مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

بحوث المقام

بحث أدبي :

ذكرنا غير مرة أنّ (إذ) في مثل قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) ، مفعول لفعل محذوف خوطب به سيّد الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب.

وقوله تعالى : (يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) في غاية الفصاحة والبلاغة ، فإنّ توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت (إِذْ قالَ) ، أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه وإن كان هو المقصود بالذات. و (عَلَيْكُمْ) إما متعلّق بالنعمة إن جعلت مصدرا ، أو بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما ، أي : اذكروا أنعامه عليكم.

وذكرنا أنّ تغيير الأسلوب في قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) يدلّ على أنّهم تغيّرت أحوالهم عمّا كانت عليه سابقا ، فصاروا كلّهم ملوكا ، وهو يدلّ على أنّ المراد بالملك غير ما هو المصطلح عليه في علم السياسة والتدبير.

واللام في قوله تعالى : (مِنَ الْعالَمِينَ) للعهد ، أي : عالمي زمانهم وما سبقهم ، أو للاستغراق لجميع من سبقهم ، كما عرفت في التفسير.

وقوله تعالى : (فَتَنْقَلِبُوا) إما مجزوم بالعطف ، وهو الظاهر ، أو منصوب في جواب النهي من قبيل : لا تكفر فتدخل النار ، وناقش فيه جمع.

والجملة الاسميّة : «فإنّا داخلون» المصدّرة ب (ان) فيها الدلالة على تقرير الدخول وثباته عند تحقّق الشرط ، وفيه التأكيد على عدم دخولهم ما داموا فيها.

والقراءة المعروفة في قوله تعالى : (يخافون) بفتح الياء ، وقرأ بعضهم بضمّها. وجعلها الزمخشريّ شاهدة على أنّهما من الجبّارين ، وقد عرفت ما يتعلّق بذلك في التفسير ، وفيه احتمالان آخران مذكوران في الكتب المفصّلة ، فراجع.

١٤١

وجملة : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) صفة ثانية لرجلين ، أو اعتراض. وقيل غير ذلك.

و (أبدا) في قوله تعالى : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) ، معنى الدهر الطويل ، و «ما داموا فيها» بدل من «أبدا» ، إما بدل البعض ، أو بدل الكلّ من الكلّ ، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين.

ويجوز في أخي (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) وجوه من الإعراب ، منها : إنّه منصوب بالعطف على اسم «ان» ، أو أنّه مرفوع بالعطف على فاعل (املك) للفصل ، أو أنّه مبتدأ خبره محذوف ، أو أنّه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي بعض النحويين. وأشكل على بعض الوجوه بأمور مذكورة في محلّها فراجع.

وأما قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ، فالمعروف أنّ الأربعين ظرف منصوب ب (محرمة) ، فيكون التحريم مؤقتا بهذه المدّة ، فلا تنافي بينه وبين قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، لأنّ الكتابة غير مؤقتة والتحريم مؤقت ، وهو الظاهر من الآية المباركة كما عرفت آنفا ، ويأتي في البحث الدلالي مزيد بيان.

وقيل : إنّ الأربعين ظرف لقوله تعالى : (يَتِيهُونَ) مقدّما عليه ، فيكون التحريم مؤبدا ، إذ التقدير : فإنّها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة.

والظاهر هو الوجه الأوّل ، ويؤيّده أنّ الغالب في الاستعمال تقديم الفعل على الظرف ، لا تأخّره عنه. وعلى فرض القول بالوجه الثاني ، فإنّ التحريم لا يكون مؤبّدا ، لقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.

وقوله تعالى : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) إما بيانيّة لكيفيّة حرمانهم ، أو حال من ضمير (عليهم).

١٤٢

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على اُمور :

الأول : يدلّ قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) على فضل بني إسرائيل وعظيم ما أنعم عليهم ، لجملة من النعم الماديّة والمعنويّة ، ولم تكن في القرآن الكريم مثل هذه الآية الشريفة التي تعدّ على بني إسرائيل أنواع النعم ، وتدلّ على تفضيلهم على غيرهم وما حباهم الله تعالى من الكرامة والفضل العظيم ، فلم تسبقهم امّة من الأمم بمثل هذه النعم ، ولكنّهم كفروا بها وأعرضوا عمّا أمرهم به الله تعالى ، ومع ذلك فإنّه عزوجل لم يتركهم سدى ، فقد ابتلاهم بأنواع المحن والبلاء ، فقد ابتلوا على قدر الكفر ، ولعلّ كتابة التيه عليهم لأجل ازدرائهم بالنعم ، ووقوعهم في اضطراب فكري ونفسي ، فكان لا بدّ من تيه ماديّ لتصلح به نفوسهم وترجع أفكارهم إلى السداد وتهتدي قلوبهم إلى الرشاد ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

الثاني : يستفاد من سياق الآيات الشريفة في المقام النظام الإلهيّ في تنظيم شؤون الناس ، وهو يمرّ بمراحل متعدّدة.

منها : التهذيب بالتزكية والتعليم بإرسال الرسل والأنبياء ، وهذا ما يدلّ عليه قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ).

ومنها : النضج الفكريّ وجعل الإنسان حرّا ، مالكا لنفسه ، حرّا في تصرفاته ، لا تؤثّر عليه الأفكار الدخيلة ولا يقبل الابتزاز والظلم والعدوان ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً).

ثمّ مرحلة الاختصاص والتمييز بما يمنحهم ربّهم من أنواع النعم الماديّة والمعنويّة التي لها الدخل الكبير في تكوين هويتهم وشخصيتهم ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).

