مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

المؤمنين إليكم بأن خذلناهم وألقينا عليهم ما أوجب ضعف قلوبهم والحدّ من صولتهم.

ويمكن أن يكون المراد : ألم نكن سببا في غلبتكم على المؤمنين ونمنعهم منكم بتخذيلهم. والمعنيان متقاربان.

وكيف كان ، فقد عبّر عزوجل عن ظفر المؤمنين بالفتح ، وفي الكافرين بالنصيب ؛ اهتماما بشأن المؤمنين وتعظيما لما أصابوه من الفتح وإهانة للكافرين وتحقيرا لحظّهم ، وبشارة للمؤمنين بأنّه سيكون لهم الفتح على الكافرين ، وأنّه وعد منه عزوجل لهم ، وإن كان في البين ظفر للكافرين عليهم فإنّه لم يكن فتحا بل مجرّد استيلاء لم يكن دائميا سيزول وينطفئ ضياؤهم ، فإنّه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، فيهدم كيانهم ويبطل معالمهم ، ولعلّ قوله تعالى في المقام إشارة الى ما سيأتي من قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، والمراد من الآية الشريفة نفي الجعل الإلهي كما في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٢] ، فلا تنافي ثبوت الولاية موقتا ؛ لأنّها حاصلة من بعض أعمال المؤمنين وبعدهم عن الحقائق والواقعيات.

قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

الخطاب يشمل كلتا الطائفتين تغليبا أو على الحذف ، أي : بينكم وبينهم.

والمعنى : أنّ الله تعالى يفصل بين المؤمنين والمنافقين والكافرين يوم القيامة الّذي هو يوم الفصل بين المحبّين الموالين لله تعالى ، وبين المنافقين المعادين له عزوجل ؛ فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه ، وإنّما خصّ التفصيل والحكم بينهم بالآخرة ؛ لأنّ المنافقين في الدنيا قد حقنت دماؤهم بالإسلام ظاهرا ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإذا قالوا ـ أي كلمة لا إله إلّا الله ـ فقد عصموني دماءهم وأموالهم».

٤١

قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي لا تقبل التغيير والتبديل ، وهي أنّ السبيل للمؤمنين ولن ينعكس أبدا ، وتتضمّن الوعد منه عزوجل لهم الغلبة والنصر على الكافرين ، وتأييس للمنافقين بأنّ الغلبة للمؤمنين فلا ينفعهم موالاة الكافرين. ومن القرائن الحافّة بهذه الآية الشريفة يستفاد أنّ السبيل المنفي يشمل جميع أنحائه من الظاهري ـ وهو الغلبة والنصر ، والاستيلاء ـ والمعنوي وهو الحجّة والبرهان ، فإنّ قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) إشارة الى القسم الأوّل ، وقوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إشارة الى القسم الثاني ، فإن كان للكافرين غلبة وقوّة في الحال ولكن للمؤمنين الغلبة والنصر في المآل كما وعد عزوجل قال تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٩].

وأمّا الغلبة في الحجّة والبرهان فلا ريب فيها من أحد ، وتخصيص الآية الشريفة بأحد القسمين : الظاهري ـ بأن لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تامّا بالاستئصال كما حكى عن السدي ـ أو المعنوي ، كما قلنا.

كما أنّ الإشكال بأنّ الغلبة الظاهريّة للكافرين قد تحقّقت في كثير من الأعصار ، فلا تشمل الآية الكريمة السبيل الظاهري.

غير صحيح ؛ لأنّ ذلك مؤقت ، وذلك لا يضرّ بعد وعد الله تعالى بالنصر للمؤمنين وما حصل للكافرين من الغلبة ، لا لأجل كونهم على الحقّ ، بل لإصرارهم على الباطل والاعتماد على تلك الأسباب الماديّة وعملهم بها بدقّة وإحكام ، بخلاف المسلمين الّذين أهملوا هذا الجانب ، كما أنّهم أعرضوا عن كثير من تعاليم الإسلام ، وقد وعد الله لهم بالنصر إن كانوا مؤمنين وعاملين بالأحكام الإلهيّة. وتدلّ عليه آيات كثيرة ونصوص مستفيضة ، منها ما تقدّم من قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٣٩] ، أي مؤمنين إيمانا صحيحا يدعو الى العمل بما اعتقدتموه.

٤٢

وقد استدلّ الفقهاء بهذه الآية الشريفة في عدّة مواضع من الفقه لنفي السبيل عن المؤمنين ، وجعلوها قاعدة فقهيّة ، وهي : «نفي السبيل للكافرين على المؤمنين» ، واستدلّوا عليها بقول نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» ، فتختصّ الآية المباركة بالشرعيات عموما ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بالقاعدة في مواضع من كتابنا «مهذب الأحكام» ، وسيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام عنها.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ).

صفة أخرى من صفات المنافقين ، وهي خداع الرسول والمؤمنين بإخفاء الحقيقة.

والمخادعة : هي شدّة الخديعة والإكثار منها ، وهي تمويه الحقيقة وإبهامها وإظهار خلاف ما يخفيه. وتقدّم اشتقاق الكلمة في سورة البقرة الآية ـ ٩.

ومخادعة الله هي مخادعة الرسول والمؤمنين تعظيما لشأنهم ، تنبيها على فظاعة فعل المنافقين وشناعته لكونه مبغوضا عنده جلّ شأنه ، وأنّ المعاملة مع الرسول معاملة مع الله تعالى ، قال عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠].

