مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

وذكر بعض أنّ الرضا في قوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) نظّر فيه معنى الاختيار ؛ فلذا عدّي ب (اللام) للدلالة على أنّ ارتضاه عزوجل للإسلام إنّما هو لصالح المؤمنين ولأجل سعادتهم.

ومنهم : من جعل الجارّ صفة ل (دين) منصوبا على الحاليّة من الإسلام أو تمييزا من (لكم) ، وقيل : (دينا) منصوب على الحاليّة من الإسلام أو تمييز من (لكم).

وقيل : إنّ الجملة مستأنفة لا معطوفة على (أكملت) ، وإلّا كان مفهوم ذلك أنّه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم.

ولكنّه باطل ، فإنّ الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله عزوجل ، قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩] ، وما ذكره من المفهوم فاسد لا اعتبار به ، فالجملة معطوفة على سابقتها ، وهي لبيان عظمة هذا اليوم ، وأنّ الإسلام الّذي أكمل بهذا التشريع واتمّ بهذه النعمة قد صار دينا خالدا أبديّا لا ينسخ وفي مأمن من الأعداء كما عرفت ، وهذه من جملة التشكيكات الباطلة في هذه الآية المباركة لإخراجها عن مفادها الواقعي وإدخالها في متاهات المفسّرين.

والمخمصة : من الخمص ، وهو ضمور البطن ، يقال : رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة ـ على المبنى كما مرّ ـ وخمصانة ، ومنه : أخمص القدم ، أي : باطنها الّذي لا يصيب الأرض ؛ فيكون في مشقّة وتعب ، ويستعمل كثيرا في الجوع الغرث قال الشاعر :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وفي حديث صفات المؤمن : «خماص البطون خفاف الظهور» ، أي : أنّهم أعفّة عن أموال الناس وهم ضامروا البطون من أكلها ، خفاف الظهور من ثقل وزرها ومحنة إثمها.

والخماص : جمع الخميص ، وهو البطن الضامر ، كما أنّ الخمائص جمع خميصة ، ومنه الحديث : «كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ، أي تغدو بكرة وهي جياع

٣٢١

وتروح عشاء وهي ممتلئة الأجواف. والخميصة هي ثوب خز أو من صوف معلّم ، وكانت من لباس الناس قديما.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) على اصول المحرّمات في اللحوم ، وهي هذه الأربعة وقد جمعت جميع الوجوه الّتي يمكن تصويرها في هذا النوع من المأكولات.

أمّا الأوّل : فلأن التغذّي به يوجب فساد المزاج ويجلب الضرر ، كما أثبته العلوم الحديثة.

والثاني : فإنّه ممّا يستقذره الطبع الإنساني ، مضافا الى أنّ التغذّي عليه يفسد المزاج ويؤثّر على النفس والبدن.

والثالث : فإنّه مضافا الى كونه يفسد المزاج وممّا يؤثر على النفس والبدن ، يستقذره الطبع المعتدل.

والرابع : فإنّه خلاف الفطرة المستقيمة الّتي ترشد الإنسان الى التوحيد ونبذ الأنداد ، ولأنّ فيه تشويش الفكر الإنساني الداعي الى الاستقامة ، ففيه الضرر المعنوي ، كجلب الشقاء للنفس كما ثبت ذلك في علم النفس.

وقد جمعت هذه الأربعة الأصول الّتي يمكن أن يكون كلّ واحد منها سببا للمنع والتحريم في غيرها أيضا ، وهي الضرر بقسميه البدني والمعنوي واستقذار الطبع ونفرته ، والتأثير النفسي الموجب لخروج الإنسان عن الفطرة المستقيمة وتخبّطه في الأمور.

ويعتبر الإسلام من أعظم الأديان السماويّة الّتي تراعي تلك الأمور بدقّة في جميع ما يطعمه الإنسان ، وقد تقدّم في تحريم الخمر بعض الكلام أيضا ، فيشترط في

٣٢٢

حلية اللحوم أن تستطيبه الطباع المعتدلة ، لا ما يكسبه الطبع بحكم المجاورة والعقيدة وبعض العادات السيئة ، فإنّ الطبع شديد التأثّر بهذه الأمور ، فلا يستشكل بأننا نرى الأقوام تأكل أشياء تعدّ في الشريعة الإسلاميّة من المنفّرات ، وممّا يستقذره الطبع ، فإنّ الإسلام يرى الطبع المعتدل الّذي لم يتأثّر بالعوامل الخارجيّة ، ثمّ لم يجعل ذلك على الإطلاق ، فقد قيّدها بأن تكون اللحوم من ذوات الأربع ، وخصّصها ببهائم الأنعام فقط ، ومع ذلك فقد نزّه عن أكل بعضها كالفرس والحمار ؛ لحكم كثيرة ، فخرج بذلك السباع والوحوش.

وأمّا الطير ، فقد خصّصه بغير الجوارح ، واشترط فيه أن يكون فيه حوصلة ، وأن يكون دفيفه أكثر من صفيفه.

وأمّا حيوان البحر ، فاشترط أن يكون فيه الفلس ، فاختصّ ببعض أنواع السمك ، وأن لا يموت في ما هو حياته فيه كما فصّلناه في الفقه.

