مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

الموجودات بوجود نوره جلّت عظمته على حسب الترتيب ؛ المجرّدات العلويات ثمّ السفليات ، وكلّما كانت أقرب إلى العلويات والمجرّدات كانت أشرف منزلة ، وهكذا بالنسبة إلى المؤمنين حسب درجات إيمانهم ، وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا من الله والمؤمنون مني».

وعلى ضوء ما ذكرنا ظهر مراد ما هو المشهور بينهم من أنّه تعالى أوّل ما خلق العقل الأوّل ثمّ بقية العقول العشرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ذلك مفصّلا.

١٢١

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦))

الآيات الشريفة تذكّر بني إسرائيل بضروب من النّعم الجسام ، وتعرّفهم باعتنائه عزوجل بهم ، حيث فضّلهم على من عاصرهم ومن تقدّمهم من امم الأنبياء ، وشرّفهم بما منحهم من الآلاء والنعم العظيمة ، فابتدأ جلّ شأنه على من عاصرهم معهم بنداء نبيّهم موسى بن عمران عليه‌السلام لهم ، ما يدلّ على مزيد القرب والمزية. ثمّ ذكرهم بجعل الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، ثمّ أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة الذي كان اختبارا عظيما لهم وامتحانا لنفسياتهم ، التي تأثّرت كثيرا بما فرضه فرعون والمصريون عليهم من العبوديّة وأنواع الظلم عليهم ، وكان من نتائج ذلك أنّهم أعرضوا عن ذلك وجابهوا نبيّهم بأسوإ مجابهة ، فاعتذروا بضعف قوّتهم أمام قوّة الجبّارين الذين يحكمون الأرض المقدّسة ، فخسروا أهمّ نعمة من النعم الإلهيّة التي أرادها الله تعالى لهم ،

١٢٢

فأوقعهم عزوجل في التيه ، لتهذيب تلك النفوس المريضة وترويضها على تحمّل التكاليف.

وفي سرد هذه القصة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين العبرة والموعظة والتذكير. وبيان كيفيّة نقضهم للمواثيق التي أمر الله تعالى بالوفاء بها ، وقد ذكر جلّ شأنه جملة منها في ما سبق من الآيات الشريفة ، وفي آيات المقام ذكر تعالى جملة اخرى.

التفسير

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

تذكير لليهود بالنعم الجسام ، وتوطئة لبيان شناعة فعلهم في نقض المواثيق وكفران نعم الله تعالى. وتفصيل لكيفيّة نقضهم المواثيق وتسجيل عليهم بما سلف منهم من الجنايات.

والخطاب للرسول الكريم إعراضا عن خطابهم ، وقد ذكر عزوجل نداء موسى عليه‌السلام لليهود الدالّ على كمال القرب والمزيّة لهم بالاعتناء بهم ، حيث أضافهم إلى نفسه ثمّ عقّبه بتذكيرهم بما خصّهم من الآلاء والنعم الجسام ، استمالة بهم ونصحا لهم في تنفيذ مواثيقه عزوجل.

وتقدّم الكلام في معنى النعمة في قوله تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، وهي إما مصدر أو اسم مصدر ونسبتها إلى الله تعالى تدلّ على شرفها وعظيم النعمة منه عليهم.

والمراد منها في المقام جنس النعمة ومجموع النعمة التي أنعم الله عليهم وخصّهم بها ، وفي ذكرها بالمقام التذكير باستزادتها ، واستتمامها وطاعتهم لله تعالى ورسوله شكرا منهم على تلك النعمة ، وتنشيط همّهم لتنفيذ أحكامه عزوجل ، والوفاء بعهوده عموما ، والدخول في الأرض المقدّسة خصوصا ، لأنّ دخولهم لها

١٢٣

يحتاج إلى مزيد الهمّة والنشاط ، فإنّ به تتمّ النعمة وتتّضح حقيقتهم بعد الجهد المرير والعمل الدؤب في إصلاحهم ، كما أنّ به يتحقّق استقلالهم.

وكيف كان ، فإنّ النعم التي اختصّت بها بنو إسرائيل كثيرة ، وقد ذكر تعالى في المقام ثلاثة أنواع منها للتذكير ، والموعظة ، ومزيد الاعتناء ، وتذكيرهم بالوقت الذي وقعت فيه النعمة أبلغ من تذكيرهم بما وقعت فيه.

وظاهر الآية الكريمة أنّ ما ورد فيها كان بعد خروجهم من مصر وإنجاء الله تعالى لهم من ظلم فرعون والمصريين ، وأنّ قضية التيه كانت في الشطر الأخير من زمان مكث موسى عليه‌السلام فيهم ، ويؤكّد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنّه عليه‌السلام مات في التيه.

قوله تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ).

