مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

ونواياهم الصادقة ، فقد وضع شروطا لهذا النوع من التعامل بأن لا يكون الطعام ممّا هو محرّم في الشرع الإسلامي ، فخصّ الحكم بالحبوب والفواكه ونحوهما ، فلا يشمل الذبائح ؛ لعدم توفّر تلك الشروط فيها ، ولعلّه لأجل هذا ورد في جملة من الروايات المرويّة عن ائمة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير الطعام بالحبوب ـ كما يأتي في البحث الروائي ـ وعدم شموله لذبائح أهل الكتاب كما عرفت ، وإن اختلفت الروايات والأقوال فيها.

ولكنّ المشهور المنصور حرمتها كما هو مذكور في الفقه ، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام) ، وسيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ).

حكم امتناني آخر ، والجملة إمّا عطف على الطيّبات ، وهي مبتدأ والخبر محذوف لدلالة المقام عليه ، أي : حلّ لكم. والمحصنات جمع المحصنة ، وتقدّم الكلام في معنى هذه المادّة في قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٤].

والمراد منها في المقام العفائف ، وتخصيصها بالذكر للتحريض على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن ؛ لأنّه لا مفهوم للوصف أصلا حتّى يحرم نكاح غير العفائف من المؤمنات وغير العفائف من الّذين أتوا الكتاب ، وقد ورد في جملة من الأخبار جواز نكاح الزانية وإن كان يكره خصوصا في الدائمة.

والمعنى : يحلّ لكم نكاح العفائف من المؤمنات ، وقد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ هدف الإسلام من الزواج هو تحقيق الإحصان في الطرفين ، وليس مجرّد إطفاء سورة الغريزة فحسب ، ولذا ورد التأكيد على هذه الناحية في جميع الآيات الكريمة المتعدّدة الواردة في مواضع مختلفة ، ولعلّه لأجل ذلك خصّ عزوجل المحصنات بالذكر لبيان هذه الحيثيّة ، فليس المراد حلّية التزويج بهن فقط وحرمته بالنسبة الى غيرهن.

٣٦١

والمراد من المؤمنات مطلق المسلمات إلّا ما ورد دليل خاصّ على تحريم زواج طائفة خاصّة منهن ، كما هو مذكور في الفقه.

قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

حكم امتناني مبنيّ على التخفيف والتسهيل في رفع حرمة نكاح المحصنات من نساء الّذين أتوا الكتاب.

والمراد من الّذين أوتوا الكتاب هم الطوائف غير المشركين والوثنيّين الّذين أحلّ الله تعالى لنا طيّبات طعامهم ، وإنّما وصفهم باوتوا الكتاب إيماء إلى أنّهم أهل كتاب كما أنّكم كذلك إلّا أنّهم قبلكم ، فيفيد كمال القرب بين الطائفتين والمزج والتشريك بينهما.

وقد اختلف العلماء والمفسّرون في المراد من هذه الآية الشريفة ، فقيل : إنّها تدلّ على حلّية نكاح الكتابيّات مطلقا وإن كنّ حربيّات ، كما هو مقتضى الإطلاق.

وقيل : إنّها تختصّ بالذميّات ؛ لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة المجادلة ، الآية : ٢٢] ، والنكاح مقتض للمودّة ؛ لقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [سورة الروم ، الآية : ٢١].

وردّ بأنّ ذلك يوجب الكراهة لا الحرمة ؛ أخذا بالإطلاق مع قطع النظر عن طروّ عناوين اخرى.

وقال بعض أصحابنا : إنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٢١] ، وقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [سورة الممتحنة ، الآية : ١٠] ، فإنّ أهل الكتاب كفّار بلا خلاف ، وقد سماّهم عزوجل بذلك في قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [سورة البينة ، الآية : ١]. وتدلّ عليه بعض الروايات ، ففي صحيح زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قال عليه‌السلام : هي منسوخة بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

٣٦٢

وأشكل عليه : أوّلا : بأنّ آية المقام واردة مورد الامتنان والتخفيف ، ومثل ذلك لا يقبل النسخ.

وثانيا : أنّ الآيات الكريمة الّتي يدّعى نسخها لآية المقام ، هي أسبق نزولا من هذه الآية الشريفة ، فإنّ الاولى وردت في سورة البقرة الّتي هي أوّل سورة مفصّلة نزلت بالمدينة ، والثانية وردت في سورة الممتحنة وكلتاهما قد نزلتا قبل سورة المائدة ، فإنّها آخر ما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تقدّم في أول سورة ، فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء.

وثالثا : أنّ الآيات الشريفة الناسخة أجنبيّة عن المقام ، فإنّ آية البقرة تدلّ على حرمة نكاح المشركات ، وأهل الكتاب ليسوا مشركين ، وعلى فرض دخولهم في عداد المشركين يجب أن تكون آية المائدة مخصّصة لآية البقرة ، فيستثنى أهل الكتاب من عمومها.

وأمّا آية الممتحنة ، فهي أجنبية عن المقام بالكلّية ، فإنّها تدلّ على حرمة نكاح النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن على شركهن ، وعلى فرض التنزيل فيأتي فيها ما ذكرناه في آية البقرة أيضا ، فتكون آية المائدة ناسخة لها لا العكس ؛ لأنّ النسخ شأن المتأخّر.

ومن ذلك يعلم أنّه لا بدّ من حمل ما ورد في بعض الروايات من النسخ على ضرب من التأويل ان أمكن ، وإلّا فيردّ علمها الى أهله.

