مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

النفوس ، فتكون الإكمال الوارد في الآية الكريمة بهذا المعنى كما تدلّ على ذلك روايات وردت عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، هذا كلّه في الكمال المطلق والحقيقي. وإنّ الكمالات وجميع العوالم ترجع الى كمالاته تعالى.

وأمّا النقائص ، فترجع إمّا الى عدم الاستعداد للتلقّي ، أو لأجل طروّ مانع ، أو لأجل إغواء الشيطان في الإنسان. وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث عن كلّ منها في المورد المناسب.

بحث فقهي

يستفاد من الآية المباركة قواعد فقهيّة ، مضافا الى أحكام خاصّة.

أمّا الاولى فهي ثلاثة :

الاولى : قاعدة : «حرمة أكل الميتة إلّا ما خرج بالدليل» ، كما في حالات الاضطرار ، أو ميتة السمك مع تحقّق شروط حلّيتها.

وتختصّ هذه القاعدة بالحيوانات الّتي يحلّ أكلها ذاتا ـ كالأنعام الثلاثة ، وأنواع الظبي ، وأقسام الطيور الّتي فيها إحدى علامات الحلّ ـ وأمّا غيرها من محرّمات الأكل ـ كالفيران ، والسباع ، والحشرات وبعض الطيور الفاقدة لعلامات الحلّ ، فلا أثر لهذه القاعدة ؛ لأنّ لحومها محرّمة مطلقا ، سواء ذكيت أم ماتت حتف أنفها. نعم للتذكية أثر خاصّ ، وهو طهارة جلودها فقط ، ولا أثر لها في الحشرات ؛ لأنّها طاهرة حيّا كانت أم ميتة ، كما فصّل في الفقه.

وأمّا الحيوانات الّتي حرّم أكل لحمها بالعارض كالجلال ، وموطوء الإنسان ، فإنّ لحومها حرّمت إمّا بالفعل الشنيع ، أو بأكل النجاسة. نعم في خصوص الجلل جعل الشارع سببا لزواله كما هو مذكور في الفقه ، بخلاف الوطء فلا تزول الحرمة مطلقا ، فيجب قتله ودفنه إن كان ممّا يراد أكله ، والجلل ليس مانعا عن وقوع التذكية الّتي كانت ثابتة قبل الجلل ، لإطلاقات الأدلّة ، وأنّ المحرّم بالذات لو كان قابلا لها فالمحرم بالعرض بالأولى ، وكذا في الوطء.

٣٤١

كما أنّ القاعدة من القواعد الّتي لم تنلها يد التخصيص إلّا في الحيوانات البحريّة بشرائطها ، وفي غيرها باق على عمومها ، وأمّا الاضطرار فعدّه من التخصيص لها نحو تسامح ، بل هو تخصّص ـ كما في مورد النسيان ـ إذ «ما من شيء إلّا وقد أحلّه الاضطرار» ، إلّا أنّه مضيّق في المقام كما يأتي.

وكيف كان ، فقد دلّت الأدلّة الأربعة على حجّيتها.

أمّا الكتاب ، فقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وقد تكرّر هذا التعبير في القرآن الكريم أكثر من ثلاثة مواضع ، وإنّ متعلّق الحكم (الحرمة) هو الأكل ؛ لأنّه النفع الشائع والغالب منها.

وأمّا السنّة ، فروايات كثيرة متواترة تقدّم بعضها في البحث الروائي ، وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «لا تأكل من ذبيحة لم يذكر اسم الله عليها».

وفي معتبرة محمد بن قيس عنه عليه‌السلام أيضا : «ما فعلت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت ، وكلوا ممّا أدركتم حيّا وذكرت اسم الله عليه» وغيرها من الروايات.

ومن الإجماع ممّا لا خلاف بين المسلمين ، بل عدّ ذلك من ضروريات الفقه ، كما بيّنا ذلك في الفقه.

وأمّا العقل ، فإنّه يستقذر أكل الميتة ؛ لأنّه لا يؤمن من الأمراض والاضرار.

ثمّ إنّ المراد من الميتة الأعمّ ممّا مات حتف أنفه ، أو قتل ، وذبح على غير الوجه الشرعي.

وتثبت على الميتة أحكام أربعة :

الأول : النجاسة «فكلّ ميت نجس إلّا ما خرج بالدليل» ، كالسمك والحشرات ممّا لا نفس سائلة له ، وما ذبح على غير الوجه الشرعي على المبنى ، وإلّا فالمشهور النجاسة ، وهذه قاعدة مستقلّة اخرى.

الثاني : عدم صحّة الصلاة فيها وفي أجزائها ، إلّا ما استثنى.

٣٤٢

الثالث : حرمة الانتفاع منها في الجملة كما ثبت ذلك في المكاسب ، ومن شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

الرابع : حرمة الأكل.

والتفكيك في هذه الأحكام لا يصحّ إلّا بالدليل المعتبر شرعا.

القاعدة الثانية : «كلّ دم يحرم شربه إلّا ما خرج بالدليل» ، سواء أكان دم إنسان أم حيوان ـ مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ـ مسفوحا أم غير مسفوح ، نجسا أم طاهرا كدم العلقة.

والدليل عليها قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) بتقريب ما تقدّم في حرمة أكل الميتة.

إن قلت : إنّ الدم الوارد في الآية المباركة هو الدم المسفوح ، فلا تصير الآية الشريفة أصلا للقاعدة.

قلت : الدم المسفوح هو الغالب والأكثر في الدماء المراقة ، وغيره يلحق به للأدلّة الدالّة على ذلك في السنّة ، إلّا أن يدلّ دليل خاصّ على الحلّية.