تفصيل بعد إجمال ، وقد قسّم سبحانه وتعالى النعم التي أنعمها على بني إسرائيل إلى نعم معنويّة ـ منها : جعل الأنبياء فيهم الذين هم واسطة الفيض وسبب الاستكمال وظهور المعجزات الباهرات على أيديهم التي كانت السبب الوحيد في ظهور الحقّ وإنقاذ بني إسرائيل من الظلم وخروجهم من مملكة الجبابرة والعتاة ـ وإلى نعم ظاهريّة ، وهي جعلهم ملوكا ذوي كيان مستقل بعد أنّ كانوا أذلاء مستعبدين في حكم الطغاة ، كما حكى عزوجل حالهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، فكانت هذه الآية المباركة من أهمّ الآيات الشريفة التي تذكّرهم بضروب الآلاء والنعم ، وتعرّفهم باعتنائه سبحانه وتعالى بهم وتفضيلهم على من عاصرهم ومن تقدّمهم من الأمم ، فقد خصّهم بأعظم النعم وأشرفها ، وهي أنّه تعالى جعل كثيرا من الأنبياء فيهم ، الذين هم من عمود نسبهم ومن قومهم بالخصوص ، وقد ذكر عزوجل أسماء جملة منهم في القرآن الكريم ، مثل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف والأسباط ، وموسى ، وهارون ، وغيرهم ممّن هم من المستعلنين ، وأما المستخفون الذين لم يرد ذكرهم في القرآن الكريم فهم كثيرون ، وقد امتازت بنو إسرائيل بهذه النعمة العظيمة ، فلم تكن امّة من الأمم في مرّ

١٢٤

العصور أن يبعث منهم هذه الكثرة من الأنبياء ، ولعلّ في قوله تعالى (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٤٧] ، إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً).

بيان للنوع الثاني : من النعم التي أنعم الله تعالى على بني إسرائيل ، وهي النعمة الظاهريّة. وتغيير الأسلوب فيها إنّما هو لبيان أنّ هذه النعمة قد شملتهم بأجمعهم من دون استثناء ، بخلاف النعمة الاولى التي اختصّت ببعضهم ، فقال تعالى : (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) ، وإن كان أثرها يرجع إليهم جميعا ، لأنّ النبوّة أمر إلهيّ يخصّ الله تعالى به من يشاء من عباده ، بخلاف الملوكيّة ، فإنّها قد تشمل الجميع.

ومادة (ملك) تدلّ على التسلّط والاستيلاء ، وهو يختلف باختلاف متعلّقه ، وله مراتب متفاوتة جدا ، أعظمها وأعلاها مرتبة هو ملكية الله تعالى لما سواه ، فإنّ هذه الملكية هي الحقيقيّة ، وغيرها ترجع إليه بنحو من الأنحاء ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يزيد عن مائة وثلاثين موضعا ، وتستعمل بالنسبة إلى جميع العوالم ، قال تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وقال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [سورة غافر ، الآية : ١٦] ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨٩] ، وقد تقدّم ما يتعلّق بها في سورة الفاتحة فراجع.

والمراد به في المقام هو الاستقلال بالنفس والتسلّط عليها ومالكيتهم لأمرهم بالحرية والتدبير والملكية ، بعد أن كانوا عبيدا أرقاء للقبط والفراعنة ، ليست لهم أيّة سلطة على أنفسهم وأموالهم وامور معاشهم ، يسومونهم سوء العذاب كما ذكر عزوجل في عدّة مواضع من كتابه الشريف ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٦].

والفرق بين هذه الآية الشريفة وآية المقام أنّ الأخير في مقام تعظيم النعم

١٢٥

والتعريف باعتنائه عزوجل بهم وتفضيلهم على غيرهم ، فناسب ذلك ذكر نداء موسى عليه‌السلام إيّاهم بقوله : (يا قَوْمِ) ، بالإضافة إلى ضميره ، إيماء بالقرب والمزيّة ، بخلاف آية النداء.

وكيف كان ، فإنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على صيرورتهم ملوكا ، إذ لم يذكر عزوجل : «وجعل فيكم ملوكا» ، كما هو الشأن في النعمة الاولى ، وهذا يؤكّد على أنّ المراد من الملوكيّة غير ما هو المعروف ، بل هو التسلّط على أنفسهم والاستيلاء على شؤونهم وأموالهم ، وإن قدّر الله تعالى أن يكون فيهم ملوك كطالوت ، وداود ، وسليمان ، وغيرهم ، ولكن ذلك حصل بعد عصر موسى عليه‌السلام بزمان كثير ، والآية الشريفة تدلّ على حصولها لهم في عصره عليه‌السلام وتحقّقها فيهم في زمانه عليه‌السلام.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المفسّرين في المقام ، من أنّ المراد من جعلهم ملوكا هو ما قدّر الله تعالى فيهم من الملك ، الذي يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم ، فتكون الآية المباركة وعدا بالملك وإخبارا بالغيب ، فإنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت.

وقال بعضهم : إنّ المراد به مجرّد ركوز الحكم فيهم ، كما كانت عليه العرب قبل الإسلام. ويرد عليه ما أورد على سابقه.

وكيف كان ، فالآية الكريمة تعظّم أمر هذه النعمة فيهم ، فإنّها نعمة الحرية ، والاستقلال والخروج عن التبعيّة والاستذلال.

قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ).