ويمكن المناقشة في ذلك ، أمّا الأوّل : فلأنّ ورود حكم مورد الامتنان والتخفيف لا يصير موجبا للقول بعدم النسخ ، فكم من حكم ورد في الشرع مورد التخفيف والامتنان وقد نسخ بحكم آخر غيره كما هو واضح.

وأمّا الثاني : فقد تقدّم في بحث النسخ أنّه لا يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخّرا والمنسوخ متقدّما في النزول ، فقد يتّحدان في النزول وقد يكونان بالعكس ، فإنّ الأحكام الشرعيّة مبنيّة على حكم ومصالح متعدّدة ، وما ورد من أنّ سورة

٣٦٣

المائدة آخر ما نزلت فهي ناسخة غير منسوخة ـ فعلى فرض صحّته ـ معارض بالأخبار الّتي تدلّ على النسخ.

وأمّا ما ذكر من آية الممتحنة ، فواردة في النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن ، فإنّ ذلك سبب للنزول ، وقد ذكرنا مرارا أنّه لا يقيّد به إطلاق الحكم وعمومه ، وأنّ عمومها يشمل الكتابيات أيضا.

والحقّ أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال ، لاختلاف الأقوال تبعا لاختلاف الروايات الواردة في نكاح الكتابيّات ، فالمشهور بين فقهائنا (قدس الله أسرارهم) الحرمة ابتداء لا استدامة ، وقال بعضهم بالحرمة في النكاح الدائم مطلقا دون المتعة ؛ عملا ببعض الروايات.

وذهب جمع آخر الى الجواز على كراهة ؛ لما رواه في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام : «في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانيّة واليهوديّة ، قال عليه‌السلام : إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة والنصرانيّة؟! فقيل : يكون له الهوى ، فقال عليه‌السلام : إن فعل فيمنعها من شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، واعلم أنّ عليه في دينه غضاضة».

وبعض الفقهاء خصّ الجواز بحال الضرورة ؛ جمعا بين الأخبار ، ولما ورد عن الباقر عليه‌السلام : «لا ينبغي للمسلم أن يتزوّج يهوديّة ولا نصرانيّة وهو يجد مسلمة حرّة أو أمة» ، والمسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

ولكنّ الأمر الّذي لا يمكن إنكاره هو أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ حلّية نساء أهل الكتاب للمؤمنين إنّما يكون عن طريق النكاح الشرعي بالشروط المقرّرة ، ومنها الأجر والمهر من غير فرق بين النكاح الدائم والنكاح المنقطع ؛ لأنّه نكاح شرعا كما عرفت في بحث المتعة فراجع. وأمّا السفاح فهو محرّم على كلّ حال.

قوله تعالى : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ).

الإيتاء الإعطاء ، وقد يطلق ويراد به التعهّد والالتزام ، ولعلّه أولى بالمقام كما هو معلوم ، والمراد من الأجور المهور ، وتقييد الحلّ بإتيانهن لتأكيد لزوم ذكرها في

٣٦٤

العقد ، لا للاحتراز ، فإنّ إيتاء الأجور واجب في نكاح الإماء أيضا كما تقدّم في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء ، الآية : ٢٥] ، إلّا أنّ الفرق بين نكاح الحرائر والإماء أنّ في الأوّل يعطي المهر لنفس المرأة ، وفي الثاني يعطي لمولاها.

وكيف كان ، فالقول باختصاص الحكم في الآية الشريفة بالمحصنات العفيفات الحرائر من أهل الكتاب من غير شمول لملك اليمين خلاف ظاهرها.

قوله تعالى : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ).

بيان لوجه من وجوه الحكمة في تشريع هذا الحكم ، وهو تحصين النفس بإعفافها بالنكاح وجعلها في حصن منيع يمنعها من الوقوع في السفاح وارتكاب الفاحشة جهرا أو خفاء ، وتقدّم الكلام في ذلك فراجع.

قوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ).

الخدن : الصديق يقع على الذكر والأنثى على حدّ سواء ، وتقدّم الكلام فيه في سورة النساء. وذكرنا أنّ المراد به نفي جميع ما يوجب الوقوع في الفاحشة والحرام ، فإنّ الغرض من هذا التشريع هو الحدّ من الوقوع في مزالق الهوى والحشر مع النساء والاسترسال في حبّهن والغرام بهنّ ، فإنّ في ذلك تفكيك للقواعد المحكمة الّتي بني عليها الاجتماع وقدح نار الشهوة وغلبة فساد المحصنات اللاتي من أهل الكتاب على صلاح المؤمنين وتميع أخلاقهم الكريمة ، والوقوع في الفتنة الّتي اهتمّ الإسلام بسدّ الذرائع إليها ؛ لأنّها من أهمّ ما يفسد الأخلاق والاجتماع ، فإنّ الوقوع في تلك المهلكات خلاف المنّة الّتي امتن بها على المؤمنين في هذا التشريع ، الّذي كان الهدف منه التسهيل والتخفيف على المؤمنين ، وليكون سببا في انتشار معارف الإسلام ، وتثبيت كلمة التقوى ، وبثّ الأخلاق الفاضلة الّتي أمر بها الإسلام

٣٦٥

وتكميلها بالكمال اللائق بهن ليلحقن بالمحصنات المؤمنات ، فيكون هذا الحكم الإلهي من أهمّ دواعي العمل الصالح والعلم النافع.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ).