ولأجله تميّز بنو إسرائيل عن غيرهم من سائر الأمم.

١٤٣

ثمّ المرحلة الأخيرة ، وهي الاستقلال في الأرض التي تعتبر المرحلة الأشدّ صعوبة من تلك المراحل الأخيرة ، فإنّها تحتاج إلى جهاد وكفاح مستمر ، فإنّ على الأرض تطبيق واقع النظام الإلهيّ التي تبقى مهدا للأجيال القادمة ومدرسة للتهذيب والإصلاح ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، ويمكن أن يكون قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) إشارة إلى جميع تلك المراحل ، فإنّها ممّا كتبه الله تعالى على كلّ امّة تريد السعادة والصلاح لها ، فإنّها بدون هذا النظام الدقيق لا يمكن الوصول إليهما.

وهذه المراحل هي متكاملة مترابطة ترابطا دقيقا ، ولكلّ واحدة منها أسسا وقواعد متقنة ، قد شرحها عزوجل في القرآن الكريم وبيّنتها السنّة الشريفة بيانا شافيا ، ولا يمكن نيل الغرض المحمود منها إلّا بتطبيقها تطبيقا كاملا ، فإنّ الإعراض عن هذا النظام الربانيّ يوصل الإنسان إلى طريق مسدود ، لا يوقعه إلّا في متاعب تسلب راحته ، ولا يهدأ له البال وتزدحم عليه المشكلات التي ليست لها علاج صحيح إلّا بالرجوع إلى الطاعة وتطبيق نظام الشريعة الغرّاء.

وفي أحوال بني إسرائيل ـ من ابتداء حياتهم في مصر حتّى خروجهم منها والدخول في التيه ، وما لاقوه من المتاعب ـ العظة والعبرة لمن أراد أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا ، وأسوة لمن أراد الخير والصلاح والسعادة للمجتمع وإيصاله إلى سمو الرقي.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) ، أنّ الإعراض عن طاعة الله تعالى واتّباع أنبيائه الكرام يوجب سلب السعادة والوقوع في الخسران ، وإطلاقه يشمل جميع أنواع الخسران المادّي والمعنويّ.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها) ، على غاية الإحباط والشعور بالذلّ الكامن في نفوسهم نتيجة استعبادهم الطويل وتذليلهم المرير من قبل فراعنة مصر ، فإنّ الظلم المستمر يؤثّر على النفوس ، بل حتّى على الجمادات كما تدلّ عليه عدّة آيات ، قال تعالى : (وَلَوْ

١٤٤

أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٦] ، وفي الحديث : «انّ الظلم يذر الديار بلاقع من أهلها» ، وقد دلّت عليه التجربة.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) ، أنّ الخوف من الله تعالى يوصل الإنسان إلى المقامات السامية والمنازل العالية ، وأنّه ممّا يوجب أن ينعم الله تعالى عليه بأنواع النعم الإلهيّة.

السادس : يمكن أن يستفاد من حذف المتعلّق في قوله تعالى : (يَخافُونَ) العموم ، أي : الخوف من الله العظيم والعمالقة ، وخوفهم من الله تعالى ؛ لأنّهما كانا على درجة من الإيمان ، والخوف من العمالقة ؛ لأنّهم كانوا ذوي سطوة وقوّة ولا يمكنهم الغلبة عليهم إلّا بالحيطة والحذر واتخاذ الأسباب الظاهريّة ، ثمّ التوكّل على الله تعالى ، ولذا اقترحا على قومهم من بني إسرائيل بالدخول عليهم الباب ، والخوف من أبناء قومهم في إظهار الحقيقة وبيان الواقع لهم لضعف إيمانهم ، ولوجود الذلّ الكامن في نفوسهم ، ولذا دأبوا على إنكار الحقّ ومجابهة المحقّ بأسوأ إنكار.

وعلى هذا تكون الآية الشريفة من الأدلة على تشريع التقيّة وجوازها ـ بل وجوبها ـ في مورد الخوف والضرر حسب اختلاف الموارد.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ، على غاية رقي الإنسان في مدارج الكمال ، بحيث يملك نفسه ويقدر في التسيطر على مشاعره وتوجيهها إلى الصراط المستقيم وجعلها تحت إرادته عزوجل واتّباع شرائعه وتوجيهاته وإرشاداته ، ولا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة الراقية من الكمال إلّا بالمجاهدات الكبيرة والتزام الطاعة والتقوى واجتياز المراحل الصعبة التي تكون في هذا الطريق ، ولم يصل إلى هذه المرتبة إلّا المخلصون من عباد الله تعالى الذين استثناهم إبليس من غوايته ، كما حكي تعالى عنه بقوله : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة الحجر ، الآية : ٣٩ ـ ٤٠].

والآية الشريفة تدلّ أيضا على عظمة هارون أخي موسى عليهما‌السلام ، فقد كان

١٤٥

الوفي لأخيه والمطيع لأوامره وتعليماته والمنفذ لتشريعاته ، حتّى انتهى به الأمر إلى جعل نفسه بين يديه ، فصار موسى عليه‌السلام مالكا لها كما ملك نفسه ، وهذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب الطاعة لله تعالى ولنبيّه عليه‌السلام ، ولم يصل إلى هذه المرحلة إلّا إذا ملك نفسه بالمجاهدة.

