مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

الفرقان ، الآية : ٢٣] ، والروايات الدالّة على ذلك كثيرة ، والدليل العقلي يدلّ على ذلك أيضا ؛ لأنّ العمل لم يضف إليه عزوجل ، وكان قصد العامل منه طلب الماديّة والأجر الدنيوي ، فلا معنى للجزاء الاخروي ، إذا المقتضي للثواب لم يكن موجودا.

الثاني : أن تكون الأعمال اخرويّة ، كالصلاة والصوم والحجّ ، ولكن لم يقصد عاملها وجه الله تعالى ، كما في الأعمال الريائيّة ـ نستجير بالله عزوجل منها ـ فحكمه حكم القسم الأوّل بعين ما تقدّم من الأدلّة ، ففي الحديث : «انّه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له : بم كان اشتغالك؟ يقول : بقراءة القرآن ، فيقال له : قد كنت تقرأ ليقال لك قارئ وقد قيل ذلك ، فما لك منّا أجر».

الثالث : أن تكون أعمالا صالحة وبإزائها سيئات ، فهذا القسم هو محلّ البحث ، فعن جمع بالحبط وعن آخرين بالتكفير ، قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود ، الآية : ١١٤] ، وقال تعالى في وصف التائبين من الأعمال السيئة : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [سورة الفرقان ، الآية : ٧٠] ، والثاني هو الأقرب الى رحمته وغفرانه ، كما ذهبت الإماميّة الى ذلك.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ بعض المعاصي المتوغّلة في البعد عنه جلّت عظمته ـ كالشرك وجحود الإيمان ـ يوجب الحبط إن لم تتعقّبه التوبة ويتدارك بالأعمال الصالحة.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قول الله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) قال : «من آمن ثمّ أطاع أهل الشرك ، فقد حبط عمله وكفر بالإيمان».

أقول : لا بدّ وأن تكون الإطاعة عن عقيدة ، وإلّا فلا توجب الحبط كالإطاعة عن كره وتقيّة.

وفي تفسير العياشي عن هارون بن خارجة ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)؟ قال فقال : من ذلك ما اشتقّ فيه».

٣٨١

أقول : لعلّ المراد أنّ المكلّف باختياره أحبط عمله وأوقع نفسه في المشقّة ، والله العالم بالحقائق.

بحث فقهي

يستفاد من الآيات المباركة قواعد فقهيّة بيّنتها السنّة الشريفة ، كما يستفاد منها أحكام خاصّة نقدّم بعضها في البحث الروائي ، أمّا القواعد فهي :

القاعدة الاولى : «حلّية الطيّبات مطلقا إلّا ما خرج بالدليل» ، سواء أكانت من الأطعمة أم من الأشربة أم من النكاح أم غيرها ممّا يشمّ أو يستنشق حتّى القول الطيب ، قال تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [سورة الحج ، الآية : ٢٤]. وإن شئت عبّرت : «كلّ طيب حلال إلّا ما أخرجه الشارع بالدليل» ، والبحث عنها من جهات :

الاولى : في فقه القاعدة ومعنى الطيّبات فيها ، فنقول : المراد من الطيب مقابل الخبيث ، وهو في اللغة : كلّ ما تستلذّ به النفس مطلقا ولم يكن فيه أذى لها أو للبدن. وإن شئت عبّرت : «كلّ ما ترغب إليها النفوس المستقيمة» ، فيمكن أن يقال : إنّ ما حرّمه الشارع لا تستلذّ به النفس للتأنيب المستتر في الضمير البشري عند ارتكاب المحارم ، أو به أذى لنفس أو للبدن ؛ لأنّ المحرّمات تابعة للمفاسد وتترتّب العقوبات عليها مطلقا ، فلا ترغب إليها النفوس ، فتكون خبيثة من هذه الجهة.

ودعوى : أنّ النهي ، ووعيد العذاب من الشرع ، والعلم كلّ منهما كيف يوجب الاتّصاف بالخباثة ؛ لأنّ الموضوع مؤخّر عن حكمه بمراتب ثلاثة.

غير صحيحة ؛ لأنّ ما ذكرنا لا ينافي ذلك ، وأنّه من قبيل الكشف ، وأنّ الخباثة الشرعيّة تجتمع مع الخباثة الفطريّة ، والاولى توجب التأنيب ، والثانية توجب الضرر. فتأمّل.

٣٨٢

إن قلت : إنّ في ارتكاب كثير من المعاصي تستلذّ النفس ، وتخمد فوران الشهوة الكامنة ولا أقلّ تستجاب الغرائز الجنسيّة ، وهذا المقدار من الزمان ولو كان قليلا يكفي في أن يكون العمل طيّبا وإن كان قد حرّمه الشارع.

قلت : ارتكاب المعاصي الّتي تستلذّ بها النفس على قسمين :

الأوّل : أنّ النفس تعلم بما يترتّب عليه من المفاسد في المستقبل ، ومع ذلك أنّها تقدّم على اللذّة الوقتيّة ، ففي الحقيقة أنّها لا تستلذّ حتّى حين ارتكاب المعصية لو تفطن وتذكر العواقب السيئة ، كمن يقتل شخصا لإخماد غضبه ويعلم بالعواقب الّتي ترد عليه من التأنيب في الضمير والقوانين الشرعيّة أو الوضعيّة ، فحينئذ لم تستلذ النفس وعلى فرضه لم تكن مستقيمة.

الثاني : لا يعلم بالعواقب ، فتارة معذور شرعا في جهله ، واخرى ليس بمعذور ، والأوّل يكون الاستلذاذ مؤقتا وشخصيّا مع قطع النظر عمّا يترتّب عليه من الأحكام الوضعيّة وحرمان النيل الى بعض المقامات ، والثاني مضافا الى أنّها ليست مستقيمة لا يكون ذلك في الواقع استلذاذ مع ما يرد عليها من العواقب السيئة.