تحذير شديد لمن أعرض عن طاعة الله تعالى وخالف أحكامه المقدّسة ، والكفر هو الستر ، وذكرنا ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة ، وقد يراد منه المعنى المصدري ، وهو موجبات الإيمان ، أي : الاعتقاد والهدف الصالح ، كما إذا استعمل بالنسبة إلى من أنكر الألوهيّة والرسالة.

وقد يطلق ويراد منه معنى اسم المصدر ، وهو الأثر الحاصل والصفة القائمة في القلب ، أي : الاعتقادات الّتي تدعو الى العمل الصالح ، فيكون معنى الكفر حينئذ ترك العمل بما اعتقده وعلم به أنّه حقّ ، وهذا هو المراد منه في المقام ، أي : الكفر العملي ، وقد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ الكفر يختلف باختلاف متعلّقه ، فقد يكون عن جحود ، وإنّما يكون كذلك إذا علم بالحقّ وداوم على إنكاره وترك العمل به ، وإلّا فإنّ مجرّد ترك العمل من دون أحدهما لا يكون كفرا بل فسقا ، فيكون المراد من الكفر بالإيمان هو ترك العمل بما حقّ عنده وثبت أنّه من الدين وممّا شرّعه الله تعالى ، فيكون كافرا بالإيمان منكرا للآخرة حابطا للعمل ، ويدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٤٦ ـ ١٤٧] ، فإنّ هذه الآية الشريفة تبيّن أنّ التكذيب بأحكام الله تعالى إنّما كان بعد الإيمان واتّخاذ سبيل الغي وترك سبيل الرشد بعد العلم بهما ، ولا ريب أنّ التكذيب كذلك يكون تكذيبا للآخرة ، وهو يستلزم ترك الحقّ وجحده ، وهذا يقتضي حبط العمل ، ونظير ذلك في القرآن الكريم كثير.

قوله تعالى : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).

ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها من قبيل ترتّب المسبّب على السبب ،

٣٦٦

فإنّ من ترك اتّباع الحقّ الثابت عنده يكون كفرا بالإيمان ، فيكون العمل الصادر عنه لا عن عقيدة وإيمان ، ولا وزن لمثل هذا العمل ولا قيمة له ، وهذا هو حبط العمل ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً* أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [سورة الكهف ، الآية : ١٠٣ ـ ١٠٥].

ثمّ إنّ إطلاق الحبط كما يصحّ على الكفر بعد الإيمان ـ كما تقدّم ـ كذلك يصحّ على بطلان أعمال الكفّار أيضا ، حيث أنّ لهم عبادة حسب شريعتهم الّتي يتمسّكون بها ـ أو أعمالا حسنة يأتون بها ـ فإذا جحدوا بالحقّ بعد العلم به ، ولم يتبعوا الإسلام فقد حبط عملهم ، وسيأتي الكلام في الحبط مفصّلا في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

لأنّه أعرض عن أحكام الله تعالى ، وأنكر الشرائع ، وكذّب الآخرة فحبط عمله ، فلم يقم الله تعالى له وزنا يوم القيامة ، فكان عاقبة أمره خسران السعي في الآخرة.

٣٦٧

بحوث المقام

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الأوّل : تتضمّن الآيتان الشريفتان أهمّ الأسس الّتي يعتمد عليها المجتمع الإنساني ، وهما الطعام والزواج ، فإنّ في الأوّل حياة الأفراد وصلاح أبدانهم وأنفسهم ، وفي الثاني بقاء النوع بالتناسل ، ولا ريب أنّ الإسلام اهتمّ بهما اهتماما بليغا وشرّع فيهما أحكاما ، وذكر إرشادات وتوجيهات محكمة مبنيّة على الصلاح والأخلاق الفاضلة الكريمة ؛ لأنّ صلاح هاتين الركيزتين يؤثّر على صلاح الفرد والاجتماع والنوع الإنساني وسعادتهم ، وقد ذكر عزوجل ما يتعلّق بهما في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

وفي المقام ذكر عزوجل قاعدة هامّة في الطعام مبنيّة على الصلاح العامّ فأحلّ الطيّبات ، وأحكم هذا التشريع إحكاما دقيقا ، فذكره في أسلوب لطيف يحبّب الطيّبات من الطعام الى النفوس ، وتجعلها تأنف من الخبائث وتشمئز منها تلك النفوس الّتي تهذّبت بالتوجيهات الربوبيّة والإرشادات الحكيمة ، فكان ذلك أساسا في طعام الإنسان بجميع أنواعه وأصنافه ، وقد ذكر عزوجل له مصاديق وأفرادا متعدّدة في مواضع متفرّقة ، تقدّم بعضها في الآيات السابقة.

وفي الآيات المباركة في المقام يذكر جلّ شأنه فردين آخرين ، أحدهما لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم بالشروط المقرّرة. والثاني طعام أهل الكتاب ، وأرشد الى أنّ حلّيته إنّما تتوقّف على توفّر الشروط المعتبرة في الشريعة الإسلاميّة ، فإنّ حلّية طعامنا لهم إنّما كان في ظرف توفّر تلك الشروط فيها ، وكذلك لا بدّ أن تكون حلّية طعامهم لنا وإلا صار خبيثا وخلاف المنّة الّتي سيقت الآية المباركة

٣٦٨

إليها ، فينحصر طعامهم في بعض الأمور ولا تشمل جميع أطعمتهم.