ومن هنا تعرف أنّه لا فرق بين أن نقول : إنّ كلمة (أخي) عطف على (نفسي) ، أو على الضمير في (لا املك) فإنّ أحدهما يلازم الآخر كما هو معلوم.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، على أنّ الفسق والخروج عن الطاعة يوجب البينونة بينه وبين الله تعالى وأنبيائه العظام ، فإنّ بني إسرائيل أعرضوا عن الطاعة وفسقوا عن أمر ربّهم وتعليماته ، ولذا طلب موسى عليه‌السلام أن يفرّق بينه وبين قومه بحكم يكون فيه الفصل والحدّ عن فسقهم وطغيانهم ، وذكرنا أنّ هذا الدعاء منه عليه‌السلام لم يكن طلبا لنزول العقاب عليهم ، فإنّه عليه‌السلام جاهد جهادا مريرا معهم حتّى أوصلهم إلى هذه المرحلة من حياتهم ، فلا بدّ من علاج ذلك حتّى لو استلزم المشقّة الشديدة ، فكتب الله تعالى لهم التيه ، وقد كان موسى وأخوه عليهما‌السلام في غنى عنه ، ولكنه جعل نفسه ونفس أخيه تحت إرادته ومشيئته تعالى. ومن هنا يظهر السرّ في تقديم (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) على دعائه.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ، مناسبة العقاب مع العصيان ، فإنّهم أعرضوا عن طاعة الله ورسوله ولم ينفذوا ما أمرهم تعالى بدخول الأرض المقدّسة الذي أراد عزوجل منه استقلالهم وتطبيق شريعته فيها ، وقد جابهوا نبيّهم أسوء مجابهة ، وأظهروا ما هو كامن في نفوسهم من التردد والحيرة والاضطراب ولم يبدوا العزيمة ، فكان ذلك سببا في الدخول في التيه الذي هو الحيرة والاضطراب أيضا ، ولكن فعل بهم هذا في الأرض لتمرين نفوسهم على تحمّل المشاقّ وقبول المتاعب والصعاب ، فتستقر على أمر واحد ، بخلاف ما كانوا عليه قبل التيه من اضطراب فكري ، وضعف في الإرادة والصعوبة في قبول الخير

١٤٦

والصلاح ، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

العاشر : يستفاد من قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ، أنّ حرمة الدخول إلى تلك الأرض المقدّسة مغياة إلى أربعين سنة ، فإنّ هذه المدّة كافية لتصفية النفوس وتزكيتها وتهذيب القلوب من الفساد وتربية الأبدان على تحمّل المشاقّ ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين الأثر الكبير في ذلك.

وذكر بعضهم أنّ الحرمة أبديّة ، جزاء أعمالهم السيئة وهتكهم لحرمات الله تعالى وجرأتهم على نبيّه الكليم ومجابهته بأسوإ مجابهة ، ولكنّ هذا القول ينافي ظاهر الآية الشريفة ، فإنّ الحرمة فيها لم تكن تشريعيّة بحتة ، بل للحرمة التكوينيّة فيها مجال واسع ، فإنّه بعد ظهور نواياهم الفاسدة وسريرتهم المريضة لا يبقى موضوع للدخول إليها ، فإنّه مشروط بأمور أغلبها إن لم تكن كلّها منتفية عندهم آنذاك ، فلا بدّ من علاج ذلك ليتسنّى لهم الدخول ، فإنّهم امّة تميّزت عن غيرها بأن أنعم الله تعالى عليها بعد العذاب المرير الذي قاسوه مدّة مكثهم في مصر ، على أنّ أرض الله تعالى لم تكن ملكا لأحد من عباده ، فإنها يرثها عباد الله الصالحون ، فكانت فترة التيه كافية لتربيتهم على الصلاح ، فإن كانوا كذلك ، فهم الوارثون وإلّا فسيرثها غيرهم من الصالحين ، وللبحث تتمّة يأتي في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

بحث روائي :

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) ، يعني : في بني إسرائيل لم يجمع الله لهم النبوّة والملك في بيت واحد ، ثمّ جمع الله ذلك لنبيّه».

أقول : الرواية في مقام بيان أفضليّة نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله على موسى عليه‌السلام ،

١٤٧

فجعل في بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله النبوّة ، والملك ، أي : الولاية كما يأتي ، وأما في بيت موسى عليه‌السلام لم يكن كذلك ، وإنّما كان في بني إسرائيل.

وعن محمّد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)؟ قال عليه‌السلام : الأنبياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإبراهيم وإسماعيل وذريّته والملوك الأئمة ، قلت : وأي الملك أفضل؟ قال : ملك الجنّة والنّار».

أقول : الرواية ـ مع قطع النظر عن السند ـ مضطربة المتن. ولعلّ الإمام عليه‌السلام أراد ذكر أجل المصاديق لمطلق الأنبياء ـ لا تفسير الآية المباركة ـ لأنّ ما ورد فيها من ذكر الأنبياء عليهم‌السلام لم يكونوا من بني إسرائيل ، كما هو واضح ، وكذا بالنسبة إلى الأئمة للملوك ، والمراد من الذيل الملك (بالفتح) والأولى ردّ علمها إلى أهله.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) قال : «كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار ، يسمّى ملكا».

أقول : سياق الآية الشريفة الامتنان على بني إسرائيل ، كما تقدّم في التفسير ، وما ورد في الرواية سار في جميع الأمم ولا يستحقّ ذلك الامتنان من الله جلّت عظمته ، ولعلّ المراد التفوّق النسبي ، ومن كان كذلك عدّ في بني إسرائيل ملكا ، لأنّهم كانوا عبيدا للفراعنة. وكيف كان ، فقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى ، فلا بدّ من صناعة التأويل فيها حتّى تلائم سياق الآية المباركة.