الثانية : في الأدلّة الّتي استدلّوا بها على القاعدة ، فمن الكتاب : قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وإطلاقه يشمل جميع أنواع الطيّبات وأقسامها ـ كما تقدّم ـ وإن كان الغالب فيها الأكل والشرب والنكاح.

وقال تعالى في أوصاف نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٥٧] ، فمقتضى الآية الشريفة حلّية كلّ ما ترغب إليها النفوس السليمة مطلقا ، إلّا ما خرج بالدليل المعتبر الشرعي ، كما في شرب بعض المتنجّسات مثلا.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٦٨] ، والأمر فيه للإباحة والأكل من باب الغالب كما مرّ.

٣٨٣

ومن السنّة : روايات كثيرة مختلفة التعابير ، كقول الصادق عليه‌السلام في الصحيح : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ، وفي الحديث : «اتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بغراب فسمّاه فاسقا ، فقال : والله ما هو من الطيّبات» ، وقد ورد : «انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه رجل من الأعراب يفتيه ما الّذي يحلّ له والّذي يحرم عليه في ماله ونسكه وماشيته وعنزه وفرعه من نتاج إبله وغنمه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : احلّ لك الطيّبات وحرّم عليك الخبائث» ، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة من الفقه.

ومن الإجماع : ما ادّعاه غير واحد من أساطين الفقه ، بل عدّ ذلك من ضروريات الدين.

ومن العقل : حكمه البتّي بأنّ الله تبارك وتعالى العالم بالمصالح والخفيّات إذا حرّم شيئا كان فيه مفسدة ، فلا يكون من الطيّب ، وما سوى المحرمات تستلذّه النفس وترغب إليه ، فيكون حلالا طيّبا.

الثالث : في مدى شمول القاعدة ، فإن قلنا : إنّ الخبائث هي المحرّمات الشرعيّة فقط ، فالقاعدة باقية على عمومها ولم ينلها يد التخصيص إلّا بطرو عناوين خارجيّة الّتي تغيّر الحكم.

وأمّا إن قلنا : إنّ الخبائث أعمّ من المحرّمات الشرعيّة ، فالخبيث والطيّب يكونان من الأمور النسبيّة الإضافيّة ، يختلفان باختلاف الأزمنة والأمكنة وسائر الجهات ، كما هو مفصّل في الفقه ، ومن شاء فليراجع كتاب الأطعمة والأشربة من (مهذب الأحكام).

الرابعة : أنّه تبارك وتعالى ذكر مصداقا للطيّبات ، وهو لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم إذا استجمع فيه الشروط الآتية ، كما ذكر سبحانه وتعالى مصاديق للخبائث من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما اهلّ لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، بل كلّ ما يضرّ الإنسان ضررا معتدا به ، فهو من الخبائث ومحرّم كما ذكر مفصّلا في الفقه.

القاعدة الثانية : قاعدة : «كلّ صيد قتله جوارح الطير والسباع يحرم أكله إلّا

٣٨٤

ما خرج بالدليل» ، ولم يخرج عنها إلّا قسم خاصّ من الكلب فقط ، وهو المعلّم من الكلاب مع شروط خاصّة فيه كما ياتي.

بل يمكن أن يقال : إنّ تعليم الحيوان ـ بحيث يكون تحت اختيار الإنسان وإرادته ـ يخرجه عن السبعيّة نوعا ما ، ويكون الاستثناء فيه موضوعيّا لا حكميّا ، وعلى أي حال أنّ عنوان السبعيّة المأخوذة في القاعدة من باب الغالب ـ لا التخصيص ـ وإلّا فلو فرضنا أنّ حيوانا مألوفا أو مأنوسا أخذ صيدا وقتله يحرم أيضا لعدم توفّر شروط التذكية فيه ، مثل ما لو صادت القطة حيوانا وقتلته أو الشاة أو البقرة كذلك.

والبحث فيها من جهات :

الاولى : في الأدلّة الّتي استندت القاعدة عليها.

فمن الكتاب : قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ، فهذه الشروط احترازيّة للحكم الّذي هو الحلّية كما هو الظاهر من الآية الشريفة ، وتدلّ عليها روايات كثيرة ، فإذا لم تكن أحد هذه الشروط انتفى الحكم ، لقاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه المسلّمة عند العقلاء ، فإذا لم يكن كلبا لا يجوز أكل صيده ، أو كان كلبا ولكن لم يكن معلّما فكذلك ، وكذا إذا لم يمسكه الحيوان ، أو لم يذكر اسم الله تعالى عليه عند إرساله ، كلّ ذلك يحرم أكل صيده ولا يحلّ.

ومن السنّة : روايات مستفيضة ، منها ما عن الصادق عليه‌السلام في معتبرة الحضرمي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صيد البزاة والصقور والفهد والكلب؟ فقال : لا تأكل صيد شيء من هذه إلّا ما ذكيتموه ، إلّا الكلب المكلّب» ، وفي صحيح زرارة عن الصادق عليه‌السلام : «وأمّا خلاف الكلب ممّا تصيد الفهود والصقور وأشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلّا ما أدركت ذكاته ؛ لأنّ الله عزوجل قال : (مُكَلِّبِينَ) ، فما كان خلاف الكلاب فليس صيده بالّذي يؤكل إلّا أن تدرك ذكاته».

وأمّا رواية زكريا بن آدم قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الكلب

٣٨٥

والفهد يرسلان فيقتل ، فقال عليه‌السلام : هما ممّا قال الله : (مُكَلِّبِينَ) ، فلا بأس بأكله» ، ومثلها غيرها محمولة على ما إذا أدرك حياته فذكي ، وإلّا فيردّ علمها إلى أهله ، لمعارضتها بما هو أقوى ، وموافقتها للتقيّة.

ومن الإجماع : ما ادّعاه غير واحد ، بل عدّ ذلك من ضروريات المذهب.

