مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

الله جلّ شأنه ، وأنّ التعليل المزبور يشمل كلا الفريقين فيكون النهي عن استحلالهم ومنعهم عن حجّ البيت ، إلّا إذا حصل المنع منه جلّ شأنه عن دخول حرمه.

بل إنّ الآية الشريفة ترشد الى التحلّي بخلق كريم ، وهو نبذ الاعتداء والإصرار على أخذ الثأر بما فعله المشركون بالمسلمين قبل الفتح ، فيمنعوهم عن المسجد الحرام كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).

رفع للحظر المفروض على الاصطياد في حال الإحرام ، فيفيد الإباحة ، والحلّ والإحلال بمعنى الخروج من الإحرام ، أي : يباح لكم الصيد بعد الإحلال من الإحرام.

والآية المباركة تدلّ على أنّ غاية حرمة الصيد هي الإحلال من الإحرام المستفاد من قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ). وإنّما خصّه بالذكر لشدّة ابتلائهم به وحرصهم عليه.

قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا).

تأكيد للحكم السابق من عدم التعرّض لحرمات الله تعالى وعدم هتك شعائر الدين ومعالمه ، وبيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق الّتي أمر بها الإسلام وقد بعث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تمامها ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

ومادّة (جرم) تدلّ على القطع ، يقال : جرم يجرم جرما إذا قطع ، وفي الحديث : «لا تذهب مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف ، يريد تجرم ذلك القرن» أي : انقضاؤه وانصرامه ، وأصله من الجرم ، أي : القطع. ومنه الحمل على شيء ، يقال : جرمني كذا على بغضك ، أي : حملني عليه ، قال الشاعر :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فإنّ في الحمل على شيء قطعا عن غيره ، كما أنّ منه جرم بمعنى كسب ؛ لانقطاعه إلى الكسب ، يقال : فلان جريمة أهله ، أي : كاسبهم ، وأجرم فلان ، أي : اكتسب الإثم ، ومنه قول الشاعر :

٢٦١

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

أي : كاسب قوت. و (ناهض) اسم لفرخ العقاب ، (ونيق) أرفع موضع في الجبل ، و (الصليب) الودك ، وهو أسلم اللحم.

و (جرم) بمعنى حقّ ؛ لأنّ الحقّ يقطع عليه ، قال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي : حقّ لهم العذاب وقطع عليه ، ومنه الجريمة لمعصية ؛ لأنّها مقطوعة على صاحبها فيحتمل وبالها ، وفي الحديث : «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته».

ويفترق الجرم عن الكسب أنّ الأوّل يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه بخلاف الكسب ، ولعلّه هو السبب في إيثاره في المقام ، ولكنّهما يتّفقان في التعدّي إلى مفعول واحد وإلى اثنين ، يقال : جرم ذنبا ، نحو : كسبه ، وجرعته ذنبا ، نحو : كسبته إيّاه ، وقد يتعدّى إلى مفعولين بالهمزة ، كما يقال : أكسبته ذنبا.

ومادّة (شنأ) تدلّ على البغض والعداوة ، يقال : شنئت الرجل أشنؤه ، شنأ ، وشنأة ، وشنآنا ، وشنآنا بسكون النون إذا أبغضه ، وفي الحديث عن علي عليه‌السلام : «ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني».

وشنآن ـ بفتح النون. وقرئ بالسكون ـ إمّا أن يكون مصدرا على وزن فعلان (بالفتح) مصدر ما يدلّ على الحركة ، وهو بعيد ؛ لأنّه لا دلالة له على الحركة ، مضافا إلى كونه متعدّيا في المقام ، مع أنّ هذا الوزن لا يكون لفعل متعدّ.

أو يكون مصدرا على وزن فعلان (بسكون اللام) ، ولكن هذا الوزن قليل في المصادر ، نحو : لوّيته ليانا إذا مطلته ، كما ذكر في الكتب الأدبيّة.

