مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

وصالحا ينبئ عن أنّ بعض عقائده يرضى الشارع به ، فيجازيه عزوجل إمّا في هذه الدنيا ، أو في عالم البرزخ ، أو في عالم الخلود ، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ؛ ولقاعدة : «العدل والإنصاف».

وبتعبير آخر : العمل إن كان مصدره عن عقيدة وثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له ، مؤمنا كان العامل أو كافرا ، وأنّ الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء وإن اختلفت كيفيّته.

وأمّا جزاء أعمال المنافق ، فالمستفاد من الآيات الشريفة والسنن المطهّرة أنّ أعماله الحسنة لا تفيده أصلا ـ لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة ـ لأنّها لم تصدر عن عقيدة راسخة ونهج معترف به ، قال تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) ، أي : المنافق لا ينال جزاء المؤمن ولا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة ، فيكون المنافق أسوء حالا من الكافر ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) ، ولم يرد هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة الى الكفّار وإن كان الكافر يرد جهنّم أيضا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) [سورة الإسراء ، الآية : ٨].

وأمّا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) الّذي يستفاد منه التسوية في العذاب ، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه ودرجاته ، فعذاب المنافقين أسوء وأشدّ كما تقدّم في الآية الكريمة السابقة.

إن قلت : مقتضى الآيات المباركة أنّ الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمنا أو كافرا أو منافقا ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٧ ـ ٨] ، خصوصا على القول بأنّ الجزاء والثواب من الآثار الوضعيّة للعمل ، وإن كانت تختلف باختلاف العقيدة.

قلت : المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة وإرادة ـ لا كلّ عمل ـ والمفروض أنّ المنافق لم يكن له عقيدة ؛ لأنّه مذبذب ومزدوج ، فله صورة العمل وهيكله.

٨١

وعلى فرض الإطلاق ، لا أثر لعمل المنافق ؛ لأنّ الجزاء بيده تعالى ، قال عزوجل : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٣] ، وعلى فرض أنّ الجزاء أو الثواب من الآثار الوضعيّة ـ وأنّ الرياء مانع ـ لكن الآثار الوضعيّة من شؤون الإمكان ، وتقدّم في أحد مباحثنا أنّ يد القدرة تنالها أيضا ، هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ صفة النفاق لها مراتب ودرجات ، وإنّ الجزاء في أعماله الصالحة تابع لها حسب الشدّة والضعف أو المراتب والدرجات. وفيه تأمل أيضا والله العالم بالحقائق.

بحث أخلاقي

ذكرنا في أحد مباحثنا الأخلاقيّة أنّ الإنسان يختلف عن غيره من المخلوقات ، إنّه كائن أخلاقي له استعداد فطري بالاتّصاف بمكارم الأخلاق أو بمساويها ، فهو يسعد أو يشقى بمكوّناته الأخلاقيّة ، وذكرنا أنّ نظرية القرآن تختلف عن سائر المذاهب الأخلاقيّة ، فإنّ المهمّ في نظر القرآن الكريم أن يتّصف الإنسان بالتقوى والسعي في تحصيل هذه الملكة الّتي تجتمع فيها جميع الفضائل.

ولا تعير أهميّة لما يقال في هذا المضمار من المذاهب والنظريات ، الّتي تبعد الإنسان عن الواقع والحقيقة أكثر ممّا تلتمس حلا لهذه المشكلة الّتي طالما كتب عنها الفلاسفة والعلماء ، وقد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ

٨٢

أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ، فراجع هذا بالنسبة الى كسب الكمال واكتساب المكارم والتحلّي بالفضائل.

وأمّا ما يتعلّق بما يضاد تلك من مساوئ الأخلاق ورذائلها ، فإنّ القرآن الكريم قد عدّ جملة منها وبيّن آثارها السيئة الّتي تؤثّر في النفس والفرد والمجتمع. إلّا أنّ المستفاد من الآيات الّتي تقدّم تفسيرها أنّ النفاق يجمع كثيرا من الخصال السيئة والأخلاق الرذيلة.

ويمكن القول بأنّ الآيات الشريفة تدلّ على أنّ النفاق والتقوى على طرفي النقيض في مساوئ الأخلاق ومكارمها ، فقد ذكر عزوجل جملة من الصفات السيئة الّتي اتّصف بها المنافقون ، الّتي تعدّ من أمهات الأخلاق السيئة وإليها ترجع سائرها ، وهي :

الاولى : التذبذب في الإيمان ، والترامي في الكفر وانهماكهم فيه لطول انسهم به ، ويعتبر الكفر والشرك من أعظم الرذائل وأخسّها ، قال تعالى حاكيا عن لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [سورة لقمان ، الآية : ١٣] ؛ لأنّ الكفر والشرك خروج عن ناموس الفطرة ، وهدم للقاعدة الّتي يمكن أن يعتمد عليها الإنسان في حياته الأخلاقيّة.