ولأصالة عدم التذكية المعتمد عليها في اللحوم ، وقد ثبت حجّيتها في الفقه والأصول ، وتقدّم البحث عنها هنا موجزا.

الثانية : لا فرق فيما قتله جوارح الطير والسباع بين أن تكون معلّمة أو غير معلّمة ، فيحرم مطلقا إلّا أن يدرك حياته فيذكى ، كما لا فرق بين أن يكون معها كلب معلّم أو لم يكن ؛ لأصالة عدم التذكية ؛ ولمعتبرة أبي عبيدة الحذاء عن الصادق عليه‌السلام : «وإن وجد معه كلبا غير معلّم فلا يأكل منه» ، هذا إذا لم تكن قرينة خارجية توجب الاطمئنان على أنّ كلب المعلّم قتله ، وإلّا فهي المتّبعة كما تقدّم.

الثالثة : يعتبر في الكلب للصيد الخارج عن القاعدة المتقدّمة امور :

الأوّل : أن يكون معلّما للاصطياد لما تقدّم من الكتاب والسنّة والإجماع ، ولأصالة عدم التذكية ، وعن الصادق عليه‌السلام : «وإذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم الله عليه ، فهو ذكاته» ، وقريب منه غيره.

وعلامة اتّصاف الكلب به أن يكون الحيوان منقادا في الإرسال والزجر وضبط الصيد لو أرسله صاحبه وأغراه ـ إلّا إذا كان مانع في البين ـ وأن ينزجر ويقف عن الذهاب والهياج إذا زجره صاحبه ، فيكون تحت اختيار الإنسان لو لم يكن مانع ولا يتخلّف إلّا نادرا ؛ لجملة من الأخبار المذكورة في الفقه ، وللإجماع بين المسلمين.

الثاني : أن يمسك الصيد لصاحبه ولا يأكل منه شيئا ؛ لقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، ولكنّ الظاهر أنّ الإمساك أعمّ من ذلك ، فلا يصير دليلا للمقام ، وبقول الصادق عليه‌السلام في موثق سماعة : «فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكل منه» ، وقريب منه غيره.

٣٨٦

وهناك : روايات اخرى دالّة على الجواز ـ تعارض الروايات المتقدّمة ـ ولذا كان هذا الشرط موضع الخلاف بين الفقهاء. ولا يبعد الترجيح للطائفة الثانية من الأخبار ، كقول الصادق عليه‌السلام في صحيح الحلبي : «وأمّا ما قتله الكلب وقد ذكرت اسم الله عليه ، فكل منه وإن أكل منه» ، وفي بعض الروايات : «وإن أكل منه ثلثيه» ، وطريق الجمع بين الطائفتين حمل الطائفة الاولى على التنزيه والكراهة بقرينة الطائفة الثانية ، وهذا هو الحمل الشائع في الفقه ، أو حمل الطائفة الاولى على عدم تحقّق التعليم ، إلّا أنّ ما ذهب إليه المشهور من اعتبار عدم أكله هو الأحوط كما هو محرّر في الفقه.

الثالث : أن يرسل للاصطياد مطلقا على سبيل الجنس ، فلو استرسل بنفسه من دون إرسال لم يحل مقتوله ، ويمكن استفادة اعتبار هذا الشرط من قوله تعالى : (مُكَلِّبِينَ) ، وقوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَ) ، وفي الحديث قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن كلب أفلت ولم يرسله صاحبه فصاد ، فأدركه صاحبه وقد قتله ، أيأكل منه؟ فقال عليه‌السلام : لا».

ثمّ إنّه يشترط في حلّية صيد الكلب امور :

الأوّل : أن يكون المرسل مسلما أو بحكمه كالصبي ، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه ، أو من كان بحكمه كالنواصب لم يحل أكل ما قلته بالضرورة المذهبيّة ، وإن الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها إلّا ما خرج بالدليل على الخروج.

الثاني : أن يسمّي عند الإرسال ، فلو ترك التسمية عمدا لا يحلّ مقتوله ؛ للآية المباركة : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ؛ ولقول الصادق عليه‌السلام : «من أرسل كلبه ولم يسم فلا يأكله» ، ولا يضرّ لو ترك التسمية نسيانا أو شكّ فيها ؛ لقول الصادق عليه‌السلام : «فإن كنت ناسيا فكل منه» ، وكذا رواية أبان بن عثمان : «لا أدري سمّيت أم لم أسم ، فقال عليه‌السلام : كل لا بأس».

وظاهر الآية الشريفة أنّه لا يشترط أن تكون التسمية حين الإرسال ، بل تكفي ولو حصلت بعده الى حين عضّة الكلب ، وتدلّ عليه بعض الروايات أيضا.

٣٨٧

وهنا فروع اخرى تعرّضنا لها في الفقه من شاء فليراجع كتاب الصيد من (مهذب الأحكام).

الثالث : أن يكون موت الحيوان مستندا الى جرح الكلب المعلّم وعقره ، فلو كان بسبب صدمة أو خنقة أو اتعابه في العدو أو ذهاب مرارته من جهة شدّة خوفه ، لم يحل لظاهر النصوص ؛ وللإجماع ؛ وللأصل ، ولو شكّ في أنّ الموت مستند الى الكلب أو غيره ولم تكن في البين قرينة معتبرة تدلّ على أنّه مستند الى الكلب ، لا يحلّ أكله ؛ لأصالة عدم التذكية بعد عدم إحراز سببها.

الرابع : عدم إدراك صاحب الكلب الصيد حيّا مع تمكّنه من تذكيته ، فلو أدركه حيّا وجبت التذكية ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، كما تدلّ عليه روايات منها قول الصادق عليه‌السلام في المعتبر : «فإن أدركه قبل قتله ذكّاه» ، والمناط إدراك صاحب الكلب الصيد ، فلو أدركه شخص آخر فإن أخذه من الكلب حيّا يجب عليه الذبح الشرعي ، فلو لم يذبح حتّى مات ضمن لصاحبه ؛ لأنّه أتلف مال الغير ، وإن لم يأخذه منه وكان في إمساكه حتّى مات ثمّ وصل صاحبه تحقّقت التذكية ، وهناك فروع اخرى من أراد الإطلاع عليها فليراجع الفقه.

