مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

أعاد الضرب. وقال : إنّه حرام ؛ لأنّه من الطيرة ، أو ضرب من التكهّن والتعرّض لعلم الغيب.

والحقّ أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على أنّها في مقام بيان محرّمات الأطعمة ، ومن جملتها قسمة اللحم بالمقامرة ، وإن كان الاستقسام بالأزلام أعمّ من ذلك ، فإنّه يستعمل في استعلام الخير والشرّ أيضا ، إلّا أنّه قد توجب القرائن الحافّة بالكلام صرف اللفظ عن عمومه واستعماله في مورد خاصّ ، وهو كثير والمقام منه ، يضاف الى ذلك أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة الاستقسام بالأزلام وحرمة طلب الخير أو الشرّ ، منها محلّ الكلام ، فإنّه ضرب من الاستخارة الّتي ورد الإذن فيها ولا يضرّ اختلاف الآلات في استعلام الخير ، فقد يكون بالسهام ، وقد يكون بغيرها.

نعم ، لا بدّ أن يكون الاستخبار من الله تعالى ، فلا موضوعيّة للآلات ، بل هي طريق الى طلب الخير من الله العظيم ، نظير التفاؤل الّذي كان نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّه. والادّعاء بأنّه من الطيرة والتكهّن. باطل كما هو واضح.

وأمّا التعرّض لطلب علم الغيب ، فلا بأس به ، وذكرنا ما يتعلّق بالاستخارة وأقسامها وسائر خصوصياتها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع ، وسيأتي في البحث الروائي مزيد كلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (ذلِكُمْ فِسْقٌ).

الفسق : هو الخروج عن طاعة الله تعالى الى معصيته ؛ لأنّه الخروج عن الاستقامة ، وتقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٦].

والإشارة راجعة الى جميع المذكورات ، فإنّها محرّمات شرعا ، واستحلالها خروج عن طاعة الله تعالى وإعراض عن شرعه ، كما أنّ الكفّ عنها من الوفاء بالعقود الّذي تقدّم في صدر السورة ، ويشهد له قوله تعالى في سورة الأنعام : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [سورة الأنعام ،

٣٠١

الآية : ١٤٥] ، فإنّه جعل غير الثلاثة الّتي هي رجس من الفسق وعدّ منه ما اهل لغير الله به.

ويحتمل رجوعها إلى الأخيرين من بعد الاستثناء (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ؛ لحيلولته عمّا قبله ، أي : ما ذبح على النصب والاستقسام بالأزلام.

وقيل : إنّها ترجع الى الأخير فقط. وهو بعيد عن سياقها.

وكيف كان ، فإنّ الإشارة بالبعيد فيها الدلالة على بعدها عن الخير.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ).

سياق الآية الكريمة يدلّ على أنّها جملة معترضة اقحمت في ضمن الآية الكبيرة المباركة الّتي نزلت لبيان محرّمات الطعام ، ومن عادة القرآن الكريم أنّه إذا أراد بيان أمر من الأمور الّتي لها أهميّة خاصّة أدرجه في ضمن الآيات الكريمة لحكم متعدّدة ، ويعتبر ذلك أسلوبا بلاغيا مستحسنا عند البلغاء والفصحاء ، ويظهر ذلك بوضوح في قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً* وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) [سورة الأحزاب ، الآية : ٣٢ ـ ٣٤] ، فإنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) جملة معترضة ذات دلالة مستقلة لا تتوقّف على بقية الآية الشريفة تبيّن قضية مهمّة ، وهي عصمة أهل بيت النبي الّذين قرن الله طاعتهم بطاعته.

وفي المقام : صدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتة وبقية محرّمات الطعام ، وذيلها يدلّ على حلّيتها حال الاضطرار والمخمصة ، فمجموع الصدر والذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقّف على شيء آخر ، نظير قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ

٣٠٢

وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٣] ، ويماثلها ما في سورتي الأنعام (١٤٥) والنحل (١١٥) ، فيكون قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة ، ولا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى ، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة ويبينان أمرين ، أحدهما محرّمات الطعام ، والثاني كمال هذا الدين وتمامه وظهوره على الشرك كلّه ، وأنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. ويؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة ـ الّتي هي كثيرة ـ تخصّ قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) بالذكر ولم تتعرّض لصدر الآية المباركة ولا لذيلها ، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة ، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم ، كما عرفت آنفا.

ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الواضع هو الله تعالى ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر منه عزوجل ، أو كتّاب الوحي بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه لا يضرّ في أصل المطلب.

كما أنّ الجملة المعترضة وإن تركّبت من جملتين إحداهما تدلّ على ظهور هذا الدين على الشرك وأمنه من كيدهم ، فلا خوف من أعداء هذا الدين ولا حاجة إلى مداراتهم ، والجملة الثانية تبيّن كمال الدين وإتمام النعمة ، إلّا أنّ مضمون كلتا الجملتين يرتبط أحدهما بالآخر ، وهو يدلّ على أنّ هذه الجملة المعترضة كلام واحد لا كلامان ، كما تدلّ عليه الروايات الّتي وردت في شأن نزولها. ولا يضرّ في ذلك تكرار لفظ (اليوم) الّذي يراد به في كلتا الجملتين يوم واحد ، وهو اليوم الّذي يئس فيه الكفّار وأكمل فيه الدين كما ستعرف.

ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة ويراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها ، ويقابله الليل كما في قوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ

٣٠٣

حُسُوماً) [سورة الحاقة ، الآية : ٧] ، ويعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري ، وهو المراد حيث اطلق.

واخرى : يطلق ويراد به من حين الفجر الى غروب الشمس ، ويعبّر عنه في الفقه باليوم الصومي ، قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٦].

وثالثة : يراد به مجموع الليل والنهار ، كما في قوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [سورة الحج ، الآية : ٢٨] ، وقوله تعالى : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [سورة الكهف ، الآية : ١٩] ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ) [سورة الحج ، الآية : ٤٧].

ورابعة : يراد به مقطع خاصّ من الزمان ، سواء أكان قصيرا أم طويلا ، كما في قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [سورة غافر ، الآية : ٤٩] ، وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [سورة يونس ، الآية : ٣] ، وقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٤٠] ، وقوله تعالى : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ٢٤].

الخامسة : يطلق ويراد به يوم القيامة الّذي يعدّ من أعظم الأيام في الشرائع السماويّة ، وقد ذكره عزوجل في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة ، قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [سورة يس ، الآية : ٥٤] ، وقال تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) [سورة يس ، الآية : ٥٥] ، وقال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [سورة يس ، الآية : ٥٩] ، وقال تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) [سورة الحديد ، الآية : ١٢] ، وقال تعالى : (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣١].

ولأهمّيّة هذه الكلمة في الأديان الإلهيّة فقد ذكرها عزوجل في القرآن المجيد في أكثر من أربعمائة مورد بصيغها المختلفة وهيئاتها المتعدّدة.

وقد اختلف العلماء والمفسّرون في المراد من اليوم في المقام.

٣٠٤

فقيل : إنّه زمان ظهور الإسلام ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعوته الى التوحيد ونبذ الأنداد ، فيكون المراد من قوله تعالى : أنّ الله أنزل إليكم الإسلام ، وأكمل لكم الدين ، وأتمّ عليكم النعمة ويأس الكفّار من دينكم فلا تخافوهم بعد ذلك.

وأشكل عليه بأنّه يلزم من ذلك أن يكون للمسلمين دين قبل الإسلام كان المشركون يطمعون فيه ، ويخشى المسلمون منهم على دينهم ، فأيأس الله الكافرين بإكمال دينهم وإتمام نعمته عليهم كما هو ظاهر سياق الآية المباركة ، وهو خلاف الوجدان ، فإنّه لم يكن لهم قبل الإسلام دين يطمع فيه الكفّار أو يكمله الله ويتمّ نعمته عليهم.

وقيل : إنّ المراد به ما بعد فتح مكّة ، فإنّه اليوم الّذي أبطل الله تعالى كيد المشركين وأذهب شوكتهم وهدم بنيانهم ، فانقطع رجاؤهم فلم يخفهم المسلمون على دينهم ولا على أنفسهم.

ويرد عليه : أنّ الآية المباركة تدلّ على كمال الدين وإتمام النعمة وفي ذلك اليوم لم يكمل الدين ولم تتم النعمة بعد ، وقد فرضت كثير من الشرائع والأحكام وأنزلت عدد من الفرائض بعد يوم الفتح.

مع أنّ الآية الشريفة تدلّ على ايئاس جميع الكفّار من هذا الدين ولم يكن كذلك بعد يوم الفتح ، إذ أنّ بعض العادات السيئة والشرائع الفاسدة كانت موجودة عندهم حتّى بعث فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أبطل تلك العادات السيئة والشرائع الفاسدة.

وقيل : إنّ المراد به ما بعد نزول سورة البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب وعفيت آثار الشرك ، وماتت سنن الجاهليّة ، فلم يكن يخش المسلمون من كيدهم ، وقد أبدلهم الله تعالى من بعد خوفهم أمنا يعبدونه ولا يشركون به شيئا.

ويرد عليه ما أورد على سابقه ، فإنّ الإسلام وإن أمن من مكرهم وانبسط على الجزيرة وانقبرت سنن الجاهليّة ، إلّا أنّ الدين لما يكمل بعد ، وقد نزلت فرائض

٣٠٥

وأحكام ومواثيق بعد نزول براءة كما هو معلوم ، فإنّ سورة المائدة الّتي هي سورة الأحكام نزلت في آخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقيل ـ وهو المعروف بينهم ـ : إنّ المراد به يوم عرفة من حجّة الوداع ، كما ذكره كثير من المفسّرين ووردت به بعض الروايات.

وفيه : أنّه إذا كان المراد به ذلك فما المراد من يأس الّذين كفروا من هذا الدين ، فهل المراد به يأس مشركي قريش من الظهور عليه؟! فهو قد كان في يوم الفتح عام ثمانية للهجرة ، لا يوم عرفة من السنة العاشرة.

أو يراد به يأس مشركي العرب من الظهور على الدين؟! فقد كان عند نزول براءة في السنة التاسعة من الهجرة.

وإن كان المراد به يأس الكفّار جميعهم الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ، كما يقتضيه إطلاق الآية الشريفة : (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين ، إذ لم يكن لهم شوكة ومنعة في خارج الجزيرة.