الثانية : موالاة الكافرين الّذين هم أعداء الحقّ ؛ لأنّ فيها الإعراض عن تهذيب النفس بالاعتماد على إنسان تغلّب عليه الشرّ والتماس النفع المادي والمعنوي منه ، وهي مع كونها في نفسها سيئة كبيرة ورذيلة أخلاقية ، تستلزم سلب الثقة عن الله تعالى ، والاستهتار بالقيم الأخلاقيّة ، وتذليل للنفس الّتي جعلها الله أبية ذات عزيمة وإرادة.

الثالثة : الاستهزاء بآيات الله تعالى وتعاليمه المقدّسة ، فإنّه يبعد الإنسان عن منبع الكمال ومصدر الاتقاء. وكيف يمكن لأحد أن يلتمس خيرا من شيء هو يستهزأ به. وفي هذا هدم للإنسانيّة الّتي تبتني على قواعد حكمية واصول قويمة.

الرابعة : المخادعة مع الله تعالى في إظهار الإيمان في مجالس المؤمنين ، وهو

٨٣

يبطن الكفر ، والاستهزاء بآيات الله تعالى وبالمؤمنين. والمخادعة تؤثّر في النفس وتجعلها مشكّكة وتسلب الثقة عنها بالكليّة.

الخامسة : الرياء والكسل في العبادة ، فإنّ من لا يؤمن بالله العظيم ولا يعتقد بآياته الكريمة وتوجيهاته القيمة ، ويطلب المنفعة في جميع أفعاله ، وقد سلب الثقة عن جميع ما حوله ، لا تصدر عنه العبادة ، ولا رغبة له فيها ، بل يأتي بها لأجل تحقق أغراضه وإرضاء نزواته الماديّة.

والكسل في العبادة من آثار سلب التوفيق ، ولم يكن شيء أعظم أثرا على الإنسان من سلب التوفيق ، ولا يمكن أن يشعر به إلّا من تخلّى عن تلك الرذائل.

هذه هي الصفات الّتي عدّها عزوجل من النفاق ، وهي بحقّ أمهات الرذائل ، وتتشعّب كلّ واحدة منها الى صفات اخرى مهلكة ، فيكون النفاق مجمع الرذائل ؛ ولذا كان الجزاء عليه عظيما ، وإن كان يشترك مع الكفر في نار جهنّم إلّا أنّ النفاق في الدرك الأسفل منها ، ويدلّ عليه الشروط الّتي اشترطها عزوجل في التوبة منه ؛ لأنّ النفاق يؤثّر في جميع جوانب الإنسان النفسيّة ، والتربويّة ، والأخلاقيّة ، والعقائديّة ، والفرديّة ، والاجتماعيّة ، فهو الداء العضال الّذي لا يمكن أن يزول بأدنى استغفار كما في سائر المعاصي ؛ لما له من الجذور الّتي يصعب قلعها من النفس ، ويأتي التفصيل في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ للنفاق وجوها مختلفة ، فقد يكون في الاعتقاد ، سواء كان بالنسبة الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يظهر الإيمان بعلمه مثلا وهو يعتقد جهله والعياذ بالله تعالى ونحو ذلك.

أو بالنسبة إلى المؤمنين ، كأن يظهر حسن النيّة والتصرّف معهم ، وهو يعتقد فسقهم وفسادهم ونحو ذلك.

أو يكون في الأعمال ، كأن يصلّي مع المؤمنين وهو يريد الخديعة بهم أو يحضر مجالسهم وهو يريد الإيقاع بهم ، أو يصلّي رياء ، أو ينفق وهو يطلب المنفعة أو الخديعة بالمنفق عليهم. ومن هذا القسم إظهار الطاعة العلانية وعصيان الله

٨٤

تعالى في الخفاء ، وقد حذرنا عزوجل من هذا القسم في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى : (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٤] ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٩].

أو يكون في الصفات والملكات ، كأن يظهر الحلم وهو على خلاف ذلك ، أو يظهر السخاء وهو بخيل ، ونحو ذلك.

أو يكون في الأخلاق ، كما إذا أحسن القول صدقا وعفوا وهو على خلاف ذلك ، وأعظم النفاق ما إذا استولى على جميع مشاعر الإنسان وجوارحه وجوانحه ، والآيات الشريفة المتقدّمة بيّنت هذا القسم وعظيم أثره وتومي الى بقية الوجوه ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فإنّ النفاق في أي وجه كان ربما يكون على دقّة لا يمكن التمييز بين الاعتقاد السليم عن غيره ، وقد ورد في الحديث : «أنّه لا يغرّنكم كثرة صلاة أحدكم وصيامه ، ولكن انظروا الى حسن عقيدته».

ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا ينافي ما ورد من الحكم بإسلام المرء إذا صلّى وصام وعاشر المسلمين ، فإنّ ما ورد في النفاق إنّما هو بينه وبين الله تعالى ، وأنّ الله عزوجل يخدعه لو أراد خديعته تعالى.

وفي الآيات المباركة إيماء بأنّ نفاق الإنسان يظهر على أفعاله وأقواله واعتقاداته ، بعيدا أم قريبا ، مهما اجتهد على اخفائه ، وسيظهر أثر السيء على نفسيته ما لم يتب منه توبة نصوحا ، كما فضّله عزوجل.

