مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١١

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٣٠

أي : أنّه إذا أقرّوا بأنّهم بشر من جملة ما خلقه الله تعالى ، داخلون تحت سلطانه يتحكّم فيهم إرادته ومشيئته ، فلا يحابي أحدا من مخلوقاته ، وهو تعالى الحكم العدل يجازي عباده على أعمالهم ، فيغفر لمن يشاء منهم ، ويعذّب من يعلم بأنّه يستحقّ العذاب ، ماض حكمه ، فلا يمنع من مشيئته مانع أو يتحكّم في إرادته شيء.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما).

بيان للأمر الثالث الذي احتجّ عزوجل به عليهم ، ويتضمّن هذا الدليل البرهان على نفي البنوّة عنه مطلقا ، فهو الخالق للسموات والأرض وما بينهما من المخلوقات ، فالجميع مملوك له عزوجل ، ومربوب له مقهور تحت إرادته ، فلا ينتمي شيء منها إليه تعالى إلّا بالمعبوديّة والمملوكيّة ، يتصرف فيها بما شاء إيجادا وإعداما ، إحياء وإماتة ، إثابة وتعذيبا. وهو الغني عن خلقه ، فلا يحتاج إليهم ، بل هم محتاجون إليه ، فلا يمكن أن يتصور له بنون.

وهذه الآية الشريفة تماثل الآية التي ذكرت آنفا ، إلّا أنّها ختم تلك بقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، لأنّها في مقام نفي الغرابة في الخلق وامتياز بعضهم على بعض ، فأثبت القدرة التامّة لنفسه على خلقه ، فلا امتياز له عليهم من هذه الجهة ، وأما آية المقام فإنّها في مقام بيان الجزاء على الأعمال ، فختمها بقوله تعالى : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، فإنّه سيجازيهم على أفعالهم وأقوالهم.

قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ).

فإنّه سيحاسبهم على أفعالهم وأقوالهم ، فيثيب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته ، ولا يصرفه صارف عن ذلك الجزاء.

وفي الآية المباركة إشعار بأنّه سيعذّب أصحاب تلك الدعاوي الباطلة ، على كفرهم وغرورهم وتقوّلهم على الله تعالى بغير حقّ.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ).

خطاب لهم بالرجوع عن غيّهم والدخول في دين الحقّ ، بعد ما دحض

١٠١

شبهاتهم التي غرّتهم في دينهم ، والخطاب يتضمّن اللطف في الدعوة ، وهو تأكيد للخطاب السابق في الدعوة إلى الإيمان ، إلّا أنّهما يفترقان في أنّ الأوّل دعوة إلى الرسول الذي أيّده الله تعالى بكتاب يهدي بإذنه عزوجل إلى ما فيه الخير والسعادة ، وهذا الخطاب يتضمّن مضافا إلى الدعوة إلى ما ورد في الخطاب السابق ، أنّه يقطع جميع الأعذار عنهم ، فيكون سياقه إتمام الحجّة عليهم ، مع أنّه لا يخلق هذا الخطاب عن لطف ، فإنّه عزوجل بعد ما أقام الحجّة عليهم بدحض دعاويهم الباطلة ، حسن منه أن يذكّرهم بحجّته عليهم يوم القيامة إذا أصروا على غرورهم ولجاجهم وضلالهم.

وحذف المتعلّق في قوله تعالى : (يُبَيِّنُ لَكُمْ) ، تفخيما للأمر وتعميما له ، ليشمل كلّ ما هم محتاجون إليه في سبيل سعادتهم الدنيويّة والاخرويّة ، وما يوجب صلاح أنفسهم وإصلاح أمورهم الفرديّة والاجتماعيّة ، الماديّة والمعنويّة. ويدخل فيه بيان ما كانوا يخفون من الكتاب ، وما يدلّ على أنّه حجة الله تعالى عليهم ، وما بيّنه عزوجل في دفع شبههم ودعاويهم ، فيكون من أقوى الأدلة على أنّه رسول الله تعالى نزل عليه الوحي المبين.

قوله تعالى : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ).

مادة (فتر) تدلّ على السكون وزوال الحدّة من الشيء ، قال الراغب : «الفتور : سكون بعد حدّة ، ولين بعد شدّة ، وضعف بعد قوّة» ، فتختصّ هذه المادة بالسكون الخاصّ ، لا كلّ سكون ، وفي حديث ابن مسعود لما مرض بكى فقال : «إنّما أبكي لأنّه أصابني على حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد» ، أي : في حال سكون وتقليل من العبادات والمجاهدات.

والمعنى : على سكون خال عن ظهور رسول من رسل الله تعالى ، وعلى انقطاع من الوحي ، فكانت الحاجة ماسّة إلى بيان الشرائع والأحكام بعد ما كتموها.

١٠٢

وتدلّ الآية الشريفة على كتمانهم للحقّ ، وتحريفه عن كتبهم ، وشدّة الحاجة إلى البيان ، وترشد إلى هذا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الرسول الذي بشّرت به الكتب الإلهيّة السابقة ، إذ لم يكن رسول آخر غيره في هذا المقطع الخاصّ من الزمان ، الذي اختلف في مدته. والمشهور أنّها خمسمائة سنة أو أكثر بقليل ، فجاء رسولنا يبيّن لكم جميع ما تحتاجونه في حياتكم ، ليقطع معذرتكم ويفند حجّتكم في يوم القيامة ، فكانت هذه الفترة من موارد الامتحان والابتلاء.

قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ).

بيان للعلّة التي أوجبت مجيء الرسول ، وتقدّم الكلام في إعراب مثل هذه الجملة في قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء ، الآية : ١٧٦] ، وقلنا : إنّ التقدير : كراهة أن تقولوا ، أو لئلا تقولوا.

وكيف كان ، فالآية المباركة تدلّ على قطع معذرتهم ، من توهّم اندثار الشريعة وانطماس آثارها وانقطاع أخبارها ، فلا شريعة ولا بشير ولا نذير يهديهم إلى مواطن الوعد والوعيد.

وهذه الآية المباركة تشير إلى ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [سورة النساء ، الآية : ٤١] ، من أنّ الأمم يوم القيامة تجحد تأدية رسالات رسلهم ، وتقول : ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ويكون الرسل والأنبياء عليهم حجّة وتقول : بلى قد جاءكم بشير ونذير.

قوله تعالى : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ).

ردع لمعذرتهم وقطع لها ، فقد جاءكم بشير ونذير يبيّن لكم امور دينكم. والآية الشريفة تدلّ على عدم انقطاع الوحي بالمرّة ، وفي الحديث عن علي عليه‌السلام : «لا تخلو الأرض عن قائم لله بحجّة ، إما ظاهر مشهور ، وإما خائف مغمور».

من هنا ذهب علماؤنا (قدس الله أسرارهم) إلى أنّ في زمان الفترة بين

١٠٣

نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عيسى عليه‌السلام أنبياء وأئمة مستورين خائفين ، منهم خالد بن سنان العبسي وغيره ، فيكون المراد من الفترة هو أن لا يكون نبيّ ولا وصيّ نبيّ ظاهر مشهور.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

تعليل لجميع ما سبق ، فإنّه قادر على إرسال الرسل وإنزال الشرائع تترى من دون انقطاع ، فلم تكن فترة حقيقيّة ، ولكنه عزوجل جعل تلك الفترة خالية عن الرسل الظاهرين المشهورين لحكم كثيرة ، فهو القادر على كلّ شيء ، فلا يعجزه نصرة نبيّه الكريم وإعلاء كلمته.

والآية المباركة ردّ على اليهود الذي يزعمون أن لا شريعة بعد شريعة التوراة ، زعما منهم بامتناع النسخ والبداء عليه عزوجل ، فإنّ ذلك ينافي عموم قدرته ، فهو القادر على كلّ شيء ولا يعجزه أمر.

١٠٤

بحوث المقام

بحث دلالي :

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : تدلّ مجموع الآيات الشريفة على حقيقة أعمال الرسل وبعض خصوصياتهم ، فقد ذكر عزوجل أنّ الأنبياء والرسل إنّما بعثوا لهداية الناس إلى الكمالات ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم ، الذي يوردهم إلى السعادة والفوز بالفلاح والدخول في الجنّة.

وبيّنت الآيات الشريفة أنّ الأنبياء عليهم‌السلام هم من أفراد البشر لا يختلفون عنهم ، فليسوا خارجين عن هذه الحقيقة ، ولم تكن لهم مزيّة عن بقية أفراد الناس إلّا بما ميّزهم الله تعالى بالفيض القدسيّ والوحي الإلهيّ ، وصفاء السريرة ، وتميّزوا بالتقوى والعمل الصالح ، وقد شدّد النكير على من يخرجهم عن هذه الحقيقة ويدخلهم في مصاف الإله أو الملائكة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، على أنّ أهل الكتاب قد أخفوا كثيرا من الأحكام الإلهيّة والمعارف الربوبيّة ، وكان لإخفائهم لها أساليب متعدّدة ومظاهر مختلفة ، وقد حكى القرآن الكريم العديد منها في مواضع متعدّدة ، وهو يدلّ على تحريفهم لكتبهم المقدّسة وبعدهم عن الحقّ وانطماس نور الفطرة فيهم.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ، على أنّ غرض الكتاب الإلهيّ والقرآن العظيم هو بعث نور الفطرة في النفوس وإزاحة ما يوجب انطماسه واضمحلاله ، وبيان ما أفسده الزائفون المضلّون.

وتعدّ هذه الآية الشريفة من معاجز القرآن الكريم ، فإنّه لو لا هذا النور المبين

١٠٥

لضلّ الإنسان في ظلمات الجهل والكفر ، ولا نطمس نور الفطرة بالشبهات والأكاذيب ، ولما عرف الناس ما يحتاجون إليه لهدايتهم.