وذهب بعض الفقهاء الى طهارة موضع العضّة من الكلب ؛ لقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، الدالّ على حلّية الأكل مطلقا.

ولكنه مردود : لعدم كون الآية المباركة في مقام البيان من هذه الجهة ، فالعمومات الدالّة على أنّ وضع ملاقاة العضّة مع نجس العين نجس محكمة.

القاعدة الثالثة : «الطعام كلّه حلّ إلّا ما خرج بالدليل» ، والمراد من الطعام الأعمّ من الحبوب والفواكه والألبان والمعادن ـ كالملح وغيره ـ بلا فرق بين أن يكون الطعام من صنائع أهل الكتاب كبعض الحلويات مثلا ، أو لم يكن كذلك كالتمر والجوز واللوز وغيرها ، سواء أكان من الكفّار أم من غيرهم ، والمراد من الحلّ الأكل وغيره من الاستعمالات.

٣٨٨

ومستند هذه القاعدة الأدلّة التالية ، فمن الكتاب قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) وغيره كما يأتي.

ومن السنّة روايات كثيرة تقدّم بعضها ، وفي معتبرة هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) قال : العدس والحبوب وأشباه ذلك ، يعني أهل الكتاب».

ومن الإجماع ما هو متسالم عند المسلمين إلّا في الذبائح ، فقد ذهبت الإماميّة الى الحرمة لأدلّة وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام.

ويمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك بأنّ ذلك يوجب المودّة بين أصناف الناس ، ورفع الحزازة ، وتقريب الواقع ، وإظهار الحقّ وإراءته كما هو.

والمراد من الحلّية نفي الحرج واليأس ومتعلّقها الأعمّ من الأكل والبيع والشراء وغيرهما من المعاملات ؛ للأصل بعد عدم ورود نهي أو دليل على التحديد من الشرع.

ثمّ إنّه قد خرج عن هذه القاعدة موارد :

الأوّل : ما إذا طرأ على ذلك عنوان خارجي آخر ، كالإعانة على الإثم ، وتقوية الباطل ، وإهانة المؤمن أو تحقيره ، أو ظنّ السوء بالدين ، أو الضرر وما الى غير ذلك ، فحينئذ لا تجري القاعدة ، وفي جميع ذلك محكوم بالحرمة ؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة مقدّمة عليها ، كما ثبت ذلك في الأصول ، كما أنّها لا تجري فيما لو وجب بطرو عناوين اخرى كإنقاذ حقّ ، وحفظ مؤمن ، أو استلزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها ، ففي جميع ذلك يجب ؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة محكمة على القاعدة.

الثاني : اللحوم والشحوم والجلود وجميع أجزاء الحيوان لو ذبحه كافر ـ مشركا كان أو كتابيّا ـ ومن بحكمه كالنواصب والغلاة ؛ للأدلّة الدالّة على عدم حلّية ذبائحهم ، كقول الصادق عليه‌السلام الوارد في ذبيحة اليهودي : «لا تأكل من ذبيحته ولا تشتر منه» ، ومعتبرة إسماعيل بن جابر : «لا تأكل من ذبائح اليهود والنصارى

٣٨٩

ولا تأكل من آنيتهم» ؛ ولأصالة عدم التذكية ، وما دلّ على الخلاف إمّا محمول على التقية ، أو قاصر سندا ومعارض بما هو أرجح منه ، فلا بدّ من ردّ علمه الى أهله كما ذكرنا في الذباحة من كتاب (مهذب الأحكام).

نعم ، لا يعتبر في تذكية السمك عند إخراجه من الماء الإسلام ، فلو أخرجه كافر أو أخذه فمات بعد أخذه حلّ ، سواء كان كتابيّا أم غيره ؛ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «إنّما صيد الحيتان أخذها» ، ولكن لو وجده في يد الكافر ميتا لم يحل أكله لأصالة عدم التذكية ، إلّا إذا علم أنّه قد مات خارج الماء أو أخذه بعد موته في خارج الماء ، ولا يحرز ذلك بكونه في يده ، ولا بقوله لو أخبر به ، بخلاف يد المسلم ، فإنّه يحكم بحلّيته حتّى يعلم الخلاف.

الثالث : ما ثبت حرمة أكله أو شربه عندنا كالحشيش ، والخمر ، والدم والميتة ، والمتنجّسات مطلقا ، أو ما يستثني من الذبيحة كالنخاع وحدقة العين على ما سبق مفصّلا ، ففي هذه الموارد لا مجرى للقاعدة أصلا.

ثمّ إنّه في الأطعمة المصنوعة إن كان الطعام مائعا ولاقى يد الكافر يتنجّس ويدخل في المتنجّسات ، فلا يجوز شربه أو أكله ، ولكن يجوز بيعه وسائر استعمالاته ، إلّا أن يشترط فيه الطهارة ، وإن لم يكن مائعا فقاعدة : «كلّ يابس ذكي» جارية ، فيحلّ شربه وسائر استعمالاته حتّى في الصلاة والله العالم بالحقائق.

القاعدة الرابعة : «كلّ أيم يجوز نكاحها إلّا ما خرج بالدليل» ، وتفصيل هذه القاعدة يأتي في قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النور ، الآية : ٣٢] ، إلّا أنّه نقول هنا : لا فرق في النكاح بين الدائم والمنقطع ، وإنّ الآية الشريفة في المقام ظاهرة في النكاح المنقطع ؛ لقوله تعالى : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ، فاستعمال الأجور في المتمتّعات أكثر وأشهر من غيرها ، ومن هنا ذهب الفقهاء الى جواز التمتع بالكتابيّة دون غيرها ؛ لظاهر الآية المباركة ؛ والنصوص المعصوميّة ، ويعتبر فيها جميع ما

٣٩٠

يعتبر في المسلمة ، كما ذكر في الفقه ، وإن كانت تجري «قاعد الإلزام» في بعض الموارد إلّا أنّها لا تمنع ممّا ذكرناه. هذا والله العالم بالحقائق.

وأمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآيات الشريفة ، فهي كما يلي :

الأول : لا فرق في تعليم الكلاب بين أن يكون التعليم تكوينيّا للحيوان ـ أي : وراثيا ، كما يقال في شأن بعضها ـ أو تحصيليّا بالتدريب ، سواء أكان بواسطة معلّم بشري ـ أي مكلّب بصيغة اسم الفاعل ، وهو المعلّم للكلب ومشتقّ منه ـ أم بواسطة حيوان آخر كالباز أو كلب آخر ، ويكفي الصدق العرفي للتعليم عند أهله ، كلّ ذلك لإطلاق الآية المباركة وغيرها.

ولو صاد في أثناء التعليم ، فإن كان واجدا للشرائط يحلّ أكله ، للإطلاقات والعمومات ، ولا يكون التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، كما هو واضح.

الثاني : لا يجب الترتيب في الإرسال وذكر اسم الله تعالى ، فلو قدّم الذكر على الإرسال ـ على نحو لا تخل بالموالاة ـ أو العكس كذلك أو قارنه صحّ ، لإطلاق قوله تعالى : (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) بعد اتّفاق المفسّرين على أنّ الواو ليس للترتيب. نعم يستفاد من جملة من الروايات المقارنة مع الإرسال ، وهي غير الترتيب كما هو معلوم.

الثالث : لا يستفاد من الآية المباركة (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) طهارة الكتابي ؛ لأنّ الطعام أعمّ من المصنوع وغيره ، كما تقدّم ، وفي المصنوع أيضا يمكن أن لا يلاقي الطعام بدن الكتابي بناء على نجاسته. والأخبار في طهارة الكتابي ونجاسته مختلفة ، وبعضها ظاهر في أنّ نجاستهم عرضيّة لعدم اجتنابهم عن الخمر ، والخنزير ، والدم وغيرها من النجاسات ، إلّا أنّ المشهور خلاف ذلك ، ومن أراد التفصيل فليراجع المفصّلات.

الرابع : يستفاد من الآية الشريفة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) والروايات الواردة في تفسيرها أنّ المانع عن النكاح مطلقا هو الارتداد ، والشرك ،

٣٩١

وكونها حربيّة ، وأمّا غيرها كالكتابيّات فيجوز نكاحهن ؛ تمسّكا بإطلاق الآية الشريفة ، ولكن على كراهة خصوصا في الدائمة ؛ للجمع بين الروايات.

وأمّا المسلمة ، فلا يجوز لها أن تنكح الكافر مطلقا ـ دواما أو انقطاعا كتابيّا أو حربيّا مرتدّا أو غيره ـ وكذا من بحكمه كالنواصب ، والله العالم بالحقائق.

بحث عرفاني

يمكن أن تتضمّن الآيات الشريفة إشارات لأصحاب السير وأرباب السلوك ؛ لأنّهم حرّموا على أنفسهم الدنيا وزخارفها ، بل الموقنين منهم العاشقين الى اللقاء والمشتاقين للحق حرّموا على أنفسهم نعيم الآخرة أيضا ، كما عن علي أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) في كثير من دعواته الشريفة وكلماته الحكيمة ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا ، وهما حرامان على أهل الله تبارك وتعالى» ، فسألوا بلسان الحال أو الاستعداد من الطيب الطيّبات ، وفي الحديث : «انّ الله طيّب لا يقبل إلّا الطيّب» ، فأوحى الى حبيبه ونبيّه : (قُلْ) للسالكين والمشتاقين والمؤمنين من عبادي الطالبين للحقّ (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) من طرق الوصول إلى ساحة كبريائه ، مطيّبا بجذبات الحقّ ونفحات الشهود ، لا من كلّ مأكول ـ ومشروب أو ملبوس أو مقول أو معقول ـ فإنّها لا تليق بمقامهم وإن كانت لوجه الله تعالى ، إذ لو لم تكن كذلك فقد لوّثت وخبثت ، ومع ذلك أنّ المشتاقين للحقيقة والموقنين باللقاء والعارفين بالحقّ لا يهتمّون بالمظاهر ، بل هي محرّمة عليهم ؛ لأنّها من شؤون الدنيا الّتي لا تحلّ لهم إلّا بمقدار الاضطرار ، كما تقدّم عن الصادق عليه‌السلام ، فلا حظّ لهم فيها وإنّما حظوظهم في الكمالات الّتي أهمّها أخلاق الله تعالى المنزّهة عن النقائص والشبهات ، فإنّ أهل العرفان والسير والسلوك لا يتفكّرون إلّا في عظمة الذات ، ولا يسيرون إلّا في ميادين الأنوار ، فالدلائل عندهم مدلولات ، والغيب شهادات ،