على أنّ المناسب لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنّ كون الحكم الّذي أنزله الله تعالى له من الأهميّة بمكان بحيث يكون به كمال هذا الدين ، وبه تتمّ النعمة العظيمة ، وبنزوله قد رضي الله سبحانه وتعالى أن يكون الإسلام دينا ومنهاجا أبديّا خالدا إلى يوم القيامة.

وما يمكن أن يقال من الاحتمالات في هذا الحكم النازل في يوم عرفة خمسة :

الأوّل : أن يكون المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه الشريفة وتعليمه الناس تعليما قوليّا وعمليّا في آن واحد.

وفيه : أنّ حضوره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحجّ وإكماله بتشريع الأحكام ، فيه كمال للحجّ فقط لا للدين كلّه وإتمام للنعمة ، فإنّ كلّ حكم إلهي بحدّ نفسه كمال ونعمة عظيمة ، كما ورد في قوله تعالى عند تشريع الوضوء والتيمم : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ، إلّا أنّ ظاهر الآية المباركة في المقام أنّ ما شرّعه عزوجل من الحكم في هذا اليوم يكون موجبا لكمال الدين كلّه وسببا لانقطاع رجاء الكفّار ، مضافا إلى

٣٠٦

ذلك أنّ تشريع الحجّ لم يكن موجبا لإيئاس الكفّار وانقطاع الرجاء عن هذا الدين كما هو معلوم ، فتنقطع الرابطة بين الجملتين ، وهو خلاف ظاهر الآية الشريفة.

الثاني : أن يكون المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا اليوم ، فلا حلال بعده ولا حرام ، وبه استولى اليأس على الكفّار وانقطع رجاؤهم عن هذا الدين.

وفيه : مضافا الى ما أورد على سابقه أنّ الأحكام لم تكمل يوم عرفة ، فقد نزلت بعده عدة أحكام كآية الصيف وآيات الربا ، كما دلّت عليه جملة من الأخبار.

مع أنّ الكفّار الّذين انقطع رجاؤهم واستولى اليأس على نفوسهم ، هل هم مشركوا قريش؟ فقد كانوا كذلك قبل نزول هذه الآية المباركة ، أم مشركوا العرب؟ فقد خابوا عند نزول سورة براءة ، أم الكفّار مطلقا من غيرهم؟ وقد عرفت أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

الثالث : أن يكون المراد به إكمال الدين بتخليص بيت الله الحرام من رجس الوثنيّة ، وبراثن الشرك ، وإجلاء المشركين عنه وخلوصه لعبادة الله الواحد الأحد.

وفيه : أنّ الأمر كان كذلك بعد فتح مكّة قبل هذا اليوم بسنة ، يضاف الى ذلك أنّ تسمية مثل ذلك كمالا للدين وإن كان فيه إتمام للنعمة مشكل ، فإنّ الدين مجموعة من الاعتقادات والتوجيهات والإرشادات القيمة الّتي توجّه الإنسان إلى الصراط المستقيم وتعدّه إعدادا علميّا وعمليّا وعقائديّا لنيل الكمالات الواقعيّة ، وليس في فتح مكة من الأهميّة العظمى الّتي يكون بها إكمالا للدين كلّه ، وإن كان له أهميّة من النواحي الاخرى الّتي لا يستهان بها كما هو معلوم.

على أنّ إشكال يأس الكفّار يأتي في هذا الاحتمال أيضا ، كما هو واضح.

الرابع : أن يكون المراد به إكمال الدين ببيان المحرّمات بيانا تفصيليّا ، بعد أن ذكرت على سبيل الإجمال في بعض السور المكّية ، لئلّا ينفر العرب من هذا الدين ويمتنعوا عن قبوله ، وليكون المسلمون على بصيرة منها فيجتنبوا عنها عن علم ومعرفة واطمئنان من دون خشية من الكفّار ، فإنّهم يئسوا من هذا الدين بعد

٣٠٧

إعزازه وظهور الدين كلّه ، فالمراد من اليوم هو يوم عرفة الّتي نزلت فيه هذه الآية الشريفة الّتي بيّنت هذه الأحكام وأبطلت بها سنن الجاهليّة ، وهدم صرح الشرك بالبشارة بغلبة المسلمين وظهورهم على المشركين ظهورا تامّا وعدم الخشية منهم ، فإنّهم يئسوا من إزالة هذا الدين ، فأبدل الله تعالى خوف المؤمنين أمنا وضعفهم قوّة وفقرهم غنى ، فالأجدر بالمسلمين أن يتوجّهوا الى العمل بالأحكام في أمن وأمان ، فلا يبالوا بالكفّار ولا الى قوّتهم ، ولا يخافوهم على دينهم ولا على أنفسهم.

ويرد عليه ما أورد على سوابقه ، مضافا الى أنّ التدريج في المقام ليس كالتدريج في آيات الخمر ، فإنّ هذه الآية المباركة لم تأت بحكم جديد ، إضافة الى ما ورد من التحريم في سورة البقرة والأنعام والنحل ، إلّا أنّ في المقام شرحا للميتة ببيان أفرادها ، فإن أريد من التدريج خوفا من امتناع الناس عن قبول هذا المعنى ، فهو غير وجيه ، إذ أنّ هذه المحرّمات ذكرت في غير موضع واحد.

