مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

الحاوية لجميع المعارف الإلهيّة والتشريعات السماويّة. والإيمان بالكتب يستدعي نبذ التعصّب واتّباع الهوى.

الركن الرابع : الإيمان بجميع رسل الله تعالى الّذين هم وسائط الفيض ، أرسلهم عزوجل لهداية البشر وإرجاعهم إلى المبدأ وتذكيرهم منسي الفطرة.

الركن الخامس : الإيمان باليوم الآخر ، والاعتقاد به يستدعي مراقبة النفس والعمل بما أمره الله تعالى ، فإنّ ذلك اليوم يوم الجزاء على الأعمال ولا يفلت منه أحد ، قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة ، الآية : ٧ ـ ٨].

هذه هي أركان الإيمان المطلوب في الإنسان ، وهي مجمع الخير والسعادة ، وأما غير ذلك فهو الضلال والبعد عن منبع الخير والكمال ، وهو يستدعي الشقاء والحرمان.

بحث روائي

روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي سويد ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : «كتب إليّ في رسالته وسألته من الشهادات لهم؟ قال : فأقم الشهادة لله عزوجل ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم ، فإن خفت على أخيك ضيرا فلا».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأوّل : أنّ الشهادة لله ، لأنّها من أسباب بسط العدل بين الناس ، وأنّ العدل والقسط هما ميزان الله تعالى في أرضه ومن مظاهر صفاته.

الثاني : أنّ الأنساب لا تعوق الحقّ أو القسط مهما بلغ ذلك من الشرف والحسب ، قريبة كانت أو بعيدة ، ولا يختصّ ذلك بالأنساب ، وإنّما ذكر الأنساب في الآية المباركة والروايات ؛ لأنّها الأهمّ والغالب فيشمل غيرها كالمادّيات والاعتباريّات بالأولى.

٢١

الثالث : ذيل الرواية محمول على ما إذا كان الحكم الّذي يحكمه الحاكم مخالفا للواقع ، ولا يصل الحقّ إلى صاحبه ، أو يستلزم ضررا على المشهود عليه.

وفي تفسير علي بن إبراهيم : «انّ الله أمر الناس أن يكونوا قوامين بالقسط ـ أي بالعدل ـ ولو على أنفسهم أو على والديهم أو على أقاربهم ، وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ للمؤمن سبع حقوق ، فأوجبها أن يقول الرجل حقّا ولو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحقّ ، ثم قال : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) يعني الحقّ».

أقول : ظهر ممّا تقدّم الوجه في هذه الرواية ، ويستفاد منها التعميم في معنى الشهادة لإظهار كلّ حقّ وبأي وجه كان ، وأنّ المراد من الحقّ الأعمّ من الوضعي الشرعي أو التكليفي أو المجاملي ، وأنّ الشهادة في الأموال والأنفس واجبة شرعا وجوبا كفائيا لو كانت بعد الطلب والاستشهاد ، وإلّا فلا.

وعن الطبرسي في المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنْ تَلْوُوا) أي : تبدّلوا الشهادة ، (أَوْ تُعْرِضُوا) أي : تكتموها ، (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

أقول : التبديل أعمّ من التحريف والتغيير أو الاسقاط ـ كما تقدّم في التفسير ـ والكتمان أعمّ من جميعها أو بعضها ، والرواية من باب ذكر بعض الأفراد.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) يعني : يا أيها الّذين آمنوا أقرّوا وصدّقوا.

أقول : يعني أقرّوا بالله تعالى ، وصدّقوا رسوله ، ومعنى تصديق رسوله العمل بما جاء به من الأحكام بعد الإيمان بالله العظيم ، وإلّا فلا يكون تصديقا حقيقيّا.

وعن البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال : «أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحقّ ولو على أنفسهم ، أو آبائهم ، أو أبنائهم ، لا يحابوا

٢٢

غنيا لغناه ولا يرحموا مسكينا لمسكنته ، وفي قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) فتذروا الحقّ فتجوروا ، (وَإِنْ تَلْوُوا) يعني : ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها».

أقول : إنّ العدل الإسلامي والحقّ الواقعي يقتضي عدم الفرق في القضاء ـ الّذي هو منصب إلهي به يصان أعراض الناس ويحفظ أموالهم ويراعى شؤونهم ـ بين الأصناف والأفراد ، بل الأديان السماويّة غير المنحرفة جاءت لتثبيت ذلك في الأرض ، والرواية لا تدلّ على شيء أزيد ممّا ذكرنا كما تقدّمت رواية علي بن إبراهيم الدالّة على ذلك.

وفي الدرّ المنثور في ضمن رواية : «انّ نبي الله موسى عليه‌السلام قال : يا ربّ أي شيء وضعت في الأرض أقل؟ قال : العدل أقلّ ما وضعت».