فكانت هذه الشروط علامات لتمييز النافع للإنسان عن الضار ، فاجتمع في التشريع الإسلامي الجانب المادّي ـ وهو مراعاة النفع وعدم الضرر ، وعدم استقذار الطبع ـ والمعنوي وهو حفظ الفطرة المستقيمة عن الانحراف وتصحيح الفكر وابقائه على الاستقامة وعدم تلوّث النفس الإنسانيّة بأمور تفسدها وتصرفها عن نيل الكمالات الواقعيّة.

ولعلّ اهتمام الشرع الإسلامي بطعام الإنسان ؛ لأجل تأثيره الكبير في نفسه ، فإنّه إذا كان خيّرا وطيّبا فتتأثّر النفس والفطرة به ، فتكون طيبة وتستعدّ لنيل الكمال ، وإلّا فسدت وخرجت عن حدّ الاستقامة.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) على أنّ ذكر اسم غير الله يوجب حرمة الذبيحة ، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا.

وذكر بعضهم أنّه يفهم من ذلك كلّما ذكر اسم الله تعالى عليه حلّ أكله ، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا ، فيدخل فيه ذبائح أهل الكتاب ، فتكون على القاعدة.

٣٢٣

وهو مردود : بأنّ الآية المباركة ليست في مقام بيان هذه الجهة ، والمسألة محرّرة في الفقه مفصّلا فراجع.

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : (وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أنّ الحرمة في هذه الأمور المذكورة مضافا الى كونها من مصاديق الميتة ، أنّ قتلها بالكيفيّات الموصوفة خلاف الفطرة والرحمة الّتي ينشدها الإسلام في هذا الموضوع ، فهو يمنع من التعذيب والقتل الفظيع ، فإنّه دين الرحمة يبتغي الرحمة في جميع الشؤون ويأمر بنشرها في كلّ الأمور ، وينهى عن زجر الحيوان وأذيته في القتل وقطع أعضاء الحيوان وسلخه قبل زهاق روحه ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ، ووضع للتذكية شروطا وآدابا يوجب الرفق بالحيوان.

الرابع : يدلّ قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) على أنّ ما يوجب تحليل الحيوان الّذي أباح الشرع أكله أو الصلاة في جلده وسائر أجزائه هو التذكية ، وهي تتحقّق إمّا بالذبح أو النحر ، أو الصيد ، أو إخراجه ممّا هو حياته فيه ، أو وضع اليد عليه ، ولكلّ واحد من هذه الأمور شروط معيّنة مذكورة في الفقه.

وفي التذكية الشرعيّة اجتمعت الفطرة وما تهدي إليه الخلقة ، والرحمة ، فلا يردّ بأنّ الاقتصار على اللحوم الّتي تتهيّأ بالموت العارضي ، كحتف الأنف ونحو ذلك ممّا يجتمع فيه حكم الفطرة والخلقة الّتي تدعو الى أكل اللحوم ، وحكم الرحمة ، الّذي يدعو إلى نبذ تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح ونحوهما ، فلا يحتاج الى التذكية والذبح.

والجواب عنه يتّضح ممّا ذكرناه آنفا ، فإنّ الرحمة إنّما يجب اتباعها في ما إذا لم يستلزم ضررا وحرجا منها على الإنسان ، وإلّا كان خلاف الرحمة ، فلا يجب اتباعها ، مع أنّك عرفت أنّ الإسلام قد أمر بإعمالها في هذه الحالة أيضا قدر المستطاع.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

٣٢٤

نِعْمَتِي) أنّ هذا الحكم الإلهي له دخل في نظام التشريع ونظام التكوين ، فإنّ النعمة غالبا تستعمل في التكوينيّات ، لا سيما في المقام ؛ لأنّها ذكرت كمال التشريع ، وهذه قرينة اخرى على أنّ هذا الحكم هو الولاية الّتي جعلها الله تعالى للأئمة الطاهرين عليهم‌السلام ، فإنّ ولايتهم من فروع ولاية الله تعالى والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ريب في أنّ لهاتين الولايتين دخلا في نظامي التكوين والتشريع ، وتدلّ على ذلك روايات متعدّدة ، وفي الدعاء المأثور : «بكم يجبر المهيض ويشفى المريض وتزداد الأرحام وتغيض» ، وأنّ ذلك كلّه بعد مشيته تعالى.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) على انتفاء سبب الخشية من الكفّار بعد يأسهم اليوم ، فيتضمّن الوعد بحفظ هذا الدين من كيدهم وزيغهم وأباطيلهم وأمن المؤمنين بعد خوفهم ، كما يدلّ على الوعيد والتحذير أيضا ، فإنّ السبب انتقل من الأعداء الى ما عند الله تعالى وحده ، فإنّه لا بدّ من ابتغاء مرضاته وحفظ دينه بالطاعة والعمل بما أنزله عزوجل على رسوله العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يتسرّب الى هذا الدين من طوارق الفساد إلّا ما كان من قبل المسلمين أنفسهم.

ومن المعلوم أنّ الله تبارك وتعالى لم يحذّر العباد عن نفسه في كتابه الكريم إلّا في باب الولاية والطاعة ، فقال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ* قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٨ ـ ٣٠] بعد نهي المؤمنين عن اتّخاذ الكافرين أولياء ؛ فهذه قرينة اخرى على أنّ هذه الآية المباركة لها ارتباط وثيق بالولاية.