على أنّ تشريع حكم واحد مثل هذا الّذي ورد في الآية الكريمة ، وإن كان كمالا في حدّ نفسه وتماما للنعمة ، لكنّه لم يكن كمالا للدين كلّه ـ كما عرفت ـ كما هو شأن بقية الأحكام الإلهيّة الّتي شرّعت في أوقات متعدّدة ، فلم يرد فيها مثل ما ورد في ما شرّعه الله تعالى في هذا اليوم بأنّه كمال للدين وإتمام للنعمة العظيمة ، وأنّه سبب لا لإيئاس الكفّار من هذا الدين ، وأنّ به رضا الله تعالى أن يكون الإسلام دينا الى يوم القيامة.

الخامس : أن يكون المراد بإكمال الدين هو سدّ باب التشريع ، فلم ينزل حكما آخر بعد نزول هذه الآية في يوم عرفة.

وفيه : أنّه لم ينسد باب التشريع عند نزول هذه الآية الشريفة في هذا اليوم كما عرفت مكرّرا ، فقد شرّعت أحكام كثيرة بعدها أيضا.

والحقّ أن يقال : إنّ الدين مجموعة قوانين ونظم وتوجيهات وإرشادات قيّمة تعدّ الإنسان إعدادا علميّا وعمليّا وعقائديّا للوصول الى الكمال اللائق به في الدارين ، وتكون سببا في سعادته ، وهي وإن كانت مجموعات وأحكاما متعدّدة ، إلّا

٣٠٨

أنّها مترابطة ومتكاملة ، ويعتبر كلّ واحد منها نعمة على الإنسان ، كما يدلّ عليه ما ورد في تشريع الوضوء والتيمم في قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) [سورة المائدة ، الآية : ٦].

كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام يكون اللاحق منها مكملا للسابق وكمالا له ، ويعدّ كلّ تشريع من التشريعات الإلهيّة دعامة من دعامات هذا الدين ، وسببا في تقويته وتثبيته ومنعته وصدّه لكيد الكافرين ومكرهم الّذين ما برحوا في تفويض هذا البنيان المنيع وإطفاء نور الله تعالى ، ولهم في ذلك أساليب مختلفة كما حكى عزوجل في القرآن الكريم وحذّر المؤمنين من كيدهم ومكرهم وخدعهم.

وكان من جملة ما توسّلوا به في زعزعة هذا الدين هو افتتان المؤمنين وبثّ النفاق بينهم وإفساد دينهم بإلقاء الشبه والشكوك في نفوسهم ، وقد تصدّى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله لدفع جميع ذلك وردّ كيدهم بوحي من السماء وإمداد ربوبي ، فعاش فيهم ثلاثا وعشرين سنة يكابد المحن ويكافح أعداء الدين ويجاهد مع المنافقين ، ويمدّه عزوجل بتوجيهات وإرشادات وينزل من الأحكام ما تطمئن نفسه الشريفة ونفوس المؤمنين ، حتّى نما الإسلام وقويت شوكته ودخل المشركون في هذا الدين وانمحت آثار الشرك من الجزيرة وعلت كلمته وظهر على الدين كلّه وإن كره الكافرون ، إلّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن أمن من كيدهم في حال حياته ، ولكنّه لم يأمن منهم بعد رحيله وغيابه عن جماعتهم ، وكان من أهمّ ما كان يمنّي أعداء الدين أنفسهم هو الانقضاض على هذه الشجرة الطيبة بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانوا يفترون عزيمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين بشتى السبل ، منها أنّهم كانوا يقولون : إنّ هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبتر ليس له عقب يحفظ له دينه بعد موته ، وسينقطع أثره ويموت ذكره ولا يبقى دينه كما هو المشهود في موت الملوك والسلاطين ، فكان هذا الأمر من أهمّ ما كان يساور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويهمه ويقلق باله. ولعلّه كان يرى أنّ هذا الدين لو بقي كذلك من دون أن يكون في البين تشريع يحفظه بعد ارتحاله صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون ناقصا ، وكان يخشى الكافرين أعداء هذا الدين من الانقضاض عليه مرّة اخرى وإفساده

٣٠٩

وهو غائب لم يقدر على حفظه من كيدهم ، وهذا هو الّذي كان يخشى المؤمنون منه أيضا ، فلا بدّ من تشريع يزيل هذا النقص منه وتكميله بإنزال حكم يثبت دعائمه إلى الأبد ، مع العلم بأنّه دين أبدي لا يكون بعده دين أو تشريع آخر ، فيكون هذا التشريع والحكم الإلهي له من المميزات ما يفوق به على أي تشريع آخر ، فإنّه يزيل الخشية عن المؤمنين من كيد الكافرين ، فلا يخاف منهم ، وبه يكمل هذا الدين وتثبت دعائمه الى الأبد ويؤمن من كيد أعدائه ومكرهم وخدعهم وأباطيلهم ، وهو من النّعم العظيمة على المؤمنين في حفظ دينهم من الضياع ، وبه رضى الله عزوجل أن يكون الإسلام دينا أبديّا ومنهاجا خالدا ، فأيّ تشريع عظيم هذا يكون سببا لرضائه تعالى به دينا كاملا ، فهو تبارك وتعالى كان راضيا بهذا الدين قبل ذلك ولكنّه الآن رضي أن يكون دينا كاملا وتامّا لا يخشى المسلمون من أعدائه ، فهو باق ببقاء الدهر محفوظا من كيدهم ومكرهم ، فلا يخافهم المؤمنون لا على دينهم ولا على أنفسهم.