أقول : وجود الشيء غير كميّته أو كيفيّته ، فأصل وجود العدل الّذي هو من ذاته الأقدس وبه قامت السموات والأرض وبه بعث الأنبياء والأوصياء موجود وممّا لا ريب فيه ، وهو من مظاهر صفاته وأسمائه ، وأما مقداره الّذي وضع في الأرض وجاء به الأنبياء ، فكان ذلك حسب أهليّة سكناها ، وهو غير معلوم فلو كان أكثر من القليل لما احتاجوا الناس إلى القضاء وما وقع الأنبياء عليهم‌السلام في المشقّة والتعب ، والحكمة في ذلك أنّه بالأقلّ يميّز الخبيث من الطيب ، مع أنّ الأقلّ من الأمور الإضافيّة.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، قال عليه‌السلام : «سماّهم مؤمنين بإقرارهم ، ثم قال لهم : صدقوا له».

أقول : إقرارهم كان في عالم الذرّ كما في بعض الروايات ، وتصديقهم كان في عالم الشهادة ، والفرق بين عالم الذرّ والفطرة أنّ عالم الذرّ هو الفطرة قبل بعثة الأنبياء وقبل خلق عالم الشهادة ، والفطرة بعد البعثة ومجيء آدم عليه‌السلام.

وبعبارة اخرى : عالم الذرّ عالم من العوالم ، والفطرة هي الّتي على ما هي عليه.

٢٣

وأخرج الثعالبي عن ابن عياش : «انّ عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب ، وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا رسول الله إنّا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل آمنوا بالله ورسوله محمّد وكتابه القرآن وبكلّ كتاب كان قبله ، فقالوا : لا نفعل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) قال : فآمنوا كلّهم».

أقول : الرواية مطابقة للواقع ، لأنّ الكتب السماويّة منزلة من الله عزوجل وكلّ ما نزل منه تعالى لا بدّ من الإيمان به إلّا إذا نالته يد التحريف فتسقط الكتب عن شأنها ، فالاعتقاد بالتوراة والإنجيل الواقعي كالاعتقاد بالقرآن ، فلا فرق بينهما من جهة القداسة والاعجاز والحجيّة.

وفي أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) قال : «نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اختصم إليه غني وفقير ، وكان ضلعه مع الفقير ، رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني ، فأبى الله تعالى إلّا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) حتّى بلغ (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما)».

أقول : الرواية ـ على فرض صحّة السند ـ لا تنافي العصمة الثابتة في الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّ رجحان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الفقير على الغني كان لمصلحة ظاهريّة يراها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى نزلت الآية المباركة وانتهى أمد تلك المصلحة ، فالمصلحة كانت وقتيّة لا دائميّة.

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق والجري لا من باب التخصيص.

٢٤

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في الأحكام المستفادة منها امور :

الأوّل : ذهب جمع من الفقهاء (قدس الله أسرارهم الشريفة) إلى قبول شهادة الولد على والده ، واستدلّوا على ذلك بأمور :

الأوّل : قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، بدعوى أنّ الآية المباركة صريحة في وجوب إقامتها ويستلزم ذلك قبولها.

الثاني : السنّة المعصوميّة ، فعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «أقم الشهادة لله ولو على نفسك أو الوالدين» ، وقول الصادق عليه‌السلام : «أقيموا الشهادة على الوالدين والولد» ، ومثلهما غيرهما من الروايات.

الثالث : يستفاد ذلك من كلام الشهيد وغيره.

ويمكن المناقشة في جميع ذلك ، أمّا الآية الكريمة فسياقها الشهادة في اصول الدين ـ لا مطلق الشهادة ـ بقرينة صدر الآية الكريمة (شُهَداءَ لِلَّهِ) ، وقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] وما يأتي من الروايات ، فلا مجال للتمسّك بإطلاق الآية الشريفة بعد احتمال أنّ الشهادة في اصول الدين.

وأمّا السنّة ، فلا مجال للتمسّك بها ؛ لإعراض المشهور عنها وهجر العمل بإطلاقها فيسقط عن الاعتبار كما ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول) ، مضافا إلى معارضتها بالأقوى منها ، مثل قول الصادق عليه‌السلام في الصحيح : «لا تقبل شهادة الولد على والده» ، وقريب منه غيره.

٢٥

وأمّا كلماتهم الشريفة ، فإنّها لا تصير دليلا ما لم يبلغ حدّ الإجماع ، وقد ادّعى الإجماع على عدم قبول شهادة الولد على الأب غير واحد من الأعلام. نعم ما تقدّم يصلح للاحتياط كما ذكرناه في الفقه.

ويمكن رفع الاختلاف والجمع بين الروايات بأنّ ما دلّ على الجواز في ما إذا كان الوالد غير مبال بدينه ومتجرّ في مخالفة الأحكام الإلهيّة ، وأن شهادة ابنه عليه موجبة لإرشاده وهدايته ، وما دلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الأب من أصحاب الوجوه والشرف وملتزما بالانقياد للأحكام الشرعيّة ، فتكون شهادة الابن على والده نحو إهانة له وخلافا لاحترامه ولا تكون من المعروف المأمور به في الكتاب والسنّة ، وهذا نحو جمع عرفي كما ذكرناه في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) والحمد لله.