٨٥

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

يذكر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الشريفتين أحد توجيهاته ، القيمة الّتي لها الأثر الكبير في توحيد صفوف المؤمنين واتّحاد كلمتهم ، بعد أن حكي لهم عزوجل أحوال أعدائهم من الكافرين والمنافقين الّذين يريدون خديعتهم والإيقاع فيهم ، وإيجاد ثغرات ينفذ منها أعداء الله تعالى ، ففي هذه الآية المباركة يومي عزوجل الى تصفية النفس من الأضغان ونبذ السوء من القول الّذي يؤثّر في النفوس فتوهن العزائم ويضعف التماسك ، فيتخذها الأعداء وسيلة للنفوذ فيهم.

وما ورد في الآية الشريفة حكم تربوي لإصلاح النفوس وتطهيرها من الضغائن والأحقاد ، وقد حذّرهم عزوجل بأنّه يعلم كلّ ما في نفوسهم ولا تخفى عليه خافية ، فلا بدّ من إصلاحها بالعفو حتّى يشملهم عفوه ورحمته.

ولا يخفى ارتباط هاتين الآيتين الكريمتين بما سبق من الآيات الشريفة ، فإنّ هذه السورة تضمّنت كثيرا من التوجيهات التربويّة لإصلاح النفوس وتصفيتها ، وقيما أخلاقيّة لينال المجتمع بها سعادته ، وأحكاما سامية ليحفظ المؤمن مكانته.

التفسير

قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ).

محبّة الله تعالى هي رضاءه وإنعامه بالثواب وتفضّله على عبيده ، وعدم محبّته هو سخطه وعقابه ، وتقدّم ما يتعلّق بها في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ

٨٦

ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٥] ، وذكرنا في ضمن تفسيره بحثا عرفانيا يتعلّق بالحبّ.

ومادة (جهر) تدلّ على الظهور والبروز بوضوح ، وقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من ستة عشر موضعا ، استعملت جميعها في هذا العالم وليس لها حظ في الآخرة ، ومتعلّقها إمّا حاسة البصر ، كما في قوله تعالى حاكيا عن اليهود لموسى عليه‌السلام : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [سورة البقرة ، الآية : ٥٥] ، وقوله تعالى حاكيا عن أهل الكتاب : (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [سورة النساء ، الآية : ١٥٣] ، أو حاسة السمع كما في قوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) [سورة الرعد ، الآية : ١٠] ، وقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [سورة الإسراء ، الآية : ١١٠] ، ولعلّ أشدّها ما ورد في قصة نوح عليه‌السلام ، قال تعالى حاكيا عنه (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) [سورة نوح ، الآية : ٩].

ويستفاد منه أنّ الإعلان خلاف الإسرار ، فيكون الإجهار خلاف الإخفات ، وقد يستعمل خلاف الإسرار أيضا ، ومنه الحديث : «كلّ امتي معافي إلّا المجاهرين» ، وهم الّذين أظهروا المعاصي وكشفوا ما ستر الله عليهم منها.

والسوء : هو كلّ ما يغمّ الإنسان ، سواء كان من الأمور الدنيويّة أم الأخرويّة ، نفسيا كان أو بدنيا خارجيا كان ، مثل فوت مال ، أو شأنيا كفوات جاه أو فقد حميم ، والسوء من القول كلّ ما يسوء المقول فيه فيشمل السبّ ، والقذف ، ثم عمّم «السوء» أو حكمه حتّى يشمل الغمز واللمز والاتّهام بالسيء من الصفات والأعمال ، والبهتان ، وإلصاق العيوب وكلّ ما ليس في الطرف الآخر ، والدعاء عليه ونحو ذلك ممّا يسيئه ، وهو يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأقوام ، فربّ سيء في عصر ومصر أو عند قوم لا يكون كذلك عند غيرهم.

ولعلّ التعبير وعدم ذكر الخصوصية في المقام ، ليشمل الجميع وكلّ ما ينطبق عليه السوء من القول عرفا ، والتقييد بالقول من باب الغالب.

٨٧

ثمّ إنّه تقدّم أنّ عدم محبّته تعالى لأمر يدلّ على مبغوضيته وهو كاف في النهي التشريعي ، سواء أكان تنزيهيا أم إلزاميا ، والأدلّة الخاصّة تبيّن أحدهما والاقتصار عليه من دون ذكر النهي والتحريم فيه ، للإشارة الى أنّ المؤمنين لما تربّوا بالتربية الإلهية ، وتحقّق فيهم شعور خاصّ بالنسبة الى التوجيهات الربوبيّة وإحساس عميق بالالتزام بالتكاليف الشرعيّة ، يكفي لهم في الزجر عن شيء والامتناع عنه أن يقال لهم : «إنّ الله لا يحبّ الجهر بالسوء من القول».

أو لأجل بيان أنّ الامتناع عن الجهر بالسوء من القول ـ وتقييد اللسان بقيد حتّى لا ينفلت منه الكلام بغير حقّ ـ لا بدّ أن ينشأ عن شعور داخلي وضمير حساس متصل بالحي القيوم لكلّ ما يصدر منه قولا وفعلا ، من دون احتياج الى تكليف خارجي ، وإذا تحقّق أيضا إنّما يكون تأكيدا لما في الضمير.