وفي هذا الحكم من وجوه الحكمة ما لا يخفى ويكفى فيها الإشعار بأنّ الإسلام دين التسامح والتعاطف ، وذكر تعالى في الآية الشريفة الثانية ما يتعلّق بالركيزة الثانية ، وهي الزواج الّذي اعتنى به الشرع المبين ، ولأهمّيّته ذكره عزوجل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، وبيّن جميع جوانبه المادّية والمعنويّة ، وقد قارن عزوجل في المقام نساء المسلمات مع نساء أهل الكتاب الّذي طالما أراد أعداء الإسلام أن يتّخذوه ثغرة لينقضوا منها عليه ، ويتّخذوه ذريعة في نشر الفاحشة في المؤمنين وافتتان المؤمنات ، وبعث الدعارة فيهن ، وبالأخرة تشويه هوية هذا الدين العظيم ، وقد أحلّ عزوجل التزويج بالكتابيات ليسدّ الذرائع الى الدخول في الفتنة والحرام ، وأحكم هذا التشريع بوجوه عديدة فبيّن تعالى :

أولا : أنهن من أهل الكتاب كما أنّكم منه ؛ لرفع الحزازة من الاختلاط بهنّ ، ثمّ اشترط الالتزام بإعطاء المهر لهنّ ، ليكتمل الزواج من الناحية الشرعيّة.

وثانيا : بيّن عزوجل أنّه لا بدّ أن يكون القصد هو إحصان النفس والتعفّف عن الحرام ، لا مجرّد التسلّط عليهن والابتزاز من حقوقهن والظلم عليهن والإهانة بحبسهن في البيوت من دون الوصول إليهن ، ولا إطلاق زمامهن ليسرحن مع الرجال في كلّ مكان فيمارسن كلّ أنواع المحرم ويتّخذ الرجال الصويحبات في السرّ والعلن.

ثمّ ختم الكلام بتهديد شديد ؛ للإعلام بأنّ تلك الأحكام وإن كانت أحكاما امتنانيّة تسهيليّة ترخيصيّة إلّا أنّه لا بدّ من حفظ حدود الله تعالى فيها ، وعدم التجاوز والتعدّي عنها ، فإنّه يعتبر كفرا بالإيمان الّذي التزم المؤمن أن يعمل بأركانه ، فمن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله ويكون عاقبة أمره الخسران ؛ لأنّه انقطع عن كلّ ما يوجب الزلفى والقرب لديه تعالى.

وكان لهذين التشريعين الأثر الكبير في نفوس أهل الإيمان ، حيث رفع الحظر المفروض عليهم من الاختلاط مع أهل الكتاب والتعامل معهم ، فكان ذلك وسيلة

٣٦٩

لنشر تعاليم الإسلام ومعارفه الحقّة ، وإظهار مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام. ولأجل أنّ الهدف كان عظيما قد أحكم عزوجل تلك الأحكام وأكّد على مراعاتها وحثّ على إتيانها بأتمّ وجه ، فحذّر تحذيرا شديدا بسرعة حساب من خالف تلك التوجيهات الربوبيّة وإرشاداته القيمة ، وأمر بالتقوى ومراقبة الله تعالى في جميع الحالات ، ويكفي في الدلالة على أهميّة تلك الأحكام ولزوم مراعاتها بدقّة وأمان اعتبار الإعراض عنها كفرا بالإيمان وحبطا للأعمال.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) على قاعدة كلّية في الأطعمة والأشربة الّتي يميّز بها الحلال عن الحرام ، فكلّ ما كان طيبا حلّ أكله وشربه ، بلا فرق بين أصنافهما ، وكلّ ما كان خبيثا حرم شربه وأكله كذلك.

والآية المباركة وإن كانت مطلقة إلّا أنّه لا بدّ من تقييدها بما ورد في الكتاب الكريم والسنّة الشريفة من الشروط والحدود.

ويمكن أن يستدلّ بهذه الآية المباركة على أصالة الحلّية والإباحة ، الّتي تمسّك بها الفقهاء في باب الأطعمة والأشربة.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) جواز اقتناء الكلاب لأجل الصيد ، كما يستفاد منه أنّ في بعض الحيوانات قابلية التعلّم ، ولكن لا بدّ أن يكون التعليم في ما له نفع للإنسان بالطريق الّذي علّمه الله تعالى ، فما يفعله بعض في تعليم الحيوانات مستخدما أساليب معيّنة تلحق الأذى والضرر بالحيوان ليس ممّا علّمه الله تعالى ؛ لأنّه ظلم ، وهو قبيح عقلا ومحرّم شرعا.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) على وجوب مراعاة التقوى في جميع التشريعات وتطبيقها تطبيقا كاملا ، مع مراعاة جميع الشروط والتوجيهات والإرشادات الربوبيّة ، وأنّ مخالفة التقوى فيها توجب المسألة يوم القيامة ، وسرعة الحساب في الدنيا.

٣٧٠

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أنّ التشريعات والأحكام الّتي أنزلها الله تعالى في هذه الآيات الشريفة لها أهميّة خاصّة في حياة الإنسان في العوالم الّتي ترد عليه ، حيث أنّ مخالفتها تستلزم سرعة الحساب ، ولم يذكر سبحانه وتعالى هذا الوعيد إلّا في مواضع معيّنة في القرآن الكريم ، تكون لها أهميّة خاصّة.