ولا فرق فيما تقدّم بين الأب والام ، وهل يشمل الحكم الجدّ والجدّة؟

وجهان يظهران ممّا تقدّم.

الثاني : أنّ الشهادة لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه ـ بل الحكم الصادر من الحاكم الجامع للشرائط يكون كذلك أيضا ـ لأنّ المدار المأمور به هو الواقع الحقّ ، فإذا انكشف يسقط ما سواه ، وأنّ الشهادة طريق للوصول إليه ، وعن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّها الناس إنّما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض ، وإنّما أقضي على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذ به ، فإنّما أقطع له قطعة من النار».

الثالث : يختصّ وجوب أداء الشهادة بموارد الاستشهاد ؛ لقوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢] ، ومع عدمه فهو بالخيار في الأداء ؛ لقول أبي جعفر عليه‌السلام : «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار ، إن شاء شهد وإن شاء سكت».

الرابع : لا يتوقّف تحمّل الشهادة على الاستشهاد والاستدعاء من المشهود ، فإذا سمع ما تصحّ الشهادة تقبل الشهادة ، فلو سمع الإقرار والعقد أو الإيقاع أو رأى

٢٦

ما تصحّ الشهادة به كالقتل ، فلا يعتبر فيها القصد في خصوص الشهادة ولا الاستشهاد ، لوجود المقتضي وفقد المانع وأصالة البراءة عن شرطية الاستدعاء والاستشهاد بعد توفّر سائر الشروط كالعدالة وغيرها ، وهناك فروع ذكرناها في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) ـ ومن شاء فليرجع إليه ـ. والفرق بين الإقرار والشهادة أنّ الأوّل إخبار بما يرجع إلى نفس المخبر ، والشهادة إخبار على الغير بما علم به بالحضور فيه ، كما ذكرنا في محلّه.

بحث عرفاني

الإخلاء عن العيوب الكائنة في الباطن ونبذ الصفات الذميمة عن النفس يعبّر عنه في العرفان ب (التخلية) ، وعن بعضهم : أن السعي إلى إزالة ما بطن فيك من العيوب خير من السعي إلى ما حجب عنك من الغيوب. والسرّ في ذلك أنّها بمنزلة الإعداد لها ، فهي تطهير القلب الّذي هو السبب للحياة الأبديّة للنفس. وأنّ العيوب الباطنيّة مانعة عن رقي النفس ، فهي موجبة هلاكها. وأنّ الفيوضات الإلهيّة لا تفاض على الإنسان إلّا بعد التخلية.

ومن هنا قالوا : إنّ الحقّ ليس بمحجوب إنّما المحجوب أنت عن النظر إليه ؛ لأنّ الحقّ محال في حقّه الحجاب ، قال تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الحديد ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ٦١] ، وغيرهما من الآيات المباركة.

وعن بعضهم : أنّ الأوصاف البشريّة تناقض خلوص العبوديّة. والمراد من الأوصاف العيوب الكائنة في نفس البشريّة الّتي تحصل من متابعة الهوى بإغواء الشيطان بالبعد عن الحقّ وإراءة الواقع غير ما هو عليه بالأوهام ، وقد يوجب الأوهام الحجب عن الحقّ تعالى ، والوهم أمر عدمي وسراب محض لا حقيقة له أصلا.

٢٧

ولا شكّ في أنّ اتّباع الهوى يختلف باختلاف الأشخاص والحالات ، وله مراتب متفاوتة شدة وضعفا وكيفيّة وجهة ، وأن قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) يشمل جميعها ، ولا بدّ للسائر والسالك إلى الله جلّ جلاله من التخلية بإزالة العيوب الباطنيّة وغيرها. وأهمّها ثلاثة :

الأوّل : عيوب النفس ، وهي ما تتعلّق بالشهوات الجسمانيّة ، كطيب المآكل ، والملبس ، والمركب ، والمسكن ، والمنكح وغيرها ، ومن كلّ هذه العيوب تتفرّع عيوب ومساوئ اخرى.

الثاني : عيوب القلب ، وهي تتعلّق بالشهوات القلبيّة كحبّ الجاه والرياسة والعزّ ، والكبر ، والحسد ، والحقد وغيرها ممّا يرد على القلب بالتخيلات والأماني الشيطانيّة ، الّتي لا واقع لها بل هي مجرّد وهم بعيدة عن الحقّ والحقيقة كلّ البعد.

الثالث : عيوب الروح ، وهي ما تتعلّق بالحظوظ الباطنيّة ، كطلب الكرامات والمقامات عن غير الصراط المستقيم المبيّن من الشرع الأمين.