ومن ذلك يعلم أنّ المراد من اليوم في المقام هو المقطع الخاصّ من الزمان الّذي شرّع فيه هذا الحكم الإلهي العظيم ، فلا يختصّ بخصوص يوم عرفة أو قبله أو ما بعده حتّى ارتحاله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ لهذا التشريع مقدّمات ومعدّات لم تكن في غيره لأهمّيّته ، فهو يختلف عن سائر الأحكام والتشريعات كما عرفت.

وبه يمكن أن يجمع بين الأقوال ، فإنّ لكلّ واحد منها دخلا في هذا التشريع بنحو من الأنحاء ، وسيأتي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) بعض الكلام إن شاء الله تعالى.

ويشهد لما ذكرنا امور :

منها : أنّ سياق قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ) يدلّ على تفخيم أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه ، لما في تقديم الظرف وتعلّقه بقوله تعالى : (يَئِسَ) من الدلالة على ذلك كما هو معلوم ، ولعلّ السرّ في ذلك هو

٣١٠

ما ذكرناه من إنزال حكم إلهي في هذا اليوم يكون فيه الضمان لحفظ هذا الدين وديمومته ، وبه خرج من الظهور والحدوث الى مرحة البقاء والدوام.

ومنها : أن يأس الكفّار وانقطاع رجائهم عن هذا الدين لم يتحقّق إلّا بتشريع حكم يضمن بقاءه ويحفظه من الضياع إذا مات القائم بأمره ، فإنّ كلّ مذهب ونحلة لا تبقى على شوكتها وقوّتها وصفاتها ونضارتها إذا مات حملتها وحفظتها والقائمون بأمرها ، فلا بدّ من أن يقوم بعدهم من يحفظها ويدبّر أمرها ، وكان رجاء الأعداء الوحيد هو موت صاحب هذا الدين ليقضوا عليه بعد ما لم ينفعه التهديد ، والتوعيد والقهر ، والجبر ، والقتل ، والضرب في حياة صاحبه ، وقد حصل لهم اليأس عند ما خرج الدين من القيام بفرد معين وشخص خاصّ الى أشخاص متعدّدين يتحمّلون الأمانة بصدق ووفاء ، ويكونون مظاهر للشريعة قولا وعملا ، وانقطع رجاؤهم عند ما علموا بأنّ الدين خرج من مرحلة الحدوث الى مرحلة البقاء ، ولعلّ في قوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٩] إشارة إلى ذلك ، فإنّ الكفّار عند ما انقطع رجاؤهم من تقويض هذا الدين في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تمنّوا الانقضاض عليه وردّ المؤمنين عن إيمانهم بعد ارتحاله وموته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الله جلّت عظمته وعد المؤمنين بأن يأتي بحكم يرفع هذا الخوف الكامن في نفوسهم ، وهو الّذي ذكره عزوجل في الآيات المباركة في المقام.

ومنها : أنّ سياق الآية الشريفة يختلف عن سياق مثيلتها الّتي ورد فيها نفس الأسلوب ، كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ، الّذي يدلّ على تشريع حكم إرفاقي ينبئ عن عظيم امتنانه على الامة ، حيث أحلّ لهم الطيبات وطعام أهل الكتاب ، كما ستعرف.

وأمّا المقام ، فإنّ سياقه يدلّ على تعظيم أمر «اليوم» الّذي نزل فيه حكم

٣١١

عظيم يتضمّن البشرى للمؤمنين بحفظ دينهم عن تلاعب أيدي الّذين كفروا ، وهو يشمل اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.

وأمّا الآية الاخرى فيختصّ الحكم فيها بأهل الكتاب ، كما أنّ الحكم في المقام تكويني ، بينما يكون الحكم في الآية التالية تشريعي إرفاقي ، فيستفاد من جميع ذلك عظمة الحكم الوارد في المقام وأهميّة اليوم الّذي شرّع فيه ذلك الحكم.

ومنها : أنّه ورد بعض الروايات في المقام الّذي يدلّ على أنّ الآية نزلت يوم غدير خم في أمر ولاية علي عليه‌السلام ، كما ستعرف.

ومنها : قوله تعالى في الآية الكريمة : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) الدال على النهي عن الخشية منهم. والظاهر أنّ النهي إرشادي ، لا أن يكون مولويا ، بمعنى ارتفاع الموجب عن الخشية بعد يأس الّذين كفروا من التعرّض لدينكم ، فلا بدّ أن تكون الخشية من الله تعالى فقط في عدم التعرّض لما يوجب سخطه وعقابه.

ومن البديهي أنّ الخشية منه عزوجل واجبة على كلّ تقدير من غير أن تكون في وقت خاصّ أو حالة مخصوصة ، فإنّ ذلك يشعر بأنّ الخشية المأمور بها في المقام هي خشية خاصّة ، وهي الّتي كانت حاصلة من الأعداء بالنسبة الى دين الله تعالى ، وبعد أن أيأسهم الله تعالى وأمن المؤمنون ، فلا موجب للخشية منهم ، ويجب على المؤمنين توجّه خشيتهم الى الله تعالى لئلّا يقعوا في ما يوجب غضبه والانتقام منهم.