والآية المباركة تخبر عن حقيقة ما طرأ على التوراة والإنجيل من الضياع والفساد ، وما فعله رؤساء اليهود والنصارى في دينهم وما عبثوا به في كتبهم المقدّسة.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ، على أنّ هذا الجائي قائم بهذا النور بنحو من أنحاء القيام المعروفة ، فإنّه نور من الله العظيم ، موضح لغوامض الكتاب المبين ، ومبيّن للمعارف الربوبيّة.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) ، اشتراط فعليّة الهداية الإلهيّة باتباع رضوانه ، فتدور الهداية إلى السلام والسعادة مدار اتباع رضوان الله تعالى ، وتختصّ الهداية في المقام بأن تورد من اهتدى سبل السلام جميعها أو بعضها ، حسب لياقة الشخص ومقدار استعداده.

والظاهر من الآية الكريمة أنّ اتباع الرضوان هو ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة وقرّرته الشرائع الإلهيّة ، ولا ريب أنّ اتباع الرضوان لا يتحقّق إلّا بالعمل بما تأمر به الفطرة والشريعة ، والانتهاء بنواهيها واجتناب سبيل الظلم الذي نفى عزوجل منه الهداية عن الظالمين ، قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [سورة الجمعة ، الآية : ٥] ، فالآية الشريفة تعدّ الفرد المؤمن إلى هداية عظمى ، وهي الهداية إلى الصراط المستقيم ، المهيمنة على جميع سبل الهداية ، وهي الغاية القصوى من إنزال الشرائع الإلهيّة.

كما يستفاد من الآية المباركة أنّ الميزة الأساسيّة لهذه الهداية الخاصّة ، هي كونها تورد المهتدي إلى تلك السبل التي تدعو إلى السلام والخضوع لله تعالى والاستسلام له ، وبهذه الميزة يمكن تمييز هذه السبل عن سبل الشيطان ، التي تدعو إلى العصيان والخروج عن الطاعة وتورد سالكها إلى الشقاء والحرمان.

١٠٦

ويمكن عدّ هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن حقيقة السبيلين سبيل الله وسبيل الشيطان.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) ، أنّ الخروج من الظلمات إلى النور الذي هو من آثار الكتاب المبين لا بدّ أن يكون بإذنه عزوجل ومورد مشيئته وعلمه ، لما له من الأهميّة العظمى في تهذيب النفوس ورفع الشبهات والشكوك وتنوير القلوب ، كما عرفت في التفسير ، وبهذا القيد يمكن إبطال دعوى المدّعين الزائفين الذين يدّعون الكمال وإخراج الناس من الظلمات ، فقد يكون الأمر بالعكس وهو لا يعلم بذلك ، فلا بدّ من التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور من صاحب الشرع فقط ، ويؤيّد ذلك ما يأتي من الآيات المباركة ، حيث ذكرت جملة من دعاوي أهل الكتاب وعقائدهم وهم يعتقدون صحّتها وأنّها تهدي من يعتقد بها إلى الصراط وتخرجه من الظلمات ، وقد عدّها عزوجل من الظلمات وأنّها من سبل الشيطان.

ومن جميع ذلك تعرف أهميّة هذا القيد (بإذنه) في المقام لسدّ جميع الذرائع الفاسدة والدعاوي الباطلة ، والتماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور ممّن يعلم جميع الخصوصيات وبيده الكمال والسعادة.

السابع : يستفاد من ذكر امّ المسيح في الآيات الشريفة ، التنصيص على أنّ المسيح مخلوق حادث ، وأن له امّا ، فكيف يكون إلها؟!

كما أنّ الآيات الشريفة تحدّد حقيقة الإله في القرآن الكريم وسائر الكتب الإلهيّة ، وهي أنّه لا يتعلّق بشأن من شؤون الإله ولا بشيء من مخلوقاته قدرة غيره ، فضلا عن أن يعجزه شيء منها إذا تعلّقت إرادته بهلاكها ، وإلّا فلا يكون إلها ، ولا ريب في عدم انطباق هذا الحدّ على المسيح بن مريم عليه السلّام ، فإنّ عجزه بيّن كما هو معلوم ، فلا يستحقّ الألوهيّة.

والمستفاد من سياق قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ

١٠٧

يُهْلِكَ) ، أنّ الإهلاك والإماتة والإعدام لم يكن عن سخط وغضب ، بل لإظهار القدرة التامّة ، وللإعلام بأنّ المسيح الذي نسبت إليه الألوهيّة إنّما هو داخل تحت قهره وملكوته سبحانه وتعالى ، فالآية المباركة تشتمل على نفي الألوهيّة عن غيره تعالى واختصاصها لنفسه عزوجل.

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) ، على انحصار الألوهيّة فيه جلّت عظمته ، لأنّ كلّ شيء مملوك له تعالى ، ومنه المسيح ، والمملوكيّة تنافي البنوّة ، كما يدلّ على نفي الشريك في ألوهيته ببيان نفوذ مشيئته وشمول قدرته ، لأنّه الله الجامع لجميع صفات الكمال ، ولعلّه لذلك كرّر لفظ الجلالة في هذه الآية الكريمة مرّات.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) ، على أنّ الناس من هذه الحيثية وهي كونهم بشرا خلقهم الله تعالى ، كسائر خلقه على حدّ سواء ، لا مزيّة لأحدهم على الآخر ، فهم مخلوقون مربوبون ، لا يمكن لأحد منهم الاستغناء عن خالقه ومربوبه ، والقرب والبعد عن رحمته ، إنّما يحصلان من ناحية العبد المخلوق ، فمن آمن وعمل صالحا فسوف يغفر الله تعالى له ، فيستحق المعافاة ، ومن كفر فسيعذّبه الله ، وهذا ينافي ما ادّعاه أهل الكتاب من أنّهم أبناء الله وأحباؤه ، كما عرفت في التفسير.