أو لأنّ الحكم في الآية الشريفة موافق للفطرة ؛ لأنّه من أفراد الظلم الّذي هو مبغوض بالفطرة ، ويكفي في أمثال ذلك إثارتها ؛ ومن أهمّ ما يثيرها إعلام الكراهية منه عزوجل وعدم محبّته للسوء من القول ، وإليه يشير ما ورد في كلمات الفقهاء : انّ التكاليف الواردة في الأحكام الفطريّة إنّما تكون إرشاديّة ، لا أن تكون مولويّة.

وإنّما ذكر عزوجل اسم الجلالة ؛ لبيان أنّ التكاليف بجميع أنواعها سواء أكانت مولويّة أم إرشاديّة وإثارة الفطرة ، إنّما تكون من اختصاصه تعالى ، وليس لأحد غيره ذلك.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ).

استثناء منقطع من التحريم ، و (ظلم) مبني للمجهول ، أي : يحرم الجهر بالسوء من القول إلّا من ظلم فإنّه لا بأس له بأن يجهر بالسوء من القول انتصارا ممّن ظلمه ، وإحقاقا للحقّ وإعلانا للواقع.

ويحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا بتقريب : لا يحبّ الله الجهر بالسوء إلّا الصادر ممّن ظلم ، فإذا لوحظ الاستثناء باعتبار الحكم يكون منقطعا ، وإذا لوحظ

٨٨

باعتبار الموضوع يكون متصلا ، وقرئ على البناء للفاعل (أي المعلوم) ، فيكون المعنى :

لا يحبّ الله الجهر بالسوء إلّا الظالم فإنّه يحبّه فيجهر بالسوء ، فيكون الاستثناء حينئذ متصلا ، ولكن ظاهر الآية الشريفة خلافه.

وإنّما ذكر عزوجل (مَنْ ظُلِمَ) لبيان أنّ الجهر بالسوء من مصاديق الظلم ، وهو مبغوض بالفطرة ، وإرشاد الى أنّ المظلوم إنّما يجوز له الانتصار ممّن ظلمه في الجهة الّتي ظلم بها ، ولا يجوز التعدّي عنها.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).

تعليل لما تقدّم ، أي : أنّ الله سميع لأقوالكم ، عليم بنواياكم ، فهو يعلم الظالم منكم والمظلوم.

ويستفاد من هذه الآية المباركة أنّ جواز الجهر بالسوء للمظلوم لم يكن اعتباطيا أو يباح له على الإطلاق ، بل لا بدّ له من التأكيد والتبيين في الأمر ، فإنّ الله سميع للأقوال عليم بأنّه مظلوم أو ظالم ، فلعلّ من يكون يجهر بالسوء في القول ظالما وهو لا يدري ، فيرتكب ما لا يحبّه الله تعالى ، فتكون الآية الشريفة مبيّنة لملاك الحكم.

وفي قوله تعالى التحذير للظالم ليكفّ عن ظلمه ، وللمظلوم حتّى لا يتعدّى عن الحدّ في الانتصار ، وتثبيت الواقع وإحقاق الحقّ.

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ).

توجيه ربوبي لتهذيب النفس والترغيب الى الخير ، ودعوة الى التحلّي بالعفو ، ويظهر لطف هذا التوجيه التربوي الإصلاحي وقوعه بعد إباحة الجهر بالسوء ، وقد تكفّلت الآية المباركة جميع صور الخير بادية وخافية ، فإنّه لا يكتفي بالجهر بالخير وابدائه ، بل لا بدّ من إصلاح النفس والهمس بالخير حتّى تتروض عليه ، فيستولي على جميع مشاعرها.

والخير يشمل كلّ ما ينطبق عليه هذا العنوان المحبّب الى النفوس ، سواء كان

٨٩

قولا أم فعلا أم النية ، فيحسن أن تكون النيات حسنة والنفوس خيرة ، ففي الألفاظ اليسيرة الّتي لها وقع في النفوس المستعدة معان كثيرة ، وقد ذكر القرآن الكريم مصاديق كثيرة للخير ، منها : قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧١].

ومنها : العفو الّذي يذكره عزوجل بعد ذلك : (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ).

ومنها : الإيمان بالله العظيم ، قال تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢١].

ومنها : الصلح والإصلاح في مورد الخصومة والتباعد ، قال تعالى :(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء ، الآية : ١٢٨] ، وقال تعالى : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢٠] ، إلى غير ذلك من الموارد الّتي ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم.

وإنّما ذكر عزوجل إبداء الخير ؛ لما فيه من الترغيب إليه وتشويق الناس له ، كما ذكر الإخفاء فيه لقربه الى الخلوص وبعده عن الرياء ؛ ولأنّ الإخفاء أوقع في النفس وأثبت.

قوله تعالى : (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ).

تخصيص بعد تعميم تنويها لفضله وتنبيها لمنزلته العظيمة في تصفيه النفوس وربط الصفوف ، وبيان لأظهر مصاديق الخير.