أو يكون صفة على وزن فعلان (بالسكون) الّذي هو كثير في الصفات كسكران ، أو يكون (بالفتح) وهو قليل في الصفات كحمار قطوان ، أي : عسر السير ، وتيس عدوان ، أي كثير العدو ، فإن كان مصدرا ، فهو مضاف إلى المفعول ، أي : أن تبغضوا قوما ، واحتمل بعضهم أن تكون الى الفاعل ، أي : أن يبغضكم قوم ، ولكنّه بعيد ، فإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض ، وتكون الإضافة بيانيّة.

والمعنى : ولا يحملنكم عداوة قوم لكم بأن صدّوكم عن المسجد الحرام

٢٦٢

ومنعوكم عن إتيان الحجّ والزيارة أن تعتدوا عليهم انتقاما منهم ، بعد ما أظهركم الله عليهم.

وعموم الآية الشريفة يشمل المشركين وغيرهم ، فإنّ مضمونها يرجع الى النهي عن الاعتداء على سبيل الانتقام والبغي وجعلهما من صفات النفس ، ولما كان لذلك أسباب ومبادئ ، فالنهي عنها نهي عنه بالأولى ، كما هو معلوم في العلوم البرهانيّة ، وفي المقام نهي عن البغض والشنآن ، فهو يرجع الى النهي عن الاعتداء والبغي ، فلا ينفي ذلك الاعتداء بالمثل إذا كان في سبيل الحقّ ، كما في قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ١٩١].

واستشكل بعضهم بأنّ الآية المباركة نزلت بعد فتح مكّة ، ولم يكن يتوقع صدّ من أحد.

ويمكن الجواب عنه بما تقدّم آنفا من أنّ الآية المباركة لا تختصّ بالمشركين ، وأنّها في مقام بيان خلق كريم من مكارم الأخلاق الّتي دعا إليها الإسلام ، ولنفي توهّم المماثلة في هذا الاعتداء فيصدّ المسلمون المشركين عن المسجد الحرام كما صدّوهم عنه انتقاما منهم.

أو يقال : إنّ المقصد من هذا الحكم هو احترام الشعائر وتعظيمها والمحافظة على حرمات الله تعالى ، كما هو ظاهر سياق الآية الشريفة الّتي ذكرت بعد نهي المؤمنين عن إحلال شعائر الله تعالى ، فلا تختصّ بالمشركين.

قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

هذه الآية المباركة من جوامع الكلم الّتي تبيّن قاعدة من القواعد الّتي تبتني عليها سعادة المجتمع الإنساني ، وركن من أركان الهداية الاجتماعيّة الّتي تقوم على التعاون بما ينفع الناس في دنياهم ، وأساس مهم من أسس الاجتماع الإنساني.

وقد بنى الإسلام هذه القاعدة الاجتماعيّة المهمّة على ركيزتين ، هما : التحلية بالتقوى والطاعة والعمل الصالح ، ممّا يجعل المجتمع وحدة متكاملة له هدف معين

٢٦٣

ونظام واحد قويم ، فأمر بالتعاون على البرّ. والتخلية عن أضدادها ، وأكّدها بالنهي عن إعانة الإثم ، أي : المفاسد كالبغضاء والعدوان ومساوئ الأخلاق وغيرها من الصفات السيئة ؛ ونهى عن كلّ ما يعوق عن تنفيذ هذا الحكم ويكون مانعا من تأثيره وسببا في الشقاء والحرمان ، وهو العدوان الّذي يجعل أفراد المجتمع أعداء متباغضين ليس لهم هدف ونظام ، بل يفكّك عري المجتمع ويهدّد كيانه ويفسد سعادته.