وقول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : «وحرّم الله الدم كتحريم الميتة» ، وقريب منه غيره من الروايات ، وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام في تعليل حرمة أكل الطحال : «لأنّه دم».

وادّعى غير واحد من الفقهاء الإجماع على ذلك ، مضافا إلى أنّ الدم نجس ـ إلّا ما استثني ـ وشرب كلّ نجس حرام بالضرورة الفقهيّة.

وإنّه من الخبائث الّتي تستقذرها الطباع السليمة ، فالعقل يحكم باجتنابه.

ولا فرق في الدم من الحيوان ذي النفس السائلة أو غير ذي النفس السائلة كالوزغ ، والضفدع ، والقرد ، مسفوحا أو غير مسفوح كالعلقة ، والدم في البيضة.

كما لا فرق بين أن يكون مايعا فيشربه أو يابسا فيأكله ، كما لا فرق بين أن يكون ممتزجا مع شيء آخر أو لا ، إلّا أن يكون مستهلكا بحيث يراه العرف معدوما ، كلّ ذلك للقاعدة المتقدّمة.

٣٤٣

ثمّ إنّ القاعدة لا تشمل ما تداول في هذه الأعصار من التزريق ؛ لعدم تحقّق عنوان الشرب ، كما لا تشمل ما لو انقلب الدم الى شيء آخر.

وقد استثنيت من القاعدة المتقدّمة موارد :

منها : الدم المتخلّف في الذبيحة لإطلاق دليل حلّية أكل الذبيحة ، كما مرّ. ويشترط فيه أن يخرج الدم عن الذبيحة بالقدر المتعارف من مثلها ، وأن تكون مأكول اللحم ، وأن لا يرجع دم المذبح الى الجوف ، كلّ ذلك لأجل أدلّة خاصّة ذكرناها في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام).

ومنها : الدم من غير ذي النفس ممّا حلّ أكله كالسمك الحلال إذا أكل مع السمك ، وأمّا لو شرب منفردا فلا يبعد الحرمة للقاعدة المتقدّمة ، وأنّه من الخبائث وإن كان طاهرا.

ومنها : القلب والكبد من الحيوان مأكول اللحم ، لقاعدة الحلّية ، وعموم حلّية الذبيحة الشامل لجميع أجزائها الداخليّة والخارجيّة. ولكن المسألة مع ذلك مورد الإشكال تعرّضنا له في الفقه.

وهذه القاعدة كسائر القواعد الفقهيّة لها امتيازاتها ، كتقدّمها على الأصول العمليّة ، وحجّية لوازمها ، والتمسّك بها في موارد الشكّ.

وتثبت على الدم أحكام ثلاثة :

الأول : النجاسة ، فكلّ دم نجس إلّا ما أخرجه الدليل ، كدم الحيوان الّذي لا نفس له سائلة ، كالسمك والبرغوث وغيرهما.

الثاني : عدم جواز الانتفاع منه ، إلّا إذا كان فيه غرض عقلائي معتدّ به فيصحّ بيعه ، كما ذكرناه في المكاسب.

الثالث : حرمة شربه ، إلّا في موارد خاصّة كما مرّ ، وأمّا الصلاة مع الدم في اللباس أو على البدن ، ففيه تفصيل لا يسع المقام ذكره ، ومن شاء فليرجع الى كتاب الطهارة في شرائط لباس المصلّي. والله العالم.

القاعدة الثالثة : «كلّ حيوان قابل للتذكية إلّا ما خرج بالدليل» ، والأصل

٣٤٤

في هذه القاعدة عموم قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، بقرينة ما ورد في السنّة الشريفة.

ودعوى : أنّ الآية المباركة في مقام بيان كيفيّة زهوق الروح ، فبعض منها توجب الحرمة ، وبعض منها توجب الحلّية ، وهو التذكية.

قابلة للمناقشة ؛ لأنّ الآية الكريمة ـ بضميمة الروايات ـ أثبتت التذكية في الحيوانات وجعلت الحرمة للبقية ، سواء أكان الحيوان غير قابل لها ، أو أنّ زهوق الروح لم يكن بطريق التذكية ، فعموم الآية الشريفة بقرينة السنّة يكون أصلا للقاعدة.

ومن السنّة الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة في الفقه ، كأبواب الصيد والذباحة ، ولباس المصلّي ، والإحرام وغيرها ، وهي كثيرة فمنها :

صحيح ابن يقطين قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن لباس الفراء والسمور ، والفنك ، والثعالب وجميع الجلود قال عليه‌السلام : لا بأس بذلك» ، فإذا لم تكن الجلود قابلة للتذكية ، فجواب الإمام بنفي البأس مطلقا لم يكن صحيحا ، كما هو واضح.

وفي صحيح ابن بكير عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : «فإن كان غير ذلك ممّا نهيت عن أكله وحرّم عليك أكله ، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد ، ذكاه الذابح أو لم يذكه» ، إذ لو لا قبول التذكية لما صحّ قوله عليه‌السلام : «ذكاه الذابح أو لم يذكه» ، وغيرهما من الروايات.

ومن الإجماع ما ادّعاه صاحب الحدائق على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية إلّا ما خرج بالدليل ، كالكلب والخنزير والإنسان ، وأيّده صاحب الجواهر قدس سرّه ، كما ذكرناه في الفقه ، ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

ويمكن استفادتها من توسعة الشارع في هذا الأمر العام البلوى تقريبا ، إذ لو كان حيوان غير قابل للتذكية لبيّنه الشارع كما بيّنه في الكلب والخنزير وغيرهما.