نعمة اخرى تشمل جميع ألطافه عزوجل وعناياته بهم التي أنزلت بآيات باهرات ، من فلق البحر ، ونجاتهم من بطش فرعون ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وانفجار الحجر ، وغير ذلك ممّا كان له الأثر العظيم في حياتهم الدنيويّة والاخرويّة ، والتي اختصّوا بها من بين سائر الأمم ، فلم تتوفّر على امة ممّن تقدّم على عهد موسى عليه‌السلام ما توفّرت وتواردت على بني إسرائيل ، فكانوا هم المفضّلين على غيرهم من هذه الناحية ، ولعلّ في قوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى

١٢٦

الْعالَمِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٢] إشارة إلى ذلك ، واللام في العالمين للاستغراق ، فيشمل جميع الأمم الماضية من دون اختصاص بعالمي زمانهم كما عن بعض ، فإنّ ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لم تكن امّة من الأمم إلى ذلك الوقت قد حظيت بمثل ما حظيت به بنو إسرائيل من هذه النعم ، ولا يخفى أنّ التفضيل له مراتب كثيرة وجهات متعدّدة ، فإذا فضّلت بنو إسرائيل من هذه الجهة ، فهو لا يدلّ على نفي التفضيل عن غيرهم من ناحية اخرى ، وحينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب التأويل في هذه الآية الشريفة والقول بأنّها نزلت في شأن هذه الامّة ، دفعا لما قد يتوهّم من تفضيل بني إسرائيل عليها.

قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ).

أمر بدخول الأرض المقدّسة ، بعد استمالتهم واستنشاط هممهم بذكر نعم الله تعالى عليهم واستثارتهم بتذكيرهم آلائه العظيمة. ويستفاد من القرائن الحافّة بالكلام أنّهم كانوا يبغون التمرّد على الامتثال والنكوص عن الطاعة ، ولذا كرّر النداء مع الإضافة التشريفيّة ، حثّا على الامتثال واهتماما بشأن الأمر ، ثمّ أكّده بالنهي عن الارتداد وإلّا كان عاقبته الخسران.

ومادة (قدس) تدلّ على التنزّه والطهر ، يقال : تقدّس الله ، أي : تنزّه. وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ روح القدس نفث في روعي» ، يعني جبرئيل عليه‌السلام ، لأنّه خلق من طهارة ، والروح هو النفس ومركز القلب ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع ، وتقدّم الكلام فيها في قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [سورة البقرة ، الآية : ٣٠] ، فراجع.

والأرض المقدّسة هي الأرض المطهّرة من رجس الشرك ، والتي يمكن إقامة الدين فيها ، ولعلّ هذا هو معنى البركة التي وصف عزوجل الأرض التي وعدهم بها ، قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٧] ، فإنّ البركة هي الخير الكثير ، وأعلاه مرتبة هو إقامة الدين

١٢٧

وبسط الحقّ والعدل ورفع قذارة الشرك ، وبذلك يمكن الجمع بين كلمات المفسّرين في المراد من المقدّسة في المقام.

واختلفوا في تعيين الأرض المقدّسة ، فقيل : هي الشام ، وقيل : هي الطور وما حوله ، وقيل : اريحاء ، وقال بعضهم : دمشق وفلسطين ، وقال آخر : الأردن ، وقيل غير ذلك.

والحقّ أن يقال : إنّه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنّة الشريفة تحديد هذه الأرض الموعودة ، إلّا أنّ توصيفها بالبركة كما قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الإسراء ، الآية : ١] يقرب أنّه المسجد الأقصى وما حوله ، فيستفاد أنّ هذه الأرض المقدّسة هي هذه المنطقة بالخصوص ، ولعلّ ما ورد في بعض الروايات من أنّها الشام ، هو أقرب الاحتمالات ، فإنّ أرض الشام موصوفة بالبركة عبر العصور ومرّ التاريخ ، وهي تشمل المسجد الأقصى وما حوله.

ومادة [كتب] تدلّ على الثبوت واللزوم ، سواء كان تكوينيّا أم تشريعيّا ، وكلاهما ورد في القرآن الكريم وتقدّم البحث عنها في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٣] ، والمراد به قضاؤه عزوجل في توطّنهم في الأرض المقدّسة ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) [سورة القصص ، الآية : ٦] ، وهذه الكتابة وإن كانت مجملة من حيث الوقت والأفراد الذين يسكنون تلك الأرض ، إلّا أنّ الخطاب للامّة من غير تعرّض للأفراد والأشخاص وأحوالهم ، كما هو شأن أغلب الخطابات القرآنيّة ، كما أنّ هذه الكتابة وإن كانت مطلقة في المقام ، إلّا أنّها مشروطة بالاستعانة بالله والصبر على الطاعة وتحمّل المشاق ، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه‌السلام : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ

١٢٨

يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٢٨ ـ ١٢٩] ، وإطلاق الصبر يشمل الصبر عن المعصية ، والصبر في الحوادث وتحمّلها ، واكتساب التقوى في التكاليف الإلهيّة ، وعند تحقّق هذا الشرط منهم تنجّز الوعد الإلهيّ ، كما دلّت عليه الآية الشريفة : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٧].

والمستفاد من مجموع الآيات الشريفة أنّ استيلائهم على الأرض المقدّسة وتوطّنهم فيها ، إنّما كان كلمة إلهيّة وقضاء ربانيّا مشروطا بالاستعانة بالله عزوجل والصبر بجميع أقسامه واكتساب التقوى ، فإذا تحقّقت منهم يتنجّز الوعد ، وعند انتفائها تشتدّ التكاليف الإلهيّة الشاقّة عليهم ، كما تدلّ عليه آيات كثيرة تبيّن أحوالهم وأخبارهم ، مذكورة في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.