وهذه العيوب ـ عيوب النفس ، وعيوب القلب ، وعيوب الروح ـ كلّها تحصل من متابعة الهوى والبعد عن الحقيقة ، ومع هذه الأغيار كيف تستعدّ النفس للواردات الإلهيّة؟! وكيف تحظى بالرقي إلى المقامات العالية؟!. أم كيف تصل إلى جنّة المعرفة؟!. وكيف تشرق عليها الأنوار الربوبيّة؟! وكيف تخرق أبصار القلوب حجب النور حتّى تصل إلى معدن العظمة؟. وكيف يمرّ على النار وأنّها تناديه : «جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» المعدّة للمؤمن؟! وكيف يدخل الجنّة وهي الّتي أزلفت له وبه نال رضاءه تعالى عنه؟! وكيف يشفّع في قومه وهو يحمل أوزار نفسه؟! فإذا زالت هذه الأغيار ورفعت الأوزار واخترقت الحجب وأزيلت الأستار ، فحينئذ تحلّت النفس بالمعرفة ، فالتخلية ثمرتها التحلية ، والقرآن الكريم يحرص على إزالة هذه العيوب ورفع هذه الحجب ، قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) [سورة ص ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى مخاطبا موسى عليه‌السلام : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ

٢٨

بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) [سورة طه ، الآية : ١٦] ، وقال تعالى مخاطبا نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [سورة الكهف ، الآية : ٢٨] ، وقال تعالى كذلك : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [سورة القصص ، الآية : ٥٠] ، وقال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [سورة النازعات ، الآية : ٤١].

ولعلّ قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) يشير إلى ذلك ، أي التحلّي بأسمى صفاته ومظاهر أسمائه وهو العدل ، فيستلزم ذلك التخلّي عن المساوئ والمفاسد والبعد عن أخلاق الشياطين كالكبر ، والحسد ، والحقد ، والغضب ، وكتمان الشهادة ، والحدّة والبطر والأشر وغيرها ، ولأجل ذلك أتى عزوجل بصيغة المبالغة (قوامين) الدالّة على الشدّة وتهويل الأمر والتحمّل مع التعب والمشقّة.

كما يحتمل أن يكون قوله تعالى : (شُهَداءَ لِلَّهِ) أي : شهداء لله وفي الله ، غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة ، وهذا مقام أخصّ الخواصّ ، لا شهداء لله الحاضرين مع الله بالفردانيّة ، وإن كان ذلك مقاما ساميا أيضا وهو مقام الخواصّ ، فضلا عن الشهادة بالتوحيد وهو أوّل اصول الدين ، وإن كان صحيحا إلّا أنّه يختصّ بعوام المؤمنين.

وبعبارة اخرى : تحصيل المعرفة والشهود بالوحدانيّة تارة ، يكون بالدليل والبرهان ، فهذا معرفة العوام ؛ لعدم التقليد في اصول الدين.

واخرى : بالمشاهدة والعيان ، وهذا معرفة الخواص ، وهي من أجلّ المقامات.

وثالثة : بالفناء عن ما سوى الرحمن ، وهذا معرفة أخصّ الخواص.

وكذا الشهادة لله فتارة : تكون سمعيّة ، واخرى : عينيّة ، وثالثة : فنائيّة بعد رفع حجب الأنانيّة عن النفس وإزالة الأغيار عنها بالتجريد ، فإنّ الشهادة لو كانت على النفس لإحقاق الحقّ بإيصاله لأهله وكانت لله تعالى ، استلزمت اضمحلال الأنانيّة والتطهير من الذنوب ، خصوصا لو كانت مخالفة للهوى ، وكذا لو كانت على

٢٩

الوالدين والأقربين بنبذ العواطف النفسانيّة واللجوء إلى رضاء الحقّ وتقديم خشيته جلّ شأنه على رضائهما ، من غير أن يبالي أنّ المشهود عليه كان فقيرا أو غنيا بعد ما علم أنّ الغناء الواقعي في جلب رضاه جلّت عظمته والفوز فيه ، فهؤلاء هم الّذين أيّدهم بروح منه (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ، والحمد لله ربّ العالمين.

٣٠

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

بعد أن بيّن سبحانه وتعالى أركان الإيمان وقواعده وفصّله تفصيلا دقيقا وحدّده تحديدا كاملا ؛ ليعرف الإنسان حقيقة ما يريد الاعتقاد به ، ويكون بصيرا بالإيمان المطلوب منه وهو على بيّنة من أمره ، ولئلّا يتميّع الإيمان فيدخل فيه كلّ

٣١

مؤتفك يدّعي معرفة الله تعالى ويتعبّده بصورة من التعبّد.

وهذه الآيات الشريفة تفصل بين الفئات الزائغة عن الإيمان المفارقة لمجتمع المؤمنين المدّعية عليهم بالأباطيل والمستهزئة بهم استهزاءهم بالحقّ ، والموالية للكافرين ، وبين الصادقين في الإيمان وأهله. وتشدّد الأمر عليهم تشديدا وثيقا ، وتذكّر الكافرين المعاندين وتصنّفهم إلى أصناف متعدّدة ، فيذكر عزوجل ابتداء الكافرين الّذين ضلّوا ضلالا بعيدا والرادّين على الله عزوجل والرسول ، ويبيّن جلّ شأنه حالهم وجزاء أعمالهم وحرمانهم عن ما تقتضيه فطرتهم الصافية ، فلم يهتدوا سبيلا.