وعن الشيخ المفيد في آماله بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لما انتهى بهم موسى إلى الأرض المقدّسة قال لهم : ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على إدباركم فتنقلبوا خاسرين ، وقد كتبها الله لهم ، قالوا : يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين ، وإنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون ، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون وعلى الله فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين ، قالوا : يا موسى إنّا لن ندخلها

١٤٨

أبدا ما داموا فيها ، فاذهب أنت وربّك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون ، قال : ربّ إنّي لا أملك إلّا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ، فلما أبوا أن يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة ، يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم استتموا الرحيل فيرتحلون بالحدّ أو الزجر ، حتّى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه ، فيقولون : قد أخطأتم الطريق ، فمكثوا بهذا أربعين سنة ، ونزل عليهم المن والسلوى حتّى هلكوا جميعا ، إلّا رجلين يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وأبناءهم ، وكانوا يتيهون في نحو من أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم وخفافهم ، قال : وكان معهم حجرا إذا نزلوا ضربه موسى عليه‌السلام فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، لكلّ سبط عين ، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر ووضع الحجر على الدابة ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ موسى عليه‌السلام قال لبني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لهم ، ثمّ بدا له فدخلها أبناء الأبناء».

أقول : الظاهر التصحيف والاشتباه من النساخ ، والصحيح قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام ، فتكون رواية واحدة كما يقتضي السياق ، وإلّا فالرواية متعدّدة. وكيف كان ، فالروايات في كيفيّة التيه وما جرى عليهم فيه كثيرة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة ، كما أنّ التيه في نفسه خارق للعادة ، وكان لأجل مصالح وحكم كذلك ، وما جرى على بني إسرائيل فيه من خوارق الطبيعة ، وأنّ الروايات الواردة في حياة بني إسرائيل في زمن موسى عليه‌السلام تدلّ على أنّ ذلّ الرقيّة كان فاشيا في مجتمعهم ، ولم تكن لهم أيّة نفسيّة توجب اندفاعهم للخروج عنها إلّا بتغيير جذري لطبائعهم ، وهو قد حصل في التيه ، ولعلّ خوارق العادة أو انثلام الطبيعة فيه لم تكن إلّا لأجل إرشادهم إلى الخالق الرحيم ، وإنّه قادر على تغيير ما ارتكز في نفوسهم من الذل والانكسار كما تقدّم في التفسير ، ولا بد أن يكون كذلك بحكم العقل والفطرة.

١٤٩

ثمّ إنّ اختلاف الروايات في ما جرى عليهم في التيه لا يضرّ ، لأنّها قريبة المعاني نوعا ما ، ولا شيء فيها ما يخالف الكتاب ، ولذلك لا جدوى في سردها والجمع بينها ، وسيأتي ما يتعلّق بالبداء إن شاء الله تعالى.

وفي رواية حريز عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده ، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتّى لا تخطون طريقهم ولا يخطئكم سنّة بني إسرائيل ، ثمّ قال أبو جعفر عليه‌السلام : قال موسى عليه‌السلام لقومه : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، فردّوا عليه وكانوا ستمائة ألف : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) أحدهما يوشع بن نون والآخر كالب بن يوفنا هما ابنا عمّه فقالا : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ) إلى قوله تعالى : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، قال : فعصى أربعون ألفا وسلم هارون وابناه ويوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، فسمّاهم الله فاسقين ، فقال : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، فتاهوا أربعين سنة لأنّهم عصوا ، فكانوا حذو النعل بالنعل ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قبض ـ الحديث».

أقول : أما قاعدة ركوب السنن الماضية حذو النعل بالنعل في هذه الامّة ، فقد وردت فيها روايات كثيرة مروية عن طرق الشيعة والسنّة ، ودلّت التواريخ المعتبرة على ذلك ، ولا مجال لنقل الوقائع بعد كثرة الشواهد.

وأما ذكر العدد في الرواية ، فهو تقريبيّ لا دقّي ، ولا يضرّ الاختلاف في الأقل والأكثر ، كما مرّ.

وتطبيق الآية الشريفة على ما حصل من الحوادث بعد ارتحال نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الملأ الأعلى من باب التطبيق ، والقاعدة المتقدّمة تشهد على ذلك.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : «خلق لهم ثياب لا تخلق ولا تذوب».

أقول : يمكن أن يكون ذلك من متانة الصنع والمادة بحيث يعمر الثوب

١٥٠

أربعين سنة وأكثر. وأما الكيفية من الطول والقصر وغيرهما ، فكانوا يغيّرونها باختيارهم ، لأنّ أكثر ما يطرأ على الثياب من الفساد من كثافات البدن الحاصلة من الغذاء ، وكان غذائهم المن والسلوى ، ولم يكن فيهما الكثافة كما في غيرهما من الأغذية.

كما يمكن أن يكون ذلك من الإعجاز وخوارق العادة ، كانفجار الماء من الصخرة ، ويدلّ على ذلك ما ورد في الدرّ المنثور ، قال : «ظلّل عليهم الغمام في التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة ، كلما أصبحوا ساروا غادين ، فإذا امسوا إذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه ، فكانوا كذلك أربعين سنة وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى ولا تبلى ثيابهم ، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا» ، وفي رواية اخرى فيه أيضا : «كانت بنو إسرائيل إذا كانوا في تيههم تشبّ معهم ثيابهم إذا شبّوا» ، وذكرنا مرارا أنّ خوارق العادة تعمّ الجمادات وغيرها.