ومن هنا حرم عليهم دخول الأرض المقدّسة ، لما أنكروا ذلك وأعرضوا عن الطاعة ، كما أخبر سبحانه وتعالى في قوله : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) [سورة المائدة ، الآية : ٢٦] ، وهذا أيضا يؤكّد على أنّ دخول الأرض المقدّسة كان مكتوبا عليهم ، مشروطا غير قابل للتغيير والتبديل ، وإن لم يكن الوقت معلوما في الآيات الشريفة ، ولذا قيل : إنّ المشافهين بخطاب الدخول إلى الأرض المقدّسة ماتوا وفنوا عن آخرهم في التيه ، ولم يدخل الأرض المقدّسة إلّا أبناؤهم وأبناء أبنائهم مع يوشع بن نون. وقد ورد ذكر الوعد مع الشرط في كتاب العهد القديم ، راجع سفر التكوين ٢٦ : ٥ ، وسفر تثنية الاشتراع ١ : ٦ وغير ذلك.

قوله تعالى : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ).

تأكيد في أنّ الأمر بالدخول مشروط ولا يمكن أن ينال ذلك إلّا بالعمل بالشرط ، وبيان في أنّ النكوص عن الطاعة يرجعهم إلى الأدبار ، فينالوا الأمرّين من العذاب ، فيكون انقلاب خسران بجميع النعم التي أرادها الله تعالى لهم ، ومنها

١٢٩

الدخول إلى الأرض المقدّسة والكرّة على أعداء الله تعالى وإقامة دين الحقّ وبسط العدل ، فالمراد من الخسران خسران الدارين.

ويستفاد من الآية الشريفة أهميّة هذا الحكم الإلهيّ في تكوينهم وتحقيق سعادتهم ، وعظيم أثره في حياتهم الدنيويّة والاخرويّة ، لأنّ الجزاء المترتّب على النكوص والإعراض كان عظيما.

قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ).

بيان لكيفيّة إعراضهم عن الطاعة ، ونقضهم للميثاق.

ومادة (جبر) تدلّ على إصلاح الشيء بضرب من القهر ، وفي حديث علي عليه‌السلام : «وجبّار القلوب على فطرتها» ، أي : إصلاحها وتثبيتها على ما فطرها من معرفته جلّت عظمته والإقرار به ، شقيّها وسعيدها ، ومنه الجبّار من الآدميين الذي له السطوة والقوّة ، فيجبر غيره على ما يريد ظنّا منه الإصلاح وعلى نحو العلو ، ومنه الجبر ، وهو الإكراه ، وفي الحديث المعروف : «لا جبر ولا تفويض» ، كما أنّ منه جبر العظم ، وهو إصلاحه ، كما مرّ في الحديث ، وفي الدعاء المأثور عن علي عليه‌السلام : «يا جابر كلّ كسير ، ويا مسهّل كلّ عسير» ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع ، كلّها تدلّ على الذمّ ، إلّا ما اطلق عليه تبارك وتعالى ، قال عزوجل : (الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [سورة الحشر ، الآية : ٢٣] ، ومعناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر أو نهي ، أو يقهر خلقه على الموت والنشور.

وقيل : هو العالي فوق خلقه ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى ، فإنّ الجبّار من الناس هو الذي يجبر نفسه بنقيصته بادّعاء منزلة من التعالي الذي لا يستحقّها ، أو يجبر غيره على ما يريد على نحو العلو والتكبّر والقهر ، ولأجل هذا قيل : نخلة جبّارة وناقة جبّارة ، يتصوّر القهر بالعلو على الأقران ، فهي صفة مذمومة ، قال تعالى : (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [سورة إبراهيم ، الآية : ١٥] ، وقال تعالى حاكيا عن عيسى بن مريم : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ٣٢] ، وقال تعالى : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ

١٣٠

مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [سورة القصص ، الآية : ١٩].

وإذا أطلقت عليه عزّ اسمه كان حقيقة وصفة كمال ، لأنّه استحقّ كلّ علو وكبرياء ، فيجبر خلقه بضروب من التدبير والحكمة المتعالية ، فهي صفة ذمّ ومدح ـ كالمتكبّر والمتعال ـ فإنّها مدح للخالق وذمّ للمخلوق ، لأنّها تنبئ عن نقص فيه ، بخلاف الخالق جلّت عظمته.

والجبّار صفة مبالغة ، وقال الفرّاء : «لم اسمع فعالا من أفعل إلّا في موضعين : جبار من أجبر ، ودراك من أدرك» ، وقد اختلفوا في المراد من هؤلاء الجبّارين ، وذكروا أمورا فيهم لا تنطبق على القواعد والسنن الطبيعيّة ، فتكون أقرب إلى الخرافات منها إلى الحقيقة والواقع.

وكيف كان ، فإنّ المستفاد من سياق الآية الشريفة أنّهم أناس أولوا بطش وقوّة قد سكنوا الأرض المقدّسة.

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها).

اشتراط منهم في تنفيذ هذا الحكم ودخول الأرض بخروج القوم الجبّارين ، وهذا الشرط يكشف عن ضعف كامن في نفوسهم وشعور بالذلّ حتّى أثّر على قواهم الجسديّة ، فصار الخور والجبن ملازمين لهم ، فتمنّوا خروج الجبابرة بطرق اخرى غير القتال ، لتكون تلك الأرض غنيمة باردة لهم ، ونظير ذلك واقع في مرّ التاريخ ، ويعاني منها الشعوب المستضعفة الذين قهرت إرادتهم وسلبت حريتهم الولاة العتاة الجبابرة ، ونقل لنا التاريخ أنّ بعض العبيد كانوا يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم أثناء الحملة على تحريرهم في القرن الماضي ، فلا بدّ حينئذ للقائد لمثل هؤلاء أن يتصرّف بسرعة لإصلاح نفوسهم ، وتنشيط هممهم ، وجلب النفع لهم ، ولا يقتصر على التخيل والأمور الوهميّة.