ثم يذكر صنفا آخر ، وهم المنافقون الّذين يوادّون الكافرين ويوالونهم دون المؤمنين ، فيظهرون الإيمان ولكنّهم يبطنون الكفر ، ثم يصفهم وصفا دقيقا ليتحرّز المؤمنون عنهم ، فيجتنبوا عنهم فلا يتّصفوا بصفاتهم.

كما حذّرهم عن القعود مع الكافرين والمنافقين الّذين يكفرون بآيات الله تعالى ويستهزئون بها ؛ لئلّا يفسد إيمانهم فيدخلوا فيهم ويشاركوهم في الجزاء ، وقد حذّرهم عزوجل عن ذلك بأسلوب رفيع يجعلهم يحسّون بما يلاقونه من المكروه من أوّل الأمر ، فإنّهم إن لم يحسموا أمرهم منذ الخطوة الاولى لوقعوا في الهاوية.

وقد ذكر جلّ شأنه المحكّ الحقيقي للإيمان وهو التوبة ، والرضا والتسليم ، والإخلاص لله تعالى والاعتصام به ، ووعدهم الأجر العظيم ، ثم نبّههم إلى حقيقة واقعيّة ، وهي أنّ الله غني عن عذابهم ، فلا يعذبهم إن هم آمنوا وشكروا ربّهم وعملوا الصالحات.

وهذه الآيات المباركة هي من الآيات المعدودة في القرآن الكريم الّتي تذكر صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين بأوصاف دقيقة ، وتشرح الإيمان شرحا وافيا. ويمكن تسميتها بحقّ آيات الإيمان ، وفيها وقفات دقيقة تسترعي الانتباه لا بدّ من التأمّل فيها حقّ التأمل إذا كان المرء يطلب الحقّ ويريد تصحيح إيمانه وعقيدته.

٣٢

التفسير

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً).

بيان للآية السابقة ، وشرح لحال من ضلّ ضلالا بعيدا ، ويبيّن تعالى حقيقة الردّة وأحوال أهلها ، فإنّ الردّة هي الذبذبة في الإيمان وعدم الاستقرار فيه ، والمرتد من يدعي الإيمان ثم يكفر ثم يؤمن ثم يكفر ثم يزداد في الكفر والطغيان ، فلم يستقر الإيمان في قلوب أهل الردّة ، ولم يصدر منهم صدورا جديّا ، بل يتلاعبون به ويستهزئون أمر الله تعالى فيه ، ولأجل تكرار الردّة منهم وذبذبتهم في الأمر كان الجزاء عليهم عظيما موافقا لطبيعة عملهم ونفسيتهم المتردّدة وتماديهم في الكفر ، وهو حرمانهم من رحمة الله تعالى وعدم مغفرته لهم وعدم اهتدائهم سبيلا لاستكمال أنفسهم. هذا إذا لم يصدر منهم التوبة فيؤمنوا إيمانا جدّيا وإلّا فتشملهم المغفرة والرحمة ويقبل الله تعالى توبتهم ؛ لأنّ التوبة تشمل جميع الذنوب كما عرفت ذلك في بحث التوبة ، وإن كان مثل هؤلاء المتمادين في الكفر لم يوفقوا إلى الإيمان والتوبة ولانقطاع سبل الهداية عنهم ، كما أخبر عزوجل في قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٨٦ ـ ٩٠].

وظاهر الآية الشريفة قبول توبتهم إذا كانت عن صدق ، وأصلح ما أفسده بالكفر والردّة ، ولكنّها تدلّ على عدم قبول التوبة ممّن ازداد كفرا بعد الإيمان. والسبب في ذلك أنّ الردّة إن كان عن جحود وعناد وازدياد في الكفر ، لا يكون إلّا عتوا واستكبارا عن قبول الحقّ ، فلا يتحقّق فيه الرجوع إليه تعالى ، فمن كان هذا

٣٣

حاله كيف تقبل توبته؟! بل لا يوفّق إلى التوبة أصلا.

وقد ذكر المفسّرون في بيان معنى الآية المباركة وجوها لا تخلو بعضها عن المناقشة ، ولكن يمكن إرجاع جميعها إلى شيء واحد ، وهو ما ذكرناه من عدم استقرار أهل الردّة على الإيمان وعدم الثبات فيه والتذبذب في الاعتقاد ، ويتّبعون الأهواء الباطلة ويطلبون المنافع والمصالح ، فطبع الغي والطغيان على قلوبهم ، واستقرّ الاستكبار واللجاج في نفوسهم ، فلم يهتدوا سبيلا ؛ لأنّ بصائرهم عميت عن الحقّ ، وانقطع المدد الربوبي عنهم ، وانطفأ نور الفطرة فيهم ، فلا يرجى لهم الاهتداء وقد خسروا خسرانا مبينا.