٣٩٢

فأعيانهم في هذه الدنيا مشهودة وأرواحهم عنها مخلوعة ، وهي تسير في أفلاك العظمة (بل تصاحب بعضها الأرواح القدسيّة والملائكة البررة) ، وهي تيقّنت بعد المشاهدة بتوحيد الذات والفعل ، وتهلّلت عن إخلاص بعد ما ظهرت الحقيقة ، وسبّحت بعد ما رأت العجائب في الخلق وفي النفس ، وحمدت بعد ما أفاض الله تعالى عليها من النّعم ، فهم للحقّ واجدون وللخلق مشاهدون ، فبارك الله تعالى في عمرهم ، وتجلّى على قلوبهم ، لأنّهم ساروا على نهج محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله واقتدوا بخلفائه المعصومين عليهم‌السلام ، ونبذوا الدنيا لأهلها ، وتوكّلوا على خالقهم في الأشياء كلّها ، وفي الآنات جميعها ؛ وتواضعوا للعلم والحقيقة ، فاكتسبوا أيضا من الخلائق الّتي خضعت لخالقها وأشرقت بكلمة (كُنْ فَيَكُونُ) أسمى صفاتها ، وأعرضوا عن ذمامها وعلّموا غيرهم بمختلف درجاتهم وطبقاتهم ، وتحمّلوا عناء التعلّم من الّذين لم ينالوا شرف العزّ والعرفان إلّا لأجل سعادتهم ، تقرّبا لوجهه الكريم وبثّا لما أنعم من الفضائل عليهم بإذن منه جلّ شأنه ؛ ولذا عطف عزوجل على الطيّبات (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) ، أي : كاسبة لها لياقة الكسب والخروج عن ظلمات الجهل ، (مُكَلِّبِينَ) مسلّطين على مخالفة الهوى ، مشدّدين على هداية الناس (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) ترشدون الفئة الضالّة الى طرق التوحيد ، وتأدبونهن بآداب الشريعة الّتي فيها السعادة وارتياح النفس ممّا ألهمكم الله تعالى ؛ لأنّ العلم إمّا إلهام رباني أو مكتسب عقلائي ، فهما منحة منه جلّ شأنه (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) بالتوجّه واستيعاب الضمير بأخذ العبرة والدلالة في عجائب خليقته ، وبما منح الله من الألطاف المنتشرة على ما سواه ، (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) فتوجّهوا إليه لأنّه أخرجكم من ظلمات الجهل الى نور العلم ، ورزقكم من أنواع الطيّبات ، وباسمه أشرقت الكائنات وتجلّت ، فلا اسم أشرف وأعزّ وأكرم من اسمه ، فهو السموّ الواقعي المنحصر به ، وهو اللائق بالذكر على جميع الأشياء دون غيره ، وبه تنكشف المهمات ، وتقضي الحاجات ، وبه يدخل المؤمن الجنّة ، وبنسيانه يدخل المنافق النار ، (وَاتَّقُوا اللهَ) في جميع الشؤون وتمام الحالات ؛ لأنّها السبيل الوحيد لنيل السعادة

٣٩٣

وكسب الفضائل ، وبها يبتعد الشيطان ويرغم أنفه ، وهي البذرة للوصول الى المعالي (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) في أقرب ما يمكن من الزمان والمكان ؛ لأحاطته التامّة على كلّ ما جلّ ودق ، فيحاسبكم على نواياكم ، فكيف أعمالكم وأفعالكم (الْيَوْمَ) تقييد إحلال الطيّبات ـ بعد ذكرها مطلقا ، وبمعناها الوسيع كما مرّ ـ باليوم لأجل بيان أمر واقعي وحقيقة منوطة به ، وهي أنّ حلّية الطيّبات موقوفة على الولاية ، ولو لاها لما طابت وإن كانت طيّبة من كسب اليد ، والوجه الحلال إلّا أنّها بحسب الظاهر لأجل حفظ النظام لا للكمّل من الإيمان ، فالمراد من اليوم الزمان الخاصّ الّذي تجلّى فيه سبحانه وتعالى بإكمال دينه وتنفيذ ولايته على لسان حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، و (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) من الأخلاق الجميلة والصفات الحميدة ، والأفعال الحسنة ، والعلوم النبيلة والسبل المستقيمة ، فإنّ جميعها حلّ للمؤمن الملتزم بما أنزله الله تعالى ؛ لأنّه مثال للطيّبات لما اقتبسه من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ، ولذا قال تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) بتنوير قلوبكم بنور العلم والمعرفة بالعروج من حضيض البهيمة إلى أوج العظمة من الكمال ، بالاقتداء بالأنبياء والأولياء ، (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) لأنّ المعارف الإلهيّة النازلة على قلب أشرف من في الورى لا اختصاص لها بأحد ، فللجميع الفوز من هذا المنبع ، والنيل من هذا المشرب بعد عناء كسب الأهليّة. نعم للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله لاختصاص بالمقام المحمود وبالمشرب المحبوب : «أبيت عند ربّي يطعمني ويسقيني لا يشاركه فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل» ، فعلّهم يهتدون الى الحقّ ويميزون الخبيث من الطيب بطعامكم وعلومكم ، (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) أي : اللاتي أحصنّ أنفسهن عمّا لا ينبغي ، وإنّها الخواص من هذه الامة ، وهي طائفة أدركت حقائق الدين ، وكشفت أسرار القرآن المبين ، ووصلت الى قمّة الإيمان وأعلى مراتب اليقين ، حلّ لكم أن تقتبسوا منهن وتركنوا إليهن ، سواء كانوا من المؤمنين أم المؤمنات لما حصنت نفوسهم بإطاعة الله تعالى ومخالفة الشيطان ، (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهي الحقائق في الكتب المنزّلة على السالفة

٣٩٤

الّتي أحصنت من كلّ سوء ، فإنّها كلّها لكم ، بها تبلغون الكمال المنشود ، (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ببذل الوجود بعد مخالفة الهوى ، فإنّها مهور هذه الأبكار والحقائق ، (غَيْرَ مُسافِحِينَ) بتصرّف الهوى والتعدّي بالانحراف عن الشرع ، (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) بأن لا يلتفت إلى غير الله تعالى ولا يتّخذ الدنيا مأربا ومن فيها صاحبا ، بل يكون هو جلّ شأنه الصاحب ، والناصر ، والمعين ، والحافظ ولا غيره (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) وبهذه الكمالات ويحرم نفسه من النيل الى المقامات ، (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) لأنّه انحرف عن الصراط المستقيم ، وبعد عن الحقّ القويم ، (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) لأنّه غبن نفسه بالميل عن الطيّبات الى الخبائث والنزول الى الهاوية بمتابعة الهوى والشيطان الّذي هو على جانب النقيض من المؤمنين المخلصين ، والعرفاء الموقنين ، والسالكين إلى الله تعالى الّذين ليس في قلوبهم سواه عزوجل ولم تتّجه نفوسهم لغيره جلّ شأنه ، وتفانوا في الله جلّت عظمته ، فأفاض سبحانه وتعالى عليهم ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما في القدسيات.