العاشر : إنّما ذكر سبحانه وتعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) دون ما يرادفه من الألفاظ كالإنسان ، لأنّ البشر متمحّض في المادة وتحمّل المكاره دون الإنسان وغيره ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [سورة ص ، الآية : ٧١] ، فعبّر عن الخلق من المادة (طين) بالبشر ، وكذا قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٥٤] ، فتدلّ الآية الشريفة على بطلان زعمهم من أنّهم أبناء الله.

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما

١٠٨

بَيْنَهُما) ، وحدانيّة الله تعالى وانحصار الألوهيّة فيه ونفي الشريك ، ونفوذ مشيئته وإرادته ، وأنّه لا يعجزه شيء من ما ملكه ، فإنّه مقهور تحت إرادته وسلطانه وعاجز عن معارضته.

وتعدّ هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة على إثبات تلك الأمور ، ولعلّه لذلك كرّره عزوجل في المقام للتأكيد ، وللإعلام ببطلان دعاوى الزائفين الضالّين ، فإنّ الله جلّ شأنه هو المستجمع لجميع صفات الكمال ، وليس غيره كذلك.

بحث روائي :

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ، قال : «يبيّن لكم النبيّ ما أخفيتموه ممّا في التوراة من أخباره ، ويدع كثيرا لا يبيّنه».

أقول : لعلّ عدم بيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما في التوراة لمصالح كثيرة رحمة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم ، لأنّه نبيّ الرحمة ورسول الرأفة ، أو كان ذلك من المعارف التي وردت في القرآن نظيرها ، أو الأحكام التي لا تختلف مع ما ورد في الشريعة الإسلاميّة. أو كان ذلك التأخير حتّى تستكمل عقولهم بالبراهين الربّانيّة ، إلى غير ذلك ممّا يمكن إن يقال في المقام.

وفي الدّر المنثور عن ابن عباس قال : «من كفر بالرجم ، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) ، قال : فكان الرجم ممّا أخفوا».

أقول : قد تقدّم أنّ الإيمان بالقرآن وحدة متكاملة وإنكار أحد أحكامه يوجب الكفر بجميعه ، وأنّ المراد بالكفر الوارد في الحديث هو الإنكار له المستلزم للكفر ، وأنّ الرجم كغيره من الأحكام ، ورد في التوراة المصونة من يد التحريف ، كتمته اليهود وبيّن ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٠٩

وفي الدّر المنثور في قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، بإسناده عن أنس قال : «مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفر من أصحابه وصبي في الطريق ، فلما رأت امّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ... فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا والله ، ولا يلقي حبيب حبيبه في النار».

أقول : لا شكّ أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه حتّى بعذاب الفراق وحرّ ناره ، ولو عذّبه كذلك في عالم الشهادة وصبر ، يكون ذلك لرفع مقامه وعلو درجته ولتقرّبه إليه جلّ شأنه ، وأنّ عدم عذابه في الآخرة لا ينافي ابتلائه في الدنيا لرقيه إلى سمو مراتب الحبّ له ، رزقنا الله تعالى رشحة من رشحات فيض حبّه ، وجعلها مستقرّة في قلوبنا.

وفي الكافي بإسناده عن أبي الربيع قال : «حججنا مع أبي جعفر عليه‌السلام في السنة التي حجّ فيها هشام بن عبد الملك ، وكان معه نافع مولى عمر بن الخطاب ، فنظر إلى أبي جعفر في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس ، فقال نافع : يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس؟! فقال : هذا نبيّ أهل الكوفة ، هذا محمد بن علي عليه‌السلام ، فقال : اشهد لآتينه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ. قال : فاذهب فاسأله لعلّك تخجله ، فجاء نافع حتّى اتكئ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : يا محمد بن علي إني قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وقد عرفت حلالها وحرامها ، وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ ، قال : فرفع أبو جعفر عليه‌السلام رأسه فقال : سل عمّا بدا لك ، فقال : أخبرني كم بين عيسى ومحمّد من سنة؟ فقال : أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال : أخبرني بالقولين جميعا ، قال : أما في قولي فخمسمائة سنة ، وأما قولك فستمائة سنة».

أقول : تقدّم في التفسير أنّ الفاصل الزماني بين الرسولين لم يكن فيه نبيّ معلن وحجّة ظاهريّة ، وإلّا فالحجّة الواقعيّة ـ سواء كانت نبيّا أو وصيّا ـ غير

١١٠

معلنة لا تنقطع في سلسلة الزمان كما ثبت ذلك في علم الكلام.