والعفو عن السوء هو الستر عليه ، وإطلاقه يشمل العفو في القول بأنّ لا يذكر ظلم ظالمه ، والعفو في الفعل بالصفح عن المسيء وأن لا يواجهه بما يسيئه ، ولا ينتقم منه ، وأعظم منه أن يكافأه بالإحسان ، فإنّ الله يحبّ المحسنين ، كما في قوله

٩٠

تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٥].

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً).

إرشاد الى أنّ العفو من صفات الله تبارك وتعالى ، ولا بدّ للمؤمن أن يتحلّى بصفاته عزوجل الكماليّة ويكون مظهرا من مظاهرها.

والآية الشريفة تبيّن أنّ العفو الّذي بيد المظلوم لا بدّ أن لا يكون من نوع عفو الذليل العاجز الّذي يخنع للظلم ويرضخ لسلطة الظالم ، فإنّ ذلك أمر مرغوب عنه في الإسلام ، بل هو التسامح بعد أن أباح الشارع له أن يقتصّ من الظالم ويجهر له بالسوء من القول ، فيكون من العفو عند المقدرة ، وهذا هو من الصفات الكماليّة له عزوجل.

وإنّما خصّ عزوجل العفو بالذكر مع أنّه يحبّ الخير وهو أيضا من صفاته عزوجل ؛ لأنّ المقام يستدعي التأكيد على العفو بعد الإباحة بالجهر بالسوء للمظلوم ؛ ولأنّ العفو من مصاديق الخير ، فيستدعي أن يكون الثاني أيضا من صفاته ، ففي الكلام تلويح إليه.

٩١

بحوث المقام

بحث دلالي

تتضمّن الآيتان الشريفتان على حكم تربوي إصلاحي له الأثر الكبير في تهذيب النفس ، وتوحيد صفوف المجتمع الإسلامي الّذي طالما تمنّى الأعداء تقويضه باستعمال كلّ الأمور والأساليب في إيجاد ثغرات ينفذون منها في تشتيت كلمتهم ، وكان من أهمّ الأمور الّتي تفتّت عضد المسلمين وتشلّ قواهم وتهدّد كيانهم ، وتقدح الفتنة بينهم ، هي الأقوال السيئة الّتي تؤجّج البغضاء والعصبية ، فإنّ ما يصدر من اللسان هو من أهمّ المؤثّرات في الإنسان ، سواء أكانت ايجابية أم سلبية ، وقد ورد في الحديث : «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم» ، أي : ما يقطعونه من الكلام الّذي لا خير فيه.

والآيتان الشريفتان تعالجان هذا الموضوع من جوانب متعدّدة ، فمن جانب تثبت فيه حكما شرعيا ، وهو التحريم بأسلوب لطيف يجعل المؤمن يشعر شعورا داخليا بأنّ الأمر مكروه وله مخاطر عديدة على النفس والمجتمع ، فقال عزوجل : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) ، ويكفي للمؤمنين هذا الخطاب الربوبي في إثبات إحساس داخلي متّصل بالحي القيوم بالايتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه.

ومن جانب آخر يثبت الموضوع السوء من القول ويعتبره من أفراد الظلم الّذي تشمئزّ منه النفوس وتنفر منه الطباع وتنكره الفطرة ، وتعميمه بحيث يشمل جميع أفراده قولا كالبهتان والشتم والسباب ، أو عملا كالهمز ، وجميع ما يوجب إثارة الشحناء والبغضاء.

وإنّما خصّ عزوجل السيء من الأقوال لعظيم أثرها في النفوس ؛ ولأنّها الوسيلة الوحيدة في تضعيفها ، وانتشار السيء من الأفعال ومنها ينفذ الأعداء ، ثمّ

٩٢

يعالج الفرد الواقع منه في المجتمع بأسلوب تربوي يحدّ من انتشار أمثاله ويقلّل من تأثيره على الإنسان المظلوم ، فأباح له مثل ما ظلم به من سيء القول ، ولم يبح له أكثر من ذلك ، فقال عزوجل : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، وأعطى الضمان عزوجل لهذا الحكم فقال عزّ من قائل : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) ، فإنّ الله تعالى يسمع أقوال الظالمين فيجازيهم عليها ، كما يعلم شكاوي المظلومين وتظلّمهم ، فأباح لهم التظلّم بإظهار ما ظلموا به.

وهذا الحكم وإن لوحظ في الجانب التربوي للتحديد من الظلم إلّا أنّه لم يكن حاسما للموقف ، فحبّب إليهم الخير واعتبره عزوجل هو الأصلح في هذا الموقف الّذي لا بدّ من إزالة الشحناء وتطويق الخلاف ، واعتبره حكما إصلاحيا للنفوس بالترويض على الخير وجعله مستوليا على جميع مشاعرها ، فلا يقتصر على الخير في حالة واحدة ، بل من الأفضل تعميمه لجميع الحالات.

وخصّ من أفراد الخير العفو عن السيء كلّها ؛ لأنّه من صفات الباري عزوجل ؛ ولأنّه يزيل ما أوجب كدر الصفو بين الأفراد ، ويرجع الثقة بينهم ، فتضمّنت هاتان الآيتان حكما تربويا إصلاحيا ، واشتملتا على خلق كريم نبيل هو من أخلاق الله عزوجل ، وقد عرفت في التفسير أنّ هذا الخلق له الأثر العظيم في ما إذا كان عند المقدرة ، دون العفو التابع من الذلّة ، فإنّه ليس بتلك المثابة ولم يعد أن يكون خلقا كريما.