السابع : يستفاد من قوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) أنّ الاستقسام بالأزلام

٣٢٥

الّذي هو نوع من المقامرة في تعيين اللحم وقسمته بالأقداح فسق ويحرم أكل ما يخرج به ؛ لأنّ الآية الكريمة هي في مقام تعداد محرّمات الطعام من اللحم ، فلا يستفاد منها حرمة مطلق الاستقسام بالأزلام في غير اللحم ؛ فإنّه ليس من الفسق في تعيين بعض الأمور بذلك إذا لم يستلزم منه محرّم آخر.

وكيف كان ، فالآية الشريفة بمنأى عن الاستخارة بأي وجه كان ، والقرعة بأي أنواعها ، وطلب الغيب بوجه مشروع.

بحث روائي

الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة المتقدّمة حسب ما وردت في قطاعاتها على أقسام :

الأوّل : ما عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسين ، عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام قال : «سألته عمّا اهلّ لغير الله به؟ قال : ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر ، حرّم الله ذلك كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير ـ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه أن يأكل الميتة. فقلت له : يا ابن رسول الله ، متى تحلّ للمضطر الميتة؟ قال : حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل فقيل له : يا رسول الله إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة ، فمتى تحلّ لنا الميتة؟ قال : ما لم تصطحبوا ، أو تغتبقوا ، أو تحتفّوا بقلا فشأنكم بهذا ، قال عبد العظيم : فقلت له : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما معنى قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ)؟ قال : العادي السارق ، والباغي الّذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا ، لا ليعود به على عياله وليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا ، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار ، وليس لهما أن يقصّرا في صوم ولا صلاة في سفره ، فقلت له : قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، قال : المنخنقة الّتي انخنقت باخناقها حتّى تموت ، والموقوذة الّتي مرضت حتّى قذّها

٣٢٦

المرض حتّى لم يكن بها حركة ، والمتردّية الّتي تتردّى من مكان مرتفع الى أسفل أو تتردّى من جبل أو في بئر فتموت ، والنطيحة الّتي نطحتها بهيمة اخرى فتموت ، وما أكل السبع منه فمات ، وما ذبح على النصب على حجر أو صنم ، إلّا ما أدركت ذكاته فذكي ، قلت : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) ، قال : كانوا في الجاهليّة يشترون بعيرا فيما بين عشر أنفس ويستقسمون عليه بالقداح ، وكان عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها ، أمّا الّتي لها أنصباء فالفذ ، والتوأم والنافس ، والحلس ، والمسبل ، والرقيب ، والمقلى ، وأمّا الّتي لا أنصباء لها فالفسيح ، والمشيح ، والوغد ، وكانوا يحيلون السهام بين عشرة ، فمن خرج بينهما باسمه سهم الّتي لا أنصباء لها الزم ثلث من البعير ، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السهام الّتي لا أنصباء لها الى ثلاثة ، فيلزمونهم ثمن البعير ثمّ ينحرونه وتأكل السبعة الّذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا ، ولم يطعموا منه الثلاثة الّذين وفّروا ثمنه شيئا ، فلما جاء الإسلام حرّم الله تعالى ذكره ذلك فيما حرّم ، وقال عزوجل : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) يعني : حرام».

أقول : يستفاد من هذه الرواية امور :

الأوّل : أنّ ما ذبح لغير الله تعالى ميتة ، سواء كان لأجل الجماد أو الإنسان ، إلّا أن يرجع إليه تعالى كما في العقيقة ، أو ما يذبح لأجل السلامة الّتي منحها الله تعالى للإنسان ، أو لأجل الشكر على العافية ، أو لأجل الحفظ عن الخطر الّذي توجّه على الإنسان فأصرفه الله تعالى عنه.

وهذا أمر فطري ؛ لأنّ مثل هذا التعظيم لا ينبغي إلّا لخالق الكائنات ومبدع الآيات ومنزّل البركات.

وهل يأثم لو ذبح لغير الله تعالى مضافا إلى الحكم الوضعي؟ والبحث الفقهي يتكفّل هذا الجانب.

الثاني : أنّ الاضطرار الّذي يبيح المحظورات ، في أكل الميتة بالخصوص مقيّد

٣٢٧

بما لم يكن منشأه البغي والعدوان ، كما يأتي تفسيرهما وباق فيهما عليها ، إلّا إذا تاب حلّ لهما أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار ، كما يأتي في البحث الفقهي.

وأنّ المراد منهما السارق ، والّذي يبغي الصيد بطرا ، لا لأجل المعيشة ودفع الجوع عن نفسه أو عياله أو مسلم آخر ، فهو الباغي فيجري عليهما حكم الاختيار في حال الاضطرار إن لم يتوبا.

الثالث : يستفاد من هذه الرواية قاعدة عامّة في مورد الاضطرار المحلّ والمبيح للمحظورات ، وهي أن يصل المكلّف الى مرحلة لا يمكنه حفظ نفسه إلّا بارتكاب المحذور ، ولا وقع في مهلكة أو طرأ عليه مشقّة عرفا ، ولعلّ هذا هو المراد من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما لم تصطحبوا» ، أي : لم تأكلوا لقمة الصباح ، أو «تغتبقوا» ، أي : العشاء أو لم تجدوا بقلة بها يحفظ الإنسان نفسه ، فحينئذ يحلّ أكل الميتة لابقاء رمق الحياة ورفع ألم الجوع.