والآية الشريفة على ايجازها البليغ واسلوبها البديع تبيّن نظرية الإسلام في الاجتماع وتتضمّن خلقا كريما من مكارم الأخلاق ، ولأهمّيّته في الحياة الاجتماعيّة ودخله في سعادة الفرد والمجتمع وكرامتهما ، ذكر عزوجل فيها جميع ما يتطلّب هذا الحكم ، من الدعوة الى التضامن بالتعاون وموضوعه ومورده وآثاره في المجتمع وضمان هذا الحكم والغرض منه وترغيب الناس إليه والتأكيدات عليه.

والتعاون على وزن التفاعل من أعان يعين إعانة وتعاون يتعاون تعاونا ، ولا يخفى تقوّم هذه الصيغة في المقام بالطرفين ، فيكون هذا خطابا لكلّ اثنين بأن يعين كلّ فرد غيره في البرّ والتقوى ، كأن يعين زيد عمرا على البرّ والتقوى ، ويعين عمرو زيدا كذلك ، وكذا النهي عن التعاون على أسباب الإثم والعدوان. ومنه يعلم حكم الإعانة من طرف واحد أيضا ، فإن كانت على البرّ والتقوى فهي محبوبة ، وإن كانت على الإثم والعدوان فهي مبغوضة.

والبرّ معروف ، وقد ورد في القرآن الكريم في عدّة مواضع ، وتقدّم الكلام في اشتقاقه في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٧٧] ، وقد بين عزوجل فيه أهمّ أركانه ، وله مصاديق كثيرة يجمعها الإيمان ـ إيمانا صحيحا صادقا ـ والإحسان في جميع الأمور ، فيدخل فيه العفو والإعفاء وغير ذلك ممّا ذكر في المقام.

والتقوى : هي مراقبة الله تعالى في أوامره ونواهيه ، فيكون المراد من التعاون على البرّ والتقوى هو الاجتماع على الإيمان والإحسان والطاعة ، مع مراقبة الله تعالى فيها بأن لا يتخطّى تشريعاته وتوجيهاته عزوجل.

٢٦٤

والإثم معروف ، وهو كلّ ظلم ومعصية ، والعدوان هو التعدّي على حقوق الناس ومجاوزة حدود الله تعالى مطلقا ، وهما من أهمّ العوائق الّتي تصدّ عن السعادة والكمال ، سواء أكان فرديا أم اجتماعيّا ، وتورث الشقاء والحرمان ، وبهما يزول الوئام ويختلّ النظام ، وتسود روح الانتقام بين الأنام ، فيفسد الضمائر وينطمس نور الفطرة وتخور داعية العقل ، فلا يأمن أحد على نفسه أو عرضه أو ماله ، ولا يكون العيش إلّا نكدا والحياة إلّا برما.

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ).

تأكيد آخر على مراعاة حدود الله تعالى ومراقبته في جميع الأمور ، ومنها اتّقاء مخالفته في أوامره ونواهيه الّتي ذكرت آنفا. وفيه الدلالة على أنّ الغرض من جميع التشريعات والتوجيهات الربوبيّة هو تحصيل هذه الملكة ، فإنّها الغاية القصوى من الشرائع السماويّة ـ خصوصا الإسلام ـ وبدونها لا يمكن تحصيل الهدف المنشود منها ، فهي روح تلك الأحكام الإلهيّة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

تعليل لما سبق وبيان لعظيم قدرته ، أي : أنّ من أعرض عن تلك الأحكام ، فيستحقّ عقابه وهو شديد العقاب ، فإنّ انتقامه أشدّ لمن لم يتقه ولم يراع سنّته في خلقه.

بحوث المقام

بحث أدبي

الآيات الشريفة المتقدّمة بإيجازها البليغ واسلوبها البديع ممّا جعلتها في أعلى درجات الفصاحة ، فقد تضمّنت خمسة أحكام مهمّة لها دخل كبير في حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة ، الدنيويّة والاخرويّة ، وتعتبر قواعد عامّة يتفرّع منها فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة.

٢٦٥

يحكى أنّ أصحاب الكندي قالوا له : «اعمل لنا مثل القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياما ثمّ خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد ، إنّي فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلّل تحليلا عامّا ثمّ استثنى استثناء بعد استثناء ، ثمّ أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلّا في أجلاد».