ثمّ إنّ المراد من التذكية الاستعداد ، بمعنى أنّ الحيوان له اقتضاء التذكية. وأمّا

٣٤٥

أنّه هل تؤثّر التذكية فيه؟ فذاك بحث آخر. والحيوان الّذي يقبل للتذكية بحكم الشرع على أقسام :

الأوّل : الحيوان الّذي يحلّ أكله ذاتا وإن حرم بالعارض ـ كالجلال والموطوء ـ بحريّا كالسمك أو بريّا ، وحشيّا كان أو مأنوسا ، طيرا كان أو غيره. وإن اختلف في كيفيّة التذكية على ما فصّل في الفقه ، ولا شكّ في وقوع التذكية في هذا القسم ، وهي تؤثّر فيها لطهارة لحمها وجلدها والصلاة والطواف في أجزائها وحلّية أكل لحمها إن لم يحرم اللحم بالعارض.

الثاني : الحيوان الّذي لا يحلّ أكله وكان له نفس سائلة ولكنّه نجس العين ، كالكلب والخنزير ، فإنّه غير قابل للتذكية ؛ لفرض أنّه حرام ونجس على كلّ حال ذكي أو لم يذك ، فلا أثر للتذكية ، وأنّ القاعدة لا أثر لها في هذا القسم ، ويلحق بهذا القسم المسوخ كالفيل والذئب ؛ لأجل دليل خاصّ ، فيجري عليها حكم عدم التذكية ولو بعد التذكية.

ولكن ، نسب الى جمع من الفقهاء منهم الشهيد والمرتضى قبولها للتذكية ، مستدلّين بأدلّة تعرّضنا لها في الفقه وناقشناها ، فمن شاء فليرجع الى كتاب الأطعمة والأشربة من (مهذب الأحكام).

الثالث : الحيوان الّذي لا يحلّ أكله وله نفس سائلة ولم يكن نجس العين ، كالسباع الّتي تفترس الحيوانات وتأكل اللحوم ، سواء أكانت من الوحوش كالأسد والنمر والفهد والثعلب وابن آوى وغيرها. أم من الطيور كالصقر ، والبازي والباشق وغيرها ، فتؤثّر التذكية فيها وبها تطهر لحومها ـ وإن حرم أكلها ـ وجلودها وحلّ الانتفاع بها في غير الصلاة والطواف ، دبغت أو لم تدبغ.

الرابع : الحشرات الّتي تسكن جوف الأرض ، كالفارة وابن عرس ، فمقتضى القاعدة المتقدّمة أنّها قابلة للتذكية ؛ للشكّ في قبولها ، كما ذهب إليها صاحبا الحدائق والجواهر ، وإن نسب الى المشهور خلاف ذلك. ويظهر ممّا تقدّم المناقشة في ثبوت الشهرة في المقام.

٣٤٦

الخامس : الحيوان الّذي ليس له نفس سائلة لا أثر للتذكية فيه أصلا ، لا من حيث الطهارة ، ولا من حيث الحلّية ؛ لأنّه طاهر ومحرّم أكله على كلّ حال ذكي أو لم يذك ، فالقاعدة المتقدّمة لها الأثر في قسم خاصّ من الحيوانات كما عرفت ، وكذا في موارد الشكّ في المسخ.

ثمّ إنّ تذكية جميع ما يقبل التذكية من الحيوان المحرّم الأكل إنّما يكون بالذبح مع الشرائط المعتبرة ـ من التسمية ، والاستقبال ، وإسلام الذابح ، وفري الأوداج ، وتتابع الفري ـ وكذا الاصطياد بالآلة الجماديّة في خصوص الممتنع. وأمّا تذكيتها بالكلب المعلّم بالاصطياد مورد الإشكال ، والمسألة محرّرة في الفقه والله العالم.

ثمّ إن هنا أصلا موضوعيّا ، وهو أصالة عدم التذكية تمنع من جريان أصل البراءة والإباحة ؛ لأنّهما أصل حكمي ، والمراد من عدم التذكية (غير المذكي) في اصطلاح الكتاب والسنّة الميتة ، فهما وإن اختلفا مفهوما لكنّهما متّحدان شرعا وخارجا ، ويترتّب عليه أن بجريانها يحكم بالنجاسة وحرمة الأكل ؛ لأنّه مع وحدة الموضوع يثبت كلّ منهما ، فلا يكون الأصل مثبتا هذا.

وإن أمكنت المناقشة في ذلك من أنّه لا دليل على الاتّحاد ، إلّا أنّ المشهور بين فقهاء الإماميّة (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) ذلك ، وأنّ مخالفة المشهور نحو تعدّ ، والله العاصم من الزلل.

وكيف كان ، فإنّ مورد جريان هذا الأصل في الشبهات الموضوعيّة فقط ، وفيها أيضا لا بنحو السعة في أية شبهة موضوعيّة فرضت وتحقّقت ، فلو شكّ في أنّه هل يعتبر الاضطجاع على الأيسر أو على الأيمن في الحيوان المذبوح؟ أو هل يعتبر أن يكون الحيوان مربوطا بأن يشدّ يد الغنم مع إحدى رجليه أو لا؟ أو هل يعتبر أن يكون الذابح قائما؟ إلى غير ذلك ، فإنّ في جميع هذه الموارد وأمثالها لا تجري أصالة عدم التذكية ، بل يرجع الى أصالة عدم الاشتراط أو إلى العموم والإطلاق.

وإنّما تختصّ أصالة عدم التذكية في خصوص الشروط الّتي نصّ الشارع

٣٤٧

على اعتبارها ثمّ شكّ في تحقّقها في الخارج وعدم أمارة شرعيّة تدلّ عليها ؛ لأصالة عدم تحقّق ذلك الشرط ، فلا تحلّ الذبيحة حينئذ وتكون محكومة بالنجاسة.

