المرفق (بالكسر فالفتح) وقرئ بالعكس ، ولكنّ الأوّل أفصح ، وهو مجمع عظمي الذراع والعضد ، وإنّما ذكر بلفظ الجمع باعتبار صورة الخطاب بالجمع (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وإن كان لكلّ مكلّف مرفقان فإنّه يصحّ الخطاب به أيضا ، نظرا لانحلال الخطاب إلى خطابات متعدّدة ، كما هو الشأن في كلّ عامّ إفرادي ، إلّا أنّه لا يصحّ حلّ جمع الأيدي إلى أفرادها ، فيقال : ويدكم إلى المرافق ، وسيأتي مزيد بيان.

وتحديد غسل الأيدي إلى المرافق قد جرى على ما هو المتعارف أيضا ، لأنّ معظم مقاصد اليد إنّما يحصل بما دون المرفق إلى الأصابع ، وأنّها المعرّضة لما يحتاج إلى الغسل دون ما كان من ناحية الكتف إلى المرفق ، ولأجل ذلك تسمّى هذه القطعة باليد ، تسمية البعض باسم الكلّ ، كما تقدّم ، فصار اليد مشتركا عند العرف ، ولعلّ ذلك كان هو الموجب لتحديد اليد في المقام ونصب القرينة عليه بتقييد اليد إلى المرافق ، ليكون الواجب هو غسل اليد إليها ، ولم يكن الأمر كذلك في الوجوه ، فكان المرجع فيها العرف ، كما عرفت آنفا.

ومن ذلك يعرف أنّ (إلى) في المقام لتعيين المغسول وتحديده ، كما هو المعروف في نظائر المقام ، تقول : اغسل ثوبك إلى جيبه ، واخضب كفّك إلى مفصل الزند ، واصقل السيف إلى ضبّته ونحو ذلك ، فيكون الغسل مطلقا غير مقيّد بالغاية ، فيصحّ أن يبتدأ من المرفق إلى أطراف الأصابع ، كما يحتمل العكس ، وحينئذ لا بدّ في تعيين أحد الاحتمالين من الرجوع إلى القرائن الحافّة ، أو ما ورد في السنّة الشريفة.

أما القرائن ، فإنّ المتعارف في مثل غسل اليد أن يكون الابتداء من الأعلى إلى الأنامل ، وأنّ النكس في مثل ذلك ممّا يستلزم صعوبة ، وحينئذ لا يبقى إطلاق للآية الشريفة.

وأما السنّة ، فقد ورد من الفريقين ما يدلّ على كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل ، فقد أخرج الدّارقطنيّ والبيهقيّ في سننهما عن جابر بن عبد الله قال : «كان

١٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه» ، فإن ظاهره هو الابتداء من المرفق.

وأخرج أحمد ومسلم عن عمرو بن عتبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه : «وإذا غسل وجهه ـ كما أمره الله تعالى ـ الّا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين إلّا خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء ـ الحديث» ، فهو بجملته يدلّ على أنّ منتهى مجرى الغسل ومجرى الماء هو أطراف اللحية وأطراف الأصابع.

وأما ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم‌السلام في أنّ الابتداء بالمرافق إلى أطراف الأصابع ، فهو كثير بلغ حدّ التواتر ، وعليه إجماع الإمامية وعملهم ، وسيأتي نقل بعضها في البحث الروائي.

وبعد ذلك فلا غرابة في الحكم بابتداء الغسل من المرافق ، كما زعمه الآلوسي في تفسيره ، مدّعيا بأنّه لم يجد في ذلك مستمسكا ، فإنّ الحكم صحيح ، والمستمسك ظاهر الآية الكريمة مع القرائن والسنّة الشريفة ، كما عرفت.

ومن ذلك كلّه يعرف أنّه لا وجه للأخذ بإطلاق الغسل تمسّكا بإطلاق ما ورد في نظائر المقام ، لأنّ القرائن وما ورد في السنّة الشريفة لا يبقي إطلاقا للآية الشريفة.

كما يظهر بطلان ما ذكره جمع من رجوع القيد إلى الغسل دون المغسول ، فيكون ظاهر قوله تعالى : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) وجوب الابتداء في الغسل من أطراف الأصابع والانتهاء إلى المرافق ، فإنّ ما ذكرناه آنفا لدليل على عدم رجوع كلمة (إلى) إلى الغسل ، فيكون الظاهر من الآية المباركة منضما إلى ما ذكر من القرائن والسنّة هو وجوب الابتداء من المرافق والانتهاء إلى أطراف الأصابع ، فلو نكس ، لم يصحّ وضوؤه ، لأنّه خلاف المأمور به.