و (أوفوا) من أوفى وهو ووفّي لغتان بمعنى واحد ، وقد جمعهما الشاعر في قوله :

أما ابن طوق فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النجم حاديها

وذكرنا في التفسير أنّهما وردا في القرآن الكريم.

والبهيمة : اسم جنس يطلق على ذوات أربع ، والأنعام جمع نعمة ، والمراد بها الإبل ، والبقر ، والغنم ، وهي الثمانية الأزواج الّتي وردت في سورتها كما ذكرنا في التفسير.

وفي مفردات الراغب : «والنّعم مختصّ بالإبل ، وجمعه أنعام ، وتسميته بذلك لكون الإبل عندهم (أي العرب) أعظم نعمة ، لكن الأنعام تقال للإبل والبقر والغنم أو المعز ، ولا يقال لها أنعام حتّى يكون في جملتها الإبل».

والاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) متّصل من بهيمة ، وقيل من فاعل (يتلى).

و (غير محلّي الصيد) قيل : إنّه استثناء ممّا يليه من الاستثناء. وذهب بعضهم إلى أنّ انتصاب (غير) على الحاليّة من ضمير (لكم) ، كما تقدّم في التفسير فراجع ، وذكروا أيضا وجوها اخرى لا تخلو عن المناقشة ، و «محلّي» أصله (محلّين الصيد) حذفت النون بالإضافة.

و (الهدي) في قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ) قرئ مخفّفا كما هو لغة أهل الحجاز ، وقرئ مثقّلا (الهديّ) كما هو لغة تميم ، وقد قرئ بهما. وواحد الهدي هدية كما أنّ واحده بالتثقيل هديّة وجمع المخفّف إهداء.

و (آمين) في قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) اسم فاعل ، ووجه

٢٦٦

العمل فيه ظاهر. وجوّز بعضهم على حذف مضاف ، أي : قتال قوم آمين ، أو أذى قوم آمين ونحو ذلك.

وقرئ : (ولا آمي البيت الحرام) بالإضافة والبيت مفعول به لا ظرف.

وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ) إمّا حال من المضمر في (آمين) ، أو صفة. وضعّف بأنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الّذي عمل ، لأنّ الموصوفيّة تبعد الشبه ؛ لأنّها من خواص الأسماء.

وأجيب عنه بأنّ الوصف إنّما يمنع من العمل إذا تقدّم المعمول ، فلو تأخّر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه.

وتنكير (فضلا ورضوانا) للتفخيم ، و (من ربهم) متعلّق بنفس الفعل أو بمحذوف وقع صفة (لفضلا) مغنية عن وصف ما عطف عليه بها ، أي : فضلا كائنا من ربّهم.

وأمّا قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) فقد تقدّم الكلام فيه في التفسير فراجع.

و (أن) في قوله تعالى : (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنّه علّة للشنآن ، أي : لأن صدوكم ، وقرئ بكسر الهمزة على أن تكون شرطيّة.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : تتضمّن الآيات الكريمة المتقدّمة على أهمّ الأحكام والتشريعات الإلهيّة الّتي لها دخل كبير في تنظيم النظام العامّ وتحسين المعاش وتحقيق السعادة ، واشتملت على أهمّ القواعد العامّة الّتي تمسّ حياة الإنسان مطلقا ، فذكر سبحانه وتعالى أوّلا ما يتعلّق بالنظام العامّ وتثبيت دعائم العدالة الاجتماعيّة ، وهو الوفاء بالعقود الّتي يدور عليها نظام الحياة وتتوقّف عليها جميع الحقوق الحيويّة الّتي تمسّ

٢٦٧

حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة ، ولها قاعدة عريضة تشمل جميع العقود والعهود ، والوفاء بها ، ممّا تدعو إليه الفطرة المستقيمة الّتي تبغي الكمال وتسعى الى الاستكمال.