وعن بعض أنّ المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس لكم أن تجمعوا أكل الصبوح والعشاء من الميتة ، ولكن سياق الحديث يدلّ على ما ذكرناه.

وعن الأزهري في تفسير الحديث : «إذا لم تجدوا لبينة تصطحبونها أو شرابا تغتبقونه بعد عدم الصبوح والغبوق لم تكن بقلة تأكلونها حلّت لكم الميتة ، وهذا هو الصحيح» ، وهذا عين ما ذكرناه.

الرابع : أنّ السفر للصيد اللهوي كسائر الأسفار الّتي قصد بها المعصية ، لا يوجب القصر في الصلاة ولا الإفطار في الصوم.

الخامس : فسّر الموقوذة في هذه الرواية بالمرض الّذي يصيب الحيوان ، بحيث لا يجد ألم الذبح ولم يتمكّن من الحركة فيترك حتّى يموت ، وذلك من باب التفسير بالمصداق ؛ لأنّ المضروب أيضا كذلك لا يجد ألم الموت ولا يمكن له الحركة ، فيترك حتّى يموت والجامع موجود.

السادس : أنّ قوله عليه‌السلام : «إلّا ما أدركتم ذكاته فذكي» يرجع الى جميع

٣٢٨

الأقسام كما في الآية المباركة ، لا خصوص الأخير فقط ؛ لتحقّق سببيّة الحلّ وعدم ورود نهي من الشارع.

وعن الصدوق في الفقيه بإسناده عن علي بن إبراهيم بن هاشم سنة سبع وثلاثمائة بإسناده عن أبان بن تغلب ـ الّذي هو من أجلّاء أصحاب الصادقين عليهما‌السلام ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير معروف ، وما اهلّ لغير الله به يعني ما ذبح للأصنام. وأمّا المنخنقة ، فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة ، وكانوا يخنقون البقر والغنم ، فإذا خنقت وماتت أكلوها ، والموقوذة كانوا يشدّون أرجلها ويضربونها حتّى تموت ، فإذا ماتت أكلوها. والمتردّية كانوا يشدّون عينها ويلقونها من السطح ، فإذا ماتت أكلوها ، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش ، فإذا مات أحدهما أكلوه ، وما أكل السبع إلّا ما ذكيتم ، فكانوا يأكلون ما يقتله (يأكله) الذئب والأسد والدبّ ، فحرّم الله عزوجل ذلك ، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران ، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما ، (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) كانوا يعمدوا الى جزور فيجتزءون عشرة أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها الى رجل ، والسهام عشرة ـ الحديث».

أقول : يستفاد من الآية الشريفة ومجموع هذه الروايات أنّ الشريعة الإلهيّة في زمن الجاهليّة لم تحل تلك الطرق السيئة الّتي كانت سائدة في الأمم الغابرة ، كالمجوس ، والوثنيين ، وغيرهما ؛ لأنّ غالبها ممّا تأباها الفطرة المستقيمة.

وكيف كان ، فإنّ الرواية من باب الجري والتطبيق وذكر المصداق ، ولا فرق بين الروايتين إلّا في موارد بسيطة جدا.

وعن الشيخ في التهذيب بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير ، والنطيحة ، والمتردية وما أكل السبع ، وهو قول الله : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) فإذا ذكيت شيئا منها وعين تطرف ، أو قائمة تركض ، أو ذنب يمصع

٣٢٩

فقد أدركت ذكاته فكله. قال : وإن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك أو جبل ، إذا كنت قد أجدت الذبح فكل».

أقول : الرواية تبيّن حكم الشكّ في حياة الذبيحة ، فيكفي أحد الأوصاف في الحكم ببقاء الحياة ، فإذا ذبحت على تلك الحال حلّ أكلها ، والمراد من (عين تطرف) أي : تتحرّك ، وفي دعاء الصلوات : «اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد كلّما طرفت عين أو ذرفت» ، والمراد من «قائمة تركض» أن تضرب الأرض. ومن «ذنب يمصع» أي : الحركة مع الضرب ، والمراد من جودة الذبح أن يكون جامعا للشرائط الشرعيّة.

وفي تفسير العياشي عن محمد بن عبد الله ، عن بعض أصحابه قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، لم حرّم الله تعالى الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير؟ فقال : إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلّ لهم ما سواه من رغبة منه تبارك وتعالى فيما حرّم عليهم ، ولا زهد فيما أحلّ لهم ، ولكنّه خلق الخلق وعلم ما يقوّم به أبدانهم وما يصلحهم فحلّه وأباحه ؛ تقصّدا منه عليهم لمصلحتهم ، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ، ثمّ أباحه للمضطرّ وأحلّه لهم في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به ، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك ، ثمّ قال :

أمّا الميتة ، فإنّه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلّا من ضعف بدنه ونحل جسمه ووهنت قوّته وانقطع نسله ، ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة.

وأمّا الدم ، فإنّه يورث الكلب ، وقسوة القلب ، وقلّة الرأفة والرحمة ، لا يؤمن أن يقتل ولده والديه ، ولا يؤمن على حميمه ، ولا يؤمن على من صحبه.

وأمّا لحم الخنزير ، فإنّ الله تعالى مسخ قوما في صور شتى شبه الخنزير والقرد والدبّ ، وما كان من الإمساخ ثمّ نهى عن أكل مثله لكي لا ينتفع بها ولا يستخفّ بعقوبته.