وممّا ذكرنا ظهر وجه النقاش في ما ذكره بعضهم من أنّ المراد من الآية الكريمة هو أنّ الّذين آمنوا بموسى عليه‌السلام ثمّ كفروا به ، ثم آمنوا بعيسى عليه‌السلام ثمّ كفروا به ثمّ ازدادوا كفرا لعدم إيمانهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه يرجع إلى ما ذكرناه ، إلّا أنّه ذكر مصداقا لما قلناه.

وفي قوله تعالى : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) كمال البعد عن الحقّ وتماديهم في الغي ، وإصرارهم على الطغيان ، وانسهم بالكفر وانهماكهم فيه ، ومن آثاره كفرهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع وضوح الحقّ فيه.

قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً).

لأنّ ذلك من الأثر الوضعي لما ازدادوا في غيهم وكفرهم ، ومن باب ترتّب المسبّب على السبب ، نتيجة لأعمالهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة ، فإنّ انهماكهم في الكفر وانسهم به واستقرار العناد والعتو في قلوبهم ، كلّ ذلك يستدعي حرمانهم عن الرحمة الإلهيّة ، فلم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا يفضي إلى التقرّب إليه عزوجل والدخول في رحمته تعالى ، ونفي المفغرة والهداية إنّما ثبت لعدم وجود المقتضي لهما ، وهو الإيمان الخالص المستقرّ في القلوب ، وهذا وإن كان مطلقا إلّا أنّه لا يأبى الاستثناء لو تحقّقت الاستتابة واتّفق الإيمان الواقعي والاستقامة عليه ، كما عرفت آنفا.

٣٤

قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

بيان لحال طائفة اخرى زائفة ، وهم المنافقون الّذين يتظاهرون بالإيمان ويبطنون الكفر والعناد وتهديد لهم. وتبيّن الآية الكريمة وجه النفاق فيهم والوصف الّذي جعلهم من المنافقين.

والبشارة مأخوذة من البشرة ، أي : انبساط بشرة الوجه وطلاقته إذا اخبر الإنسان بما يسرّه ، كما أنّ السرور مأخوذ من انبساط أساريره ، وغالب استعمالهما في الأخبار بما يسرّ ، وقد يستعملان في غيره تهكّما كما في المقام ، ففي الكلام استعارة تهكّمية استعملت فيها (بشّر) موضع (أنذر) تهكّما بهم.

وعن الفرّاء إذا ثقّل (بشّر) فمن البشرى ، وإذا خفّف (بشر) فمن السرور. وفي حديث عبد الله بن مسعود : «من أحبّ القرآن فليبشر» ، أي : فليفرح وليسرّ ، وهو كناية عن خلوص الإيمان.

وقيل : إنّ البشارة تستعمل فيما يسرّ ويسوء استعمالا حقيقيّا ، فلا استعارة حينئذ ؛ لأنّ أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه ، سواء كان انبساطا أو انقباضا.

وكيف كان ، ففي الآية الكريمة تهديد للمنافقين بأنّ لهم عذابا شديد الألم.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).

تعليل لاتّصافهم بصفة النفاق واستحقاقهم للعذاب الأليم ، أي : أنّ المنافقين هم الّذين يتّخذون الكافرين المعاندين أولياء يحبّونهم ويقتدون بهم ، تاركين ولاية المؤمنين الّذين أمر الله تعالى بموالاتهم والدخول في جماعتهم واتخاذ سبيلهم.

والنفاق له مراتب كثيرة قد بيّنها عزوجل في كتابه الكريم في مواضع متعدّدة ، وبعضها أشدّ من الكفر ، ولقد كان خطره على الإسلام كبيرا وشديدا.

وابتلى المؤمنون بالمنافقين من صدر الإسلام ، وفي المقام يبيّن عزوجل مرتبة من تلك المراتب وهي موالاة الكافرين أعداء الدين والانقطاع عن جماعة المؤمنين ، وقد كانت مثل هذه الطائفة الّتي كانت تتصل بالكافرين باطنا موجودة

٣٥

من أوّل البعثة ؛ لاعتقادهم أنّ الدولة ستكون للكافرين ، ولمّا يستحكم الإيمان في قلوبهم ، ويدلّ على أنّ هؤلاء المنافقين هم المراد من الآية الشريفة ذيلها ، حيث وصف تعالى حالهم في النفاق (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) ، فإنّه عزوجل أثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى ، وهذا لا ينافي حال المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم أبدا ، فإنّ له سبحانه وتعالى كلاما معهم في موضع آخر ، وكانوا أشدّ خطرا على الإسلام من سائر الفرق كما ستعرف ، كما لا ينافي شمول قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) لجميع أصناف المنافقين ، فإنّ لهم عذابا أليما وإن اختلفوا في كيفيّته.