ثمّ ذكر ثانيا ما يتعلّق بالمعاش ونظام الغذاء ، فأحلّ أكل لحم بهيمة الأنعام الّتي هي من أطيب المأكولات.

وأخيرا أمر بالتعاون على البرّ والتقوى ، اللذين هما أساس الرقي وأصل الأمن والاستقرار الفرديين والاجتماعيين ، وهما مهمّان لمن يريد الاستكمال بالكمالات الواقعيّة وتحلية النفس بمكارم الأخلاق وتخليتها عن الرذائل.

ولأهمّيّة هذه الأحكام والتوجيهات الربوبيّة ذكرها عزوجل في إطار أخلاقي محكّم ، وأكّد عليه بأشدّ التأكيدات ، فأمر بالتقوى ، وحرّم إحلال الشعائر ، وهتك حرمات الله تعالى واعتبره من أعظم الجرائم وأوعد على من يخالفها بالانتقام وشدّة العذاب.

وتبيّن الآيات المباركة أنّ الإسلام نظام دين ودنيا يكمل أحدهما الآخر ، ولا يمكن الاستغناء عنهما أبدا.

الثاني : انّما ذكر عزوجل العقود في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ليشمل جميع الروابط الفرديّة والاجتماعيّة وجميع العهود والمعاملات ، وتعتبر هذه الجملة البليغة المختصرة أساس العقود في الإسلام والدليل على شرعيّتها ، إلّا إذا ورد من الشرع ما يدلّ على فساد عقد خاصّ ، كالعقود المبنيّة على الربا من بيع أو قرض ربوي.

وإطلاق الأمر في الآية الشريفة يدلّ على لزوم كلّ عقد ، فلا يجوز نقضها إلّا إذا دلّ دليل على جوازه كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة ، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام) ، وتعرّضنا لذلك موجزا في البحث الفقهي أيضا هنا.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) على أنّ وجوب الوفاء بها هو لأجل أنّها روابط اجتماعية وعهود وحقوق تجب رعايتها ، وأنّ احترامها يعتبر من مكارم الأخلاق ومن سبل الهداية الاجتماعيّة وإقامة العدل الاجتماعي ، ولم يلاحظ

٢٦٨

القرآن الكريم النفع مطلقا ، فأوجب الوفاء بها سواء انتفع منها العاقد أم لا ؛ لأنّها جعلت لرعاية الحقّ كيف ما كان ، وهذا بخلاف ما عليه النظرية الماديّة والقوانين الوضعيّة ، وما عليه الجاهليّة المعاصرة من أن احترامها إنّما يكون لأجل النفع أو دفع المفسدة. وبعبارة اخرى : أنّ ابتغاء المادّة من جميع العلاقات أو العقود هو الهدف عندها وإن دحض بها الحقّ.

الرابع : يستفاد من قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) وجه الحكمة في حلّية الأنعام للإنسان فإنّ الله تبارك وتعالى إنّما خلقها بهائم حقيرة الشأن ؛ لأنّها غير قابلة للاستكمال ، ولعلّ من كمالها أنّ خلقها الله تعالى في خدمة أشرف مخلوقاته ، وفي ذلك ردّ على من زعم أنّ قتلها لأجل استفادة الإنسان منها إيذاء لها ، لا سيما مع عدم قدرتها على دفع الضرر عن أنفسها ، وهو ممّا يرفضه الطبع ، بل هو قبيح عقلا ، فكيف يرضى به الإله الرحيم ، فإنّ الله تعالى خلقها بهائم لا تشعر بما يشعر به الإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات ، فلا قبح عقلا في جعل شيء منها غذاء للإنسان ومورد استفادته بعد إذن خالقها في ذلك ، وانّها من نعم الله تعالى أنعم بها على عباده كما هو واضح.

وما عن بعض من أنّ البهائم لا تدرك ؛ ولذا يحلّ قتلها.