وقد تضمّنت هذه الآيات الشريفة على امور تربويّة دقيقة في إصلاح تلك النفوس المريضة ، فقد بدأت بتذكيرهم نعم الله تعالى وايتائهم من الأمور العظام التي لم يؤت أحدا من العالمين ، ثمّ أمرهم بالدخول في الأرض المقدّسة ، ليتحقّق أهمّ

١٣١

عامل من عوامل التكوين السياسيّ لهم ، وأعظم دعامة من دعامات التحرير والاستقلال فيهم. وبعد ظهور حقيقتهم في رفضهم الدخول بالقتال جبنا ، ولانهيار معنوياتهم بسبب العبوديّة المقيتة الطويلة ، ثمّ يأتي الوعظ والإرشاد ، فإذا لم ينفع ذلك يأتي دور الإصلاح النفسيّ والبدنيّ في ترويضهما على الطاعة وبعث روح المقاومة والشجاعة في نفوسهم وتحمّل المشاق في سبيل تكوين سيادتهم ، وهذا ما تحقّق في التيه الذي كتب الله تعالى عليهم مدّة أربعين عاما ، وسيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ).

وعد منهم بالدخول وإن كان حقيقته هو الردّ للحكم الإلهيّ والنكوص عن طاعة موسى عليه‌السلام ، وإنّما ذكروا ذلك تصريحا مع أنّه مفهوم ممّا سبق ، تأكيدا وتنصيصا على أنّ امتناعهم من الدخول إنّما هو لأجل وجود الجبابرة فيها ، فلا بدّ أن يخرجوا منها بأي سبب كان من غير قتال ، فإنّه لا طاقة بهم ، ويؤكّد ذلك إتيان الجملة الاسميّة المصدرة ب (ان) في الجزاء ، للدلالة على تحقّق الدخول وثباته عند تحقّق الشرط ، وهذا القول منهم يثبت ما ذكرناه آنفا من تأثّر نفوسهم من العبوديّة الطويلة ، فلم يتقبّلوا بسهولة حريتهم ورجوع استقلالهم ، فقد أحبّوا خروج الجبابرة بسبب من الأسباب التي لم يكن لهم أي ارتباط به.

قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ).

بيان لمنهج آخر من مناهج التربية الإلهيّة في إصلاح النفوس ، وهو الوعظ والإرشاد والتذكير بعواقب الأمور.

وفي الآية المباركة التعريض لهم بأنّ الخوف لا بدّ أن يكون ممّن يخاف سطوته التامّة وقدرته الكاملة ، فلا يخاف من مخلوق يدّعي القوّة والسطوة وهو مقهور تحت إرادة خالقه ، فيدلّ السياق على أنّ المراد بالمخافة هي مخافة الله عزوجل ، بالتحرّز عن عصيانه والإعراض عن طاعته.

وقد حذف اسم الجلالة لتربيب المهابة وتنشيط هممهم ، والإرشاد بأنّ الذين

١٣٢

يخاف منهم ليسوا كذلك ، وأنّ الخوف حقيقة إنّما ينبغي أن يكون من الله تعالى.

كما أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ في القوم رجالا كانوا يخافون الله جلّت عظمته ويتّقونه في أحكامه المقدّسة ، ومنهم هذان الرجلان ، وقد اختلفوا في اسم هذين الرجلين ، فقيل ـ وهو المعروف وبه وردت بعض الروايات ـ : يوشع بن نون وكالب بن يوفنا (يفنه) ، وذكر بعضهم أنّهما وردا في التوراة أيضا ، وقيل غير ذلك.

وكيف كان ، فقد قال بعضهم : إنّ ضمير الجمع في (يخافون) عائد إلى بني إسرائيل ، والضمير العائد إلى الموصول محذوف ، فمعنى ذلك : وقال الرجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله عليهما بالإسلام ، وذكروا وجوها في تثبيت هذا القول.

منها : ما رووه عن سعيد بن جبير ، كما يأتي في البحث الروائي.

ومنها : ما قرأه بعضهم (يخافون) بضمّ الياء ، وجعلها الزمخشري شاهدة على هذا القول ، أي : من الذين يخافوهم بنو إسرائيل ، ولكنّ ظاهر الآية الكريمة وسياقها يدلان على ما ذكرناه ، وغيره ممّا تكلّفوا يحتاج إلى دليل ، لا سيما أنّ ما استدلّوا به لم تثبت حجيّته.

ومنها : ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الخوف من العدو أقرب إلى الذهن من غيره.

وفيه : أنّ ذلك أبعد ، والأقرب هو الخوف منه جلّ شأنه.

قوله تعالى : (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا).

بالاطمينان والتثبيت والوقوف على الحقّ والثقة بوعده جلّ وعلا ، وهو صفة ثانية من صفات الرجلين اللذين يخافان الله تعالى. ولا شكّ أنّ هذه النعمة عظيمة ، حيث أوصلتهم إلى مقام الخوف من الله تعالى ، الذي لم يصل إليه إلّا من خصّه الله تعالى بالكرامة وحباه بالنعمة العظيمة ، وهو من صفات الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام.