وفي تفسير علي بن إبراهيم قال في قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، قال : فإنّ ذلك نزل لما قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) ، فقال لهم موسى عليه‌السلام : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ف (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها) ، فقال لهم موسى عليه‌السلام : لا بدّ أن تدخلوها ، فقالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، فأخذ موسى بيد هارون وقال كما حكي الله : (إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ـ يعني هارون ـ (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، فقال الله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ، يعني مصر لن يدخلوها أربعين سنة (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) ، فلما أراد موسى أن يفارقهم فزعوا وقالوا : إن خرج موسى من بيننا انزل علينا العذاب ، ففزعوا إليه وسألوه أن يقيم معهم ويسأل الله أن يتوب عليهم ، فأوحى الله إليه : إنّي قد تبت عليهم على أن يدخلوا مصر وحرّمتها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض عقوبة لقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) ، فدخلوا كلّهم في قرية والتيه إلّا قارون ،

١٥١

فكانوا يقومون في أول الليل ويأخذون في قراءة التوراة فإذا أصبحوا على باب مصر دارت بهم الأرض فتردّهم إلى مكانهم ، فكان بينهم وبين مصر أربعة فراسخ ، فبقوا على ذلك أربعين سنة ، فمات هارون وموسى في التيه ودخلها أبناؤهم وأبناء أبنائهم ، فروي أنّ الذي حفر قبر موسى ملك الموت ، تمثّل في صورة البشر ، ولذلك لا يعرف بنو إسرائيل قبر موسى ، وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قبره؟ فقال : عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر ، قال : وكان بين موسى وبين داود خمسمائة سنة ، وبين داود وعيسى ألف ومائة سنة».

أقول : المستفاد منها ومن الروايات الواردة في ضمن جميع الآيات الشريفة المتعلّقة بقصة التيه المذكورة ـ بعضها في سورة البقرة ، الآية : ٦١ وبعضها في المقام ـ امور :

الأوّل : أنّ الأرض المقدّسة هي الصحراء الممتدة من الشام إلى مصر ، أي : صحراء سيناء ، وحدّدت جوانبها كما يأتي في البحث التأريخي.

الثاني : أنّ بني إسرائيل بعد ما خرجوا من مصر وخلّصوا أنفسهم من عذاب فرعون ، لم يخضعوا لموسى عليه‌السلام مع ماله من الفضل عليهم ، ولذلك وقعوا في الشدّة والعذاب الإصلاحيّ والتربويّ ، فأصابهم ظمأ ومجاعة في صحراء قفر ـ كما تقدّم في موجز حياتهم في سورة البقرة ، الآية : ٦١ وسيأتي مزيد بيان ـ فأمرهم موسى عليه‌السلام بالهبوط إلى مصر لشدّ عزائمهم وليجدوا مآربهم ، فأبوا دخولها لما لاقوه سابقا من العذاب المرير والذلّة القاسية ، فعاندوا موسى عليه‌السلام وأساؤا الأدب بربّهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، فوقع عليهم العذاب التربويّ ، أي : حرم عليهم دخول مصر أربعين سنة ، والحكمة في ذلك كثيرة كما تقدّم.

الثالث : أنّ السير في التيه إما أنّه معجزة خارقة للعادة كما في الرواية ، «درأت بهم الأرض».

أو سلب الله مشاعرهم التي تدلّهم على الطرق ، فجهلوها ووقعوا في متاهاتها ، فكانوا يسيرون السير الدائريّ مثلا وهم لا يشعرون.

١٥٢

أو أنّهم لا يتمكّنون من السير المحدود ، فسلب الله تعالى قدرتهم من السير أكثر ، لمرض أو غيره من حوادث الجو أو الأرض.

أو ضيّق عليهم زمان السير ، فكانوا ينامون أكثر اليوم ثمّ يسيرون في متاهات الأرض في زمان محدود خاصّ.

ويمكن أن يقال : إنّ جميع هذه الاحتمالات موجودة فيهم حسب الإيمان به عزوجل والتقرّب لديه تعالى ، فدارت الأرض على بعضهم وتاه آخرون فيها ، وأنهك بعضهم المرض من السير ، أو ضيّق عليهم الزمان ، إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تحتمل فيهم.

وأمر بني إسرائيل في زمان حياة موسى عليه‌السلام لم يكن عاديا ، بل إنّ المعجزات وخوارق العادة كانت حافة بحياتهم وسارية في مجتمعاتهم.

وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «انّه سئل عن قول الله (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، قال عليه‌السلام : كتبها لهم ثمّ محاها ، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها ، والله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب».

أقول : ظاهر الرواية البداء في حقّهم ، فكتب لهم الدخول ثمّ حرّمه تعالى عليهم. ولكنّ سياق الآية المباركة لا يدلّ على ذلك ، لأنّ حرمة دخولهم فيها أربعين سنة كانت من الآثار الوضعيّة لأعمالهم ، ولذلك دخلها أحفادهم بعد ما تركوا تلك الأعمال وأصلحوا أنفسهم ، إلّا أن يراد من البداء غير معناها المصطلح.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال عليه‌السلام : «كتبها لهم ثمّ محاها».

أقول : إنّ المحو كان نتيجة أعمالهم ومن آثارها ، وكان مؤقتا.

وعن الصادق عليه‌السلام في رواية أبي بصير : «انّ بني إسرائيل قال لهم : ادخلوا الأرض المقدّسة ، فلم يدخلوها حتّى حرّمها عليهم وعلى أبنائهم ، وإنّما دخلها أبناء الأبناء».