وأما الاختلاف في الفترة بين الرسولين فكثر ، فذهبت الإماميّة إلى أنّها خمسمائة سنة كما في الرواية ، وذهب قتادة وغيره إلى أنّها ستمائة سنة أو ما شاء الله من ذلك ، وعليه الجمهور ، وذهب الضحاك إلى أنّها أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين ، وذهب ابن جريح إلى أنّ الفترة كانت خمسمائة سنة ، وقال الكلبي : خمسمائة وأربعون.

ويمكن الجمع بين الأقوال بأنّها على سبيل الاستنتاج من سلسلة الزمان ، وأنّه على نحو التقريب لا التحديد الواقعي ، ومثل هذا الاختلاف وإن كان كثيرا ، إلّا أنّه لا يضرّ بشيء ، ولا يترتب عليه أي حكم ، والله العالم.

وعن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اليهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه وحذّرهم ، فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب : يا معشر اليهود اتّقوا الله ، فو الله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا : ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده ، فأنزل الله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ـ الآية)».

أقول : الرواية تدلّ على عناد اليهود وانحرافهم عن الفطرة المستقيمة وإنكارهم للحقّ الواضح ، ويظهر منها مصلحة الفترة ، أي : حتّى يعترفوا بالحقّ ويقرّوا به فيها ، وقد كشف القرآن الكريم عن نواياهم الفاسدة بعد ذلك ، والله العالم بالحقائق.

وعن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ، قال : «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن ابيّ وبجرى بن عمر وو شاس بن عدي ، فكلّمهم وكلّموه ، ودعاهم إلى

١١١

الله وحذّرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوّفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل الله تعالى فيهم الآية».

أقول : الرواية من باب التطبيق ، لأنّها تشمل كلّ من ادّعى المنزلة عند الله تعالى ، ولم يقنت له جلّ شأنه ، وتعدّى حدوده تعالى وأحكامه ، فهو يعذّبه سواء كان من اليهود أو النصارى أو المجوس ، فالمدار على التقرّب على الإيمان والعمل الصالح ، كما أنّ المناط في العذاب على الكفر والعمل السيء.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ، قال : «يعني بالنور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام».

أقول : لأنّ بهم أخرجنا الله تعالى من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والمعرفة ، وأنّ الأئمة المعصومين كالعلل المبقية للعلّة الأصليّة ، كما تقدّم مكرّرا.

بحث عرفاني :

ورد لفظ النور في الكتب السماويّة كثيرا ، لا سيما في القرآن الكريم باختلاف متعلّقه وإضافته ، فتارة : أضيف إلى نفسه الأقدس ، قال جلّ شأنه : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [سورة النور ، الآية : ٣٥] ، وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٢] ، وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [سورة النور ، الآية : ٤٠] ، وفي الدعاء المأثور : «أنت نور السموات والأرض».

واخرى : أضيف إلى خلقه ، مثل قوله تعالى محكيا عن أحوال المؤمنين في يوم الحساب : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) [سورة التحريم ، الآية : ٨].

وقال تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧].

وثالثة : إلى الكتب النازلة من عنده عزوجل على رسله الكرام ، كما قال جلّ

١١٢

شأنه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٦] ، وقال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [سورة التغابن ، الآية : ٨] ، وهو القرآن الكريم.

ورابعة : أضيف إلى الرسل والأنبياء ، قال تعالى في وصف نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٤٥ ـ ٤٦] ، بل اطلق على خلفائه المعصومين عليهم‌السلام ، كما في الروايات.

وخامسة : أضيف إلى الدين النازل من السماء ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٤٣] ، والجامع بين هذه الأقسام هو الحقّ ، فيدور مداره.

وسادسة : اختصّ النور بغير هذا العالم ، أي : عالم البرزخ والقيامة ، قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٩] ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة التحريم ، الآية : ٨].

ويمكن أن يقال : إنّ جميع تلك الأقسام يرجع إليه سبحانه وتعالى ، لما اختصّ به من إشراق الجلال وسبحات العظم التي تضمحلّ دونها كلّ شيء ، وإنّ سائر الأنوار بارقة ورشحة من ذلك النور العظيم ـ كما في بعض الدعوات المأثورة ـ ولولاه لكانت الظلمة فاشية ومستقرّة. نعم للإضافة أثرها الخاصّ يحصل من الاستعداد والأهليّة أو القابلية ، وإنّ الاختلاف فيه حصل منها وبها.

حقيقة النور :

تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ كثيرا من حقائق الأشياء ـ خصوصا

١١٣

المعنويات التي هي بعبدة كلّ البعد عن عالم المادة ـ مستورة عنّا ومحجوبة عن ادراكاتنا ، إلّا ما أصابتها عقولنا في عالم الإمكان بقدرها ، وأنّ ذلك لا يظهر الحقيقة ولا يبيّن الواقع ، بل هو كشف عن بعض الآثار الدالّة على الوجود ، وعن بعض الفلاسفة أنّ التعاريف للحقائق كلّها ليست إلّا لبيان بعض الآثار ، لا من باب الكشف للحقيقة ، لأنّه على وجه التحديد غير ممكن ، للاختلاف في الأنواع ، وللسير الاستكمالي فيها وتفاوت الاستعدادات ، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكروها ، ولذلك قالوا : «العلم بحقائق الأشياء صعب المنال جدا ، ويظهر ذلك أكثر وضوحا في مثل الروح ، والعلم ، والوحي ، والموت ، والحياة ، والوجود ، وغيرها.