وتدلّ الأدلّة الشرعيّة على اعتبارها ، فمن الكتاب قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، بتقرير أنّه لا تحلّ الذبيحة إلّا إذا أحرزتم التذكية.

ومن السنّة روايات كثيرة ، منها ما عن أبي جعفر عليه‌السلام : «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم الله عليها» ، ومثله غيره ، وظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل ممّا لا ينكر. وأمّا النجاسة فهي كما ذهب إليها المشهور ، وهناك روايات اخرى ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول).

ومن الإجماع ما ادّعاه غير واحد من الفقهاء ، وبقية الكلام موكولة إلى علمي الأصول والفقه.

وأمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآية المباركة فهي :

الأوّل : أنّه لا فرق في أسباب الموت والخنق وغيرهما بين أن تكون بالاختيار أو بغير الاختيار ، عن علم كانت أو جهل ؛ لإطلاق الآية المباركة. نعم لو كان الموت والخنق والإهلال لغير الله تعالى وغيرها ممّا ذكر في الآية الكريمة عن علم وعمد ، فإنّه مضافا الى جعل الحيوان ميتا أنّه ارتكب محرّما أيضا ؛ لذيل الآية الشريفة : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) ، إن لم يترتّب عنوان محرّم آخر ، كالإسراف وغيره.

الثاني : تدلّ الآية المباركة على أنّ الاضطرار المتجانف للإثم لا يوجب رفع الحرمة ، هذا إن كان باقيا على بغيه وتجرؤه. وأمّا لو تاب يجوز له أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار ؛ لتحقّق عنوان «غير متجانف لإثم».

الثالث : لا بدّ في مورد الاضطرار من ارتكاب أخفّ المحذورين ، فلو دار الأمر بين أكل لحم الخنزير أو شاة منخنقة ، فالظاهر يتعين الثاني ؛ لأنّه أخفّ من الأوّل. وكذا بالنسبة الى نفس الأكل كما في بعض الروايات : «يسد رمقه».

الرابع : أنّه لا يتحقّق الاضطرار لو وجد سبيلا الى الحلّية موضوعا أو حكما.

٣٤٨

الخامس : لو تحقّق الاضطرار من غير مخمصة ، بل كان لأجل التداوي مثلا يعتبر فيه أيضا أن لا يكون متجانفا لإثم ، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٤٥].

السادس : أنّ المستفاد من سياق الآية المباركة أنّه لو اضطر الى أكل ميتة حال المخمصة ، ولم يكن متجانفا لإثم ولم يأكل ـ أو صام ـ فمات أثم ؛ لأنّه أعان على نفسه وخالف تكليفه ، فإنّ حفظ النفس واجب شرعا وعقلا.

وأمّا لو امتنع عن التداوي بالميتة أو بالخمر حتّى مات ، فإنّه لا يأثم لأنّه لا يعلم أنّ الميتة أو الخمر يشفيه. نعم لو علم ذلك ولم يأكلها ـ أو لم يشربها ـ كان حكمه حكم الفرع الأوّل ، والله العالم.

بحث عرفاني

ظاهر الآية المباركة وإن كان خطابا للمؤمنين بإبلاغهم تكاليف توجب رقّي نفوسهم وتنوير قلوبهم ، ولكن يحتمل أن يكون باطنها عتابا لأهل السير والسلوك الّذين يطلبون الحقّ ويسعون للوصول الى الحقيقة بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى ، فناداهم ربّهم جلّ شأنه بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي : الدنيا بأسرها ، ففي كثير من الروايات التعبير عن الدنيا بالميتة ، فعن جعفر بن محمد الصادق (عليه أفضل الصلاة والسلام) : «والله لقد نزلت الدنيا منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت» ، فحرّمت الدنيا على الطالبين للحقّ والسالكين الى ساحة قربه ، (وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) كذلك حرّمت عليهم الصفات الّتي توجب البعد عن الأخلاق السامية كالحرص والقسوة ، بل حرّمت عليهم جميع ألوان الدنيا ومتغيّراتها حتّى الحلال منها فكيف بالحرام. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) وأيضا حرّمت عليهم كلّ فعل رفع صوت النفس بالأمر به ؛ لأنّ صوتها لغير الله تعالى ، (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ) وكذلك حرّم عليهم اختناق فطرته الداعية الى الله العظيم بمخالب

٣٤٩

الأطماع ، أو خنق نفوسهم بإخراج أنوارها الكائنة فيها بالرياء والإسماع ، أو بضرب جرح الصدر المنشرح بالإسلام والمهيّأ للحضور عند صاحب القلب وخالقه العلّام ، (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) فحرّم عليهم أن يردوا أنفسهم من أعلى العليين إلى أسفل السافلين باتّباع الشهوات والتعلّق بالماديات ، (وَالنَّطِيحَةُ) أي : حرّم عليهم التناطح مع الأقران بالتفاخر والمماراة بالعلم والزهد ـ حتّى في السير والسلوك ـ بين الأخوان ، (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) فحرّم عليهم القرب عن كلّ ظالم الّذين يتهاوشون على جيفة الدنيا تهاوش الكلاب ، (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) كما حرّم عليهم تقرّب نفوسهم لبيوت الأوثان ، وهي المظاهر الموجبة للصدّ عن معرفة الله تعالى بالتوغّل فيما يوجب البعد عن ساحة قربه بمعاشرة غير الأولياء الأخيار والأبرار ، (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) فلا تكونوا متردّدين متفئلين غير متوكّلين على الله تعالى بفتح قلوبكم لسهام الشيطان.