ولا ريب أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ مخافتهما لم تكن من أولئك

١٣٣

القوم الجبّارين ، وإلّا لما اختصّا بهذه النعمة ولم يكد يتحقّق فيهم الاهتداء من الخروج من هذا المأزق ، فيرشدوا قومهم بالدخول عليهم الباب كما سيذكره عزوجل ، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ هذه النعمة هي نعمة الولاية التي اختصّ بها المؤمنون المخلصون ، ومن أهمّ درجات الإخلاص الحقيقيّ هو الخوف من الله جلّ شأنه ، بل هو حقيقته وقوامه ، وأولياؤهم الذين لا يخشون غيره تعالى ، قال جلّ شأنه : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة يونس ، الآية : ٦٢].

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين أن يقال : إنّ متعلّق (أنعم) هو الولاية ، أو يكون الخوف ، فإنّه بالآخرة يرجع إلى الأوّل ، كما عرفت.

قوله تعالى : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ).

أي : باغتوهم ولا تمهلوهم ليجدوا للحرب مجالا ، وعلى هذا فلا يختصّ بباب البلدة كما قيل ، بل يشمل أوّل بلدة من بلاد الجبابرة تلي بني إسرائيل ، فإنّ عنصر المباغتة لا يختصّ بأمر معيّن ، فإنّ الظروف المتاحة تعيّن ذلك ، فلعلّ المراد بالباب ما له شأن في ضعف قواهم ويمهّد الطريق للاستيلاء عليهم ، فإنّ ذلك استعمال شائع ، لا سيما في مثل هذه الظروف.

قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ).

وعد منهما بالنصر والغلبة على العدو ، وتأكيد منهما لهم بذلك ، وإنّما حصل لهما هذا الجزاء والتأكيد إما اعتمادا على وعد منه عزوجل لموسى بن عمران عليه‌السلام بتوريث الأرض لبني إسرائيل كما أخبر به موسى عليه‌السلام لهما ، أو أنّهما عرفا ذلك بإلهام منه عزوجل لهما ، لأنّهما كانا من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر ، أو أنّهما عرفا ذلك من القرائن الحافّة وحالات الجبّارين ، فإنّهم أجسام لا قلوب فيها ، فلا يحتاجون إلى قتال إذا باغتوهم وعملوا بما اقترحه هذان الرجلان.

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

تشجيع لهم وتطييب لنفوسهم ، وحثّ لهم بالاعتماد على الله تعالى والتوكّل

١٣٤

عليه ، وترك التواني والتواكل ، فإنّه يلزم عليهم أن يعملوا بما عندهم من الطاقة ، فإنّ التوكّل إنّما يكون بعد بذل الوسع ومراعاة قانون الأسباب والمسبّبات في عالم الإمكان ، كما عرفت ذلك في بحث التوكّل ، فراجع سورة آل عمران الآية ـ ١٦٠. وإنّ الشرط في (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) محقّق لموضوع التوكّل ، فإنّ الإيمان به عزوجل حقّ الإيمان ، والتصديق بوعده ممّا يوجب التوكّل عليه حتما ، فيجب عليهم القيام بما يقتضيه إيمانهم ، ويستفاد منه التهييج والإلهاب.

قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها).

عناد الرجلين منهم وإصرار على التمرّد والعصيان ، وإعراض عن مخاطبة الرجلين الذين دعوا بما دعى إليه موسى عليه‌السلام ، ازدراء بهما ، والجملة تتضمّن العناد عن الدخول في الأرض المقدّسة وإياسا من النصر ، واشتملت على وجوه من الإهانة والتهكّم بمقام موسى عليه‌السلام ، فقد صرّحوا بالمخالفة وأصرّوا على الاستكبار ونقض الميثاق ، ولذا أوجزوا في الكلام مع موسى عليه‌السلام بعد ما أطنبوا فيه في بادي الكلام ، ومن المعلوم أنّ الإيجاز بعد الإطناب في مقام الجدال والمخاصمة لا يخلو عن الإهانة وكراهة استماع الحديث ، ثمّ التأكيد على الإعراض باستعمال أداة النفي الدالّة على التأبيد ، وتأكيده بقولهم (أَبَداً) ، ومجابهته بجواب تنبئهم بكلام خارج عن حدود الأدب.

قوله تعالى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا).

بيان لجهلهم لصفات الربّ عزوجل ، وفساد فطرتهم وجفاء طبائعهم ، فإنّ كلامهم هذا يدلّ على كونهم مشبّهين وثنين ، إذ وصفوه تعالى بالذهاب والانتقال ، وهما من صفات الأجسام ، وقد أخبر عزوجل أنّهم نكصوا عن التوحيد وعبدوا العجل ، فقال حكاية عنهم : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٣٨] ، ومن هنا تعرف أنّ هذه الجملة على معناها الحقيقي ، فلا نحتاج إلى التكلّف في إخراجها عنه وحملها على المعنى المجازي

١٣٥

كما فعله بعض المفسّرين ، فإنّهم قصدوا ذهابهما حقيقة ، كما يستفاد من ظاهر العطف (أَنْتَ وَرَبُّكَ) ، وقوله تعالى : (فَقاتِلا) ، ويدلّ عليه ذيل الآية الكريمة : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

وهذه العبارة تدلّ على جفائهم ، وبعدهم عن الأدب الرفيع ومنتهى التمرّد ، والمبالغة في العصيان ، والاستهانة والاستهزاء به عزوجل وبرسوله ، وعدم المبالاة بهم.