ومن ذلك : النور ، فقد عرّفوا حقيقته بتعاريف متعدّدة ، لعلّ أسلمها : «أنّه كيفيّة خاصّة ظاهرة بنفسها» ، وأنّه «خلاف الظلمة» ، والمناقشة فيه واضحة ، لأنّه لم يعرف حقيقته وواقعه. وعن ثالث : «هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره» ، وهذا يرجع إلى الأوّل. وعن رابع : أنّ حقيقته الوجود ، والتغائر بينهما لفظي. وفيه : أنّ الوجود أعمّ بالكتاب والسنّة والعقل كما هو واضح. وعن خامس : أنّه الصراط المستقيم الموصل للحقيقة. وفيه : على فرض التنازل أنّه تعريف بأحد المصاديق. وعن سادس : أنّه القوّة ، أو الحلاوة في الباطن ، أو الوصول إلى الحقّ ، والمناقشة فيه واضحة جدا ، وأنّ ما ذكر من المصطلحات الصوفيّة التي هي بعيدة عن الماء المعين ومنهج الشرع المبين والصراط المستقيم.

فالصحيح ما تقدّم من أنّ النيل إلى الواقع والحقيقة غير ميسور ، وأنّ هذه التعاريف كلّها تقريبيّة ، قد يقنع الذهن بها وإن لم تقتنع النفس ، وعدم النيل إلى الحقيقة لا يضرّ بالسير والسلوك بعد الدرك أنّه من جند القلب ، وبه تكشف المبهمات وترفع الظلمات ويتميّز الحقّ من الباطل ، فيحقّ الحقّ ويبطل الباطل ، فينتصر القلب بإقباله على الحقّ بالنور المشرق عليه ، وتنهزم الظلمات وتوابعها ، إذ لا بقاء للظلمة مع إشراق النور ووضوحه.

١١٤

اختلاف النور :

النور كالوجود ينقسم إلى حقيقة ومجاز ، فالنور الحقيقي هو نور المبدأ جلّ شأنه ، كما هو الوجود الحقيقيّ ، وسائر الأنوار إشراق منه ، وهذا معنى ما ورد في الدعاء المأثور : «أنت نور الأنوار» ، أو «أنت ربّ الأنوار». وإنّ اختلافه في عالم الشهادة والإمكان حسب سعة إشراقه وانتشاره أو تحديده ، بل يختلف بمدى أثره وبارقته على القلب وحسب مناشئه ومصادره.

ولا يمكن تحديد هذا الاختلاف ، لتفاوت النفوس ، واختلاف الأسباب والآثار ، والتقرّب إليه مرتبة ودرجة ، ودنوا وبعدا ، إلّا أنّ الجامع الذي ممّا لا ريب فيه هو الكشف للنور ، كما أنّ للبصيرة الحكم ، وللقلب الإقبال والأدبار ، ولكن جميعها تختلف باختلاف المراتب والدرجات.

أما النور الحقيقيّ الذي لا يتصوّر فيه التشكيك ، فهو النور المختصّ بالمبدأ جلّ ثناه ، الذي تجلّى به ، وسمّى نفسه به ، فقال تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فإنّه اللامحدود من جميع الجهات ـ جلالا وجمالا ، وإشراقا وملكوتا ـ فلا يتصوّر نور دونه ، والأنوار كلّها فائضة من بحر جبروته ، كما ورد في الدعاء المأثور : «يا نور النور ، يا منور النور ، يا خالق النور ، يا مدبر النور ، يا مقدّر النور ، يا نور كلّ نور ، يا نورا بعد كلّ نور ، يا نورا فوق كلّ نور ، يا نورا ليس كمثله نور» ، فالكائنات كلّها رشحة من رشحات نوره ، وفيض من بحار أنواره ، فعليه لا يعقل أن يكون الكون ظلمة ـ كما عن بعض أهل العرفان ـ لإضافته إليه وخلقه بالإرادة التكوينيّة ، إلّا أن يراد من الظلمة في حقّ أهل الحجاب ، لا لأهل الحقّ والعرفان.

وبتعبير أوضح : أنّ ذاته تعالى حقيقة النور الذي لا يوصف ولا يمكن تحديده إلّا بسلب النقائص عنه ، مستور عنّا كنهه ، جامع للكمالات وإليه تنتهي الكمالات ، ومنه أفاضت الأنوار.

١١٥

وممّا ذكرنا تسقط دعوى بعض أهل العلم من أنّ النور جسم وعرض ، والباري جلّ شأنه منزّه عنهما ، فلا بدّ من التأويل في الآية الشريفة ، فإنّ ذلك النور ليس كسائر الأنوار كما عرفت ، فلا حاجة إلى التأويل.

على أنّ مقام المظهريّة ، والتجلّي ، والإشراق غير مقام الذات ، وفي بعض روايات نفي الرؤية : «كيف أراه وحجابه النور» ، أي : أفاض من نور ذاته نور حجابه ، فهو تعالى محجوب ، وفي الدعاء المأثور : «اللهم ربّ النور العظيم» ، أو قوله عليه‌السلام مخاطبا له جلّت عظمته : «أنت نور النور».