غير صحيح ؛ لأنّها تدرك الآلام الواردة عليها كما في بعض الروايات ، وإن كانت آلامها مقدّمة لكمالها بصيرورتها جزءا من الكامل ـ وهو الإنسان ـ بالغذاء له كما قلنا ، ولو لا ذلك يحرم إيذاؤها بقطع بعض أطرافها أو جرحها ، بلا غرض عقلائي ، ويحرم شرعا كما ذكره الفقهاء في حرمة الصيد اللهوي الّذي لا يقصد منه إلّا التلذّذ بالتفريح لقتل الحيوانات.

وبالجملة : كمالها بأن تصير غذاء لأشرف المخلوقات ، ولولا ذلك لم يأذن الشارع بقتلها أو إيذائها من دون مسوّغ عقلي وغرض عقلائي.

الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أنّ إحلال محرّمات الله تعالى له دخل في تضييق التكليف والوقوع في بعض العقوبات الدنيويّة ، فإنّ الله تعالى أحلّ بهيمة الأنعام على المؤمنين في ما إذا لم يحلّوا الصيد حال الإحرام الّذي

٢٦٩

حرّمه الله تعالى ، فإذا أحلّوا الصيد واصطادوا الوحش من الأنعام فيحرم عليهم أكلها كما هو مذكور في كتب الفقه ، وقد تقدّم في الآيات السابقة نظير ذلك بالنسبة إلى اليهود ، فإنّهم أحلّوا ما حرّمه الله تعالى عليهم فأوقعوا أنفسهم في المشقّة ، إذ كلّفهم عزوجل ببعض التكاليف الشاقّة نتيجة جرأتهم على هتك حرمات الله تعالى.

وفي الآية الشريفة إشعار للمؤمنين بأن لا يفعلوا شيئا يوجب وقوعهم في المشقّة وتكليفهم بتكاليف أشدّ وأصعب. ومن ذلك يعرف وجه التأكيد على النهي عن إحلال ما حرّمه الله تعالى وهتك حرماته وتعداد جملة ممّا حرّمه الله تعالى في الحجّ ؛ لأنّه من أعظم الشعائر ولشدّة ابتلائهم به ، وأنّه ممّا امتحن به المؤمنين.

السادس : يدلّ قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) على أنّ المجتمع الصالح ما إذا كان بين أفراده التعاون ، وانحصر أن يكون ذلك على البرّ والتقوى.

وقد جمعت هذه الآية الشريفة باختصارها البليغ جميع وجوه الخير والكمالات الواقعيّة ، فلا يمكن أن نتصوّر خصلة من الخصال الحميدة ، ولا خلقا كريما إلّا وهي موجودة في هذه العبارة البليغة المختصرة الّتي تشير أيضا الى أنّ الأفراد والمجتمع لا يمكن أن يصل كلّ واحد منهما الى هدفه إلّا بالعمل بما ورد فيها ، فهي من أهمّ سبل الهداية الاجتماعيّة.

وتبيّن الآية الكريمة نظرية الإسلام في المجتمع ، فإنّه يرى أنّه لا بدّ أن يكون إعداده إعدادا صالحا يتحمّل جميع أفراده المسؤوليّة في تنظيمه ومراقبته ؛ لئلّا يخرج عن المسير الصحيح الّذي أمر به الله سبحانه وتعالى ، فيكون المراد من التقوى في المقام التقوى الجمعي والشعور بالمسؤوليّة ومراقبة جميع أفراد المجتمع بالتعاون بينهم على البرّ ، ونبذ كلّ ما يكون مانعا عن الوصول إلى الهدف المنشود ، ولا توجد عبارة مهما بلغت من الفصاحة والبلاغة تشتمل على معاني دقيقة ومطالب رفيعة متقنة مثل هذه العبارة ، فسبحان من بهرت آياته ، وظهرت قدرته ولا يمكن عدّ نعمائه.

٢٧٠

بحث روائي :

العياشي في تفسيره بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : «ليس في القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وهي في التوراة يا أيّها المساكين».