١٥٣

أقول : الرواية ظاهرة في ما تقدّم ، إلّا أن يقال : إنّ جميعهم امّة واحدة ، وإنّ الخطاب متوجّه إلى الامّة ، فحينئذ يتحقّق البداء بملاحظة الأفراد ، ويدلّ على ذلك رواية إسماعيل الجعفي عن الصادق عليه‌السلام قال : «قلت له : أصلحك الله (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، أكان كتبها لهم؟ قال : أي والله لقد كتبها لهم ، ثمّ بدا له لا يدخلونها ـ الحديث».

وعن ابن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : «كان في علمه أنّهم سيعصون ويتيهون أربعين سنة ثمّ يدخلونها بعد تحريمه إيّاها عليهم».

أقول : تقدّم أنّ من دخل الأرض المقدّسة كانوا أحفادهم ، لا نفس المخاطبين ، فلا يكون من البداء إلّا بالوجه الذي تقدّم.

وفي تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : كان هارون أخا موسى لأبيه وامه؟ قال : نعم ، أما تسمع الله يقول : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)؟! فقلت : أيّهما أكبر سنّا؟ قال : هارون ، قلت : كان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال : الوحي ينزل على موسى عليه‌السلام وموسى يوحيه إلى هارون ، فقلت له : أخبرني عن الأحكام والقضاء والأمر والنهي ، كان ذلك إليهما؟ قال عليه‌السلام : كان موسى عليه‌السلام الذي يناجي ربّه ويكتب العلم ويقضي بين بني إسرائيل ، وهارون يخلفه إذا غاب عن قومه للمناجاة. قلت : فأيّهما مات قبل صاحبه؟ قال عليه‌السلام : هارون قبل موسى ، وماتا جميعا في التيه ، قلت : فكان لموسى ولد؟ قال : لا كان الولد لهارون والذرّية له».

أقول : الرواية تدلّ على أنّ موسى عليه‌السلام وهارون كليهما قادا بني إسرائيل ، ولكن كان لموسى عليه‌السلام الفضل والشرف على هارون ، والأخبار مختلفة في موضع قبر موسى عليه‌السلام ، ولكنّ أكثرها تدلّ على أنّه في التيه ، لأنّه توفى فيه ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر» ، كما مرّ.

وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

١٥٤

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مات داود النبي يوم السبت مفجّوا ، فأظلّته الطير بأجنحتها ، ومات موسى كليم الله في التيه ، فصاح صائح من السماء : مات موسى وأيّ نفس لا تموت».

أقول : لعلّ الوجه في تظليل الطير بأجنحتها كان احتراما وإكراما لداود ، وكان الصياح في السماء نعيا على موسى ، لأجل أهميّة الحادثة وتجليلا لشأنه عليه‌السلام.

وفي الدّر المنثور في قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) ، قال : «أبدا» ، وفي قوله تعالى : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) قال : أربعين سنة».

أقول : ما ذكره خلاف ظاهر الآية الشريفة وأنّهم دخلوا الأرض المقدّسة كما في الآية الشريفة ، وتقدّم أنّ الحرمة وضعيّة لا تكليفيّة.

بحث تأريخي :

ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حياة بني إسرائيل كانت مليئة بخوارق العادات ، حافلة بالقصص العجيبة والحكايات الغريبة ، قلما تكون امّة غيرها بهذه المثابة ، فقد تميّزت بأنّها كانت مورد لطفه عزوجل وعنايته وإحسانه ، فأنعم عليها بما لم ينعم على غيرها من الأمم قبلها ، قال تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية ١٢٢].

وقال تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٠] ، وقد حكى القرآن الكريم جملة منها فصارت هذه الامة مثالا للكرامة الإلهيّة ، نستلهم ممّا أفاض عزوجل عليها من التشريعات والإرشادات والتوجيهات في تكوين الفرد تكوينا صالحا ، وبناء مجتمع سعيد وفق قواعد حكيمة متقنة.

والآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها قد سجّل فيها سبحانه وتعالى كلّيات النعم الإلهيّة التي تكرّم بها على بني إسرائيل ، وهي في نفس الوقت تعتبر القاعدة المتينة في بناء النظام الإلهيّ الدنيويّ والمجتمع السعيد ، فقال عزوجل : (وَإِذْ قالَ

١٥٥

مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، وتقدّم في بحثي الدلاليّ والروائيّ بعض الكلام فراجع.

إلّا أنّ هذه الامّة مع عظم فضلها وكبير ما أنعم عليها ، كان الواجب عليها شكر تلك النعم بإطاعة من أنعم عليها وخصّها بها ، فتفي بعهودها التي أخذت منها ، ولكنّها نكصت عن إيمانها وأعرضت عن طاعة ربّها ، ونقضت عهودها ، ولقد حذّرهم الله تعالى مكرّرا وعلّق استدامة تلك النعم على الوفاء بالعهد ، فقال تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٠] ، ووعظهم نبيّهم موسى بن عمران عليه‌السلام وحذّرهم من وبال أفعالهم وعاقبة أمرهم ، فأصروا على العناد واللجاج استكبارا ، حتّى استحكم فيهم العصيان ونقض المواثيق ، فلم تنفعهم الزواجر ، فعاقبهم الله تعالى بأنواع العذاب ، فصاروا مثلا للعبرة والموعظة بعد ما كانوا مثالا للكرامة الإلهيّة ، وقد انغرس فيهم بعض الصفات السيئة والعادات الباطلة ، فظلّت أجيال بني إسرائيل تتوارثها على مرّ العصور ، كما حكى عزوجل أحوالهم في القرآن الكريم ، ولقد عانى الأنبياء والمصلحون في سبيل إصلاحهم وتهذيبهم ، وتحمّلوا أنواع الشدائد والمشاقّ ، فلم ينالوا ما يريدونه لتماديهم في الغي وشدّتهم في التمسّك بعاداتهم الباطلة وصفاتهم السيئة وقسوتهم على أنبيائهم ، حتّى قتلوا منهم جمعا كبيرا.