فإذا خلصتم من هذه الدواهي ، وتركتم هذه القبائح ، وخرجتم من هذه الظلمات لكون (ذلِكُمْ فِسْقٌ) ، أي : أنّ جميعها مهالك وظلمات توجب إماتة القلب ، وإخماد الفطرة ، والعذاب الأليم ؛ لأنّه يوجب الخروج عن طاعة الله تعالى ف (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لتحلية نفوسكم بالفيوضات الإلهيّة بعد التخلية عن المكائد الشيطانيّة ، ويأسهم عن إضلالكم لعدم تأثير الدنيا في نفوسكم مهما تزيّنت وتلوّنت ؛ لحصول المقصود بعد ما خلّصتم أنفسكم من تلك الظلمات ، فعادت ليلكم نهارا ونهاركم أنوارا (مِنْ دِينِكُمْ) لأنّه المنهج الوحيد للرقي الى المراتب العالية ، والوصول الى المقامات السامية والفوز بالسعادة الأبديّة ، (فَلا تَخْشَوْهُمْ) لأنّكم بلغتم المرحلة الّتي لا تؤثّر فيكم مكائد الشيطان ومصائده ، ونلتم المقام الّذي قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبلال : «ما فعلت يا بلال سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة» ، (وَاخْشَوْنِ) لأنّ الكمال والتكامل منه تعالى وأنّ كيده متين وبطشه شديد ، ولو لا إمداده لانعدمت الكائنات وزالت السماوات وفنيت الموجودات ، (الْيَوْمَ) وهو يوم ظهور الحقّ وكشف الحقيقة ، (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنّ كمال الدين كان في

٣٥٠

الأزل موجودا ولكن أنعمت عليكم بالتوفيق لاستعدادكم بالتديّن به ، وبه تنكشف الحجب وترتفع الأستار بعد صفاء نفوسكم وحياة قلوبكم ، «(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الّتي أنعمت بها عليكم من التوفيقات والتأييدات وإظهار دينكم على الأديان كلّها في الظاهر والحقيقة بالولاية ، (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) حتّى تستكملوا به نفوسكم وتسلكوا به الى الله تعالى بالخروج عن الوجود المجازي بالوصول الى الوجود الحقيقي ، فإنّ ابتغاء رضاءه من أسمى الكمالات ، وإنّ الإسلام هو دينه الى الأبد. (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) بالالتفات الى الدنيا مضطرا إليها في غاية الاضطرار ، (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) غير مائل إليها قلبا وغير متجاوز عن قدر الضرورة مع حفظ الحقّ والحقيقة الّتي نزلت في قلبكم ، والمعرفة الّتي أفاضها الله تعالى عليكم ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما ابتلى من الالتفات الى غيره تعالى المضطر إليه ، (رَحِيمٌ) يهديهم الى الحقّ بإقامة الدين والسير في الصراط المستقيم بعد الاستغفار وطلب الاستعانة من العزيز القهّار. ومن الله الاعتصام.

٣٥١

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥))

بعد أن ذكر سبحانه وتعالى بعض المحرّمات من الطعام واستثنى منها ما كان محلّلا على الإجمال ، يذكر عزوجل في هذه الآيات الشريفة بعض ما يحلّ أكله ، وهي الطيبات بأجمعها ، سواء أكانت من اللحوم أم غيرها ، وخصّ بالذكر منها ما اصطاده الإنسان بواسطة الحيوان المعلّم الّذي تعلّم على الصيد ، وطعام أهل الكتاب ، وأحلّ المحصنات من نسائهم للمؤمنين ؛ دفعا لما قد يتوهّم من الحرمة في ذلك ، فإنّ نفوس المؤمنين لا تطيب في طعامهم ولا في مناكحتهم بعد ما أمر عزوجل من الابتعاد عنهم ونهى عن ولايتهم ومعاشرتهم ومخالطتهم ، فتحدّد هذه الآية المباركة نوع العلاقة الّتي يجب على المؤمنين أن يتبعونها معهم ، وتزيل الشكّ عن نفوسهم.

وتبيّن الآية الشريفة بأنّ دين الإسلام دين التآلف والرحمة ، وينهى عن النفرة والمخادعة ، وقد أوعد عزوجل كلّ من لم يتبع الإيمان ويكفر بما شرّعه الله تعالى.

٣٥٢

التفسير

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ).

تفصيل بعد إجمال ما ذكره عزوجل في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) إثر بيان المحرّمات ، إلّا أنّ السؤال مطلق يشمل كلّ المحللّات من الطعام واللحوم. والجملة حكاية عن قولهم ، فالسؤال يتضمّن معنى القول ، وضمير الغائب (لهم) لأجل مراعاة ضمير الغائب في (يسألونك) ، ويجوز في مثل ذلك مراعاة اللفظ والمعنى كليهما ، فيقال مثلا : أقسم زيد لأفعلن كذا ، أو ليفعلن كذا ، فاندفع بذلك ما قيل إنّ السؤال ليس ممّا يعمل في الجمل.

قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).

جواب عامّ يتضمّن الضابط الكلّي الّذي يميّز به الحلال من الحرام في المطاعم والمآكل.

والطيبات : جمع الطيب ، وهو ما تستلذّه النفس والحواس ، ويقابله الخبيث ، قال تعالى : (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [سورة المائدة ، الآية : ١٠٠] ، ويستعمل في الأمور الماديّة والمعنويّة ، وفي الحديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمّار : «مرحبا بالطيب المطيّب» ، وقد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة ، قال تعالى : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) [سورة النور ، الآية : ٢٦] ، وقال تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [سورة النساء ، الآية : ٣] ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٢٤] ، وقال تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سورة سبأ ، الآية : ١٥].