وإطلاق هذه الآية المباركة يدلّ على سرعة الحساب في الدارين ، فقد يكون عاجلا لم يمهله الله تعالى لعظمة الذنب ، وقد يمهله لمصلحة لا يعلم بها إلّا هو.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) أنّ الحبط إنّما يتحقّق في ما إذا كان حقّ ، وعلم به ، والتزم بالعمل به ثمّ إنكاره وجحده وترك العمل به ، فيكون كفرا بالإيمان ، وكلّ كفر كذلك يكون حبطا للعمل ، فلا ينفع حينئذ معه الأعمال السابقة ، فإنّه سقط جزائها كما لا ينفع عمل حين كفره ، فيكون عاقبة أمره الخسران إلّا إذا تاب وعمل عملا صالحا.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : «في كتاب علي عليه‌السلام في قوله عزوجل : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) قال هي : الكلاب».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأوّل : لا فرق في الكلب بين السلوقي وغيره وبين الكرديّة ، سواء كان أسود أم غيره ؛ لإطلاق الآية الشريفة والرواية المتقدّمة.

الثاني : لا يحلّ من صيد الحيوان ومقتوله إلّا ما كان بالكلب المعلّم ، فلا يحلّ صيد غير الكلب من جوارح السباع ، كالفهد والنمر وغيرهما ، وجوارح الطير كالباز والعقاب والباشق وغيرهما ، وإن كانت معلّمة ؛ لأصالة عدم التذكية المقرّرة شرعا والمعتمد عليها لدى الفقهاء ـ كما تقدّم ـ إلّا ما خرج بالدليل ، ونصوص

٣٧١

مستفيضة منها ما عن أبي عبد الله في المعتبرة قال : «سألته عن صيد البزاة والصقور والفهد والكلب ، فقال عليه‌السلام : لا تأكل صيد شيء من هذه إلّا ما ذكيتموه إلّا كلب المكلب» ، وقريب منها صحيح الحلبي وغيره.

نعم ، هناك رويات تدلّ على الجواز وخلاف ما تقدّم.

ففي رواية زكريا بن آدم قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الكلب والفهد يرسلان فيقتل ، فقال عليه‌السلام : هما ممّا قال الله : (مُكَلِّبِينَ) ، فلا بأس بأكله» ، وقريب منها غيرها.

ولكنّها موافقة للتقيّة ومعارضة بما هو أقوى منها ، فلا بدّ إمّا من حملها على الإمساك حيّا ووقوع التذكية على الصيد ، وإطلاق الجرح الكثير على القتل مجاز شائع ، أو ردّ علمها إلى أهله والله العالم.

الثالث : أن يكون الكلب معلّما ، فلو لم يكن كذلك لا يحلّ صيده لنصّ الآية المباركة ، وما يستفاد من الروايات الكثيرة ، منها ما تقدّم.

وفي الكافي أيضا بإسناده عن جميل بن دراج قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يرسل الكلب على الصيد ، فيأخذه ولا يكون معه سكين أفيدعه حتّى يقتله ويأكل منه؟ قال عليه‌السلام : لا بأس قال الله عزوجل : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ولا ينبغي أن يأكل ممّا قتله الفهد».

أقول : يأتي في البحث الفقهي أنّه لو لم يدرك صاحب الكلب الصيد حيّا ، أو أدركه كذلك لكن لم يسع الزمان لذبحه ، ففي الصورتين كان الصيد ذكيا وحلّ أكله. وأمّا إذا اتّسع الزمان لذبحه لا يحلّ إلّا بالذبح ، فلو تركه حتّى مات كان ميتة ـ وتقدّم المراد بأدنى ما يدرك ذكاته ـ وأمّا لو كان حيّا واتّسع الزمان لذبح الصيد ولكن لم توجد آلة الذبح كالسكين ومات ، نسب الى المشهور عدم الحلّية ؛ لأصالة عدم التذكية ؛ لأنّه حينئذ حيوان غير ممتنع ، وكلّ حيوان كذلك لا يحلّ لحمه إلّا بالتذكية.

ولكن ، نسب الى جمع منهم الشيخ والصدوق الحلّية ؛ تمسّكا بمعتبرة جميل بن

٣٧٢

دراج المتقدّمة ، ولكن أوهنها إعراض المشهور ، ومخالفتها لما تقدّم من القاعدة «كلّ حيوان غير ممتنع لا يحلّ إلّا بالتذكية» ، فلا بدّ من ردّ علمها الى أهلها. والله العالم.

وفي الكافي بإسناده عن الحلبي قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كان أبي يفتي وكان ينفي ونحن نخاف في صيد البزاة والصقور ، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف ولا يحلّ صيدها إلّا أن تدرك ذكاته ، فإنّه في كتاب علي عليه‌السلام أنّ الله عزوجل قال : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) في الكلاب».

أقول : هذه الرواية شارحة لجميع الروايات الدالّة على حلّية الصيد بجوارح السباع من أنّها صدرت عن تقيّة ، ولمانع لم يتمكّن الإمام عليه‌السلام بيان الحكم الواقعي فيها.

وفي تفسير العياشي عن حريز عن الصادق عليه‌السلام قال : «سئل عن كلب المجوس يكلّبه المسلم ويسمّي ويرسله؟ قال : نعم إنّه مكلّب ، إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس».