قوله تعالى : (إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

أي : لا نبرح عن مكاننا ولا نقاتل ، وقد قالوا ذلك استهانة بالله تعالى وبرسوله موسى عليه‌السلام.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي).

استنصار من موسى عليه‌السلام في إجراء الأمر الإلهيّ ، وشكوى منه عليه‌السلام إلى ربّه لحال نفسه وأخيه ، والاعتذار إليه تعالى ، والتنصّل من فعل قومه وفسقهم ، فإنّه عليه‌السلام لم يتعرّض لحال غيرهما من المؤمنين ، فإنّ المقام يقتضي التعرّض لحال أنفسهما ، لا حال من خرج عن الطاعة وفسق عن أمره.

والعبارة تدلّ على غاية الانقطاع إليه عزوجل ، فقد توجّه إلى ربّه جلّ شأنه بقلب مليء بالحزن مشفق خائف وجل ، وبمثله تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ، وذكرنا أنّ اسم «الربّ» له أهميّة خاصّة في الدعاء وأثر عظيم في استجابته ، وهذا القول يدلّ على عظم هذا الأمر وأهميّته في حياة بني إسرائيل ، فإنّه عليه‌السلام لم يتركهم على حالهم ولم ينصرف عنهم بمجرّد إعراضهم واستهانتهم له ، فإنّ هذا الأمر له الأثر الكبير في تثبيت دعوته واستمرارها ، وإنّه أساس كلّ أمر ونهي فيهم ، وفي الإعراض عن هذا الأمر تشتّت كلمتهم ، وإهدار وحدتهم ، ولهذا فقد بثّ شكواه إلى ربّه جلّت عظمته ، وطلب منه عزوجل إصلاح الأمر بعد ما بلّغ هذا الحكم ودعاهم إليه بأبلغ وجه فأعذر فيه ، فلو لم يكن الموضوع بمثابة من الأهميّة كما عرفت ، لكان مقتضى الحال أن يرجع إلى ربّه ويطلب الفصل بينه وبين قومه

١٣٦

الفاسقين الذين واجهوه بأشدّ الامتناع ، ويستمد منه العون في إحلال هذه العقدة ، كما صنعه الأنبياء الذين سبقوه والذين لحقوه عند ما كان أقوامهم يعارضونهم بالردّ والامتناع ، وهو شأن التبليغ والدعوة ، فيقول : إنّي بلّغت وأعذرت ولا أملك لهم أمرا إلّا نفسي وأخي وقد قمنا بما علينا من واجب التكليف ، بل رجع إلى ربّه واشتكى إليه وبثّ حزنه ممّا فعله قومه ، واستنصره في إجراء الأمر الإلهيّ مع بذل نفسه ونفس أخيه في سبيل تطبيقه ، فإنّ كلّ واحد منهما يملك من نفسه السمع الطاعة والامتثال ، كما يملك من نفس هارون فإنّه خليفته ووصيّه ووزيره ، وهذا لا ينافي أنّه عليه‌السلام كان يملك من غيره ممّن أخلص لله تعالى وله من المؤمنين السمع والطاعة ، كما حكي عنهم في ما سلف من الآيات المباركة.

ومن ذلك يعرف فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ هذه العبارة تدلّ على أنّه لم يكن يوقن بثبات الذين أخبر الله تعالى عنهما آنفا ، فإنّها لا تدلّ على ذلك بشيء من الدلالات ، فهو عليه‌السلام إنّما اقتصر على نفسه وأخيه ، لأنّهما واسطتا الفيض والمبلّغان عن الله تعالى ـ فقد بالغا في الدعوة وناضلا أشدّ النضال في سبيل تنفيذ هذا الحكم ، ولكنّهما جوبها بأشدّ الامتناع والاستهانة من قومهما ، كما حكي عزوجل.

وكيف كان ، فلا يستفاد من قوله عليه‌السلام الردّ لما أمر به ربّه ، ولا الاعتذار منه عن عدم الدخول ، بل كان مصرا على تنفيذه طالبا منه النصرة والعون ، فإنّ فيه حياتهم الماديّة والمعنويّة ، وفيه تثمر جهوده.

والظاهر من العبارة أنّ قوله : (وَأَخِي) ، معطوف على الياء في قوله : (إِنِّي). والمعنى : أنّي لا أملك إلّا نفسي وأخي مثلي لا يملك إلّا نفسه ، فهما اللذان يملكان نفسيهما على الطاعة والامتثال ويعرفان حقّ المعرفة ما لهذا الأمر الإلهيّ من عظيم الأثر.

وقيل : إنّه معطوف على قوله : (نَفْسِي) ، أي : أنّي لا أملك إلّا نفسي وأملك أخي ، فليس لي غيرهما ، فلا ناصر لي ولا معين ، فإنّ القوم أعرضوا عن الطاعة

١٣٧

وامتنعوا عن الامتثال ، ولا بأس به أيضا ، فإنّه يرجع إلى الأوّل ، فإنّ كلّ واحد منهما يملك نفسه على الطاعة والامتثال ، فكان يملك موسى أخاه هارون على السمع والطاعة له ، فإنّ طاعته من طاعة الله ، كما يملك الخلّص من المؤمنين به على قلّتهم.