وللبحث تتمّة وإن لم أر لهذه البحوث العرفانيّة إقبالا عمليّا إلّا من أخصّ الخواص ؛ لأنّ غيرهم توجّهوا للمظاهر وتركوا الحقائق ، وأخذوا بالقشور ورفضوا اللباب ، فإليه جلّت عظمته المشتكى من مكائد الشيطان ، وقال شاعرهم :

تركت هوى سعدى وليلى بمعزل

وصرت الى علياء أول منزل

فنادتني الأكوان من كلّ جانب

ألا أيّها الساعي رويدك فأمهل

غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد

لغزلي نسّاجا فكسّرت مغزلي

ويأتي في الموضع المناسب ما يتعلّق بالبحث مفصّلا ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، وله الشكر على ما أنعم ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطيّبين والطاهرين.

٣٩٥

فهرس الجزء العاشر من مواهب الرحمن في تفسير القرآن

[سورة النساء الآية ١٣٥ ـ ١٣٦]

الآيتان الشريفتان في مقام بيان المهمة الكبرى الّتي انيطت بها الامة كالعدل والايمان بالله العظيم       ٥

الآية الكريمة تبين أركان الايمان..................................................... ٦

ما يتعلّق بخطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)............................................ ٧

الآية الكريمة ترشد إلى حقيقة واقعية................................................. ٨

القسط ومعناه................................................................... ٩

تدلّ الآية المباركة على لزوم الشهادة والعناية بها ومعنى الشهيد.......................... ٩

يجب أداء الشهادة ولو كانت فيها ضرر على النفس أو على الأقرباء................... ١٠

في الآية المباركة تحذير من الزيغ في الشهادة......................................... ١٠

الله تبارك وتعالى اولى بالاتباع مما يرد على شاهدين من اتباع المصالح والأهواء............ ١١

في بيان السبب الّذي يوجب الميل عن الحقّ والاعراض عن العدل...................... ١١

الاحتمالات المتصورة في قوله تعالى : (أَنْ تَعْدِلُوا)................................. ١٢

تحذير آخر في الانحراف بالشهادة أو الاعراض عن إقامتها............................ ١٣

في انه سبحانه وتعالى خبير بدقائق الأمور وعواليها................................... ١٣

الوجه في تكرار الايمان بالله مرة اخرى في الآية الشريفة............................... ١٤

بسط الايمان على الحقائق المذكورة في القرآن وانه وحدة متكاملة....................... ١٤

الكفر بواحدة من الحقائق يوجب الكفر بالجميع.................................... ١٤

بحوث المقام

بحث ادبي يتعلّق بالآيات المباركة.................................................. ١٦

بحث دلالي وفيه ان الآيات الشريفة تدلّ على امور :................................ ١٧

٣٩٦

الأوّل : تدلّ الآية المباركة على اهمية القسط وشرف العدل في حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة      ١٧

ما ورد في الآية الكريمة من الأثر للقيام بالقسط..................................... ١٧

الثّاني : الآية الشريفة جمعت كل ما يمكن فرضه من الأطراف في الشهادة الّتي يمكن ان يقع مورد الجنف والظلم ١٨

الثّالث : اطلاق الآية المباركة يعم الشهادة في الأموال وغيرها كما تدلّ على رد كل شهادة لم تكن لله تعالى     ١٨

الرابع : يمكن ان تكون الآية الكريمة مؤشرا إلى مقام الحضور ومظهرية العبد لصفات الله تعالى وتوحيده         ١٨

الخامس : تدلّ الآية الشريفة على ان اتباع الهوى من أشد الرذائل تأثيرا على النفس وفي ابعادها عن الواقع      ١٩

السادس : يستفاد من الآية المباركة المعصية الّتي يمكن ان تتحقّق في الشهادة............ ١٩

السابع : تدلّ الآية الشريفة على ان الايمان الوارد فيها مطلقه فيشمل جميع اقسامه....... ١٩

الثامن : تدلّ الآية المباركة على ان الايمان الاجمالي لا اعتبار به ما لم يكن عن تفصيل.... ٢٠

التاسع : يستفاد من الآية الكريمة اركان الايمان وهي خمس............................ ٢٠

بحث روائي يتعلّق بالآية المباركة................................................... ٢١

بحث فقهي وفيه يستفاد من الآية الشريفة احكاما فقهية............................. ٢٥

بحث عرفاني وفيه ما يتعلّق بالتخلية والتحلية........................................ ٢٧

العيوب الباطنية وأقسامها وان التحلية تتوقف على التخلية والاولى من ثمرات الثانية...... ٢٨

اقسام المعرفة والشهود........................................................... ٢٩

[سورة النساء الآية ١٣٧ ـ ١٤٧]

الآيات الشريفة تفصل بين الفئات الزائفة في الايمان والصادقة له كما تنذر المنافقين وتحذر المؤمنين عن القعود مع الكافرين والمنافقين.............................................................................. ٣٢

المحك الحقيقي للايمان........................................................... ٣٢

٣٩٧

الردة ومعناها................................................................... ٣٣

هل تقبل توبة المرتد؟............................................................ ٣٣

النقاش في ما ذكره بعض المفسّرين في تفسير الآية المباركة............................. ٣٤

عدم الغفران للمرتد من الأثر الوضعي لاعمالهم الباطلة............................... ٣٤

ما يتعلّق بالزمرة المنافقة.......................................................... ٣٥

العزة ومعناها والمراد منها في الآية المباركة............................................ ٣٧

الآية الشريفة تتضمّن التوبيخ لما صدر من المنافقين.................................. ٣٧