أقول : مقتضى الأصل والإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة عدم اعتبار إسلام صاحب المكلّب. نعم يعتبر أن يكون مرسل الكلب مسلما أو بحكمه ، كالصبي الملحق به ، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه أو من كان بحكمه كالخوارج وغيرهم ، لم يحل أكل ما يقتله ؛ لأنّ الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها.

وفي السنن الكبرى للبيهقي بإسناده عن أبي رافع قال : «جاء جبرئيل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستأذن عليه ، فأذن له فابطأ فأخذ رداءه فخرج ، فقال : قد أذنا لك! قال : أجل ولكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة ففعلت ، وجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ماذا يحلّ لنا من هذه الامة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل».

٣٧٣

أقول : هذه الرواية ـ مع قطع النظر عن السند ـ يستفاد منها امور :

الأوّل : أدب الدخول ، فإنّ جبرائيل رسول مباشر من الله تعالى ومن الملائكة المقرّبين استأذن في الدخول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف بغير جبرائيل ، لأنّ صاحب البيت حبيب الله ، وأشرف الأنبياء ، وفخر الكائنات ، فإذنه صلى‌الله‌عليه‌وآله شرف للتشرّف برؤيته.

الثاني : بعد ما أذن صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرائيل فما معنى بطء جبرائيل بالدخول عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! ولعلّه كان ذلك استحياء من مكانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه كان مأمورا من الله جلّت عظمته أن لا يدخل بيتا فيه مظهر الشيطان وهو الكلب ، وذلك شأن جميع الملائكة بتمام أصنافها ورتبها.

وأمّا عتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفعله وقوله لجبرائيل مع علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالواقع من أنّه لا يمكن اجتماع مظهر الرحمن ورسوله مع مظهر الشيطان وأعوانه ؛ لأجل الإعلام العملي للمسلمين بالاجتناب عن مظهر الشيطان ، فإنّ جبرائيل مع ما لديه من المنزلة عند الربّ الجليل ـ بل الملائكة كلّهم ـ لا يدخل ولا يدخلن بيت أشرف الأنبياء ، فكيف ببيت سائر الناس لو كان فيه كلب أو صورة على ما يأتي من الحكمة فيها.

الثالث : الوجه في أخذه صلى‌الله‌عليه‌وآله رداءه وخروجه كناية عن اضطرابه لبطء روح القدس عليه ، وكنّى بالرداء عن العون والنصر ؛ لأنّ الرداء يقع على الظهر ويحفظ العاتقين والمنكبين عن الحوادث ، فيكون عونا للإنسان.

الرابع : أنّ وجود جر وفي بعض بيوتهم لم يكن عن عمد ، وإنّما دخل الحيوان بنفسه بلا التفات من صاحب البيت.

الخامس : أنّ قتل الكلاب بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان في خصوص الكلاب الهارشة الّتي كانت تؤذي سكان المدينة وتسلب راحتهم ؛ ولم تكن قابلة للحفظ والتربية ، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ الثابتة شرعا وعقلا ، وذلك بقرينة روايات كثيرة اخرى. إذا الرواية لا تنافي ما حدث في هذه الأعصار من عنوان

٣٧٤

سمّوه «جمعية حفظ حقوق الحيوان» في زمان سلبت فيه حقوق الإنسان كلّها ودمرت الإنسانيّة ، فلم يبق للبشريّة وزن ؛ لأنّهم بعدوا عن القوانين الإلهيّة الّتي تحفظ الإنسان وتكرم حقوقه ، ولم يخضعوا للركائز الّتي وهبتها السماء للبشريّة جمعاء بواسطة الرسل والأنبياء ، فبها تهنأ الحياة ويحسن العيش ، وتوفّر راحة النفس في ما يمرّ عليها من العوالم ، وانفصلوا عن النظم الّتي أنزلها الله تعالى الّذي هو خالق الإنسان مبدع الكائنات ، عالم الغيب ، يعلم المصالح والمفاسد والحكم والعلل ، فضلّوا من السعادة الراقية ولم يصلوا الى الكمالات العالية ، فتمسّكوا بعناوين واهية ، فإلى الله المشتكى وعليه التوكّل في الشدّة والرخاء.

وفي الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس : «في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلّم ، أو بازه ، أو صقره ، ممّا علّمه المجوسي فيرسله فيأخذه ، قال : لا يأكله وإن سمّيت ؛ لأنّه من تعليم المجوسي ، وإنّما قال : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ)».

أقول : تقدّم أنّ المناط إرسال المسلم الكلب للصيد ، وأمّا تعليمه فأعمّ من أن يكون بمباشرة المسلم أو غيرها ، ولا عبرة بصيد الباز والصقر ، ولعلّ الرواية تتضمّن نظر ابن عباس القابل للتغيير ، ولم تكن مستندة الى المعصوم.

ثمّ إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بعض الأصحاب لقتل الكلاب ، فقتل منها حتّى سأل بعضهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ماذا أحل لنا من هذه الامة؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) ، ولا شكّ أنّ هذه الرواية من باب ذكر بعض المصاديق ، وإلّا فالآية المباركة مطلقة ، بل إطلاق الطيّبات على بقاء الكلاب لاستعمالهم في المآرب المختلفة ممّا لا يقبله الذوق السليم إلّا على سبيل المجاز البعيد ، فالأولى ردّ هذه الرواية الى أهلها.

على أنّ متونها مضطربة جدا ، ولم يرد شيء منها في مجامع الشيعة ، بل هي مرويّة في الدرّ المنثور وغيره.