ومخادعة الله تعالى إنّما تتحقّق بالاستهزاء بدينه والغشّ في تعاليمه المقدّسة ، فإنّهم يظهرون الإيمان بذلك كلّه ويبطنون الإعراض عنها ومخالفتها وتكذيبها ويتقرّبون الى الرسول والمؤمنين كيدا بهم ، ولأجل تكرار ذلك منهم أو حصول الخداع منهم في كلّ واحد من تلك الأحكام الإلهيّة والتعاليم الربوبيّة ، والاستهانة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين صارت مخادعة منهم.

قوله تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ).

أي : والحال أنّ الله تعالى هو خادعهم ، أي يجازيهم على خداعهم ، وإنّما عبّر سبحانه وتعالى عن فعله بالخداع مشاكلة ، وهي نوع من أنواع البديع كما في قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٥٤] ،

٤٣

والسبب في ذلك أنّ الخديعة والمكر إنّما يستعملان في الشرور والمعاني المذمومة غالبا ، وقد عبّر عنها في فعله عزوجل وسنّته في خلقه فيهم مخادعة ؛ لأنّهم أوقعوا أنفسهم في ما يضلّون به أنفسهم وينتهي بهم الى العقاب والنكال.

أو المراد أنّ الله تعالى هو مخادعهم في تركهم معصومي الدماء ولم يمنعهم ولم يعجّل على أعمالهم الشنيعة ، فكان ذلك خدعة منه عزوجل لهم كما أرادوا خديعته تعالى ، وقد تقدّم ما يتعلّق بذلك في سورة البقرة فراجع.

و (خادع) اسم فاعل من الثلاثي ، ومثل هذا الوزن يدلّ على الغلبة والمغالبة ، أي أنّ الله تعالى يغلبهم في آخر المطاف مهما توغّلوا في الخديعة ، فيجعل وبال خداعهم عليهم لا لهم.

قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى).

كسالى [بضم الكاف] جمع كسلان ، وقرئ [بفتحها] بمعنى المتثاقل عمّا ينبغي النشاط فيه ، أو الفتور في مورد القوّة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ليس في الإكسال إلّا الطهور» ، أي : جماع الرجل زوجته ثمّ يدركه فتور فلم ينزل ، وفي كتاب العين : «كسل الفحل إذا فتر عن الضّراب».

والآية المباركة تشير إلى صفة اخرى من صفات المنافقين ، وهي تدلّ على أنّ قيامهم ببعض الشعائر تثاقلا كالمكره على الفعل ليراءوا الناس أنّهم من أهل الإيمان ، فإنّ مجرّد دعواهم أنّهم منهم لا تكفي في مجتمع المؤمنين الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلا بدّ من قيامهم ببعض الشعائر لا عن عقيدة بها ، بل لأجل إراءة أنفسهم الى الناس أنّهم من المؤمنين خديعة وتغريرا بالمؤمنين ، ولو لا ذلك لما أمكنهم الوقيعة بهم وإعمال كيدهم فيهم.

قوله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ).

أي : أنّ قيامهم بالصلاة إنّما هو لأجل أن يراهم الناس المؤمنين حتّى يعدوهم منهم فيتمكّنوا من إعمال كيدهم فيهم.

٤٤

والمراءاة مشاركة في الرؤية ، أي يكون المرء في مشهد من الناس بحيث يراه الناس وهو يراهم قصدا منه رؤية الناس لأعماله فيحسبونه من المؤمنين.

والرياء : من الصفات الذميمة المهلكة ـ إلّا إذا أذن الشارع فيها كما في بعض التوصليات ـ ويكفي في قبحها أنّها من صفات المنافقين ، وهي إظهار الجميل ليراه الناس لا عقيدة به ولا لاتباع أمر الله تعالى فيه ، وهي من الشرك الخفي كما نطقت به جملة من الأخبار.

والآية الشريفة تنبّه المؤمنين الى أمر مهم ، وهو أنّ مجرّد القيام ببعض شعائر التعبّد خاليا عن كلّ إخلاص وغرض نبيل إلّا مراءاة الناس ، لا يعطي للقائم بها صفة الإيمان ، بل المحكّ الحقيقي في الإيمان ـ ما ذكرناه مرارا ـ هو التسليم لله وطاعته عزوجل والرضا بشريعته ، قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [سورة النساء ، الآية : ٦٥] ، فإذا تحقّق المحكّ فيهم فهم مؤمنون ، وإن تحقّق خلافه فهم منافقون حتّى لو تظاهروا بالإسلام وقاموا ببعض الشعائر التعبديّة ، بل أدوا جميعها ، فإنّها إنّما تدلّ على الإيمان إذا كانت دالّة على الرضا والتسليم ، وهذا لا ينافي ما ورد في جملة من الأخبار من الاكتفاء بظاهر الإسلام والشهادة له بالإيمان إذا غشى المساجد وأدّى الفرائض ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ، فاشهدوا له بالإيمان» ، فإنّ الاعتياد على دخول المساجد يكشف عن صدق إيمانه وكون ما يصدر عنه عن رضا وتسليم وتحاكم الى شريعة الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

وصف آخر من أوصاف المنافقين ، وهو عدم ذكر الله تعالى إلّا قليلا في مجالس المؤمنين ومجتمعهم ؛ لتعمية أحوالهم عليهم كما عرفت آنفا.