ولا تخلو الآية المباركة من التهديد والتحذير للمؤمنين كما هو واضح من سياقها.

قد يقال : إنّ قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) يكون مثل قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٥] ، فكلّ ما يقال فيه يقال في المقام أيضا.

ويرد عليه : بأنّ الحكم في الآية الشريفة الثانية مولوي مشروط بالإيمان ، ويكون مفادها أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكافرين لا على دينهم ولا على

٣١٢

أنفسهم ، بل يجب عليهم أن يخافوا الله تعالى وحده ، فإنّه العزيز القادر على كلّ شيء ، بل المؤمن لا يخاف غيره جلّ شأنه ، كما يشعر به التعليل في ذيل الآية المباركة.

وأمّا آية المقام ، فإنّها لا تنهى عن الخشية منهم إلّا بعد تشريع حكم خاصّ أوجب يأس الأعداء وانقطاع رجائهم عن نيل هذا الدين ، فحينئذ لا بدّ أن تكون خشيتهم عن الله فقط ، فهي لا تنهى عن الخشية مطلقا كما نهت الآية الاخرى عن الخوف ، بل لأجل أنّه لا موجب للخشية بعد اليأس ؛ ولذا كان الحكم تكوينيّا لا تشريعيّا.

ومن جميع ذلك تعرف عظمة هذه الآية الشريفة وأهميّتها ، وأنّها تؤذن بأنّ هذا الدين في أمن وأمان من ناحية الّذين كفروا بعد ما يئسوا من النيل منه ، فلا يتطرّق إليه ما يوجب الخطر عليه أو فساده إلّا من ناحية المسلمين أنفسهم بترك العمل بالأحكام الإلهيّة والإعراض عن التوجيهات الربوبيّة ، فإذا تغيّروا تغيّر الله تعالى عليهم ، فإنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ، فقد يسلب منهم التوفيق ، ويزيل النعمة ، ويذيقهم لباس الخوف والجوع كما حكي عزوجل في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [سورة النحل ، الآية : ١١٢] ، فحينئذ تنحصر الخشية من الله فقط في أن يسلب منهم النعمة العظيمة إذا تغيّر المؤمنون ورفضوا العمل بتعليمات هذا الدين ، وقد حذّر الله تعالى العباد عن نفسه في عدّة مواضع من الكتاب الكريم إذا لم يتولوا الله عزوجل والرسول في جميع أمورهم.

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

الخشية : هي الخوف والحذر مع التعظيم ، والغالب فيها عن علم ومعرفة ؛ ولذا قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [سورة فاطر ، الآية : ٢٨] ، وقال

٣١٣

تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [سورة النور ، ٢ لآية : ٥٢].

والآية الشريفة بمنزلة الغاية لما قبلها. أي : بعد ما وفى الله تعالى بوعده ، حيث أظهر دينه ويئس الكفّار من الغلبة لما شاهدوا من الكمال في الدين ، فلا تخشوا الكفّار من أن يظهروا على دينكم ويغلبوكم ، بل أخلصوا الخشية لله جلّ جلاله وحده لما منّ عليكم بالنصر والغلبة والإظهار على العقائد الفاسدة والأديان المنحرفة.

ويحتمل أن يكون المراد من الخشية الرجاء.

ولكنّه بعيد ؛ لأنّهما متضادّان ، نعم الرجاء يلازم الآخر غالبا في ضدّ متعلّقه. فمن يخشى المرض يرجو طبعا الصحّة ، وكذا من يخشى الفقر يرجو الغنى ، وكذا سائر الأضداد. وسياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرناه والله العالم.

قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

بشارات ثلاث تنبئ عن عظيم المنّة على المؤمنين ، وتدلّ على كمال هذا الدين وهيمنته على الدين كلّه ، فلا دين ولا شريعة بعد هذا الدين الكامل الّذي ارتضاه الله تعالى أن يكون منهاجا علميّا وعمليّا للبشريّة كلّها ، وأنّ ما سواه باطل وناقص ، فهو النعمة التامّة الّتي لا ينقصها شيء ، وهو الدين الكامل الّذي لا يعوزه تتميم من متمم ، وقد ذكرنا آنفا أنّ هذه الفقرة ترتبط مع الفقرة السابقة ، أعني : قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أشدّ ارتباط ، وهما مسوقتان لغرض واحد ، فإنّ الله تعالى أكمل هذا الدين وأتمّ نعمته على المؤمنين ، وارتضاه أن يكون دينا خالدا كاملا ، فكان ذلك سببا لانقطاع رجاء الكافرين عن النيل من هذا الدين ويأسهم من محوه وإفساده ، فلا موجب للخشية منهم ، وإنّ الخشية إنّما تكون من الله سبحانه وتعالى وحده في أن ينزع هذا الدين من المؤمنين

٣١٤

أنفسهم ويسلب هذه النعمة العظيمة عنهم إذا لم يطيعوا الله تعالى في تشريعاته وأحكامه وتوجيهاته.