ومن ذلك تعرف أنّه لا وجه لإنكار وجود مثل هؤلاء في وقت نزول هذه الآية الشريفة الّتي نزلت بمكّة المكرّمة ، بدعوى أنّ الخطاب إنّما توجّه الى المؤمنين لا المنافقين ونهيهم عن مجالسة الكافرين والمستهزئين ؛ لأنّ نجم النفاق إنّما ظهر بالمدينة ، وأنّ النفاق الّذي ظهر في المدينة إنّما كان مرتبة اخرى غير الّتي كانت بمكّة ، والنهي إنّما توجّه لهؤلاء المؤمنين الّذين وصفهم عزوجل بالنفاق لمجالستهم الكافرين والمستهزئين بالمؤمنين ؛ لضعف إيمانهم واعتقادهم بأنّ الدولة أو الحكومة ستظهر فيهم فتكون لهم يد عندهم ، فكان هؤلاء المنافقون غيرهم الّذين ظهروا في المدينة.

وإنّما كانت موالاة الكافرين نفاقا ؛ لأنّ الحضور في مجالسهم يستلزم التخلّق بأخلاقهم وتصديق بعض ما يعتقدونه وما يتذاكرونه ممّا لا يرتضيه الله تعالى ، فنسبته الى الدين ثم الرضا بأفعالهم وأعمالهم هو الكفر ؛ لأنّ فيه انفصالا عن مجتمع المؤمنين وتجاوزا عن ولايتهم وإعراضا عن الدين ، فلو حضر مجالس المؤمنين واشترك معهم في شيء من شعائر الدين وذكر الله تعالى قليلا ، لقرع سمعه آيات الله وأحكامه دون الوصول الى قلبه حتّى يعرض عن الكافرين ، وهكذا إذا أعادوا الكرّة مع الكافرين فإنّه يوجب الازدياد في الكفر ، فصار له وجهان ، وجه مع

٣٦

المؤمنين ووجه مع الكافرين أعداء الدين ، فاتّصف بصفة النفاق الّتي حذّر الله تعالى المؤمنين منها وبيّن آثارها ونتائجها وأوعد عليها أشدّ الوعيد.

قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ).

استفهام إنكاري يفيد التقريع والتوبيخ. والجملة تقرّر قبلها وتتضمّن التعليل أيضا.

والعزّة في المقام يراد بها الشرف ورفعة القدر والمنفعة والغلبة الّتي يتعزّزون بها ، ومنه قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [سورة ص ، الآية : ٢٣] أي غلبني ، وفي حديث مدح الإسلام : «وأعزّ أركانه على من غالبه» ، أي حماها ممّن قصد هدمها ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعائشة : «هل تدرين لم كان قومك رفعوا باب الكعبة؟ قالت : لا ، قال : تعزّزا أن لا يدخلها إلّا من أرادوا» ، أي تشديدا على الناس وتكبّرا عليهم فيمنعونهم من الدخول فيها إلّا من أرادوا.

قوله تعالى : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

جواب يتضمّن الإنكار لما زعموه ، أي : أنّ العزّة مختصّة به عزوجل يعطيها لمن يشاء من عباده ، وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ عزّ ليس بالله فهو ذل». وقد تقدّم في قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٦] أنّ العزّة من فروع الملك وهو لله عزوجل وحده ، فهو المالك الحقيقي ، وغيره يملك بالاعتبار ، فمن أراد العزّة فلا بدّ أن يتعزّز بالله العظيم ، وقد كتب لأوليائه والمؤمنين العزّة كما قال عزوجل : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة المنافقون ، الآية : ٨] ، وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [سورة فاطر ، الآية : ١٠].

قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ).

خطاب عامّ لجميع الامة يتضمّن التوبيخ الشديد لما صدر من المنافقين ،

٣٧

وتحذير للمؤمنين أن لا يقعدوا مع الكافرين والمنافقين وهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها ، وفي هذا التحذير من الحكمة ما لا يخفى ، فإنّه إذا لم ينته في أوّل الطريق فإنّ آخر مطافه الكفر الّذي لا ريب فيه.

والآية المباركة تشير الى ما ورد في قوله تعالى الّذي نزل بمكّة : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة الانعام ، الآية : ٦٨] ، والخطاب فيه وإن كان متوجّها إلى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّه يراد منه العموم.

كما أنّ الآية الشريفة الأخيرة لم تكن متضمّنة من التوبيخ الشديد ما تضمّنته الآية الكريمة الّتي في هذه السورة ؛ لعظم قبح أفعال المنافقين من موالاة أعداء الله تعالى مع تحقّق ما يمنعهم عن ذلك ، فكأنّ الآية المباركة تقرع أسماعهم بقبح أفعالهم وتقول : «أتتّخذونهم أولياء» والحال أنّه تعالى نزّل عليكم من قبل في هذا الكتاب العظيم (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) ، وهذا كاف في الانزجار عن مجالستهم فضلا عن تحقّق الموالاة والاعتزاز بالكافرين.

وإضافة الآيات الى اسم الجلالة لبيان خطرها وعظيم شأنها وتهويل أمر الكفر بها.