وأمّا الخمر ، فإنّه حرّمها لفعلها وفسادها ، وقال : إنّ مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه ارتعاشا ، ويذهب بنوره ويهدم مروّته ، ويحمله على أن يكسب على المحارم

٣٣٠

من سفك الدماء وركوب الزنا ، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك ، والخمر لم يورد شاربها إلّا الى كلّ شرّ».

أقول : تدلّ هذه الرواية ـ مع قطع النظر عن السند ـ على امور :

الأوّل : أنّ سؤال الرواة عن بعض الحكم للأحكام مع أنّ الحكم فطري وعقلي لا ينافي الفطريّة كما في المقام ، فإنّ سؤاله عن العلل في الحرمة للأمور المذكورة لا ينافي أن يكون قبح أكلها فطريا تتنفّر الطباع السليمة البشريّة عنها كما تقدّم ؛ لأنّ الفطرة المستقيمة قد تخمد وتضيع ، وأنّ الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام يخرجونها عن خمودها ويبرزونها عن خفائها ، فإنّ المشرّع الّذي هو غني في ذاته وصفاته ، لا حاجة له فيما شرّع ، وإنّ المصالح والمفاسد ترجعان بالآخرة الى المكلّف.

الثاني : أنّ الحكم والمصالح أو المفاسد الّتي وراء الأحكام قد تظهر في هذا العالم ـ حسب سيره بأطواره ، وأدواره ، ومراحله ـ أو في عالم البرزخ أو في عالم الآخرة ، وفي الأخيرين لا محيص الى ذلك إلّا بالوحي ؛ لأنّ سلطان العلم مقهور فيهما.

وقد تكشف العلوم الحديثة عن بعض الحكم الّتي وراء الأحكام ، إلّا أنّها محدودة ، فقد تكون الحكمة في تشريع الحكم أوسع وأسمى ممّا كشفتها ، فإنّها نظريات محدودة قد لا يقتنع بها علماء آخرون ، ومن هنا قال بعض العلماء : «إنّ حكم التكاليف هي في غاية الخفاء ، لا يمكن دركها إلّا بدليل شرعي فقط».

وكيف كان ، فما ورد من الشرع في بيان حكم التكاليف ممّا لا شكّ في واقعيتها وصحّتها ، وما خفيت علينا كانت لمصالح لعلّ منها حفظ الانقياد ، وصون العبوديّة عن الخلل.

الثالث : أنّ ما ذكر فيها من الحكم إنّما هو من باب الغالب لا من باب الاستقصاء الكامل. ومن هنا لا وقع للإشكال بأنّ ما ذكر من الحكم فيها كضعف البدن ، ونحولة الجسم ، وانقطاع النسل ، وغيرها ممّا يمكن رفعها بغذاء أو دواء آخر ؛

٣٣١

لأنّ الحكم عنده تعالى في تشريع الأحكام أوسع وأكثر ممّا وصل إلينا ، مع أنّ الحكمة ليست كالعلّة بحيث يدور الحكم مدارها ، كما ثبت في محلّه.

الرابع : أنّ المفاسد الّتي تكون وراء تشريع الأحكام ـ المعبّر عنها بالحكم أو المصالح ـ قد تكون ظاهريّة مشهودة ، مثل انقطاع النسل في أكل الميتة أو موت الفجأة فيه ، وكذا نحولة الجسم ، وقد تكون معنويّة كالكلب (الحرص) في شرب الدم أو قسوة القلب ، وكذا قلّة الرأفة والرحمة ، فإنّها صفات دنيّة معنويّة ، فقد يوجب ارتكاب الحرام المفسدة الظاهريّة والمعنويّة ، وقد يوجب إحداهما دون الاخرى.

الخامس : أنّ قوله عليه‌السلام : «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن» ، في الإثم والبعد عن ما يوجب التقرّب لديه تعالى.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا تأكل الشريطة فإنّها ذبيحة الشيطان».

أقول : الشريطة هي الذبيحة الّتي لا تقطع أوداجها ويستقصي ذبحها ، وكانت العرب في الجاهليّة يقطعون بعض حلق الذبيحة ويتركونها حتّى تموت للقسوة الّتي توطّنت في نفوسهم ، وإنّما أضافها الى الشيطان لأنّه هو الّذي علّمهم ذلك وحمّلهم عليه وسوّله لهم.

القسم الثاني : من الروايات وهي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) في تفسير العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام في الآية : «يوم يقوم القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يئس بنو امية ، فهم الّذين كفروا يئسوا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أقول : الاختصاص بذلك اليوم لأنّه يوم ظهور الحقّ ، وزمان بسط العدل ، وتقدّم في التفسير أنّ المراد من اليوم الزمان اللائق لإظهار الحقّ ، وهو ممتد من حين البعثة الى يوم القيامة.

٣٣٢

وتقدّم أنّ للكفر مراتب ، وفي كلّ مرتبة دركات ، وإنّ الرواية من باب التطبيق والجري لا من باب التخصيص.

وفي تفسير علي بن إبراهيم قال : ذلك لما أنزلت ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام.

أقول : إنّ ذلك من باب التفسير بأجلى المصاديق ؛ لأنّ الحقّ إذا ظهر وثبت يحصل اليأس لمقابله ومعانده.

وفي شعب الإيمان للبيهقي عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ، ولكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات ، وهي الموبقات يوم القيامة ، فاتّقوا المظالم ما استطعتم».