ومادة (كمل) تدلّ على الوفاء والتمام ، وكمل الشيء إذا حصل ما هو الغرض منه ، وذكر العلماء أنّ الإكمال والإتمام متقاربا المعنى. ولكن التتبع في موارد استعمالاتهما يفيد بأنّهما مختلفان ، فقد يستعمل التمام والإتمام في مورد لا يصحّ استعمال الإكمال فيه أو بالعكس ، فإنّ الإتمام يستعمل في ما إذا كان للشيء أجزاء وشروط وقد تحقّقت جميعها ، بحيث لو فقد واحد منها لم يترتّب عليه أثره أو الغرض الّذي سيق له ، قال تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٧] ، فإنّ الصيام إنّما يوصف بالتمام إذا لم يختل شروطه ، فلو أختل واحد منها ولو في جزء من النهار ، فإنّه يفسد.

وأمّا الإكمال ، فإنّه يستعمل في ما إذا كان للشيء أجزاء ولكلّ جزء أثره الخاصّ المترتّب عليه ، فلو حصلت جميع تلك الأجزاء لتحقّقت جميع تلك الآثار المطلوبة ، وإلّا فيتحقّق جزء من مجموع الأثر ، فالاختلاف بين المادّتين (الإتمام) و (الإكمال) كالاختلاف بين العامّ المجموعي والعامّ الإفرادي المعروفين في علم الأصول. قال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩٦] ، فإنّ لكلّ واحد من تلك العشرة أثره المطلوب ، فإذا تحقّقت كاملة حصلت جميع الآثار المطلوبة ، وإلّا فيتحقّق الأثر الخاصّ المترتّب على الجزء المأتي به فقط ، وقال تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥] ، فإنّ الأثر يترتّب على البعض كما يترتّب على الكلّ ، كلّ بحسبه ، فهذا هو الفرق بين المادّتين اللتين اجتمعتا في هذه الفقرة ، فإنّ الاولى تدلّ على أنّ هذا الدين مجموعة معارف وأحكام ، وقيم ، وتوجيهات ، فكلّ واحد منها كمال في حدّ نفسه ، ولكن أضيف إليها أمر في هذا اليوم أصبح به الدين كاملا لا يمكن أن ينال ذلك الأثر العظيم المترتّب على هذا الدين إلّا بتنفيذه ، فهو المكمّل لها ، كما أنّ النعم الإلهيّة وإن كانت كثيرة في هذا الدين ، ولكنّها تمّمت بهذا

٣١٥

الأمر الّذي شرّعه عزوجل في هذا اليوم ؛ فلذا ارتضى جلّ شأنه هذا الإسلام دينا تامّا كاملا لا يعوزه شيء آخر ولا يحتاج الى مكمّل ، وسيبقى مدى الدهر يقاوم الصعاب ويصمد أمام كلّ صروف الزمان ، لا يثنيه تشكيك المبطلين ولا زيغ الزائغين الضالّين.

وأمّا النعمة ، فهي عبارة عمّا يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه ، وهي من الإمدادات الربوبيّة للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة ، وقد كثر ورودها في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم ، الآية : ٣٤] ، وذلك لحكم كثيرة ، منها الإعلام بأنّها من شؤون ربوبيّته العظمى لخلقه ، وتذكيرا للمنعم عليه بالمنعم ليشكره على ما أنعم ، وإرشادا له بإيفاء حقّ النعمة ، وبيانا بأنّ نظام التدبير قائم بها على نحو تكون بينها وحدة مترابطة متكاملة.

وهي بحدّ نفسها توصف بالخير والحسنة ؛ لأنّها توافق الغرض الإلهي الّذي خلق من أجله الإنسان ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات ، الآية : ٥٦] ، فكلّ ما أوجب التقرّب إليه عزوجل وابتغاء مرضاته والتعبّد لديه تكون نعمة ، وإلّا كانت نقمة وشرّا. ولعله لأجل ذلك وصف سبحانه وتعالى بعض النّعم الإلهيّة في القرآن الكريم بصفات غير محمودة ، قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٨]. كما وصف عزوجل الدنيا الّتي هي من أهمّ النعم الربوبيّة بأنّها متاع قليل ، قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٧] ، وقال تعالى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٦٤]. وإنّما وصفها عزوجل بتلك الأوصاف لأنّها لم تستغل من قبل الإنسان في الغرض الّذي عيّنه خالقها لأجله ، وهو الدخول في ولايته عزوجل بالعمل بوظائف العبوديّة.

٣١٦

ومن ذلك يعرف أنّ الإسلام الّذي هو مجموعة تشريعات ووظائف وأحكام وتوجيهات وإرشادات أنزلها الله تعالى لغرض إعداد الإنسان إعدادا علميّا ، وعمليّا ، وعقائديّا ؛ ليكون عبدا قائما بوظائف العبوديّة ، ومن المعلوم أنّه لا يتمّ ذلك إلّا بالدخول في ولايته تعالى وولاية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوليائه عليهم‌السلام بعده بالطاعة لهم والعمل بما جاء به الدين ، كما قال عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [سورة النساء ، الآية : ٥٩] ، فيكون اليوم الّذي أتمّ الله النعمة على المؤمنين هو اليوم الّذي شرّع فيه ما يكون موجبا للدخول في ولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم ، ومتمّما لهاتين النعمتين العظيمتين ، وهو اليوم الّذي فرض فيه ولاية أولياء الله تعالى بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الّذين بهم تقام أركان الدين ويبسط العدل ، ويحمى دين الله تعالى ، فهم القيمون على الشريعة بعد أن كان القيّم عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي كان مؤيّدا بوحي إلهى ، فإذا انقطع لا بدّ من أن يقوم مقامه أحد في هذه المهمة العظيمة وتتمّ به ولاية الله تعالى وولاية الرسول الكريم ، وبه أيس الكفّار عن هدم هذا الدين ، ورضى الله تعالى بهذا الدين إسلاما.