ثمّ إنّه قد أطنب الكلام في دخول المرافق في الغسل ، فكأنه لم تكن في الآية

١١

الشريفة بحوث إلّا هذا البحث ، والحقّ أنّه لا يمكن أن يستفاد من الآية المباركة دخولها في الغسل ولا عدم دخولها ، فهي مجملة من هذه الناحية ، فلا بدّ أن يستفاد أحد الاحتمالين من الخارج وقد ورد في السنّة الشريفة ما يدلّ على دخولها في الغسل ، وتقدّم حديث جابر الحاكي عن فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلّ دخولها يكون ممّا زاده صاحب الشريعة مثل ما زاد في الصلوات الخمس ، كما نطقت به الأخبار الصحيحة ، أو من باب المقدّمة العلمية.

وأما القول بأنّ (إلى) بمعنى مع ، أو القول بدخول الغاية في المغيّى إذا كانا من جنس واحد ، فلم يقم عليه دليل معتبر ، وسيأتي مزيد بيان في البحث الأدبي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ).

المسح : إمرار اليد أو كل عضو لا مس على الشيء مباشرة أو بآلة ، وهو تارة : يكون مع الاستيعاب ، واخرى يكون بغير استيعاب ، ويختلف باختلاف القرائن ، والمعروف بين العلماء أنّه إذا عدّي بنفسه أفاد الاستيعاب ، وإذا عدّي بالباء سواء كانت للآلة أم غيرها ، دلّ على التبعيض ، يقال : مسحت العرق بالمنديل ، أو مسح يده بالمنديل ، أو مسح الشيء بالماء ليزيل ما علّق به من غبار ونحو ذلك. ولا ريب في أنّ المسح يتقوّم بتحريك الماسح على الممسوح ، فوضع اليد أو الإصبع على الرأس لا يسمّى مسحا.

وأسلوب الآية المباركة يدلّ على كفاية مسح بعض الرأس ، لمكان الباء ، وهو ما يسمّى مسحا في اللغة أيضا.

وأما تعيين الجانب الذي يجب إمرار الماسح عليه ومقدار المسح ، فهما خارجان عن مدلول الآية الشريفة ، فلا بدّ من تعيينهما من السنّة الشريفة ، وقد ورد فيها ما يدلّ على كونه في مقدّم الرأس ، وكفاية مقدار إصبع واحدة في الامتثال ، وإن كان الأفضل أن يمسح بمقدار ثلاث أصابع.

١٢

وإطلاق الآية الكريمة يدلّ على جواز النكس في مسح الرأس ، فإنّه لم يكن هنا عرف أو دليل آخر ليكون موجبا لصرف الإطلاق ، كما كان في غسل الوجه واليدين ، ولكنّ الأفضل تركه لما دلّت عليه بعض الروايات.

وعلى جميع الأحوال فلا تدلّ الآية الكريمة على وجوب مسح جميع الرأس. هذا وأنّ لعلماء الجمهور ومفسّريهم في تفسير الآية المباركة أقوالا ومذاهب هي بعيدة عن سياقها ، بل تنافي فصاحة القرآن الكريم والذوق الأدبي الرفيع ، فراجع.

قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).

مادة (كعب) تدلّ على العلو ، ومنه سمّيت الكعبة. وكعبت المرأة إذا فلك ثديها ، والكاعب هي الجارية التي نهد ثديها وعلت ، وكعب القناة هو أنبوبها ، وفي الحديث : «والله لا يزال كعبك عاليا» ، دعاء بالشرف والمجد تشبيها.

والكعبين قيل : هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم عن الجنبين. وقيل : هو عظم مائل إلى الاستدارة ، واقع في ملتقى الساق والقدم نات في ظهر القدم ، ويدخل نتوئه في طرف الساق ، وهو الذي يطلق عليه المفصل ، لمجاورته له.

وإذا راجعنا كلمات أهل اللغة وعلماء التشريح ، يظهر أنّ المعنى الثاني هو المراد من الكعب حيث أطلق ، إلّا إذا دلّ دليل على غيره ، ويظهر ذلك أيضا من التتبع في الأخبار المعصومية عليهم‌السلام كما يأتي نقل بعضها ، وعن ابن الأثير أنّه «مذهب الشيعة» ، واستشهد بأحاديث تدلّ على ذلك.