أقول : الموبقات المهالك.

وفي حديث جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «ولكن في التحريش بينهم» ، أي : أنّ الشيطان يحرش بينكم حتّى يوقعكم في الموبقات.

القسم الثالث : من الروايات وهي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، وقد وردت روايات كثيرة جدا متواترة ـ نصّا ومعنى ـ عن العامّة والخاصّة أنّ المراد من هذه الآية الشريفة هو يوم الغدير الّذي نصّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام بالولاية ، وقد ضبط أكثرها مع التحقيق في أسانيدها وكونها ثقات غير واحد من علماء الفريقين ، وكتبوا في ذلك كتبا كثيرة جدا.

فعن ابن شهر آشوب في كتاب المناقب قال : «سمعت أبا المعالي الجويني ـ إمام الحرمين وأستاذ الغزالي ـ يتعجّب ويقول : شاهدت مجلدا ببغداد في يدي صحاف ، فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه المجلد الثامن والعشرون من طرق قوله : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ويتلوه المجلد التاسع والعشرون» ، وقد ذكر الكتب بأسمائها وسرد أحوال مؤلّفيها السيد مير حامد صاحب كتاب عبقات الأنوار ، وتبعه الشيخ الأميني في كتابه الغدير وغيرهما (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

٣٣٣

ومن العجب أنّه لم تنل فريضة من فرائض الله تعالى بمثل هذه الأهميّة بالوحي ، والضبط ، والتأكيد ، والإشهاد كفريضة الولاية ، ولم تجحد ولم تنكر كمثل هذه الفريضة في الشريعة المحمديّة الغراء ، ومع ذلك كلّه فالحقّ واضح والشمس ساطعة ، فعن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّ حقوق الناس تعطى بشهادة شاهدين ، وما اعطي أمير المؤمنين بشهادة عشرة آلاف أنفس ، يعني : يوم غدير خم ، إن هذا إلّا الضلال عن الحقّ المبين ، قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ* كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وفي الدرّ المنثور عن أبي سعيد الخدري قال : «لما نصّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام يوم غدير خم فنادى له بالولاية وهبط جبرئيل عليه بهذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).

أقول : بعد ما سبق أنّ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية الشريفة متواترة ومتّفقة المعنى ، لا يجدي رمي الحديث بضعف السند بعد التواتر وصراحة الدلالة. كما فعله بعض المفسّرين ، ولم يذكر وجه الضعف في هذا السند وأمثاله.

بل إنّ الروايات الدالّة على أنّ المراد من اليوم يوم عرفة لم تكن نقية السند ؛ لأنّ فيها سمرة وهو معلوم الحال ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعلى فرض الصحّة ، فلا يبعد أن تكون الآية المباركة نزلت في يوم عرفة ، ولكنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخّر إعلان الولاية الى يوم الغدير بوحي من السماء ولمصالح كثيرة كما يأتي ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تلا الآية الشريفة مقارنة مع التبليغ في يوم الغدير ، ويدلّ على ذلك تهنئة الخليفة الثاني لعلي عليه‌السلام في يوم غدير خم مع قوله : إنّها نزلت في يوم عرفة كما في بعض الروايات.

فعن المناقب لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال : «من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب الله له صيام ستين شهرا ، وهو يوم غدير خم ، بها أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيعة علي بن أبي طالب ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، فقال له عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن

٣٣٤

أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، فأنزل الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)».

أقول : هذه الرواية صريحة في ما قلناه وظاهرة في أنّ الآية الشريفة نزلت في يوم غدير خم وغير قابلة للتأويل.

وفي تأريخ بغداد للخطيب البغدادي روى بسنده عن أبي هريرة قال : «من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستين شهرا ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : ألست ولي المؤمنين؟! قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب :

بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم ، فأنزل الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)».

أقول : الرواية ذكرها الخطيب في ترجمة حبشون الّذي نقل الرواية ، وروى قريبا منها السّبيعي في تفسيره ، وابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

وفي شواهد التنزيل بإسناده عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : «بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الطواف إذ قال : أفيكم علي بن أبي طالب؟ قلنا : نعم يا رسول الله ، فقرّبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فضرب على منكبيه وقال : طوباك يا علي ، أنزلت عليّ في وقتي هذا آية ذكري وإيّاك فيها سواء : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)».

أقول : لا منافاة في أنّ الآية المباركة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل يوم الغدير بأيام وعلم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجمع آخرون ، ولكن أخّر صلى‌الله‌عليه‌وآله إعلانها الى يوم الغدير حتّى نصّب عليا بالولاية كما تقدّم ، ويدلّ على ذلك ما رواه فرات بن إبراهيم الكوفي ، قال : حدّثني علي بن أحمد بن خلف الشيباني ، عن عبد الله بن علي ابن المتوكل ، عن بشر بن غياث ، عن سليمان بن العمر العامري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : «بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة أيّام الموسم

٣٣٥

إذ التفت الى علي فقال : هنيئا لك يا أبا الحسن! إنّ الله قد أنزل عليّ آية محكمة غير متشابهة ، ذكري وإيّاك فيها سواء (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية».

أقول : الظاهر تعدّد الواقعة ، وتدلّ على ما ذكرنا روايات اخرى.