وممّا ذكرناه يعرف أنّ هذه الولاية لها أساس تشريعي به كمل الدين في تشريعه ، وأساس تكويني به تمّت النعمة وكان لها الأثر العميق في أمن المؤمنين بعد خوفهم ليعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، ولعلّه الى ذلك يشير قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [سورة النور ، الآية : ٥٥] ، فإنّ هذه الآية المباركة تشير بوضوح الى ما سيتحقّق من الوعد الّذي وعده عزوجل به في آية المقام بتشريع ما يكمل به الدين وتتمّ به النعمة وييأس الكفّار ويأمن المؤمنون بعد خوفهم ، فتكون هذه الآية المباركة من مصاديق آية سورة النور الّتي هي أسبق نزولا من سورة المائدة.

٣١٧

وذيل الآية الشريفة : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) يدلّ على تشديد الأمر في الموعود الّذي وعده عزوجل.

هذه خلاصة ما يمكن أن يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة ما ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ ما ذكره بعض المفسّرين والعلماء في تفسيرها إنّما هو بعيد عن سياقها.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ).

عود الى صدر الكلام الّذي حرّم جملة من أصناف الميتة ، وبيان لحكم ثانوي اضطراري ، والاضطرار : افتعال من الضرر ، والمراد به الوقوع في الضرورة.

والمخمصة : المجاعة الّتي تورث خمص البطن وضموره ، بحيث يخاف معها الموت ، أي : فمن وقع في ضرورة من مجاعة تعرض للإنسان تلجأه الى تناول شيء من المحرّمات المتقدّمة ، فلا إثم عليه.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ).

الجنف : الميل والانحراف ، وتقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٣] ، وفي الحديث : «إنّا نرد من جنف الظالم مثل ما نرد من جنف الموصي».

والمراد به عدم تجاوز الحدّ عن ما يوجب رفع الضرورة والأكل زائدا على ما يمسك به رمقه ويسكن به ألم جوعه ، فإنّ التجاوز عنه يكون إثما ؛ لأنّ الضرورات إنّما تتقدّر بقدرها ، ويبيّن المقام قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ، أي : غير طالب له ولا متعدّ في الأكل ومتجاوز عن قدر الضرورة ، وقد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.

والآية المباركة تدلّ على أنّ الأحكام الثانويّة إنّما تتحدّد بقدر الضرورة الّتي أوجبت تشريع الحكم ، فإذا ارتفعت يرتفع ذلك ، كما هو مفصّل في كتب اصول الفقه.

٣١٨

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أي : فمن اضطر الى تناول تلك المحرّمات فأكل منها بقدر ما يرجع به الضرورة ويدفع عنه الجوع والهلاك ، غير متعد حدود الله تعالى في ذلك بأن لا يكون جائرا ومتجاوزا قدر الضرورة ، فإنّ الله غفور لمثله لا يؤاخذه رحيم به.

وعموم الآية المباركة يدلّ على أنّ صفة المغفرة والرحمة كما تتعلّقان بالمعصية الّتي توجب العقاب ، كذلك تتعلّقان بمنشأها وهو الحكم الّذي يستتبع مخالفته تحقّق عنوان المعصية الّتي تستتبع العقاب.

٣١٩

بحوث المقام

بحث أدبي

ذكرنا في التفسير أنّ التاء في (النطيحة) للنقل لا للتأنيث ؛ لأنّ فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء ، وقال بعض : إنّ ذلك صحيح في ما إذا ذكر الموصوف مثل كفّ خضيب ، وأمّا إذا حذف كما في المقام فيجوز دخول التاء فيه ، فلا حاجة الى القول بأنّها للنقل. وقرئ (المنطوحة).

والسبع بضمّ الباء ، ولغة أهل نجد بسكون الباء ، وقرأ ابن عباس : (وأكيل السبع).

والاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) متّصل ب (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) وما قبله ، أي : إن أدركتم ذكاتها ، و (ما) في موضع النصب ، وقيل : إنّه منقطع ، أي : يحرم كلّ المذكورات إلّا ما يحلّ أكله بالذكاة. ولكنّه ليس بشيء ، فإنّ القاعدة في الاستثناء الاتصال ؛ لأنّ حقّه أن يكون مصروفا الى ما تقدّم من الكلام ، ولا يجعل منقطعا إلّا بدليل مقبول.

و (اليوم) في قوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منصوب على الظرفيّة ، وكذا في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) ، وتقديم الجار في (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ؛ للإيذان بأنّ الإكمال إنّما يكون لمصلحتكم ومنفعتكم ، وتشويق الى ذكر المؤخّر.

وأمّا الجار في قوله تعالى : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، فقد قيل : إنّه لا يتعلّق (بنعمتي) ؛ لأنّ المصدر لا يتقدّم عليه معموله ، وقيل : إنّه متعلّق به ولا بأس بتقديم معمول المصدر إذا كان ظرفا ، والنعمة مصدر بناء نوع ، أي : أنّ بناءها يستفاد منها النوع.

٣٢٠