وإنّما اعتبر عزوجل ذكرهم له قليلا ، لعدم التقوى فيهم باشتغال قلوبهم بالنفاق ومراءاة الناس والخديعة بالمؤمنين والمكر بهم ، وكلّ عمل بلا تقوى يكون

٤٥

قليلا مهما عظم ، فعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لا يقلّ عمل مع تقوى ، كيف يقلّ ما يتقبّل؟!» ، فلم يكن لهم توجّه إليه عزوجل أبدا ، فإنّ من أحبّ شيئا خلب مشاعره ، فإذا كان عملهم لله تعالى حبّا وطاعة له ، فإنّه يستولي على قلبهم وجميع جوانحهم وجوارحهم ، فيكونون ذاكرين لله تعالى حاضرين لديه مراقبين لنفسه.

وممّا ذكرنا تعرف أنّ المراد بالذكر هو الأعمّ من الباطني القلبي والذكر اللساني ، فالمنافقون اقتصروا على القليل منه ولم يقبل منهم ذكرهم هذا ؛ لعدم التقوى فيهم كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ).

صفة اخرى من صفات المنافقين ، وهي التردّد في الإيمان والكفر ، فلم يستقرّوا على أحدهما فلا هم مؤمنون حقيقة ولا كافرون محضا ، وإنّما كانوا كذلك لتردّدهم بين مجتمع المؤمنين والصلاة معهم رياء ، وبين موالاة الكافرين ومجالستهم ، ويدلّ على ذلك كلمة «بين» كما حكى عنهم عزوجل في الآيات المباركة السابقة ، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا. هذا بالنسبة الى حالتهم النفسيّة المتردّدة المشكّكة.

وأمّا عند الله فهم كافرون كما يدلّ عليه الطبع على الكفر في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٣] وغيره من الآيات الشريفة.

ومادّة (ذبذب) تدلّ على الحركة والاضطراب ، قال النابغة :

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

ومنه حكاية صوت الحركه للشيء المعلّق ، ومنه أيضا المهتز المعلّق الّذي لا يثبت ولا يتمهّل ، والذال الثانية أصيلة عند الجمهور خلافا لبعض الكوفيين ، حيث جعلوها مبدّلة من «باء». وقرأ ابن عباس : (مذبذبين) بكسر الذال الثانية ، وهذا الوصف يدلّ على عدم حصول اليقين عندهم وفقدان الثقة في نفوسهم. وهذه الحالات تحصل للإنسان إذا اقتصر على الماديات بجحود الحقّ ، وترك ما وراءها ، وجعل همّه في الدنيا هو الاقتناء على وسائل العيش المادي والسعي وراء متاع

٤٦

الدنيا والإعراض عن تكميل النفس بالكمالات والتخلّق بمكارم الأخلاق ، والسبب في ذلك هو حبّ الدنيا الّذي يعدّ رأس كلّ خطيئة ، كما في الحديث.

قوله تعالى : (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ).

بيان للآية السابقة ، أي : لا ينتسبون الى المؤمنين ليعدّوا منهم حقيقة ، ولا الى الكفّار ليعدّوا منهم بالكليّة ، وإنّما يميلون مع كلّ ريح ويطلبون النفع في انحيازهم الى الطائفتين.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً).

تعليل لما سبق ، أي من لم يوفقه الله تعالى فهو ضال لم يهتد الى سبيل ؛ لأنّهم اتّصفوا بتلك الصفات المهلكة الموبقة ، فلم يهيئوا أنفسهم لنيل الفيوضات الربوبيّة والوصول الى المقامات الكريمة ، ولم يستعدّوا للتوفيق ولم يصلحوا للهداية ، فأضلّهم الله عن السبيل ، فلا سبيل لهم ليوصلهم الى الحقّ والكمال.

والخطاب في الآية الشريفة عامّ يشمل الجميع ؛ ليكون رادعا لهم عن سلوك السبل حتّى تؤدّي بهم الى الهلاك وإعراض الله تعالى عنهم وسلب التوفيق عنهم.

وقيل : إنّ المراد من السبيل هو المذهب والدين الحقّ ، وهو يرجع الى الأوّل أيضا ، فإنّ المتديّن بالحقّ قد اكتسب واقتنى أهمّ الكمالات الواقعيّة والعواقب الحميدة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

خطاب للمؤمنين بعد بيان صفات المنافقين وما أوجب إضلال أنفسهم وعدم اهتدائهم سبيلا يفضي بهم الى الحقّ.

والآية الشريفة تحذّر المؤمنين عن أهمّ ما يوجب ضعف إيمانهم والدخول في زمرة المنافقين ، وتعظهم بعدم التقرّب الى ما يوجب سخط الله تعالى ، وإشارة الى أهمّ تلك الموبقات ، ألا وهي ولاية الكافرين الّتي هي صنيع المنافقين ، وإلّا كانوا مثلهم ، وتؤكّد الآية الكريمة النهي السابق عن موالاة الكافرين الّتي هي حبّهم

٤٧

والاعتماد عليهم وطلب المعونة منهم ، فتكون الولاية المنهي عنها هي نفس الولاية المأمور بها للمؤمنين من دون فرق ، فإنّ الله تعالى يأمرنا بولاية المؤمنين ، وهي حبّهم والدخول في زمرتهم والاعتماد عليهم وطلب المعونة منهم ونصرتهم ، وهذه هي الّتي نهى المؤمنين أن يتّخذوها مع الكافرين.