وتعلّق حبّه تعالى بأمر عقلي كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٥] يدلّ على أنّ ذلك لا يختصّ بهذا الدين الحنيف ، وإنّما يعمّ جميع الأديان السماويّة ؛ لأنّ محبّة المحسنين أمر فطري ، وكذا عدم حبّه لشيء تبغضه الفطرة ، فيكون قبح الجهر ممّا لا يختصّ بهذا الدين.

وإنّ قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ) يمكن أن يكون إشارة الى المراتب في العمل ، فمن كان قادرا على الإبداء والجهر بأن صان نفسه عن المهالك ـ

٩٣

كالرياء والعجب والغرور ـ يبدي في العمل ، وإلّا فيخفي حفظا عنها وصونا عن الشوائب والمكائد الشيطانيّة.

بحث روائي

في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال «من أضاف قوما فأساء ضيافتهم ، فهو ممّن ظلم ، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».

أقول : قريب منه ما في الدرّ المنثور ، ومعنى الرواية أنّه لا يجوز التعدّي عن ما لاقاه الضعيف من سوء الضيافة ، فغاية ما يجوز له أن يقول مثلا : (لم يحسن ضيافتي ، أو أساء في ضيافته) ، فإنّ ذلك نوع من الظلم الخلقي ، ومن المعلوم أنّ للظلم أنواعا ، ولكلّ نوع مراتب ، وفي كلّ مرتبة درجات ، والرواية من باب ذكر أحد المصاديق كما هو واضح منها.

وفي تفسير العياشي عن أبي الجارود عن الصادق عليه‌السلام : «(الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) قال : أن يذكر الرجل بما فيه».

أقول : لا بدّ وأن يقيّد بما لم يكن من المستثنيات.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) قال : «لا يحبّ الله أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ولا يظلم ، إلّا من ظلم ، فقد أطلق له أن يعارضه الظلم».

أقول : المراد من ذيل الرواية بما لا يوجب التعدّي عليه أو ينافي الشرع ، وإلّا فلا يجوز كما تقدّم ، وفي بعض الروايات : «انّ الله تعالى جعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل على من تعدّى الحدّ حدّا».

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) إن جاءك

٩٤

رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح ، فلا تقبله منه فكذّبه فقد ظلمك».

أقول : إمّا عدم القبول لعدم الحقيقة ونفي الواقع ، وإمّا تكذيبه لإرشاده الى الواقع ، والمراد من قوله عليه‌السلام : «فقد ظلمك» ؛ لأنّه قال فيك ما ليس فيك ، فإنّه يوجب حبّ الثناء والمحمدة ، ويعتبر ذلك عند علماء الأخلاق أم الفساد وأصل المهلكات ؛ لما يستلزم الغرور وصرف النفس عن نيل الكمال والبعد عن الحقائق والوقوع في المساوئ والضلال ، وذلك ظلم كبير.

وفي المجمع : قال في الآية المباركة : «لا يحبّ الله الشتم في الانتصار ، إلّا من ظلم ، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلم بما يجوز الانتصار في الدين».

أقول : الروايات الدالّة على أنّ الله تبارك وتعالى يبغض القول السيء أو الشتم كثيرة جدا ، إلّا من ظلم بما يجوز في الدين ، فلو حصل التعدّي أو ممّا لا يجوز في الدين ، فلم يرخّصه الشارع.

وفي الدرّ المنثور : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من دعا على من ظلمه فقد انتصر».

أقول : ورد في الروايات المستفيضة أنّ دعاء المظلوم لا يرد ، وأنّها تخرق الحجب السبع. وقد أخذ المظلوم حقّه ممّا يهبه سبحانه وتعالى له ؛ ولذا انتصر.

نعم آثار الاستجابة قد تتأخّر لمصالح لا يمكن دركها في عالم الإمكان إلّا لأخصّ الخواص.

وفي بعض التواريخ يحكى عن ابن السكيت (رضوان الله تعالى عليه) معلم أبناء المتوكّل : جلس معه المتوكّل يوما فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكّل ، فقال له : أيّما أحبّ إليك ابناي ، أم الحسن والحسين عليهما‌السلام؟ فقال ابن السكيت : والله إنّ قنبر خادم علي عليه‌السلام خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل العباسي : سلوا لسانه من قفاه ، ففعلوا فمات ، ومن العجب أنّه أنشد قبل ذلك للمعتزّ والمؤيد.

٩٥

يصاب الفتى من عثرة بلسانه

وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه

وعثرته في الرجل تبرأ على مهل

أقول : لعلّ ابن السكيت (رحمه‌الله تعالى) رأى تكليفه في إظهار الحقيقة والواقع ، وعلم أنّ المتوكّل أراد قتله على أي حال استعمل التقية أو لم يستعملها ، وإلّا كان له الفرار من البلاء بذريعة التقيّة أو بغيرها ولم يتجاهر بعقيدته أو بالواقع ؛ لقاعدة تقديم الأهمّ وهو حفظ النفس المؤمنة على غيره وهو المهمّ ، أو هيّجه حبّه لأهل البيت عليهم‌السلام ، وكيف كان فرضوان الله تعالى عليه.