في الآية الكريمة تحذير المؤمنين.................................................... ٣٨

التربص ومعناه.................................................................. ٤٠

مادة [حوذ] ومعناها............................................................ ٤٠

الآية المباركة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية الّتي لا تقبل التغيير....................... ٤٢

المراد من السبيل الوارد في الآية الكريمة............................................. ٤٢

ما يتعلّق بصفات المنافقين........................................................ ٤٣

الكسلان ومعناه................................................................ ٤٤

الرياء وقبحه................................................................... ٤٤

معنى التذبذب في الايمان......................................................... ٤٦

الآية المباركة تتضمّن التعليل لما سبق فيها........................................... ٤٧

الآية المباركة تحذر المؤمنين من أهم ما يوجب ضعف ايمانهم والدخول في زمرة المنافقين..... ٤٧

جزاء المنافقين الدرك الأسفل من النار.............................................. ٤٨

الآية الكريمة تدلّ على وجود طبقات ومنازل للنار واساميها........................... ٤٩

انقطاع العصمة بين المنافقين وبين الشفعاء الى الله تعالى.............................. ٤٩

الاستثناء عن المنافقين بشروط ثقلية لم تكن في غيره من المعاصي....................... ٤٩

ما يتعلّق بالشروط الّتي لا بد لها في الرجوع عن النفاق............................... ٥٠

التائبون عن النفاق مع المؤمنين في الدارين.......................................... ٥٢

في انه تعالى غني من عذاب خلقه وان عذابه تعالى لهم يرجع الى اختيار العبيد........... ٥٢

٣٩٨

الوجه في تقديم الشكر على الايمان................................................ ٥٣

بحوث المقام

بحث ادبي يتعلّق بالآيات المباركة.................................................. ٥٥

بحث دلالي وفيه ان الآيات الشريفة تدلّ على امور :

الأوّل : الآيات الكريمة تدلّ على كمالات الاختيار في الإنسان والحرية في الاعتقاد وما أوردت من المناقشات والجواب عنها       ٥٦

الآيات المباركة تدلّ على النظرية الّتي أسسها الائمة الهداة عليهم‌السلام وهي : «الأمر بين الأمرين» ٥٨

الثّاني : تدلّ الآية المباركة على ان التقلب في الكفر يوجب الطغيان على الله تعالى والتمرد على تعاليمه         ٥٩

الثّالث : تدلّ الآية المباركة على ان التوفيق والهداية لا بد منهما في حياة الإنسان المادية والمعنوية       ٥٩

الرابع : يستفاد من الآية المباركة جواز اطلاق الايمان على غير المستقر منه.............. ٦٠

الخامس : يستفاد من الآية الكريمة العلل الّتي توجب النفاق........................... ٦٠

السادس : يستفاد من الآية الشريفة ان القعود مع ارباب المعاصي يوجب الانخراط فيهم والاشتراك معهم في المعصية      ٦٠

السابع : يستفاد من الآية المباركة ان المنافقين بحكم الكافرين وانهما يشتركان في العذاب وان كان عذاب المنافق أشد     ٦١

الثامن : يستفاد من الآية الشريفة ان الله تعالى أوعد المؤمنين باحباط جميع محاولات الكافرين للتسلط عليهم   ٦١

التاسع : يستفاد من الآية الكريمة ان العذاب الالهي مجازاة فلن يبدأ سبحانه وتعالى بعذاب احد       ٦١

العاشر : تدلّ الآية الشريفة على ان امر التوبة من النفاق شديد وليس كسائر المعاصي... ٦١

الحادي عشر : يستفاد من الآية المباركة ان المنافق لو طهر قلبه يكون مع المؤمن الّذي لا وزر عليه    ٦١

٣٩٩

الثاني عشر : يستفاد من الآية الشريفة انها في مقام الامتنان على المؤمنين............... ٦٢

الوجه في اتصاف الأجر بالعظمة.................................................. ٦٢

الثالث عشر : تدلّ الآية المباركة على أنّه تعالى منزه عن الصفات غير الحميدة.......... ٦٢

الرابع عشر : ما يستفاد في تقديم الشكر على الايمان في حق المؤمن................... ٦٢

الخامس عشر : يستفاد من الآية المباركة كمال العناية للعبد........................... ٦٣

بحث روائي يتعلّق بالآية الكريمة................................................... ٦٣

يستفاد من رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام امور.................................. ٦٤

يستفاد من الرواية الدالّة على ان الله تعالى فرض على الجوارح أشياء وامور.............. ٦٦

المراد من السرائر الواردة في الآية الكريمة والسنة الشريفة............................... ٧٠

المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان الشمس تطلع بين قرني الشيطان............................. ٧١

معنى الرواية الشريفة «من أخلص لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»    ٧٤

بحث فقهي وفيه يستفاد من الآية المباركة القواعد الفقهية التالية :

الاولى : قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم»......................................... ٧٥

الثانية : قاعدة «نفي السبيل على المؤمنين»........................................ ٧٧

الثالثة : قاعدة «كل ريا حرام ويوجب بطلان العبادة»............................... ٧٨

الرابعة : قاعدة «عدم جواز اتخاذ المؤمنين الكافرين اولياء»........................... ٧٨

الخامسة : قاعدة «الإسلام يجب ما قبله» ما يتعلّق بقاعدة ان اصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة أو الرابعة     ٧٩

بحث كلامي يتعلّق بجزاء أعمال المؤمنين والكافرين والمنافقين........................... ٨٠

بحث اخلاقي وفيه ان النفاق والتقوى على طرفي النقيض وأمهات الصفات في النفاق خمسة ٨٢

وجوه النفاق................................................................... ٨٤

[سورة النساء ١٤٨ ـ ١٤٩]

الآية المباركة تتضمّن حكم تربوي لإصلاح النفوس وتطهيرها من الضغائن والأحقاد...... ٨٦

٤٠٠