قوله تعالى : (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

دعاء منه عليه‌السلام في القضاء الفصل وبيان الحكم العدل من دون طلب للعذاب الإلهيّ عليهم ، فإنّه عليه‌السلام كان الشفيق عليهم من السخط الربوبيّ وحريصا عليهم من نزول النقمة ، ولكنّه كان يعلم أنّ بقاءهم كذلك يفوّت الغرض الذي بعث لأجله إليهم ، فلا بدّ من معالجة الموضوع وإصلاحهم وتهذيب نفوسهم ، فاختار عزوجل التيه وكتبه عليهم ، وهو أمر تربويّ إصلاحيّ ، وإن تضمّن المشقّة والعذاب عليهم ، فإنّه لا بدّ منه ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ، فإنّه وعد منه عزوجل على عدم نزول العذاب عليهم وإنّما هو تربية وإصلاح.

والآية المباركة تدلّ على أنّهم بإعراضهم عن الطاعة والامتثال ومجابهة رسولهم بأسوأ كلامهم ، قد خرجوا عن خالص الإيمان والتوحيد ودخلوا في التشبيه وارتكبوا إثما كبيرا.

ومادة (فرق) تدلّ على الفصل والتمييز. ومنه فرق الشعر إذا فصله وميّز بينه ، ومنه القضاء وفصل الخصومات ، قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [سورة الدخان ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٥] ، وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣] ، وهذا هو المراد به هنا ، أي : الفصل بينه وأخيه عليهما‌السلام وبين قومه الذين عاندوه وأعرضوا عن طاعته بالحكم العدل ، وهو يدلّ على حصول البينونة والمباعدة بين الطائفتين بسبب فسقهم ، فقد صارا خصمين.

والفرق هو الفصل بين شيئين ، وقال بعضهم : فرقت ـ بالتخفيف ـ في المعاني ، وفرّقت ـ بالتشديد ـ في الأعيان ، كما يقال : فرقت في الكلام ، بالتخفيف ، وفرّقت بين العبدين ، بالتشديد.

١٣٨

قوله تعالى : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ).

بيان حكم العدل والقضاء الفصل ، ومنه يستفاد أنّه عليه‌السلام لم يطلب منه عزوجل نزول العذاب والسخط الإلهيّ ، بل طلب ما هو صلاحهم فيه ، فإنّهم عانوا ما عانوا من شدّة العذاب الدنيويّ ، من فرعون وآله ، كما حكى عزوجل في كتابه الكريم ، فكان موسى عليه‌السلام شفيقا عليهم فاستجاب عزوجل دعاء نبيّه فحرم عليهم دخول الأرض المقدّسة حتّى طهرت نفوسهم وتزكّت بتحمّل المشاق.

والحرمة هنا حرمة منع ، أي : التحريم التكوينيّ ، وهو القضاء ، لا التحريم التعبديّ التشريعيّ ، فإنّهم كانوا مأمورين بدخولها من دون نسخ ، كما يقال : حرّم الله وجهك على النار ، وقال تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) [سورة القصص ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٩٥].

ومادة [تيه] تدلّ على التحيّر ، يقال : تاه ، يتيه ، تيها ، وتوها ، إذا تحيّر ، وفي حديث معرفة الله تعالى : «فتاهت به سفينته» ، أي : إذا ضلّ وتحيّر ، والأرض التيهاء هي التي لا يهتدى فيها ، وقد استعملت بالياء والواو ، أي : تيهته أو توهته ، والياء أكثر ، واللام في الأرض للعهد.

والمعنى : أنّهم ممنوعون من الأرض المقدّسة ، فلا يدخلونها ولا يملكونها مدّة أربعين سنة ، يسيرون في الأرض تائهين متحيّرين لا يرون طريقا ولا يدرون إلى أين ينتهي مسيرهم ، فلا هم أهل مقام في البلد ، ولا هم أهل بدو يعيشون كعيشة القبائل.

والتحريم في هذه المدّة له من الحكم الكثيرة والمصالح المتعدّدة ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين ميزة خاصّة وأثارا مهمّة في إصلاح النفس وتهذيبها ، وسيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

الأسى هو الحزن ، وقال الراغب : «وحقيقته اتّباع الفائت الغم ، يقال : آسيت

١٣٩

عليه أسى ، وأسيت له» ، أي : فلا تحزن على القوم الفاسقين ، والخطاب لموسى عليه‌السلام ، وفيه تقرير منه تعالى لوصفه عليه‌السلام إيّاهم بالفاسقين في دعائه ، وهو يدلّ على أنّ سبب نزول النقمة هو أنّهم فاسقون استحقّوا وبال عصيانهم ، فلا ينبغي أن يحزن على مثل هؤلاء.

وقال بعضهم : إنّ الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد بالقوم الفاسقين معاصروه صلى‌الله‌عليه‌وآله من بني إسرائيل لما عاندوه. وهذا صحيح ، لكنّ ظاهر الآية الشريفة يأباه ، وإن أمكن القول بأنّ الغرض من نقل قصص بني إسرائيل هو العبرة والموعظة والإرشاد وتطييب نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا لاقاه منهم.

١٤٠