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآية الشريفة : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) إشارة الى ما تعرض على النفس من الحالات الّتي يتأثّر المؤمن بها ، كالتحدّث مع النفس في الخواص ، سواء أكان ذلك في العقائد أم في العوائد ، ولا فرق في العوائد بين أن تكون نفسيّة باطنية ـ كحبّ الجاه والرياسة ، وطلب الخصوصية ، وحبّ المدح ، وخوف الفقر وغيرها ـ أم ظاهريّة ، مثل كثرة المخاصمة والعتاب وغيرها (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بداعي البشرية غير الاختياريّة كالابتلاء بالاضطرار ، ودفع الحرج وغيرهما ، فما يعرض على قلب المؤمن من الأوهام الّتي يتألّم ويتأثّر بها بلا أثر خارجي لتلك الأوهام ويصير المؤمن مظلوما ، فلا عتاب عليه من المحبوب.

أو (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) بالخطرات الّتي تختلج على قلب أخصّ الخواص ، فإنّها توجب النزول عن سمو مقامهم ـ كما في بعض الروايات ـ لأنّ ما تمرّ على قلوبهم لها دخل في حطّ تقرّبهم لديه جلّ شأنه وإن لم يكن كذلك عند الخواص فضلا عن العوام ، فإنّ «حسنات الأبرار سيئات المتقرّبين» ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [سورة المجادلة ، الآية : ١١](إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بالمنع من التمتع بحضرة قدسه بشهود الجمال بالاشتغال في امور العباد الّتي توجب

٩٦

هدايتهم الى معرفة ربّ الأرباب ، ونجاتهم من المهالك والظلمات.

أو (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) بإفشاء أسرار الربوبيّة وإعلام المواهب الألوهيّة على من لا يليق بالتشرّف لساحة قدسه ، وران على قلبه ، وتاه في الظلمات فعمى عليه معرفة الخير من الشرّ (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بغلبات الأحوال من إظهار شيء من الحجّة والبرهان ، لا بإفشاء الأسرار ورفع الحجب.

وعلى أي حال ، (كانَ اللهُ) في الأزل والأبد (سَمِيعاً) لأقوالكم و (عَلِيماً) بأحوالكم ومقاماتكم. و (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً) ممّا أفاض عليكم من النّعم والحالات وما وهب لكم من المكاشفات بترقّي النفوس الى المقامات ووصولها إلى أعلى الدرجات ، (أَوْ تُخْفُوهُ) حفظا عن الشوائب وصونا عن المكائد (أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) بترك إعلام ما جعل الله إظهاره سوءا ، أو تعفوا بما تدعوكم به النفس الأمارة بالسوء بأن لا تتّبعوها أو تصفحوا عن المسيء كما يصفح عنكم الجليل ، (فَإِنَّ اللهَ) كان في الأزل والأبد رحيما ، وبمقتضى رحمته كان (عَفُوًّا) عنكم لو اتّصفتم بمظاهر أخلاقه جل شأنه ، (قَدِيراً) على كلّ شيء ، فإنّه قادر على أن لا يعفو عن أحد ويذلّ عبده بردّه إلى نفسه وهواه وإيكاله الى نفسه مع الاختيار ويؤاخذه لكفرانه ، فإنّه (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤] ، ولكن رحمته الّتي وسعت كلّ شيء ، ومحبّته لخلقه ورأفته لهم تقتضيان أن يعفو عن الجميع ، فإنّه (يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [سورة الزمر ، الآية : ٥٣] ، ويعفو عن المسيء مهما توغّل في الظلمات وبعد عن ساحة قدس ربّ السماوات.

بحث فقهي

من المعاصي الكبيرة الغيبة ، وهي : أن يذكر خلف إنسان ما هو مستور يغمّه لو سمعه ، فإن كان صدقا سمّي غيبة وإلّا فهو البهتان الّذي هو أشدّ من الغيبة ، بل من الموبقات.

٩٧

ولا فرق في الغيبة بين أن يكون بقصد الانتقاص أو لم يكن كذلك لإطلاق ما يأتي من الأدلّة ، كما لا فرق في العيب المستور بين أن يكون في بدنه ، أو في خلقه ، أو في نسبه ، أو في قوله ، أو في دينه ، أو دنياه. وسواء كان الذكر بالقول أو الكتابة أو بالحكاية بوجود العيب في الشخص المغتاب (بالفتح) ، كالإشارات والتمثيليات ، ففي جميع ذلك تتحقّق الغيبة.