والرجل يطلق على الكلّ والأبعاض ، فتطلق على القدم ، وعلى ما تحت الركبة ، وعلى ما يشمل الفخذ ، فقد حدّ عزوجل الرجلين إلى الكعبين ، ليكون غاية للممسوح ، على نحو ما ذكره في غسل اليدين. وأما المسح بالبعض أو الكلّ فسيعرف من البحث الآتي.

وقد اختلف العلماء والمفسّرون في إعراب الجملة على وجوه :

الأوّل : النصب عطفا على الأيدي ، فيكون العامل «اغسلوا» ، فيجب غسل الأرجل ، وقد استدلّ على هذا الوجه بأمور :

١٣

الأوّل : أنّه قراءة متواترة ، كما ادّعاه بعض ، فقد قرأها نافع ، وابن عامر ، وحفص ، والكسائي ، ويعقوب وغيرهم.

الثاني : أنّ في الآية المباركة تقديما وتأخيرا ، أي تأخير الأرجل ، ولكنّها في الواقع مقدّمة ، فقد روى أبو عبد الرحمن قال : «قرأ عليّ الحسن والحسين عليهما‌السلام فقرأ : «وأرجلكم إلى الكعبين» ، فسمع علي عليه‌السلام ذلك وكان يقضي بين الناس فقال : «وأرجلكم» هذا من المقدّم والمؤخر من الكلام» ، ومراده عليه‌السلام كما نقله السدي : اغسلوا وجوهكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم.

الثالث : أنّ غسل الأرجل هو قول جمهور الفقهاء والمفسّرين ، وعليه عمل الصدر الأوّل ، بل إجماع الصحابة عليه. ومن ذهب إلى المسح من الصحابة قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.

الرابع : أنّ السنّة الصحيحة تدلّ عليه ، وأحسن ما نقل في هذا الباب ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال : «تخلّف عنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفره فأدركنا وقد ارهقنا العصر ، فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار ، مرّتين أو ثلاثا». وقال البخاري : «إنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح ، لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل» ، وغيرها من الروايات التي نقلها أرباب الصحاح والسنن.

الخامس : إمكان إرجاع قراءة الجرّ إلى قراءة النصب ، وقد ذكروا له توجيهات. منها : أنّ العطف في الواقع على الأيدي ، وأنّ الجرّ إنّما هو للاتباع ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [سورة الأنبياء ، الآية ٣٠]. وقولهم : هذا حجر ضب خرب ، فجرّوه وإنّما هو رفع.

ومنها : أنّه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى ، كقوله : علقتها تبنا وماء باردا.

ومنها : أنّ العطف وإن كان في محلّه ، إلّا أنّ المسح خفيف الغسل ، فهو غسل بوجه ، فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها ، ويقوي ذلك أنّ التحديد إنّما

١٤

جاء في المغسول ، وهو والوجوه والأيدي ، ولم يجيء في الممسوح ، فالتحديد في الأرجل يدلّ على أنّ الحكم فيها الغسل.

ومنها : أنّه يجوز تقدير : امسحوا قبل «ارجلكم» ، فيكون من عطف الجمل ، فإذا تعدّد اللفظ فلا بأس بأن يتعدّد المعنى ، فيكون المسح المتعلّق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي ، والمسح المتعلّق بالأرجل بالمعنى المجازي ، ولا بأس بأن يجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو يستعمل المشترك في معنييه.

السادس : أنّ الغسل والمسح كليهما مرويان عن السلف من الصحابة والتابعين ، وقد عمل بهما جمع كثير ، ولكنّ العمل بالغسل أعمّ وأكثر ، وهو الذي غلب واستمر ، ولم ينقل غيره إلّا في مسح الخفّين.

السابع : أنّه يمكن الجمع بين القرائتين والآراء المختلفة في الغسل دون المسح ، ولا ريب أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، فيتمسح في أثناء الغسل ، لأنّ الغسل هو إمرار الماسح على الممسوح وإلصاقه به ، وصبّ الماء لا يمنع منه ، بل يتحقّق به.