ولعلّ من أحد أسباب كثرة إرسال الأنبياء فيهم أنّ إرادته عزوجل تعلّقت بتهذيبهم وإرجاعهم إلى رشدهم وإصلاحهم وتزكيتهم ، وقد اقتضت حكمته تعالى أن ينزل من التشريعات الشديدة والأحكام القاسية في الوصول إلى الهدف الذي أرسل الرسل إليه ، بسبب عنادهم وغيّهم.

ونحن نذكر في هذا البحث من تلك الأحكام قضية التيه التي ذكرت في جميع الكتب الإلهيّة المعروفة ، والتي كتبها الله تعالى عليهم مدّة أربعين سنة ، وهي قضية مهمّة في حياة بني إسرائيل ، وتعدّ هذه القضية منعطفا تاريخيا في حياة بني

١٥٦

إسرائيل ، وتعتبر من أعظم الأحداث في التأريخ الإنساني ، لما وقع فيه من خوارق العادات وغرائب الأمور ، فصار التيه بحدّ نفسه مدرسة تربويّة إصلاحيّة ، وقد طال زمانه حتّى مات فيه جمع كبير ممّن خرج مع موسى بن عمران عليه‌السلام ، ومات هو وأخوه في التيه ، فلم يبق منهم إلّا اثنان ، أحدهما يوشع بن نون الذي تولّى قيادة بني إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام ، وكان من أحد أصفيائه ، فاستطاع هو ومن معه من أحفاد بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة بعد عناء شديد.

ونذكر في هذا البحث حقيقة التيه ، وأسبابه ، ومدّته ، ومكانه ، والحكمة فيه ، والحوادث الواقعية فيه.

حقيقة التيه :

لمعرفة حقيقة التيه يجدر بنا أن نتعرّف على حياة بني إسرائيل في مصر قبل الخروج منها ولو على سبيل الإيجاز ، فقد تقدّم في سورة البقرة بعض الكلام أيضا ، فنقول : اتّفق المؤرخون على اختلاف مذاهبهم على أنّ بني إسرائيل كانوا في مصر شعبا مستضعفا ذليلا ، فقد استعبدهم المصريون ، وأذلّهم الفراعنة وساموهم سوء العذاب ، كما حكى عزوجل أحوالهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم ، وكان من نتائج ذلك أن تأثّرت نفوسهم بسبب الظلم المستمر عليهم ، فضعفت فيهم روح الثأر والانتقام وخسروا ملكة الشجاعة والإقدام ، فأنسوا بالذلّ والعبوديّة ، وألفوا الظلم والاستعباد ، فلم تكن الحرية عندهم شيئا ذا أهميّة ولم يعيروا لها أيّ اهتمام ، فأحبّوا القعود ورضوا النكد من العيش ، ورفضوا التحلّي بمكارم الأخلاق ، فكاد أن تنطفئ فيهم ملكة الاستكمال ، حتّى تعلّقت إرادته عزوجل أن يبعث فيهم من يخلّصهم من العذاب ويهديهم إلى سواء السبيل ، فالتفوا حول موسى بن عمران عليه‌السلام وهم بمصر ، لا كرسول ونبي همام ، بل كقائد مقدام يرجى على يده الخلاص من ظلم المصريين واستعبادهم ، ولذلك لم يكادوا يتحقّقون من نجاتهم من فرعون حتّى شغبوا على موسى نبيّهم العظيم عليه‌السلام وأعرضوا عن طاعته بعد ما أخذ

١٥٧

منهم المواثيق ، فصاحوا به وبأخيه هارون : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٩] ، وقد نقلت لنا التوراة صورا متعدّدة من ذلك التمرّد ، وورد في إحداها أنّهم قالوا : «ليتنا متنا في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع ، فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا الجمهور بالجوع» ١٦٠ سفر الخروج : ٢ ـ ٣ ، والسرّ في ذلك واضح ، فإنّ الحرية لم تكن عندهم شيئا يذكر ، ولم تبعثهم الكرامة الإنسانيّة ولم ينهض بهم طلب الفضائل ، فقد تربّوا على الذلّة ، والصغار ، ونقض العهد والميثاق ، والخروج عن الطاعة ، فصار العناد واللجاج من سماتهم المعروفة. ومن هنا كان الأمر بدخول الأرض المقدّسة عليهم عظيما ، لأنّه يستلزم الحرب بينهم وبين السكان الذين يقطنون فيها ، وهم يخافون الحرب ، وقد بذلت محاولات عديدة لإرضائهم بالدخول ، ووعدهم عزوجل بالنصر ، ولكنّهم أصروا على موقفهم ، كما حكى عنهم القرآن الكريم فقالوا : (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ، ومقالتهم هذه تكشف عن كبير عصيانهم وعظيم جبنهم ، فأحبّوا أن يكون الدخول إلى الأرض المقدّسة عن طريق المعجزة الإلهيّة ، لأنّهم كانوا يدركون أنّهم شعب احتفت بهم الكرامة الإلهيّة وكثرت فيهم المعاجز وخوارق العادات ، حتّى عرفوا بها ولم يتنبهوا أنّ تلك المعاجز إنّما كانت لأجل ايقاظهم عن سباتهم وبعث روح الاستكمال فيهم ، وتربيتهم بالتربية الإلهيّة الصالحة ، تدفع عن نفوسهم تلك الذلّة والصغار التي تربّوا عليها.