وفي شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري : «انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت عليه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) قال : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي وولاية علي بن أبي طالب ، ثمّ قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

أقول : وفي رواية اخرى عن أبي سعيد الخدري أيضا : «انّ النبي دعا الناس الى علي فأخذ بضبعيه فرفعهما ثمّ لم يفترقا حتّى نزلت الآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)» ، فمن سياقهما يستفاد أنّ الآية المباركة نزلت في يوم غدير خم ، وتقدّم في التفسير معنى إكمال الدين وإتمام النعمة عليه.

وفي تفسير علي بن إبراهيم بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «آخر فريضة أنزلها (الله) الولاية ، ثمّ لم ينزل بعدها فريضة ، ثمّ أنزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بكراع الغميم ، فأقامها رسول الله بالجحفة فلم تنزل بعدها فريضة».

أقول : كراع الغميم واد بالحجاز بينه وبين المدينة نحو من مائة وسبعين ميلا ، وبينه وبين مكّة نحو ثلاثين ، وهذه الرواية تقرب ما ذكرناه من أنّه لا تنافي بين أن تكون فريضة الولاية نزلت في مكّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو في عرفة ، واخّر إعلامها حتّى وصل الى كراع الغميم الّذي هو في طريق الجحفة ، فنزلت الآية المباركة عليه ونصّب عليا عليه‌السلام في الجحفة لأهمّيّة الأمر ؛ لأنّ الإسلام كالمادة للولاية ، ولا قوام للمادة إلّا بالصورة ، ولا صورة إلّا بالمادة ، وقد ورد مضمون ذلك في روايات كثيرة.

وفي أمالي الشيخ بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد ، عن أبيه أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن علي عليه‌السلام قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : بناء الإسلام على خمس

٣٣٦

خصال : على الشهادتين ، والقرينتين ، قيل له : أما الشهادتان فقد عرفناهما ، فما القرينتان؟ قال : الصلاة ، والزكاة ، فإنّه لا تقبل إحداهما إلّا بالأخرى ، والصيام وحجّ بيت الله من استطاع إليه سبيلا ، وختم ذلك بالولاية ، فأنزل الله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)».

أقول : الروايات الواردة بهذا المعنى من أنّ الإسلام بني على الخمس كما في الرواية فوق حدّ التواتر ـ لو صحّ التعبير ـ وقد جعل لها صاحب الوسائل بابا في مقدّمة العبادة من كتابه الشريف ، والسرّ في هذا الاهتمام من قبل الشرع للولاية فإنّها كالحياة لأصول التكاليف والشعائر الّتي قوام الدين بها ، وهي بدونها مجرّد هيكل وقصب ، ولم يتمحض في القلب حتّى تكون بها الحركة والسير الى الله تعالى.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس قال : «ولد نبيكم يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين ، وخرج من مكّة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وفتح مكة يوم الاثنين ، ونزلت سورة المائدة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين».

أقول : لو صحّ الخبر لكان من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعلّه الى ذلك أشارت ابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض خطبها : «آه من يوم الاثنين» ، أي المصائب الّتي حلّت بالأمة من بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي بعض التواريخ أنّ واقعة الطفّ كانت يوم الاثنين أيضا.

القسم الرابع : من الروايات الواردة في تفسير الآيات المباركة هي ما عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، قال : «هو رخصة للمضطر أن يأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمخمصة الجوع».

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) قال : «يقول غير متعمّد لإثم».

أقول : المخمصة وإن كانت هي المجاعة ، ولكن تستعمل في كلّ شدّة

٣٣٧

وضيق ؛ ولذا لا يبعد استفادة تشريع التقيّة من هذه الآية المباركة ؛ لأنّ في تركها شدّة وضيقا ، فيتبع الإثم ، أي : المعاند للحقّ من غير ميل قلبي ، أي : غير متجانف ، وسيأتي البحث عنها في محلّه.

بحث فلسفي

ثبت في الفلسفة الإلهيّة أنّ الكمال المطلق ـ أو الكمال الحقيقي ـ منحصر في المبدأ ، وبه جلّ شأنه ، وهو تعالى يفيض على الكائنات عامّة وعلى الخواص منها ، كما يفيض على أخصّ الخواص كالأنبياء والأولياء والأبرار من الأخيار ، كلّ حسب لياقته.

والمراد من الإطلاق هنا عدم إمكان التحديد من جميع الجهات والجوانب والمراتب ؛ لأنّ جلّ شأنه موجد الكمال ، وعين الكمال ومنه الكمال والكمال كلّه يرجع إليه جلّت عظمته.

وبتعبير أهل الذوق من العرفاء : حقيقة كماليّة وسيعة ـ لا يمكن تحديدها ـ وإنّ الحدود بأقسامها ، والتحاليل بأنواعها ، وإنّ النفوس مهما بلغت من العلوّ والسمو قاصرة عن دركها ، فهو جلّ شأنه غيب وظهور ، وغيبه من أسمى الكمال وظهوره عين الكمال وغايته ، فإنّه الكمال وإليه ينتهي شرف الكمال.