وإطلاق الأمر يقتضي المسح ولو ببل اليد بالماء ومسحها بالرأس ، لمكان باء الإلصاق ، ولم يكن الأمر كذلك في الرجلين ، فكان الظاهر أن يغسلهما ويمسحهما في أثناء الغسل بإدارة اليد عليهما.

الثامن : أنّ الغسل : يجمع المسح وزيادة فإنّه تحصل به الطهارة ، أي : المبالغة في النظافة التي شرع الوضوء والغسل لأجلها ، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة ، فالمسح يدخل في الغسل دون العكس.

التاسع : أنّه لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة حكمة ، بل هو خلافها ، لأنّ طرو الرطوبة القليلة على العضو الذي أصابه غبار ووسخ ، يزيد في وساخته وينال اليد الماسحة حظّ من هذه الوساخة.

العاشر : أنّهم اتّفقوا على أنّ من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه ،

١٥

واختلفوا في من مسح قدميه ، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به على ترجيح قراءة النصب والحكم بالغسل في طهارة الرجلين.

الوجه الثاني : الجرّ عطفا على لفظ «رؤوسكم» ، فيكون العامل (الباء) ، وهي قراءة جمع غفير مثل ابن كثير ، وحمزة ، وابن عمرو ، وعاصم ، كما هي قراءة أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد روى الشيخ الطوسي قدس‌سره عن غالب بن الهذيل قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله الله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) على الخفض هي أم على النصب؟ قال عليه‌السلام : وهي الخفض». وادّعى جمع تواتر هذه القراءة ، فيكون الحكم في طهارة الرجلين هو المسح دون الغسل.

وأهمّ ما استدلّوا به على هذا الوجه امور :

منها : القرب وعدم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، الذي هو من المرجّحات المعروفة ، بل المسلّم عليه عند النحويين.

ومنها : أنّ العطف على الوجوه خارج عن قانون الفصاحة وأسلوب العربية ، فإنّ الله تبارك وتعالى بيّن حكم الغسل ومواضعه ، ثمّ قطع الكلام وبيّن حكم المسح ومواضعه ، فلا يصحّ أن يعطف أحدهما على الآخر بعد القطع بينهما ، ويدلّ عليه ما رواه زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال : يا زرارة ـ الحديث».

ومنها : الأخبار الكثيرة التي تدلّ على أنّ المسح كان فعل صاحب الشرع صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض أصحابه مثل علي عليه‌السلام وابن عباس ، وأنس وغيرهم ، والتابعين ، وأهل البيت عليهم‌السلام عامّة وشيعتهم وتابعيهم ، وقد اشتهر الحديث المروي بطرق مختلفة عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الوضوء غسلتان ومسحتان ، من باهلني باهلته».

وأما الأخبار المرويّة عن الأئمة الهداة (سلام الله تعالى عليهم) ، فقد بلغت حدّ التواتر ولا يمكن إنكاره ، وهي تنصّ على أنّ الحكم هو المسح ، وأنّ غيره

١٦

باطل ، وشدّدت النكير على مخالفيهم ، وسيأتي نقل بعضها ، وحمل العلماء ما يدلّ على الخلاف على بعض المحامل ، كما هو مذكور في الفقه.

الوجه الثالث : الرفع ، وهي قراءة الحسن ، ولم تنسب إلى غيره ، على أن تكون «أرجلكم» مبتدأ والخبر محذوف ، وقد حمل بعضهم هذه القراءة على قراءة النصب بتقدير (مغسولة). كما حملها آخرون على قراءة الجرّ بأن يكون (ممسوحة).

إذا عرفت ذلك ، فالصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الثاني ، لأنّ الوجه الأخير غير معروف ، وخلاف الإجماع المركّب ، ومخالف لظاهر الآية الشريفة والقواعد المعروفة في علم النحو كما هو واضح ، يضاف إليها أنّه لا يمكن استفادة حكم معيّن منها كما عرفت آنفا.

وأما الوجه الأول ، فهو مردود من جهات كثيرة ، وما استدلّوا به لإثباته قابل للمناقشة ، نذكرها في المقام على نحو الإيجاز ، والتفصيل يطلب من الفقه وغيره.

أما أوّلا : فإنّ دعوى تواتر قراءة النصب كما مرّت غير ثابتة ، لأنّ التواتر قد حصل بعد عصر النزول وبعد ثبوت قراءة الجرّ وروايتها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعض كبار الصحابة ، مثل علي بن أبي طالب الذي ورد فيه : «أنّه مع الحقّ» ، وابن عباس الذي يعدّ حبر هذه الأمة ، وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا ريب أنّ قراءتهم أحقّ أن يتبع ، لأنّهم أدرى بما في البيت.