والحاصل : أنّ تجلّيه تعالى بالنور ، ليس من قبيل النور المتّصف بالكيف والعرض في عالم الإمكان المحدود بالمعقول ، وإن كانت السموات والأرضين كلّها أنوارا أشرقت من نوره العظيم بعد ما كانتا معدومتين ، فلا داعي لالتماس المجاز في الآية المباركة : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : المنوّر لهما ، وإن كان ذلك صحيحا في حدّ نفسه ، كما لا معنى للمبالغة فيها أصلا كما عن بعض ، والبحث نفيس جدا نتعرّض له في الآية الشريفة المناسبة له إن شاء الله تعالى.

وقد تقتبس النفوس المستعدة أنوارها من الصحف المطهّرة النازلة من السماء على قلب الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، فتهتدي إلى الكمال اللائق ، وتصل إلى المقام الراقي.

كما أنّ النور يشرق من وجود الرسل والأنبياء عليهم‌السلام على القلوب القابلة أو اللائقه للسير والسلوك لعرفان الحقّ والتوجّه للخالق ، وكذا من الأولياء بل العلماء العاملين بعلمهم المتّقين ، الذين وصفهم علي عليه‌السلام في خطبة همام.

وقد يشرق النور من جميع الممكنات التي وجدت بالإرادة التكوينيّة ، الدالّة على خالقها وبارئها وجاعلها على النفوس القابلة للوصول إلى معرفة موجدها ومدبرها.

وهذه الأنوار كلّها قابلة للشدّة والضعف ، ولها مراتب ، وفي كلّ مرتبة درجات ، وفي كلّ درجة منازل ، وفي كلّ منزلة مراحل ، وتفصيل ذلك خارج عن موضوع الكتاب.

١١٦

آثار النور :

الأنوار الإلهيّة تؤثّر في القلوب وتوجب سعادة النفس ورقيها ، وتخلّف حقائق هي السبل للفوز بالكمالات ، فبالنور يميّز الإنسان الحسن من القبح ، وبعد ذلك البصيرة تذعن أو تحكم على الحسن بحسنه وعن القبيح بقبحه ، ثمّ القلب يقبل على ما ثبت حسنه ويدبر عن ما ثبت قبحه ، فتحصل السعادة بعرفان الحقّ ، فهذه الحقائق تستند إلى النور ، وهو السبب لها ، ولذا اشتهر عندهم «الأنوار مطايا إلى العلّام» ، لأنّها تشرق على النفوس المستعدة ، فتوصلها إلى وادي المعرفة وتربطها مع خالقها.

ولا فرق في تلك الأنوار الفائضة منه جلّ شأنه أن تشرق من الرسل ، والكتب ، أو الأكوان ، كلّ لها أثرها الخاصّ على النفس ، إن لم تكن على القلوب أكنة.

أقسام النور :

الأنوار المحسوسة بعين البصر المنتشرة من الأجسام النيرة ، كالقمرين والنجوم والأرض وغيرها أنوار خارجيّة لها أثرها الخاصّ في عالم الإمكان ، ولسنا في مقام بيانها لأنّها مدركة لكلّ أحد حتّى البهائم ، فلا خصوصية لها سوى الآثار ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [سورة يونس ، الآية : ٥] ، والضوء أخصّ من النور ، وفي الدعاء المأثور : «يا خازن الليل في الهواء ، وخازن النور في السماء».

وأما الأنوار المعنوية التي تدركها البصيرة ، فهي على قسمين : دنيويّة ، واخرويّة ، والأول كنور العقل والعلم ، ونور الإيمان. وإنّ الحياة في هذا العالم متقوّم بهذه الأنوار ، ولو لا ها لم تسعد حياة ، وهو المراد من الآية الشريفة : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٢] ، وفي الحديث : «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء».

١١٧

ومن الأنوار المعنويّة التي تدركها البصيرة ، النور الذي يشرق من الكتب السماويّة ، لاستضاءة السبل وإيصال السالك إلى منزل القرب إليه تعالى ، وكذا الأنبياء والأولياء كما مرّ.

وهناك أنوار اخرى ذكرها علماء العرفان ، وهي :

الأوّل : نور الطالبين ، ومن شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة ويظهر نور اليقظة ، والروايات الدالّة على ذلك كثيرة ، وفي الدعاء المأثور : «وهب لي نورا ترفع به ظلمة الجهل عني ، واطلب به رضاك».

الثاني : نور السائرين ، ومن شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار ويظهر به بهجة المعارف والأسرار ، وفي كثير من الدعوات السؤال منه جلّ شأنه بإفاضته علينا ، ويعبّر عنه بنور الإقبال ، ولعلّه المراد من الحديث الوارد عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قيل : يا رسول الله هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله».

الثالث : نور الوصال أو التوجّه ، وبه يحصل الشهود ويشهد القلب مولاه.