ولعلّ السرّ في التأكيد على هذا الأمر أنّ ولاية الكافرين تستلزم كلّ تلك الصفات الذميمة الّتي اتّصف بها المنافقون ، فأوجبت إضلال أنفسهم وتحيّرهم وعدم اهتدائهم السبيل الّذي تنجيهم من الشقاء والهلاك ، وأنّ فيها محو أثر الإسلام واطفاء نور الإيمان في القلوب ، وتضعيف الروح المعنويّة في النفوس المؤمنة بالآخرة والمنقطعة إليه عزوجل ، وهدم كيان المجتمع النبيل عن شريعة الله تعالى وتعاليمه المقدّسة والدخول في سخطه عزوجل.

قوله تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً).

تأكيد للنهي السابق وتهويل أمر ولاية الكافرين وبيان عظيم أثرها في نفوس المؤمنين كما عرفت. والسلطان هو الحجّة والبرهان ، وهو ممّا يجوز فيه التذكير ـ باعتبار البرهان ـ والتأنيث باعتبار الحجّة. والمبين : الواضح.

والمعنى : أتريدون أن يكون لله تعالى عليكم حجّة ظاهرة واضحة في استحقاقكم للعذاب إذا اتّخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين ؛ لأنّ ولاية الكافرين دليل النفاق والاستهزاء بأحكام الله تعالى ودين الحقّ ، وهذه حجّة.

والآية المباركة تشير الى أمرين :

أحدهما : أنّ الله تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين ، وهذه حجّة.

الثاني : أنّ موالاة الكافرين أوضح دليل على النفاق ، وهذه حجّة ثانية ، وكلتا الحجّتين قد ذكرهما عزوجل في الآيات السابقة ، وإحديهما تكفي في استحقاق العذاب.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

الدرك ـ بسكون الراء وفتحها ـ هي الطبقة ، وسمّي بها لأنّها طبقات متتابعة

٤٨

متداركة بعضها فوق بعض كالدرج ، إلّا أنّ الأخير يقال باعتبار الصعود والدرك باعتبار الهبوط ؛ ولذا كانت للجنّة درجات وللنّار دركات ، وفي حديث الدعاء : «أعوذ بك من درك الشّقاء» ، والجمع أدراك ـ وهي منازل في النار ـ وقيل أدرك كفلس وأفلس.

وتدلّ الآية المباركة على وجود طبقات ومنازل للنار ، وهي سبع : تسمّى الاولى جهنم ، والثانية لظى ، والثالثة الحطمة ، والرابعة السعير ، والخامسة سقر ، والسادسة الجحيم ، والسابعة الهاوية ، وقد تسمّى جميعها باسم الطبقة الاولى كما يسمّى بعض الطبقات باسم الطبقة الاخرى ، ولفظ النار يجمعها أعاذنا الله تعالى بلطفه ورأفته وجميع المؤمنين برحمته وكرمه منها بحقّ محمّد وآله الأطهار

وإنّما استحقّ المنافقون الدرك الأسفل ؛ لأنّهم شرّ أهلها ، وقد جمعوا بين الكفر والنفاق واتّصفوا بصفات موبقة ومهلكة أفسدت عليهم فطرتهم ، وجعلت أنفسهم أخسّ الأنفس وأرداها فاستحقّوا بها هذه الطبقة من النار كما حكي عنهم عزوجل في الآيات السابقة ، فإنّ واحدة منها تكفي في استحقاق النار ، وتدلّ الآية الشريفة على تناسب الجزاء مع العمل.

قوله تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً).

إرشاد الى استيلاء النفاق على جميع مشاعرهم وتنبيه الى أنّ النفاق يوجب انقطاع العصمة بينهم وبين كلّ شفيع ونصير يخرجهم من النّار أو يخفف من عذابها.

ويمكن أن تكون الآية الشريفة بيانا لقوله عزوجل : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) في الدنيا والآخرة فالنصير من السبيل الّذي نفاه عزوجل عنهم ، فإنّ الله تعالى لم يوفقهم في الدنيا للهداية وكسب المكارم ولم يجعل لهم نصيرا ينصرهم من عذاب الله عزوجل.

قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا).

استثناء عمّا سبق ذكره في النفاق والمنافقين والوعيد الّذي ذكره عزوجل فيهم. وقد اشترط تعالى للرجوع عن النفاق شروطا ثقيلة لم تذكر في غيره من

٤٩

المعاصي والآثام ، فإنّ في بعضها تكفي التوبة الجامعة للشرائط والإنابة الى الله تعالى ، وفي بعضها التوبة والإصلاح ، وفي بعضها الاعتصام بالله تعالى والإخلاص في الدين. ولا يكفي واحدا منهما للرجوع عن النفاق والدخول في جماعة المؤمنين ونيل جزاءهم ، وهذا يدلّ على أنّ النفاق أسوء بكثير من المعاصي وسائر الصفات الرذيلة والملكات السيئة ، بل الكفر الصريح الّذي اكتفى فيه عزوجل بالإيمان والعمل الصالح ، قال عزوجل : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [سورة التوبة ، الآية : ١١] ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّ الكافر مستقيم الفطرة لكنّه على قاعدة منحرفة ، فإذا أزال المانع ورجع الى الدين الحقّ اكتفي منه بالإيمان والالتزام بلوازمه ، بخلاف النفاق الّذي له منبت عميق في القلب وجذور متشعّبة في النفس ، ممّا يوجب اختلال الفطرة المستقيمة ، فيتكون للمنافق تركيبة سيئة مضطربة لم تقم على قاعدة وهي في غاية السوء ، بخلاف بقية المعاصي ؛ لأنّ في جميعها لم تضطرب الفطرة ، ولأجل ذلك النفاق احتاج الى إصلاح كثير وجهاد مرير مع النفس يرجع المنافق الى رشده ويصلح نفسه حتّى يستقيم طبعه ، فلم تكن هذه الشروط لتهويل الأمر وبيان فظاعة النفاق وشدّة أثره في النفس والفطرة فحسب ؛ لأنّ لكلّ شرط أثرا مختصّا به في الإصلاح والتربية ، فأوّل تلك الشروط هو التوبة بالرجوع الى الله تعالى والعزم على ترك النفاق ، والندم على ما صدر منه.