وإطلاقه في المقام من غير تقييده بشيء للإعلام بأنّ المعتبر في تشخيصه الأذواق المتعارفة المستقيمة ، فما يستطيبه العرف العامّ السليم البعيد عمّا يصرفه عن الجادة المستقيمة ، فهو طيب ويكون حلالا ، كما عرفت في الآية الشريفة السابقة.

٣٥٣

ويستفاد من ذلك أنّ حلّية الطيبات عقليّة لا شرعيّة ، كما أنّ إطلاق الحلّية في المقام يشمل جميع ما يفهم العرف من هذه الكلمة.

ثمّ إنّ المنطوق يدلّ على حلّية جميع الطيبات ، وأمّا المفهوم فهو يدلّ على حرمة الخبائث ، فيكون ما ذكره عزوجل في الآية السابقة من الخبائث الّتي تعوفها الطبائع السليمة.

قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ).

عطف على الطيبات بتقدير مضاف ، وتكون (ما) موصولة ، أي احلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح بشروطه.

ويحتمل أن تكون (ما) شرطيّة وجوابها (فكلوا) ، والجملة عطف على جملة ، فلا يحتاج الى تقدير.

والجوارح : جمع جارحة ، والهاء فيها للمبالغة ، وهي صفة غالبة لا يذكر معها الموصوف إلّا قليلا ، واشتقاقها إمّا من قولهم : جرح فلان أهله ، إذا أكسبهم ، وفلان جارحة أهله أي : كاسبهم ، سمّيت بذلك لأنّ أربابها يكسبون بصيدها.

أو لأنّها تجرح الصيد غالبا ، فإنّ الصوائد من السباع يجرحون صيدهم بمقتضى الطبيعة السبعيّة المخلوقة فيها.

والجوارح : هي الكواسب من الطير ، والبهائم ، كالصقر ، والبازي والكلاب ، والفهود.

و (مكلّبين) بالتشديد اسم فاعل من التكليب ، وهو تعليم الكلاب وتأديبها للصيد ، وغلّب ليشمل جميع الجوارح ، أو لأنّ كلّ سبع يسمّى كلبا ، ففي الحديث : «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» دعاء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله على لهب بن أبي لهب.

وقيل : إنّه مشتقّ من الكلب (بالتحريك) ، بمعنى الضراوة والحرص ، وهو يرجع الى الأوّل أيضا ، فإنّ تعليم الكلاب للصيد لا بدّ أن يكون بالتأديب والإغراء بالصيد.

وكيف كان ، فإنّ اشتقاق هذه الكلمة يدلّ على أنّ أصلها تعليم الكلاب

٣٥٤

للصيد ، فيختصّ الحكم بالكلاب المعلّمة دون غيرها إلّا بدليل خاصّ ، ويشهد له اتّفاق أهل اللغة ـ على أنّ المكلّب هو صاحب الكلب ومؤدّبه ـ والتبادر أيضا ، فيقيّد به عموم الجوارح ، وتدلّ عليه بعض الروايات.

والآية المباركة تدلّ على حلّية صيد الكلاب المعلّمة بشروط ، أحدها أن يكون الصيد بالكلب المعلّم دون غيره من الجوارح والكلاب غير المعلّمة.

قوله تعالى : (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ).

جملة حاليّة من ضمير (مكلبين) أو استئنافيّة ، وهي تدلّ على أنّ التعليم له كيفية خاصّة وطرق معيّنة ، ممّا ألهمهم الله تعالى أو تلقّوه من الشارع الأقدس ، وقد ورد أنّه يشترط في الكلب المعلّم أن يسترسل إذا أرسله الصياد ، وينزجر إذا زجره ، وأن يكون معلّما ولا يعرف منه ذلك إلّا أن تتكرّر منه الأمور المعتبرة في التعليم. ويستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة ، فهذه شروط اخرى في حلّية الصيد ، وسيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).

بيان لشرط آخر من شروط حلّية صيد الكلاب المعلّمة ، وهو أثر من آثار التعليم ونتيجته. و (من) تبعيضيّة ، إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد ، والعظم وغيرهما ، والضمير المؤنّث في (أمسكن) راجع الى الجوارح ، والتقييد بقوله (عَلَيْكُمُ) للدلالة على أنّ الحلّ مقيّد بكون الإمساك لكم ، فيخرج ما أمسكن لأنفسهن ، وإنّما يعرف الإمساكان من القرائن الحافّة.

والمعنى : فكلوا من الصيد ما تمسكه الكلاب المعلّمة لأجلكم ، لا ما تمسكه لنفسها لتأكل منه.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ).

شرط آخر ، والضمير في (عليه) يرجع الى (ما علّمتم) ، فيكون المعنى : واذكروا اسم الله على الكلب المعلّم ، وذلك حين إرساله ، وتدلّ عليه جملة من الأخبار.

٣٥٥

وقيل : إنّ الضمير يرجع الى : ما (أمسكن) بأن يكون المعنى : إذا أدرك ما أمسكته الكلاب المعلّمة حيّا فإنّه يجب ذكر اسم الله تعالى حين تذكيته ، على تفصيل مذكور في الفقه ، وسيأتي في البحث الفقهي بعض ما يتعلّق بالمقام.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

حثّ على التقوى ، لما في هذا الأمر من التهاون والغفلة عن الأحكام الإلهيّة كما هو المشاهد في أصحاب الصيد.