وما قيل : من رجوع القائلين من الصحابة بالمسح ، فلم يثبت ، لأنّ الروايات التي نقلت عن الأئمة الهداة أولاد علي بن أبي طالب عليهم‌السلام كلّها تؤكّد عدم رجوعهم عن قراءتهم.

وعلى فرض التنزّل والقول بثبوت تواتر هذه القراءة وتعارضها مع دعوى تواتر قراءة الجرّ وفقد المرجح بينهما ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأدلة الخارجيّة التي سيأتي الكلام فيها.

١٧

ومن ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ في الآية الكريمة تقديما وتأخيرا ، فإنّه لم يعلم نسبته إلى علي عليه‌السلام.

وثانيا : أنّ ما ذكر في ترجيح قراءة النصب من التوجيهات النحويّة لا يمكن الاعتماد عليها ، فإنّ تطبيق الآية المباركة على احتمالات بعيدة لا يزيدها إلّا بعدا عن الواقع ، وسيأتي في البحث الأدبي بعض الكلام.

وثالثا : أنّ ما ذكر في ترجيح الغسل على المسح من أنّه خلاف الحكمة ، أو أنّ الغسل هو المسح وزيادة وغير ذلك ممّا عرفت ، فإنّ كلّ ذلك من مجرّد الاستحسان ، واحتمالات لا يمكن ابتناء الأحكام الشرعيّة عليها ، فإنّ الوضوء والغسل والتيمّم أمور تعبديّة توقيفيّة ، لا بدّ من ورود دليل من الشرع في جميع خصوصياتها ، فإذا أمر بالغسل في موضع ، لا يجوز المسح فيه ، وكذا بالعكس ، فإنّه تشريع محرّم يوجب بطلان العبادة ، كما هو معلوم.

ولا إشكال من أحد في أنّ الغسل والمسح مفهومان متغايران عند العرف ، ويشترط في كلّ واحد منهما ما لا يشترط في الآخر ، ومن ذلك أنّه يشترط في المسح أن يكون الممسوح خاليا عن الرطوبة الغالبة على ما يكون على الماسح من الرطوبة ، وإلّا لم يتأثّر الممسوح برطوبة الماسح الذي هو قوام المسح ، فلو تحقّق الغسل قبل المسح تكون الرطوبة غالبة فيبطل المسح ، لانتفاء الشرط ، وإن كان بعده فلا فائدة فيه ، إلّا أن يكون بقصد التشريع والورود ، فيوجب البطلان ، فلا يمكن الجمع بين الغسل والمسح.

وأما الحكمة المزعومة في الغسل دون المسح ، فلا ريب ولا إشكال في أنّ الطهارة والنظافة أمران مندوبان وقد حثّ عليهما الشرع المبين ، ولكنّهما لا تنحصران في الوضوء فقط ، فإنّ لها طرقا وسبلا متعدّدة ، مع أنّ الحكمة في الوضوء لا تنحصر في النظافة الظاهريّة ، فلعلّ الغاية منه الطهارة الباطنيّة ، ففي الحديث المعروف عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الوضوء نور» ، وما ورد في تفسير الغرّ المحجلين

١٨

وغير ذلك ممّا يدلّ على أنّ العمدة هي الطهارة الباطنيّة.

ورابعا : أنّ القول بأنّ الغسل أعمّ وأكثر ، وهو الذي غلب واستمر ، ولم ينقل غيره إلّا في مسح الخفّين ، فلا يصير مرجّحا ، فإنّ العمدة دلالة الدليل وما يستفاد من ظاهره ، مع أنّ للقائلين بالمسح أن يقولوا بأنّ المسح مرويّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة ـ كما اعترف به الخصم ـ وهو الذي غلّب عندهم واستمر ، ولا مرجّح لمذهب غيرهم على مذهبهم.

وخامسا : أنّ ما ذكره بعضهم من أنّ جعل الغاية في الرجلين ، لدليل على أنّ المطلوب هو الغسل. كما أنّ جعل الكعبين دليل آخر ، لأنّ الغسل لا يحصل إلّا باستيعابهما بالماء ، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجلين.