وهذا الشرط هو القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها التوبة عن جميع الذنوب والآثام ، وتقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بها ، وذكرنا أنّ التوبة بالمعنى المعروف الّذي سبق ذكره ممّا له الأثر النفسي والتربوي في المذنبين النادمين والعازمين على ترك المعاودة مع التدارك بما أمكنه من الأعمال الحسنة كما مرّ.

قوله تعالى : (وَأَصْلَحُوا).

وهو الشرط الثاني ، أي الإصلاح الّذي يقترن بالتربية وترويض النفس وقهرها على العمل بأحكام الله تعالى ، فإنّ النفاق أفسد النيات والأحوال

٥٠

والأعمال ، وهذا الشرط له الأثر في تأسيس قاعدة قويمة محكمة يمكن أن يعتمد عليها المنافق فيخرج عن التذبذب والاضطراب.

قوله تعالى : (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ).

هذا هو الشرط الثالث ، وهو التمسّك بحبله المتين واتباع تعاليم الرسول الكريم ، فإنّه السبيل الّذي عيّنه سبحانه وتعالى لمن يريد أن يدخل في جماعة المؤمنين ويسلك مسلكهم ، وغيره هو سبل الشيطان الّتي يتفرّق بكم عن سبيله عزوجل. وهذا يفضي الى الدخول في جماعه المؤمنين وهدايته ، قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [سورة النساء ، الآية : ١٧٥] ، وقد عرفت آنفا أنّ الله تعالى قطع عن المنافق فيضه فجعله ضالا لا يهتدي سبيلا.

والاعتصام بالله عزوجل يجعل له استعدادا للفيض بعد ما أفسده النفاق ، وبهذا الشرط وسابقه تستقيم العقيدة ويحصل الجزم في النيّة ويزول الشكّ والتردّد.

قوله تعالى : (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ).

هذا هو الشرط الرابع ، وهو الإخلاص لله تعالى ونبذ الشرك والرياء والتواني في طاعته ، وبهذا الشرط تستقيم الفطرة بعد ما أفسدها النفاق ، ويجعل نفسية المنافق نفسية صادقة مطمئنة مستقيمه ليس لها منبت سوء ، فإذا تحقّقت جميع تلك الشروط واستقامت الفطرة وتحقّقت القاعدة الحكيمة المبنية على تعاليم الله عزوجل ودينه الحقّ وثبت الإخلاص خرج عن النفاق ودخل في جماعة المؤمنين ونال الثواب الجزيل الّذي وعده سبحانه وتعالى لهم.

وهذه الصفات هي صفات المؤمنين المخلصين الّذين تمحّضوا في الإيمان ، وقد وردت في الآيات الكريمة الّتي ذكر فيها صفات المؤمنين المخلصين ، وقد تقدّم بعضها.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

أي : أولئك التائبون الّذين رجعوا عن النفاق وأصلحوا أنفسهم بعد ما

٥١

أفسدوها مع المؤمنين في الدارين ويعدون من عدادهم ؛ لأنّ المنافقين قد أفسدوا فطرتهم فلم يمكنهم الرجوع بمجرّد التوبة بالشروط المذكورة ، بل يحتاج الى جهاد وتحمّل مشقّة في ترويض النفس على الإيمان حتّى تستقرّ في قلوبهم تلك الأوصاف ؛ ولذا كانوا في ابتداء الأمر مع المؤمنين الى أن يوفّقهم الله تعالى بالدخول فيهم فيكونوا منهم حقيقة.

قوله تعالى : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً).

أي : وسوف يعطي الله المؤمنين جميعا ـ من تقدّم منه النفاق ثمّ تاب ، ومن لم يتقدّم منه النفاق ـ أجرا عظيما لا يعلم كنهه وقدره إلّا الله تعالى ، فيساهم التائبون المؤمنين في ذلك الأجر.

قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ).

تأكيد للوعد السابق للمنافقين بأنّهم إن تابوا فإنّ الله تعالى لن يعذبهم ؛ لأنّه ما يفعل بعذابهم إن شكروا وآمنوا ، وتطمين لقلوب المؤمنين جميعا بأنّ الله تبارك وتعالى لا يحبّ عذاب أحد ، وإعلام لجميع الناس بأنّ الله غني لا يعذب أحدا من دون استحقاق له ، وأنّ عذابه لم يكن انتقاما ولا تشفيا من الغيظ ليخمد ثورة الغضب الكامن في قلبه كما هو شأن الإنسان حين ما يغضب ، كما لا يكون عذابه لدفع ضرر ولا لجلب منفعة ، فهو الغني المتعال عن جميع ذلك.