والتقوى مطلوبة في جميع الحالات وكلّ الأمور بالايتمار بأوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه ، ويستفاد منه الاتّقاء عن أكل الصيد الّذي لم تتوفّر فيه الشروط المعتبرة ، والاتّقاء عن الصيد الّذي لم يكن للكسب والعيش ، كما إذا كان إسرافا في القتل ، أو كان عن تكبّر وتجبّر كما في صيد اللهو.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

بيان لمظهر من مظاهر علمه الأتمّ وقدرته الكاملة وإحاطته بمخلوقاته إحاطة تدبيريّة تامّة ، فهو الّذي أحصى كلّ شيء عددا ، كما قال تعالى : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٤٧] ، وهو وحده جلّ شأنه قادر على أن يكون حسابه سريعا ، فإنّ من سننه تعالى الجزاء على الأعمال ، وإنّه لا يضيع عنده عمل عامل من عباده ، فسوف يجازي المسيء على إساءته في الدنيا قبل الآخرة ، ولم يدع ظلم الإنسان على الحيوان بالعدوان عليه واغتياله والفتك به أن يذهب هدرا ، فإنّه يعاقبه ويربّيه أثر عمله في الدنيا كما دلّت عليه التجربة.

وإنّما أظهر اسم الجلالة لبيان العلّة ، ولترتب المهابة والعظمة ، ويستلزم ذلك الوقار له جلّ شأنه.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).

تأكيد لما سبق من حلّية الطيبات ، وتوطئة لما يأتي ذكره من المحلّلات ، والظاهر أنّ حلّية الطيبات عقليّة ، لا أن تكون شرعيّة ، فيحمل قوله تعالى على الإرشاد ، وكذا حلّية طعام أهل الكتاب إن كان المراد منه الحبوب ، فإنّ جميع ذلك

٣٥٦

داخل في أصالة الإباحة ، إلّا أن يقال بالحظر في الأشياء ، فتكون الإباحة شرعيّة لا محالة. وسياق الآية الشريفة يفيد الامتنان كما يأتي في البحث العرفاني.

وإطلاق الطيبات يشمل جميع ما تستطيبه النفوس السليمة ، والمتيقن منها ما ورد في الكتاب العزيز ، على ما عرفت آنفا.

وسبق الكلام في (اليوم) ، وإنّما ذكره عزوجل في المقام لمزيد المنّة على المؤمنين أن أحلّ لهم الطيّبات وأبعدهم عمّا يوجب الضرر عليهم.

قوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ).

بيان لأحد أفراد الطيّبات لبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين ورفع الشكّ عن نفوسهم بعد أن أمروا بالابتعاد عن الكافرين ونهوا عن موالاتهم ومخالطتهم ومعاشرتهم ، فاحتملوا شمول النهي لطعامهم أيضا ، فأتى تحليل الطيبات بقول مطلق ولم يرفع الشكّ الّذي كان يساورهم بالنسبة الى طعام أهل الكتاب ، ثمّ خصّه عزوجل بالذكر لإيجاد الطمأنينة ورفع الشكّ برفع الحرمة يقينا ، وكذا الكلام في قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وعرفت آنفا أنّ إحلال طعامهم لنا وإحلال طعامنا لهم إنّما هو حكم إرشادي ؛ لا أن يكون شرعيّا. وحينئذ لا جدوى في القول بأنّ قوله تعالى كلام واحد ذو مفاد واحد ، أو لم يكن كذلك؟ مع أنّ الظاهر أنّه واحد يتضمّن حكما عقليّا ، كما عرفت.

وما ذكره أولى ممّا قيل : من أن! الآية الشريفة ليست في مقام تشريع حكم الحلّ لأهل الكتاب وتوجيه التكليف إليهم ؛ لأنّ الكفّار غير مؤمنين بالله ورسوله وبما اوحي إلى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يطيعوه في تشريعاته المقدّسة ، فيكون الخطاب معهم لغوا وبلا فائدة ، وينزّه الحكيم عن مثل ذلك.

ويرد عليه أنّ في التكاليف الإلهيّة حكم ومصالح لا تتوقّف على عمل المكلّفين وطاعتهم فحسب ، إذ كم من حكم إلهي وتكليف ربّاني لم تعمل به الامة كما هو المشاهد المحسوس ، فقد تكون المصلحة اختيار المكلّفين وامتحانهم وغير

٣٥٧

ذلك ، ولعلّ النكتة في المقام هي دفع دخول طعام أهل الكتاب في المحرّمات من حيث كونها مصاحبا لمن حكم بكفره ، ونجاسته ، وخبثه ، وقذارته.

أو لرفع التنافر والتباغض بين الطائفتين المؤمنة والكافرة بعد بسط الإسلام ، ومع أنّه يمكن أن يراد من قوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) حلّية بذل الطعام لهم بالبيع ونحوه من المعاملات وغيرها.

ثمّ إنّ الطعام في الأصل يطلق على كلّ ما يذاق ، ويؤكل ، ويقتات ، وقد وردت هذه المادّة مكرّرا في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، قال تعالى : (فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) [سورة الأحزاب ، الآية : ٥٣] ، أي : إذا أكلتم ، وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [سورة البقرة ، الآية : ٢٤٩] ، أي : لم يذقه ، وقال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٣]. وهو يشمل كلّ ما يقتاته الإنسان ، فالعموم يشمل ذبائح أهل الكتاب كما يشمل غيرها من الأطعمة.

لكن ذكر أهل اللغة أنّ الطعام قد يطلق ويراد به البر خاصّة ، بل لعلّه المتبادر إذا اطلق ، ولهذا ورد في جملة من الروايات المروية عن ائمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد من الطعام في الآية المباركة هو البر وسائر الحبوب والفاكهة ، غير الذبائح الّتي يذبحونها ، فإنّها إمّا غير قابلة للتذكية ـ كالخنزير ـ أو ما يقبلها ولكن لا تتوفّر فيها شروط التذكية الإسلاميّة ، وهذا هو المخصّص لعموم الطعام لو كان له عموم يشمل غير الحبوب ، فيكون وجه اختصاصها بالذكر مع دخولها في الطيبات هو دفع توهّم دخولها في المحرّمات ؛ لأنّها مصحوبة لمن حكم بكفره ونجاسته وقذارته.