وتدلّ على أنّها أم الرذائل الأخلاقيّة ومن المعاصي الكبيرة الأدلّة الأربعة :

فمن الكتاب قوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [سورة الحجرات ، الآية ١٢]. فشبّه سبحانه وتعالى لما يناله المغتاب (بالكسر) من عرض المغتاب (بالفتح) بأفحش وجه كما هو معلوم. وقال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، أي : الّذي لا يبالي بالغيبة وهتك أعراض الناس. وقال تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) ، فإنّ الجهر بالسوء سواء كان أمام الطرف أو خلفه مبغوض عند الله تعالى ، وإنّ إطلاق السوء فيها كما يشمل الغيبة والبهتان يشمل الكذب ، بل يشمل ترك التقيّة المكلّف بها أيضا ؛ فإنّه سوء للعامل أو الفاعل.

ومن السنّة روايات كثيرة بلغت حدّ التواتر ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه ونقض وضوؤه وجاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة من الجيفة يتأذّى بها أهل الموقف ، وإن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرّمه الله تعالى» ، المحمول في بطلان الصوم ونقض الوضوء على المرتبة النازلة من الكمال ، أو على الاستحباب بالقضاء أو التجديد ، والمراد من الاستحلال عدم المبالاة في ارتكاب الغيبة.

وعن الصادق عليه‌السلام : «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه» ، الى غير ذلك من الروايات المذكورة في كتب الأحاديث.

ومن الإجماع ما هو مسلّم بين المسلمين بجميع مذاهبهم ، بل عدّ حرمتها من الضروريات الدينيّة.

٩٨

ومن العقل حكمه بالقبح ؛ لأنّه نوع من التعدّي على الغائب وظلم عليه ؛ لفرض أنّه يغمّه ويتأذّى لو سمع بذكر ما فيه.

ويعتبر فيها امور :

الأول : وجود سامع بقصد إفهامه ، فلو لم يكن سامع لا تكون غيبة.

الثاني : تعيين المغتاب وتشخيصه ، فلو قال : واحد من أهل البلد سارق ، لا يكون غيبة ، أو قال : أحد أولاد زيد جبان ، لا يكون غيبة ، أو قال : أحد أولاد الجار فاسق ، لا يكون غيبة وإن حرّم من جهة انطباق عنوان الهتك أو الإهانة بالانتقاص.

الثالث : أن لا يكون المغتاب (بالفتح) داخلا في المستثنيات الّتي سنذكرها.

الرابع : أن يكون المغتاب (بالكسر) جامعا لشرائط التكليف ، ولو فقد أحد هذه الشروط انتفى الحكم وإن تحقّق مفهوم الغيبة لغة في بعض الموارد.

وقد استثنى من حرمة الغيبة موارد كثيرة مذكورة في كتب الفقه ، ولكن أهمّها هي :

الأوّل : المتجاهر بالفسق ، فتجوز غيبته في العيب المتجاهر فيه ـ دون العيب المستتر فيه ـ إن قصد من غيبته ارتداعه عن فسقه بعد وصول الخبر إليه أو يحذّر الناس عنه ، فعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» ، فإذا علم أنّه لا يؤثّر فيه ـ كغالب الفساق الّذين انحرفوا عن الصراط المستقيم وران قلوبهم ـ ففي غيبته إشكال من إمكان شمول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [سورة النور ، الآية : ١٩] ، ودعوى سياق الآية الشريفة في غير المورد تحتاج الى دليل ، ومن شمول إطلاق بعض الروايات مثل قوله عليه‌السلام : «من ألقى جلباب الحياء ، فلا غيبة له» إن لم يدع الانصراف عن المورد. نعم تجوز من جهة تحذير الناس في عدم وقوعهم في المهالك.

الثاني : الظالم لغيره ، فيجوز للمظلوم غيبته في ظلمه للانتصار وبلا تعدّي ؛

٩٩

لقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، وإطلاق الآية الكريمة يشمل جميع أنواع الظلم ومراتبها ، إلّا إذا كان الظلم على نحو لا يعتنى به لدى عرف المتشرّعة ولا يحصل منه إيذاء ، فالآية المباركة منصرفة عنه.

ولا فرق في ذلك بين ما كان في مجلس عامّ أو لم يكن فيه ، كما لا فرق في الظلم من أن يطرأ على المغتاب ، أو على من ينتسب إليه ، كما إذا غصب زيد دار عمرو فمات عمرو ، فيجوز لورثته غيبة زيد انتصارا لحقّهم ، وكذا لا فرق بين أن يكون الظالم حيّا أو ميّتا ، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة.

وهل تجوز الغيبة في ما لو وقع الظلم على شخص لا ينتسب الى المغتاب (بالكسر) أصلا إلّا من باب الاخوة الإيمانيّة ولم يرد إليه نفعا؟

مقتضى الأدلّة عدم الجواز إلّا من باب النهي عن المنكر إن توفّرت شرائطه.

الثالث : نصح المستشير لو استشاره شخص في أمر ذي بال كالتزويج ، وشراء عقار ، أو جعل وكيل ، أو اتّخاذ أجير وغيرها ، فيجوز نصحه ولو استلزمت الغيبة ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ابتداء ومن دون الاستشارة أو معها.

وهناك موارد اخرى مذكورة في الكتب الفقهيّة ، كالخوف على الدين ، فيجوز غيبته لئلّا تترتّب عليه مفسدة دينيّة ، أو كجرح الشهود ، وقدح المقالات الباطلة وغيرها ، ومن شاء التفصيل فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

١٠٠