وهناك تقسيم آخر ، وهو قريب ممّا ذكرنا ، نور الإسلام ، ونور الإيمان ، ونور الإحسان ، فبالأوّل الانقياد والإذعان ، وبالثاني يكشف ظلمات الشرك الخفي ويظهر بهجة الإخلاص والصدق والوفاء ، وبالثالث تنكشف ظلمة الآنية ويظهر نور وجود المبدأ كما هو ، ولهذه الأنوار مراتب ودرجات.

وعن بعض العرفاء المحققين : أنّه بنور الإسلام الواقعيّ يتحقّق الفناء في الأفعال ، وبنور الإيمان يتحقّق الفناء في الصفات ، وبنور الإحسان يحصل التمكين في الفناء في الذات.

واستغنى بعض منهم عن النور الثالث بذكر الثاني ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّ الفناء في الصفات قريب من الفناء في الذات ، وأنّ الصفات لا تفارق الموصوف ، فمن يرى سمعه بالله تعالى وبصره بالله سبحانه ـ كما في بعض الروايات ـ يرمى وجوده

١١٨

بالله جلّت عظمته ، فمهما تحقّق أحدهما تحقّق الآخر ، ولكن لا على نحو الوجود والموجود حتّى يستلزم المحاذير ، بل على نحو المظهريّة والفناء فيه جلّ شأنه ، ولذيل الكلام بحث نفيس طويل ننتظر الفرصة للتعرّض له إن شاء الربّ جلّت عظمته وأراد.

وأمّا الثاني : فهو يختصّ بالمؤمنين والأولياء والصالحين ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) [سورة التحريم ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [سورة الزمر ، الآية : ٦٩] ، أي : بوجود الأنبياء والأولياء والمؤمنين العالمين في أرض الحساب.

وهناك تقسيم آخر لنوره جلّ شأنه وهو نور الأعظم ، ونور العظيم ، ونور العظمة ، كما ورد في الدعوات المأثورة ، ويحمل ذلك على مراتب تجلياته أو يحمل على ادراكاتنا لتلك الأنوار والله العالم.

إشراق الأنوار :

كما أن للأنوار المحسوسة شروقا وغروبا تدلّ على وجودها وآثارها الخاصّة ، كذلك للأنوار المعنويّة ، فإنّ لها إشراقها على القلوب والنفوس ، ولا بدّ فيها من إزالة الحجب المانعة من الإشراق ، وهي تعلّق القلب بالمادة والماديات وتوطين حبّ الدنيا فيه ، وقد يغرب النور عنه وتخمد الفطرة ، كما عن عليّ عليه‌السلام : «انّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان» ، وأنّ القلوب تقبل على ما يوجب التصفية وتدبر عمّا يمنعه من التخلية والتحلية ، إلّا إذا وصلت إلى مرحلة لا تؤثّر فيها الأنوار مطلقا ، وأظلمت من جميع الجهات ، وحسب التعبير القرآني : القساوة ، أو أشدّ من الحجارة ، أو ران على قلوبهم ، فحينئذ يتمثّل الإنسان في الشرّ ويصير مصداقا للشرور (نستجير بالله تعالى) ، ومع ذلك كلّه فهو قابل للرجوع إلى الفطرة والاستعانة بها لإزالة الخبائث عنه ورفع الحجب ، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

١١٩

لوازم النور :

الأصل في النور الخير ، والفرح ، والسرور ، والطاعة لله جلّت عظمته كما أنّ الظلمة ، يتعقّبها الحجاب ، والشرّ ، والجهل ، والقسوة والضيق والشدّة والبعد عن الله تعالى ، فالخير للنور ، من قبيل لوازم الماهية في الأشياء ، لا يمكن التفكيك بينهما أصلا ، مثل الزوجيّة للأربعة ، وفي المقام لازم الحقيقة ، والظلمة تتعقّبها الصفات السيئة المضادّة للنور وصفاته.

ومرادنا بالأصل ذلك ، لا الأصل المصطلح في علم الأصول وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ذلك في الآيات المناسبة ، كما يأتي أقسام الخير والفرح والسرور أيضا.

منازل النور ودرجاته :

تقدّم أنّ النور الحقيقي الذي لا يمكن تحديده منحصر به تعالى ، وأنّ ما سواه على منازل ودرجات حسب الإشراق منه جلّ شأنه ، فأوّل نور أنزله تعالى عن ذاته الأقدس وأظهره بنور قدرته من العدم ، كان نور نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي الحديث : «أوّل ما خلق الله نوري» ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنت نورا بين يدي ربّي قبل خلق آدم عليه‌السلام بأربعة عشر ألف عام ، وكان يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه ، فلما خلق الله آدم أودع ذلك النور في صلبه» ، وفي الحديث عن ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما خلق الله آدم عليه‌السلام أهبطني في صلبه إلى الأرض وجعلني في صلب نوح في السفينة وقذفني في صلب إبراهيم ثمّ لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتّى أخرجني بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قط».

وأما أنوار الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، فهي أشرقت من نوره عزوجل ، وكانت في العرش كما في بعض الروايات ، ثمّ هبطت إلى عالم الشهادة وبعد ذلك ظهرت

١٢٠