فهو غير صحيح ، فإنّ جعل الغاية لا يدلّ على كون المطلوب هو الغسل ، بل هو أعمّ كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّ الغاية ليست للغسل ، بل هي غاية للممسوح ، على نحو ما ذكرناه في غسل الأيدي.

وأما ما ذكر في معنى الكعب ، فقد تقدّم الكلام فيه ، وذكرنا أنّ المراد منه هو العظم البارز في ظاهر القدم ، وتقدّم الكلام في وجه إتيان صيغة التثنية ، وقلنا : إنّ مثل هذه الخطابات تنحلّ إلى خطابات متعدّدة بتعدّد المخاطبين المكلّفين ، فذكر الكعبين باعتبار كلّ مكلّف ، ولم يسمع في فصيح الكلام أن تنحل جمع الأرجل إلى أفرادها ، فيقال : وأرجلكم إلى الكعب ، باعتبار الرجل الواحدة ، إلّا أن يقال : (وامسحوا بأرجلكم ، كلّ رجل إلى الكعب) ، والسرّ في ذلك أنّ غير الجموع الخطابيّة لا علاقة لها بحلّها إلى المفردات ، إلّا أن يشار إلى المفرد بالتصريح في الخطاب ، كما يقال : كلّ رجل يجب مسحها إلى الكعب ، وهو خلاف الفرض.

ومن ذلك يعرف أنّه لو كان المراد من الكعب هما العظمين الناتئين في جانبي الرجل لقال : إلى الكعاب ، لأنّ في كلّ رجل كعبين ، بخلاف ما إذا كان كعب في كلّ رجل ، كما عرفت فافهم.

١٩

وسادسا : بعد أن عرفت عدم صلاحية تلك الوجوه لترجيح قراءة النصب ، ننتقل إلى أقوى الحجج اللفظية لأهل السنّة على الإماميّة ، وهي الأخبار التي استدلّوا بها على وجوب غسل الرجلين ، وفيها أنّه إذا كانت الآية تدلّ على المسح ، فتكون الأخبار ناسخة لها ، كما قال به بعض السلف كأنس والشعبي ، فقد نقل عنهم أنّه قال : «أتى جبرئيل بالمسح والسنّة بالغسل» ، فحينئذ يأتي الكلام في أنّه هل يجوز نسخ الكتاب بالخبر الواحد؟ والبحث طويل.

يضاف إلى ذلك أنّها متعارضة في ما بينها ، فإنّ بعضها يدلّ على الغسل ، وبعضها يدلّ على المسح ، كما أنّها معارضة بالأخبار التي ينقلها الإماميّة الدالّة على المسح ، فلا بدّ من التماس المرجّحات السنديّة والدلاليّة فيما بينها ، وكلّ طائفة تدّعي الترجيح ولو فرضنا تعادلها من جميع الجهات ، فيطرحان ويرجع إلى كتاب الله تعالى ، وقد تقدّم أنّه يدلّ على المسح دون الغسل. هذا موجز الكلام في المقام والتفصيل يطلب من الفقه وغيره.

والحقّ أنّ الآية المباركة هي بعيدة عن تلك الوجوه والاحتمالات الواهية ، ولو عرضناها على مستقيم الطبع ـ الخالي من الشوائب ـ والذهن الصافي يأبى حمل الكلام البليغ عليها ، ويفهم من ظاهر الآية الكريمة : (أَرْجُلَكُمْ) معطوفة على ما تقدّم عليها بلا فصل ، أي : (بِرُؤُسِكُمْ) ، ويحكم بوجوب مسح الأرجل في الوضوء ، والأخبار إنّما تؤكّد هذه الجهة فقط وترشد إليها ، لا أن تضيف إلى الآية الكريمة شيئا جديدا. وقد كانت الأمة في غنى عن هذا الجدل العنيف إذا رجعوا إلى كتاب الله العزيز وطرحوا التعصّب والعناد ، ولم يصل الأمر إلى الآلوسي في تأليف كتاب في الردّ على الإماميّة والتحامل عليهم واتهامهم بالكذب وتوهينهم ، حتّى قال صاحب المنار : «إنّ في كلامه ـ أي الآلوسي ـ تحاملا على الشيعة وتكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة» ، مع أنّهم كانوا بحاجة إلى موضوعات أكثر أهميّة وأشدّ نفعا ، لو لا التعصب والجهل اللذان ابتلت بهما هذه الأمة فوقعت في ما

٢٠