وفي التعبير ايحاء عجيب ، وكمال العطف بخلقه ، ويستفاد من هذا الأسلوب البديع الّذي اشتمل الاستفهام فيه (ما) على النفي على الموجب عن العذاب بنفي الفعل ، وهو أسلوب بلاغي فصيح ، فما يفعل الله تعالى بعذاب أحد لأنّه لم يكن فيه موجب لعقابه تعالى ، فلم يحبّ أن يعذب أحدا من غير استحقاق منه ، بل يعاقب المسيء المصرّ على الإساءة ؛ لأنّه يكشف عن فساد نيّته وسوء سريرته ، فإذا زال ذلك بالشكر والإيمان ونقّى نفسه وطهّرها بالتوبة ، تخلّص من تبعات الكفر والآثام ، فكان في مأمن من العذاب كما وعد عزوجل.

٥٢

قوله تعالى : (إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).

بيان بأنّ العذاب وجودا وعدما إنّما هو يرجع الى كفرهم ، أو شكرهم وإيمانهم ، فلا موجب لعذابكم إن شكرتم الله تعالى على ما أنعم عليكم من الفواضل والفضائل وآمنتم به وعملتم بشرائعه وتعاليمه المقدّسة.

وقد ذكر المفسّرون في وجه تقديم الشكر على الإيمان وجوها :

منها : أنّ الشكر يستدعي معرفة النعمة ، وهي تقتضي معرفة المنعم ثم الإيمان به.

ومنها : أنّ الشكر طريق موصل الى الإيمان ، بل هو أولى درجاته.

ومنها : أنّ الكلام مبني على تقديم المؤخّر ، أي : آمنتم وشكرتم. وقيل غير ذلك ، ولا يخفى ما في بعضها من المناقشة والخروج عن الذوق البلاغي.

والحقّ أن يقال : إنّ الآية المباركة تشير الى معنى أدق مما ذكروه ، وهو أنّ الشكر من شؤون العبوديّة الّتي خلق الله تعالى الجن والإنس لأجلها ، قال عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥] ، والعبوديّة جوهرة تتضمّن جميع الحقوق على المخلوق اتّجاه خالقه ، والشكر لله عنوان العبوديّة ومن أهمّ أماراتها ؛ لأنّه يوجب صرف جميع ما أنعم الله تعالى على العبد في ما خلق لأجله ، وبه يستعد الإنسان لنيل الفيض من خالقه المنعم عليه ، فهو من أوثق الروابط بين المنعم والمنعم عليه ؛ ولذا ورد التأكيد على الشكر في عدّة مواضع من القرآن الكريم حتى عدّوه من الحقوق الّتي تدعو الفطرة بمراعاتها وأدائها ؛ لأنّه يستدعي معرفة النعمة والمنعم.

والكفر يعني الخروج عن ناموس الفطرة وقطع تلك الرابطة وتحدّي ناموس الكون ، وهو يعني الخروج عن شريعة الله تعالى واتّخاذ المذاهب والشرائع الّتي هي من صنع البشر ، وهذا يعني حدوث الفساد في الأرض.

ودفعا لذلك لا بدّ من الشكر ومراعاة النعمة وأداء حقّ الخالق المنعم بها علينا ، ثم يستتبع الإيمان عن قاعدة رصينة واعتقاد جازم ، ولعلّ الإتيان به في

٥٣

المقام مع الإيمان بالله تعالى لدفع العذاب ، ولأجل إزالة الشكوك في النفس والتذبذب في الاعتقاد الّذي كان عليه المنافقون ، وفيه التأكيد على مراعاة المنهج الّذي وضعه عزوجل لمن يريد الرجوع عن النفاق والتوبة منه لشدّة أثره في النفس والقلب والعقيدة.

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً).

أي : أنّ الله تعالى يرضى عن الشاكرين ويثيبهم على شكرهم ، عليم بجميع الأمور الجزئيّة والكليّة ، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، ويعلم الصادق في إيمانه والراجع عن نفاقه فيثيبه ، ويعلم الكاذب فيجزيه على كفره.

و (الشكور) من أسمائه المقدّسة ، ويراد منه الجزاء الكثير والعطاء المتواصل على القليل من الطاعات ، وفي الدعاء : «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير».

٥٤

بحوث المقام

بحث أدبي

اختلف النحويون في مثل قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) فذهب الجمهور الى أنّ الخبر في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلّق اللام ، والتقدير : ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم ، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.

وذهب غيرهم الى أنّ اللام زائدة والخبر هو الفعل.

وقد أشكل عليه بأنّ انتصاب ما بعدها إن كان باللام فليست زائدة ، وإن كان ب (ان) فإنّه يستلزم الإخبار بالمصدر عن الذات وهو فاسد.

وأجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من العمل مع الزيادة ، كما في حروف الجر الزائدة.

كما أجيب عن الثاني بأنّه لا مانع من الإخبار بالمصدر عن الذات.

وأشكل عليه بما هو مذكور في المطولات ، فراجعها.

و (أن) في قوله تعالى : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن مقدّر ، وذكر بعضهم أنّ المقدّر ضمير المخاطبين ، أي (انكم).

وأشكل عليه بأنّ (ان) المخفّفة لا تعمل في غير ضمير الشأن.

وأجيب عنه بأنّه يجوز ولو لم تكن ضرورة والتفصيل مذكور في محلّه.