وهي تشمل الأحكام المقدّسة والمعارف الربوبيّة ومظاهر تجلّياته عزوجل ، كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الهداة عليهم‌السلام ، كما ورد في الحديث. بل تشمل كلّ حقّ ، وفي الحديث عن الصادق والرضا عليهما‌السلام : «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ ويكذب به ويقع في أهله ، فقم من عنده ولا تقاعده» ، وسيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات إن شاء الله تعالى.

وعموم الآية المباركة لا بدّ وأن يقيد بما إذا لم يمكن ردّهم والإنكار عليهم وبيان الواقع لهم ، وإلّا فهو جائز بل واجب إذا احتمل التأثير ، فإنّ الامتناع عن

٣٨

مجالستهم هو أوّل خطوات النهي عن المنكر الّذي يجب على المؤمنين ، فإن لم يفعله رهبة أو مجاملة فقد خالف أمر الله تعالى ووضع قدمه على المنزلق الّذي يؤدّي به إلى الكفر ثمّ الهلاك وسوء العاقبة.

قوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ).

تعليل للمنهي عنه وفيه تقريع شديد وتحذير كبير ينزعج منه الحسّ ، وبيان لعاقبة أمرهم إن لم ينتهوا عن مجالسة أعداء الله تعالى ، فإنّ المؤمن لو لم يحسم أمره معهم منذ الخطوة الاولى لانزلق معهم ووقع في الهاوية ، وقد حذّر الله تعالى المؤمنين من الاستهانة بأحكام الله تعالى. وقد سجّل عزوجل على الأمم السابقة ـ لا سيما اليهود ـ هذا الأمر ووبّخهم أشدّ توبيخ ولعنهم ، فإنّ قبح الاستهانة بالمولى ـ لا سيما الله تعالى وأحكامه ـ ضروري عقلي ، فيعمّ جميع الأمم ، قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [سورة المائدة ، الآية : ٧٨ ـ ٧٩].

والمثليّة تارة : تتحقّق في الكفر إن كان القعود مع الكافرين ويستلزم الموالاة والرضا بمعتقداتهم وأعمالهم. واخرى : تتحقّق في الإثم إن لم يكن القعود كذلك. هذا إن لم تكن ضرورة في الاجتماع ، وإلّا فالضرورات تبيح المحظورات.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً).

وعيد للفريقين المنافقين الموالين للكافرين المستهزئين بآيات الله تعالى ، وتعليل لكونهم مثلهم ؛ لأنّ ذلك يستلزم اشتراكهم في العذاب.

وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم ، وبيانا لعلّة استحقاقهم للعذاب ، وبيانا لصفة من صفات المنافقين وهي مراقبة إخوان المؤمنين لينتفعوا بها على حسابهم ، كما هو شأن كلّ مخادع لم تكن مصاحبته عن صدق وإخلاص ، وهذه من أظهر صفات المنافقين وأجلاها.

٣٩

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ).

التربّص : الانتظار ، وعدم ذكر متعلّق التربّص ليشمل كلّ أمر مكروها كان أو محمودا ومحبوبا. أي : ينتظرون وقوع أمر بالمؤمنين.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ).

تفصيل لما أجمله آنفا. والمعنى : وإن كان للمؤمنين فتح من الله تعالى برعايته لكم وإفاضته عليكم ما أوجب الظفر على أعدائكم قال المنافقون : ألم نكن معكم نظاهركم ونجاهد عدوكم فاسهموا لنا فيما غنمتم.

وتقييد الفتح بكونه من الله لبيان أنّه وعد منه عزوجل ، كما قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الروم ، الآية : ٤٧].

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

مادة [حوذ] تدلّ على الحوط ، يقال : حاذه حوذا إذا حاطه ، ومنه الحاذيان وهما جانبا الفخذين من الوراء ، وسمّي السائق للبعير وغيره من الدواب حوذيا ؛ لأنّه يضرب حاذين البعير ، ومنه استحوذ على الشيء ، أي : غلب عليه وتمكّن من تسخيره والتصرّف فيه ، ومنه المحاذي للشيء ، فإنّ معنى الإحاطة مأخوذ في جميعها ، وفي الحديث : «ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل بخفّة الحاذ كما يغبط اليوم أبو العشرة» ، أي الاستيلاء على المال أو العيال ، وذلك كناية عن القلّة والخفّة فيهما. والفعل استحوذ ونستحوذ جاء على الأصل من غير إعلال ـ كما جاء استروح واستصوب ـ خارجة عن أخواتها نحو : استقال واستقام وأشباههما ، فلو أعلّ لكان : ألم نستحذ ، والفعل على الإعلال استحاذ فيستحيذ.

وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين ، أحدهما المقام ، والثاني في قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [سورة المجادلة ، الآية : ١٩].

والمعنى : أنّهم يقولون للكافرين إذا أصابهم حظّ من الحرب والظفر منّا عليهم : ألم نستول عليكم ونتمكّن من قتلكم فلم نفعل بكم ونمنعكم من وصول

٤٠