وفي الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله

٣٧٥

عزوجل : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) فقال عليه‌السلام : الحبوب والبقول».

أقول : الروايات الدالّة على أنّ المراد من قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هو الحبوب والبقول كثيرة جدا وقد بلغت حدّ التواتر ، وتقدّم أنّ الطعام هو الحبوب ، وقد ورد في زكاة الفطرة : «صاعا من طعام» ، أي : البر أو الشعير أو غيرهما ، وقال الخليل : «إنّ العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البر خاصّة» ، فلا مجال للقول بأنّ المراد من الطعام مطلق ما يطعم من اللحوم وغيرها كما تقدّم في التفسير. وإنّ الروايات الواردة في حلّية ذبائح أهل الكتاب المستدلّة بالآية الشريفة كلّها غير نقيّة السند وعن طرق العامّة ، كما أنّ ما ورد عن طرقنا الدالّة على حلّية ذبائح أهل الكتاب محمولة على التقيّة ، والشاهد على ذلك ما رواه الشيخ بإسناده عن بشير بن أبي غيلان قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذبائح اليهود والنصارى والنصاب؟ قال عليه‌السلام : فلوى شدقه وقال : كلبا الى يوم ما» ، فإنّ التقيّة فيها ظاهرة.

ومن العجب أنّ السيوطي سرد جملة من الروايات في تفسيره (الدرّ المنثور) تدلّ على أنّ المراد من الطعام من الآية الشريفة هو ذبائح أهل الكتاب ، ولكنّها لم تستند الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو خلفائه المعصومين ، فمن الممكن أن تكون مجرّد نظريات في ظروف خاصّة بتحويل المعنى ، والشاهد على ذلك أنّه لم يذكر رواية تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الحبوب ، مع أنّها المتبادر منه عند الإطلاق.

على أنّه يمكن أن يراد من الروايات ـ الّتي تفسّر طعام أهل الكتاب بالذبائح كما وردت عن طريق السنّة ـ الذبائح الّتي ذبحت على طريق الشرع ، بحيث يكون المباشر للذبح المسلم وكان جامعا للشرائط وكانت الذبيحة ملكا للكتابي.

إن قلت : بناء على ما تقدّم لا تختصّ الحلّية بذبيحة الكتابي بل تعمّ المشرك أيضا ، فلو ذبح المسلم كذلك ذبيحة المشرك حلّ أكلها.

قلت : نلتزم بذلك ولا محذور فيه شرعا ، وتقييد الآية المباركة بأهل الكتاب

٣٧٦

يكون حينئذ من باب الغالب ، أو من باب ذكر بعض مصاديق الكفر ، بقرينة الروايات والإطلاقات الواردة في الصيد والذباحة ، فتأمّل.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن قتيبة الأعشي قال : «سأل الحسن بن المنذر أبا عبد الله عليه‌السلام : إنّ الرجل يبعث في غنمه رجلا أمينا يكون فيها نصرانيّا أو يهوديّا ، فتقع العارضة فيذبحها ويبيعها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا تأكلها ولا تدخلها في مالك ، فإنّما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلّا المسلم ، فقال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام وأنا اسمع : فأين قول الله : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ)؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كان أبي يقول : إنّما ذلك الحبوب وأشباهها».

أقول : يحتمل في جملة : «فإنّما هو الاسم ولا يؤمن عليه إلّا المسلم» معنيان :

الأوّل : الأمن من جهة مجرّد صدور اسم الله تعالى.

الثاني : الأمن من جهة الاعتقاد ، وهذا هو المناط في هذه الروايات.

وكيف كان ، فهذه الرواية ـ وغيرها الّتي هي قريبة منها ـ تدلّ على ما ذكرناه سابقا ، كما تكشف عن الحكم بالحلّية في ذبائح أهل الكتاب لم يكن واقعيّا ، وأنّ المراد من الطعام في الآية الشريفة خصوص الحبوب وأشباهها.

وفي الكافي بإسناده عن زرارة بن أعين قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؟ فقال : منسوخة بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)».

أقول : وقريب منه غيره ، والمراد من النسخ هنا غير معناه المصطلح ، والمقصود منه التقييد ، وتقدّم ما يرتبط به في التفسير فراجع.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن العبد الصالح قال : «سألناه عن قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ما هن؟ وما معنى إحصانهن؟ قال عليه‌السلام : هنّ العفائف من نسائهم».

أقول : يستفاد من الرواية جواز نكاح الكتابيّة والعفائف من نسائهم من باب الأفضليّة ، حرّة كانت أو أمة ، وفي بعض الأخبار : «إنّما يحلّ منهنّ نكاح البله» ،

٣٧٧

أي : الغافلة عن الشرّ والمطبوعة على الخير ، وقد ورد في بعض الروايات جواز نكاح غير العفائف من نسائهن ولكن يمنعهن من الفجور ، كما تقدّم في التفسير.

وفي تفسير العياشي أيضا بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) قال : هنّ المسلمات».

أقول : لأنهنّ غالبا يلازمن العفّة ، بلا فرق بين جميع مذاهبهن.

وفي تفسير القمّي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «وإنّما يحلّ نكاح أهل الكتاب الّذين يؤدّون الجزية وغيرهم لم تحل مناكحتهم».