و (إذا) في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ملغاة ؛ لأنّ شرط عملها الّذي هو النصب في الفعل أن تكون مصدرة و (مثل) خبر عن ضمير الجمع ، ويستوي فيه الواحد المذكر وغيره ؛ لأنّه كالمصدر الّذي يقع على القليل والكثير ، وفي المقام قد أضيف الى ضمير الجمع فيدلّ على العموم ، وقد يطابق ما قبله في الجمع والإفراد

٥٥

كقوله تعالى (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ، ويكتسب البناء إذا أضيف الى المبني ، سواء كان (ما) كقوله تعالى : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [سورة الذاريات ، الآية : ٢٣] أم غيرها. واشترط بعض النحويين في اكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع ـ كدون ، وغير ، وبين. ولم يصحّ ذلك في (مثل) فراجع المطولات.

وجامع في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) بالتنوين حذف تخفيفا لأنّه بمعنى : (نجمع).

وذكر بعضهم أنّ المراد بالقلّة في قوله تعالى : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) العدم.

واستشكل عليه توجيه الاستثناء ، وأجيب بأنّ المعنى يرجع الى (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ملحقا بالعدم ، ولكن جعل القلّة بمعنى العدم مجاز يحتاج الى عناية ، إلّا على طريقة قولهم :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

قوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ) إمّا حال من فاعل (يُراؤُنَ) ، أو من فاعل (يَذْكُرُونَ) ، أو يكون منصوبا على الذمّ بفعل مقدّر.

و (يؤت) في قوله تعالى : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) حذفت الياء منه في اللفظ كما حذفت في الخط لسكونها وسكون اللام الّتي بعدها ، ومثله حذف الياء في قوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) ، وقوله تعالى : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ، وقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ، فإنّها حذفت لالتقاء الساكنين.

بحث دلالى

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) على كمال الاختيار في الإنسان والحرية في الاعتقاد ؛ لأنّ التقلّب في

٥٦

الإيمان والكفر ينافي الجبر عليها والالتزام بأحدهما ، ويدلّ عليه أيضا امور يستفاد من الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها.

منها : أنّه لو كان مجبورا لما اختلف في الإيمان والكفر ، ولم يكن متردّدا بينهما ، ثم الازدياد في الكفر ، والتوغّل في الطغيان ، فإنّ ذلك ينافي الجبر كما هو واضح.

إن قلت : إنّ الجبر قد يتعلّق بذات التردّد أيضا ، كما يتعلّق بالإيمان أو الكفر.

قلت : على فرض كون الجبر يتعلّق بالتردّد أيضا وكان له وجه معقول ، ولكن الازدياد والطغيان الحاصلان من العبد في كلّ من الإيمان والكفر ينافي الجبر ولا يتعلّق بهما ، فإنّ كلا منهما من فعل العبد واختياره.

ومنها : أنّ الجزاء الّذي ترتّب على الكفر والارتداد عظيم جدا ؛ لعظمة الذنب الّذي اقترفوه ، وهو عدم الغفران وعدم اهتدائهم السبيل والعذاب الأليم ، وهو يدلّ على اختيارهم ، إذ لا وجه للجزاء على فعل يكون الإنسان مجبورا على إتيانه.

كما يدلّ على نفي التفويض أيضا ، فإنّه غير معقول أن يفوض الله تعالى الأفعال الى العباد ، ولم يهدهم سبيلا للرشاد ، ولم يوفقهم الى خيرهم وسعادتهم ويبعدهم عن رحمته.

ومنها : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) فإنّ الاتّخاذ نصّ على الاختيار مادّة وهيئة كما هو واضح ، إذا لا جبر في البين ؛ لأنّ الاتّخاذ فعل العبد ، فيدلّ على الاختيار ، كما في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ) [سورة المائدة ، الآية : ٥٧] ، وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) [سورة التوبة ، الآية : ٣١] ، وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) [سورة النساء ، الآية : ١٥٣] ، بخلاف (أخذ) فإنّه أعمّ كما في قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [سورة الذاريات ، الآية : ٤٤] ، وقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [سورة المؤمنون ، الآية : ٤١].

وقد استعمل القرآن هذه الهيئة (اتخذ) في التردّد والعصيان غالبا ، بخلاف الأخذ كما عرفت.

٥٧

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) فإنّ إثبات المثليّة بين طائفتين في الإيمان والكفر لا تحصل إلّا في ظرف الاختيار ، ولا يمكن أن تتحقّق بين طائفتين مجبورتين على الإيمان والكفر ؛ لأنّه لا يمكن أن يخرج المجبور عن ما اجبر عليه.

إن قلت : إنّ الذمّ قد يتعلّق لصفة غير اختياريّة ، كما يقال مثلا : الحنظل مرّ.

قلت : إطلاق الذمّ على أمر غير اختياري شيء والعقاب عليه شيء آخر ، وانّه يتعلّق بأمر مختار ، فبالاختيار يأكل الحنظل ويترتّب عليه آثاره الوضعيّة ، وكذا في الكفر وهكذا ، وللكلام تفصيل موكول الى محلّه.

ومنها : قوله تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) فإنّه يدلّ على أن من أراد الكفر فقد اختار إلزام نفسه بالحجّة ، وأراد لنفسه العقاب ، ولا وجه لثبوت الحجّة على أمر هو مجبور على فعله أو مفوض إليه ، كما هو واضح.

ومنها : قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) فإنّه يدلّ بوضوح على نفي الجبر والتفويض ، إذ العذاب وجودا وعدما معلّق على اختيار الإيمان والكفر.