ولا نقصد من هذا التعبير وحدة الوجود والموجود حتّى يستلزم محاذير ومفاسد ، وإنّما نعني أنّ الكمال الواقعي والحقيقي منحصر به تعالى وفائض منه ، وأنّ الكمالات مهما بلغت من الرتبة إشراق منه وظل ، وهذا يستلزم وحدة الوجود الّذي هو مقرّر في الشرع ، وعليه معظم الحكماء من المشّائيين والإشراقيين ؛ لأنّ التحديد ـ بمعناه العامّ ـ في شأنه جلّت عظمته أو في صفاته نقص ويستتبع تخلّفات ، ويستلزم المفاسد الّتي لا يمكن الالتزام بها ويجب الفرار عنها ؛ ولذلك ترى أنّ الأئمة المعصومين عليهم‌السلام كانوا يتوسّلون بالجانب السلبي في تعريف ذاته أو بيان صفاته ، كما

٣٣٨

تقدّم مكرّرا ، فعن علي عليه‌السلام في تعريف قدرته تعالى : «لا يعجزه شيء» ، وفي إحاطته تعالى : «لا يمنعه شيء» ، وفي حياته : «لا يموت» ، وفي قيموميته : «لا وجود ولا دوام إلّا به» وهكذا.

وتدلّ على ما تقدّم من أنّ الكمال المطلق منحصر به تعالى وأنّ صفاته جلّ شأنه عين الكمال الحقيقي بالأدلّة العقليّة والنقليّة.

أمّا الاولى ، فهي كثيرة ، أهمّها هو : أنّه تعالى جامع لجميع الصفات الكماليّة. فلا يعقل كمال فوق ذلك ، وإلّا استلزم الخلف أو النقص الّذي في حقّه محال.

وأنّ الكمالات كلّها فيوضات ترجع إليه تعالى وتصدر منه ، فلا يعقل أن يكون معطي الشيء فاقدا له.

على أنّه لا تحديد لقدرته فتتعلّق القدرة بما سواه ، فكلّ كمال تحت قدرته وذاته فوق الكمال ؛ ولذا قال بعضهم : سلب الكمال في حقّه محال.

مع أنّه خالق كلّ شيء ، فمقتضى إيجاده لكلّ شيء أن يكون جامعا للكمالات ، وأنّها ترجع إليه سبحانه وتعالى ، وإلّا استلزم الخلف ولا يكون خالق كلّ شيء ، وقد ثبت في محلّه أنّه جلّ شأنه بوحده خالق كلّ شيء ، وفي الحديث : «نعمتان ما خرج موجود عنهما ، نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد» ، وهناك أدلّة اخرى مذكورة في المفصّلات من الفلسفة الإلهيّة.

واما الأدلّة النقليّة ، فهي كثيرة ، أهمّها هي : الآيات الشريفة الدالّة على نفي الشريك بتعابيرها المختلفة ، فإنّها تدلّ على نفي الشرك في الذات وفي الصفات ، وهذا عين الكمال الحقيقي ، وإفاضة الكمالات منه إلى العوالم وإضافة كمالاتها إليه كمال آخر منحصر به تعالى.

وكذا قوله تعالى : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [سورة النساء ، الآية : ١٣٩] ، فالعزّة بمعناها الوسيع غير المتناهي له جلّت عظمته ، فتشمل جميع الكمالات ؛ لأنّها من أجلى مصاديق العزّ ، وبمقتضى الحصر في الآية المباركة تكون الكمالات كلّها له ومنه وإليه.

٣٣٩

وكذا قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٦] ، فالملك بمعناه العامّ وبمراتبه اللامحدودة تحت إرادته ، وكذا الخير ، وهما من أسمى الكمالات. والآيات المباركة الدالّة على ذلك كثيرة جدا.

ثمّ إنّ صفات الذات كالعلم والحياة ، والقيّوميّة وغيرها هي الكمال الحقيقي وإليها ترجع الكمالات كلّها في جميع العوالم ، وهذا ممّا لا شكّ فيه.

وأمّا صفات الفعل كالرزق ، والخلق ، والهبة ، والرحمة ، والغفران ، والعذاب كلّها من الكمال المطلق ؛ لأنّها من مظاهر أسمائه المنحصرة به جلّ شأنه ، واتّصافها بالوجود والعدم لا يضرّ بالمقام.

وإنّ ما سواه تعالى من الكائنات كلّها متّصفة بنوع من الكمال ، وهو الوجود الّذي هو الأصل لإضافتها إليه تعالى بالإيجاد.

وما اتّصفت منها بالحياة بمراتبها وأقسامها غير المتناهية لها نوع آخر من الكمال يعبّر عنه بالكمال العامّ ، وما كان فيها من الآثار والخواص كان لها كمال خاصّ حسب لياقتها وقابليتها.

وأمّا ما أفاض على الإنسان من العقل ـ الّذي يدرك به ويفكر ويرتقي ـ فيعبّر عنه بالكمال الأخصّ ، ولهذا الكمال مراتب حسب شرف القرب إليه تعالى وبعده ، كما أنّ ما أفاض على الأولياء والأنبياء هو من أشرف الكمالات حسب استعدادهم ولياقتهم.

وإنّ الشرائع الإلهيّة والتكاليف السماويّة والكتب المنزلة على الأنبياء كلّها من الكمالات النازلة من الربّ الجليل ؛ لاستكمال نفس الإنسان والرقي بها الى المقامات العالية ، وكذا العلوم بأقسامها.

ثمّ إنّ الأديان السماويّة الّتي نزلت لأجل تهذيب النفوس وإيصالها الى السعادة وإخراجها من الظلمات الى النور ، لا بدّ فيها من الاستعداد والأهليّة في

٣٤٠