أقول : عدم إعطائهم الجزية فيما إذا عرضت عليهم ولم يؤدوها ، فيصيرون من الكفّار المحاربين ، وأمّا إذا لم تعرض عليهم كما في زماننا هذا ، فيشكل دخولهم في الحربي ، وتفصيل الكلام يطلب من الفقه.

وفي الكافي بإسناده عن الحسن بن الجهم قال لي أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : «يا أبا محمد! ما تقول في رجل تزوّج نصرانيّة على مسلمة؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك؟! قال عليه‌السلام : لتقولن ، فإنّ ذلك تعلم به قولي؟ قلت : لا يجوز تزويج نصرانيّة على مسلمة ولا غير مسلمة ، قال : لم؟ قلت : لقول الله عزوجل : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) ، قال عليه‌السلام : فما تقول في الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؟ قلت : فقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) نسخت هذه الآية ، فتبسّم ثمّ سكت».

أقول : تقدّم سابقا أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة ، وعلى فرض التنازل وغضّ النظر عن ذلك ، فالمقام لا يكون من باب النسخ المصطلح كما مرّ ، وأنّ الآيتين باقيتان على حجّيتهما ، وآية المائدة تقيّد إطلاق آية المشركات أو تخصّصها ، ولعلّ تبسّم الإمام عليه‌السلام إشارة الى ذلك. والله العالم.

وفي الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)؟ قال : ترك العمل الّذي أقرّ به ، أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل».

٣٧٨

أقول : ذهب جمع كثير من العلماء الى أنّ استحقاق الثواب مشروط بالموافاة ، واستدلّوا بأدلّة كثيرة من الآيات الشريفة والسنن المعصوميّة ، قال تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [سورة الزمر ، الآية : ٦٥] ، أي : ثواب عمله وجزائه الحسن. وهناك قول آخر وهو التكفير الّذي هو أقرب الى التفضّل منه سبحانه وتعالى وتقتضيه ظواهر الأدلّة ، وسيأتي في الآيات المناسبة البحث عنهما مفصّلا.

وكيف كان ، فأسباب الحبط على القول به كثيرة :

منها : الشرك بالله العظيم ، إن لم يتداركه بالندم والتوبة ، كما مرّ.

ومنها : ما ورد في هذه الرواية من عموم ترك العمل الّذي أقرّ به في اصول الدين.

وهناك أسباب اخرى يأتي التعرّض لها. والرواية من باب ذكر بعض المصاديق.

وفي المحاسن للبرقي بإسناده عن أبي حمزة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)؟ قال : تفسيرها في القرآن ومن يكفر بولاية علي عليه‌السلام ، وعلي هو الإيمان».

أقول : إنّ الميزان في الحبط هو إنكار ما هو ضروري الدين ، سواء كان من أصوله أم فروعه ؛ لأنّ إنكار الفروع يرجع بالآخرة الى إنكار الأصول أيضا كما ثبت في علم الكلام ، فيكون إنكار الولاية كإنكار المعاد موجبا للحبط ، وقد سمّي عليّا بالإيمان في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما برز الى عمرو بن عبد ود ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «برز الإيمان كلّه الى الكفر كلّه» ، كما سمّي الصلاة بالإيمان كذلك ، والرواية من باب بيان بطن القرآن كما ورد في روايات كثيرة من أنّ له بطنا ، ولا منافاة حينئذ أن يكون ذلك من باب بيان أجلى المصاديق أيضا.

وفي الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

٣٧٩

قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)؟ فقال : ترك العمل الّذي أقرّ به ، قلت : فما وضع ترك العمل حتّى يدعه أجمع؟ قال : الّذي يدع الصلاة متعمّدا لا من سكر ولا من علّة».

أقول : المراد من السكر النوم كما في صحيح محمد بن مسلم ، وهذا الحبط إمّا لأجل ترك الواجب العبادي بعد الإذعان بوجوبه ، فحبط به ثواب التزامه وعقيدته ، كما إذا ترك الصوم عن علم وعمد ، أو الصلاة كذلك ، فحبط بذلك ثواب تلك الأصول المحقّقة للإيمان ، وهذا مرتبة من الكفر كما تقدّم مكرّرا.

وأمّا جعل الإيمان نفس الفروع ، أي : أنّ الإيمان نفس الصلاة الّتي هي عمود الدين فتركها بغير عذر يكون كفرا بالإيمان ، خلاف سياق الآية الشريفة ، ولا يوافقه ظاهر الروايات المتقدّمة ، فهو أجنبي عن الحبط إلّا إذا رجع الى ما تقدّم.

والحبط تارة : من قبيل إبطال المقتضي للثواب من أوّل الأمر ، كمن نشأ منكرا للولاية مع العلم بأنّها أحد الأثافي في الإسلام.

واخرى : من قبيل الإهدار ، مثل ما يهدر ثواب عمله الثابت في صحيفته لما صدر عنه من بعض الأعمال السيئة بالعمد والاختيار.

وفي تفسير العياشي قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه ، قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به».

أقول : الخروج عن الإسلام له مراتب ، وإنّ بعض مراتبه يوجب القتل ، كالارتداد ، وبعضه الآخر ليس كذلك ، وإنّما يوجب الفسق في الدنيا ودخول النار في الآخرة ، ومن ذلك ما ورد في الرواية. وكذا الكلام في الكفر من أنّ له مراتب.

ثمّ إنّ الحبط على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن تكون الأعمال دنيويّة يقصد بها الدنيا ، فلا تغني في القيامة أصلا ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [سورة

٣٨٠