ومجموع الآيات الشريفة تدلّ على النظرية الّتي أسّسها الأئمة الهداة عليهم‌السلام في أفعال الإنسان ، وهي نظرية الأمر بين الأمرين ، فإنّ قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) يدلّ على أنّ الهداية والتوفيق من الله تعالى ، فلا بدّ منهما في كلّ فعل من الأفعال ، فمن يختار الإيمان والطاعة إنّما يكون بتوفيق منه عزوجل ، ومن كفر وأعرض عن الطاعة فقد سلب منه التوفيق ، ومن المعلوم أنّ التوفيق لم يكن العلّة التامّة في تحقّق أحدهما ، وإلّا كان مناقضا للأدلّة المتقدّمة الدالّة على نفي الجبر وثبوت الاختيار.

إن قلت : إنّ التوفيق والهداية من الله تعالى وإن لم تكونا العلّة التامّة ، ولكنهما جزء العلّة ، والمعلول ينتفي بانتفاء أحد أجزاء العلّة.

قلت : نعم إنّ التوفيق جزء العلّة ، ولكن الجزء الآخر هو اختيار الإنسان ،

٥٨

فالتوفيق له أثر كما أنّ لبقية الأمور من الزمان والمكان لها الأثر في تحقّق المعلول. وقد تقدّم في أحد مباحثنا ما يتعلّق بالمقام فراجع.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) على أنّ التقلّب في الكفر يوجب الطغيان على الله تعالى والتمرّد على تعاليمه. فإنّ من أنس بالكفر وطبع قلبه عليه وتمرّن على الردّة وكان الإيمان والطاعة عنده أهون شيء ، كيف يمكن أن يكون مؤهّلا للمغفرة ومهيئا للهداية؟! وهو يوجب فساد الفطرة وانتشار الفساد وتغلّب الشرّ ، وفي ذلك ضياع للإنسانيّة.

ولا تختصّ تلك بالتقلّب في الإيمان والكفر والارتداد ، بل الإصرار على ارتكاب المعاصي والآثام والتطبّع عليها والتقلّب فيها توجيها أيضا. ألا ترى أنّ ما أصاب الإنسانيّة الحاضرة من الجاهليّة البغيضة ليست إلّا نتيجة ارتكاب المعاصي والخروج عن طاعة الله تعالى ، وهو ممّا حذّرنا الله تعالى عنه بأحسن بيان وأبلغ أسلوب ، ويكفي لوصول الإنسان الى المرتبة الدانية الّتي يعبّر عنها عزوجل ب (أَسْفَلَ سافِلِينَ) [سورة التين ، الآية : ٥] عدم تأثير تلك المواعظ البليغة في تلك القلوب الّتي طبعت على التمرّد والأقسى من الحجارة ، وقد أثّرت في القلوب الّتي كانت في عصر النزول مع ما عليها من الانحطاط والتخلّف والبعد عن الحقّ والواقع ، فما أبعد ما بين الجاهليتين ، وما أشدّ الثانية وأقساها ، فقد أنست الإنسان نفسه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة الحشر ، الآية : ١٨ ـ ١٩] ، ولا يمكن أن يتصوّر أمر أشدّ خطرا على أحد أن ينسى نفسه ولا يدري أنّه إنسان شرّفه الله تعالى على سائر خلقه ، وهو من المهلكات ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أنّ

٥٩

التوفيق والهداية لا بدّ منهما في حياة الإنسان المادّية والمعنويّة ، ولا يمكن بدونها أن يصل الى الكمال ، بل ولا يستعدّ للاستكمال. وفي الدعاء المأثور : «ربّنا لا تكلنا الى أنفسنا ، فإنّك إن وكّلتنا الى أنفسنا تباعدنا من الخير وتقرّبنا الى الشرّ».

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) جواز إطلاق الإيمان على الإيمان غير المستقرّ ، كما يدلّ أيضا على أنّ للايمان مراتب ، وكذا الكفر.

الخامس : يستفاد من الآيات المباركة العلل الّتي توجب النفاق ، وهي عديدة ، ومنها راجعة الى نفسيّة المنافق ، كالتذبذب في الاعتقاد ، وعدم اليقين بآثاره الحسنة الّتي تقع في النفس ، ومن هذا القسم الرياء أيضا. فإنّه يرجع الى عدم الاعتماد على الله تبارك وتعالى لانتفاء الثقة به عزوجل.

ومنها : راجعة الى العمل ، كالكسل في العبادة وابتغاء المنفعة في جميع الأفعال.

ومنها : راجعة الى فساد النيّة ، وهي الخديعة ، وعمدتها الاستهزاء بالله وآياته وتعاليمه المقدّسة ، واتّخاذ الكافرين أولياء بالقعود معهم وإلقاء المودّة إليهم ، وابتغاء العزّة عندهم بالإعراض عن المؤمنين وطريقهم إلّا في ما يثبتون نفاقهم به.

والآيات الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تبيّن الجوانب المتعدّدة في صفة النفاق ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) أنّ القعود مع أهل الكبائر والجلوس مع أرباب المعاصي ، يستلزم الانخراط فيهم والاشتراك معهم في المعصية ، وانطباع آثارها عليهم ، ولو لم يكن من آثارها إلّا سلب التوفيق لكفى في الابتعاد عنهم ، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) عند تعداد ما يوجب سلب التوفيق قال عليه‌السلام : «أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني ، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خليتني ، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني».

٦٠