ومن هنا نعرف أنّ التيه الذي كتبه الله تعالى عليهم إنّما كان الغرض منه هو إعدادهم إعدادا ماديا ومعنويّا ، لتحمّل المسؤولية الإلهيّة ، وتربيتهم تربية صالحة ، التي لا بدّ من توفّرها في كلّ شعب يريد السعادة في الحياة ، فكانوا في تيه فكريّ لا يمكنهم معرفة تلك الحقائق وما تتطلبه الحياة من الوسائل التي لا يمكن أن تنال إلّا بإصلاح نفسيّ وبدني وفق منهج تربويّ دقيق ، وهذا هو الذي أراده موسى عليه‌السلام حين طلب من ربّه أن يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ، فإنّه لم يطلب

١٥٨

العذاب لامّة لا تعرف الحياة الكريمة وهي في عمى وجهالة.

ومن جميع ذلك نعلم أنّ حقيقة التيه تبتني على إصلاح الفكر والنفس عن طريق ترويضها على تحمّل المشاق وتربيتها على حرية البداوة ، وفق منهج إصلاح تربويّ ، لطرد ما يكمن في النفس من مفاسد الأخلاق وغرس مكارمها ، وهذا يحتاج إلى وقت طويل تبعا لشدّة تلك المفاسد وقوّتها ومقدار رسوخها في النفس وكميتها ، فكانت مدّة التيه أربعين سنة ، وهي ليست بكثيرة بعد ما عرفت من مفاسد أخلاقهم وشدّة عنادهم ولجاجهم.

أسباب التيه :

لا شكّ أنّ ما يجري في هذا العالم إنّما يكون وفق قانون الأسباب والمسبّبات ، لكن قد يكون بعض الأسباب معروفة ، وربما يكون بعضها الآخر قد خفي علينا ، ولا بدّ حينئذ لمعرفتها من علم إلهيّ ، إما عن طريق الوحي أو الإلهام.

والتيه الذي وقع فيه بنو إسرائيل لم يخرج عن هذا القانون ، فإنّ له أسبابا متعدّدة.

منها : ما يرجع إلى ضعف الروح المعنويّة عندهم بسبب الظلم المستمر عليهم وتربيهم على الذلّ والصغار ، فخارت قواهم واحتقروا أنفسهم ، ويستفاد هذا من قوله تعالى حاكيا عنهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

ومنها : الاضطراب الفكريّ الذي حصل لهم نتيجة العبوديّة المفروضة عليهم أثناء وجودهم في مصر ، فإنّ شعور الفرد بأنّه مسلوب الإرادة ممنوع من كثير ممّا خلقه الله تعالى لعباده في الأرض ، لهو كاف في فقدان الأمل وإخماد غريزة الاستكمال فيه وإيقاعه في حيرة واضطراب فكريّ.

ومنها : فساد الأخلاق ، لأنّ الشعوب التي تنشأ في عهد الاستبداد والتي تستأنس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ويذهب بأسها وتذلّ نفوسها وتشعر بالذلّ والمسكنة وتألف الخضوع ، وإذا طال زمان الظلم تترسّخ هذه الأخلاق في النفوس وتصير مغروسة حتّى تكون كالغرائز والطبائع.

١٥٩

ومنها : عدم رسوخ الإيمان المطلوب في قلوبهم ، ولم تتهذّب نفوسهم بالتعليمات والتوجيهات التي أتى بها موسى بن عمران عليه‌السلام ، ولذا تراهم يتمرّدون عليه ويعصون أوامره مرّة بعد اخرى ، بل رجعوا إلى عبادة العجل ، لأنّ الوثنيّة التي عاشوا فيها في مصر كانت عالقة في أذهانهم ، كما حكي عزوجل عنهم في القرآن الكريم ، قال تعالى (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٨].

ومنها : الجهل بكثير من الحقائق التي تقوم عليها هذه الحياة ، وإعراضهم عن قبول ما يكون سببا في صلاحهم وسعادتهم.

ولأجل هذه الأسباب وغيرها ممّا حكى لنا القرآن الكريم صورا متعدّدة منها ، فشلوا في تنفيذ الأمر الإلهيّ بدخول الأرض المقدّسة التي أراد عزوجل منها إصلاحهم وتكوينهم امّة واحدة لها كيانها ، وقائدها ، وشريعة ، ودستورا وحاكما يتولّى أمرها وشؤونها ، وفق نظام إلهيّ ، بعد أن كانوا اسرة صغيرة متفرّقة في أرض مصر ، عرضة للعبوديّة والسخرية والإهانة والاستبداد ، فأعرضوا عمّا أراده الله تعالى لهم وعصوا أمر ربّهم ، فابتلاهم الله تعالى بالتيه أربعين سنة لإصلاحهم وتهذيبهم فيه ، وكان لا بدّ من ذلك بحسب قانون الأسباب والمسبّبات التي تقوم عليه الحياة ، ويظهر للمتتبع كثير ممّا ذكرناه وغيرها إذا رجع إلى التوراة سفر العدد ، الذي هو السفر الرابع من أسفارها ، الفصلين الثالث عشر والرابع عشر ، فإنّ فيهما تفصيلا لقصة التيه.

مكان التيه :

المعروف أنّ التيه هي الصحراء التي تقع بين الشام ومصر ، أي أرض سيناء ، وبالتحديد قلب شبه جزيرة سيناء ، التي تقع في الطرف الجنوبيّ الأقصى لفلسطين ، على مقربة من أيلة ، بينهما عقبة لا يصعدها راكب لصعوبتها ، والتي لا بدّ من

١٦٠