ومن ذلك يظهر فساد ما ذكره جمع في الآية الشريفة من أنّ الحكمة إنّما تظهر في حلّية الذبائح دون غيرها ؛ لأنّه لم يختلف أحد في حلّه ، فإنّ هذه الحكمة خلاف الحكمة كما عرفت ، ويشهد لذلك امور :

٣٥٨

الأوّل : أنّ الكفّار وصفوا في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة تدلّ على خبثهم وقذارتهم ورجسهم ، ويكفي اتّصافهم بالكفر الّذي هو أم الرذائل والخبائث ، وليس من الحكمة تحليل ذبائحهم الّتي تتّصف بالخبث أيضا ، وقد ذكرنا في الآية الكريمة السابقة أنّ الطعام له الأثر الكبير في النفوس.

الثاني : أنّ الله تبارك وتعالى ذكر في آيات عديدة محرّمات الطعام ووصفها بأوصاف متعدّدة ـ كالرجس ، والفسق ، والإثم ـ وليس من المعقول أن يحلّل سبحانه ما وصفه رجسا ، وفسقا ، وإثما ويدخلها في الطيبات.

إلّا أن يقال بالنسخ ـ ولم يعرف له وجه ، فإنّ الآيات الشريفة في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.

الثالث : ما ورد في بعض الأخبار تعليل تحريم ذبائحهم بقولهم عليهم‌السلام : «والله ما استحلّوا ذبائحكم ، فكيف تستحلون ذبائحهم؟!».

الرابع : أنّه لم يذكر اسم الله تعالى على ذبائحهم ، وقد قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [سورة الانعام ، الآية : ١٢١].

الخامس : أنّ حلّية ذبيحة الكتابي موضع النزاع والخلاف حتّى عند العامّة أيضا ، فلو كان للآية المباركة عموم يشمل ذبائحهم لما كان وجه للنزاع فيها.

وممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما ذكره بعض المفسّرين في الردّ على من يقول بأنّ المراد من الطعام الحبوب. بأنّه لا دليل لتخصيص العامّ بالحبوب ، مع أنّه موضوع للعموم ، واستشهد بجملة من الآيات الشريفة. فإنّ أئمة اللغة ذكروا بأنّ الطعام خاصّة وضع للبر ، دون سائر مشتقاته الّتي استدلّ بها لإثبات مراده. بل لعلّه المتبادر منه حيث اطلق ، مضافا إلى أنّ الأخذ بالعموم في مورد لأجل قرائن خاصّة لا تصير دليلا في المقام كما عرفت آنفا.

قوله تعالى : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).

الحلّ : هو الحلال ، والمراد من الضمير في (لهم) هم أهل الكتاب ، أي : اليهود والنصارى والمجوس ، وقد اختلف العلماء والمفسّرون في تفسير هذه الآية

٣٥٩

الشريفة ، فذهب جمع كثير الى أنّ الخطاب فيها للمؤمنين ، أي : لا جناح عليكم أيّها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم.

وردّ : بأنّه يستلزم استعمال الطعام بدل الإطعام ، وهو باطل إلّا بضرب من التوسّع ، ولا يمكن القول به هنا ؛ لأنّه ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ وهو ممتنع.

ولكن ، يمكن الجواب عنه بأنّه لا بأس به إذا كان فيه غرض صحيح أدبي.

وقيل : إنّ الآية المباركة بيان لنا لا لهم ، أي : أنّ الّذي كان محرّما عليهم ممّا هو حلال لكم ، قد أحلّ لكم أن تطعموهم.

وبعبارة اخرى : أنّ الطعام الّذي حلال لكم هو حلال لهم أيضا ، فالآية الكريمة في مقام بيان حكم وضعي ، لا حكم تكليفي.

ويرد عليه بأنّه مجرّد احتمال يحتاج الى دليل. وقيل : غير ذلك ممّا هو بعيد عن سياق الآية المباركة.

والحقّ أن يقال : إنّ الله تبارك وتعالى لما أحلّ للمؤمنين طعام أهل الكتاب بعد أن نهاهم عن موالاتهم ومعاشرتهم ؛ لأنّهم كانوا على عداء شديد للإيمان وأهله ، فكان المؤمنون يحترزون عن المعاملة مع الكفّار ومؤاكلتهم ومعاشرتهم حتّى نزول هذا الحكم الامتناني التسهيلي ، حيث أباح للمؤمنين طعام أهل الكتاب ، فكان ذلك من ناحية المؤمنين ، وقد أتمّ عزوجل النعمة والامتنان بأن رفع الحظر عن طعام المؤمنين لأهل الكتاب ، فأباح للأخير ما هو محلّل في الشريعة الإسلاميّة وإن كان محرّما في الشرائع الاخرى ، فأجاز للمؤمنين بيع الطعام لهم.

والآية الشريفة تشير الى معنى دقيق ، وهو رفع الحصار الّذي كان مفروضا من الطرفين بالشروط الّتي قرّرتها الشريعة الإسلاميّة ، فأباح عزوجل طعام كلّ طرف للطرف الآخر بعد أن كان محظورا لمصالح خاصّة. إلّا أنّ الحلّية لم تكن مطلقة بحيث تؤثّر على كيان المسلمين وتهدم شخصيتهم الإيمانية وتفسد قلوبهم

٣٦٠