أقول : إنّ الإيمان الحقيقي بالله تعالى هو التصديق بالتوحيد والإيمان بشرائعه ورسله ، والمسكين هو الّذي خضع وذلّ وأخبت لله جلّ شأنه ، وفي دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم احيني مسكينا وامتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» ، فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الدعاء كمال التواضع لله تعالى والإخبات له جلّت عظمته ، وأن لا يكون من الجبّارين المتكبّرين ، فكلّ هذه الصفات من أعلى مراتب الإيمان به عزوجل ، إذا لا فرق في الواقع بين التعبيرين كما تقدّم ذلك مكرّرا.

وفيه : أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال : «ما نزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعلي شريفها وأميرها ، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في غير مكان وما ذكر عليا إلّا بخير».

أقول : أمّا صدر الرواية فمن باب ذكر أجلّ المصاديق وأشرفها ؛ لأنّه عليه‌السلام تميّز بصفات خاصّة ، فلا ينافي إطلاقها على غيره عليه‌السلام من سائر المؤمنين ، وفي صحيفة مولانا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «ليس في القرآن آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا في حقّنا».

وأمّا ذيل الرواية ، فإنّما يكشف عن الواقع ، ويدلّ على كماله عليه‌السلام وبعده عن النقائص والأوصاف غير الممدوحة ، وتقرّبه الى ساحته عزوجل بحبّ ذاته له.

وفيه : أيضا عن عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قال : العهود».

أقول : ومثله ما عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس والسيوطي في الدرّ المنثور. وتقدّم في التفسير أنّ ذكر العقود في الآية الكريمة من باب الغالب

٢٧١

فتشمل كلّ الروابط الاجتماعيّة كالعهود والعقود والإيقاعات ، لفظيّة كانت أو كتبيّة حتّى الأخلاقيّة ، إلّا إذا نهى الشارع عنها.

وفي الحديث : «انّ عجوزا دخلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألها فاحفى وقال : إنّها كانت تأتينا في زمن خديجة ، وإنّ كرم العهد من الإيمان».

أقول : لا شكّ أنّ ذلك من مكارم أخلاقه وسمو صفاته ومن أدبه الرفيع الّذي اختصّ به ؛ لأنّه ادّبه ربّه ، وبهذه السجايا الحميدة فاز على جميع الأنبياء والرسل.

ولعلّ ذلك كان إكراما لشأن خديجة (سلام الله تعالى عليها) ، فإنّ لها المنزلة العظيمة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي أم الزهراء ، وأم الائمة الأطهار ، وأم المؤمنين ، فإنّها كانت تحميه في زمن الشدّة والكربة والغربة ، ففي صحيح البخاري ومسلم ـ كما في ينابيع المودّة للشيخ سليمان الحنفي القندوزي ـ بإسنادهما عن عائشة قالت : «ما غرت على أحد من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ما غرت على خديجة وما رأيتها ، ولكن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يكثر ذكرها وربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدايق خديجة (عليها وعلى ابنتها السلام) فقلت له : لم تكن في الدنيا إلّا خديجة؟! فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّها كانت حبيبة لي وكانت عاقلة وكان لي منها ولد» ، وزاد مسلم في صحيحه : «وانّي قد رزقت حبّها».

وكيف كان ، فالرواية تدلّ على أنّ الوفاء بالعهد من دعائم الإيمان.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عن قتادة قال : «بالعهود وهي عقود الجاهليّة الحلف».

أقول : مقتضى القواعد الفقهيّة أنّ عقود الجاهليّة مطلقا يجب الوفاء بها إلّا إذا أبطلها الشارع الأقدس كالعقود الربويّة مثلا أو رفع عنها الوجوب ، وتساند ذلك الإطلاقات والعمومات ، كما يجب على الكفّار الوفاء بها أيضا لتكليفهم بالفروع كتكليفهم بالأصول.

وفي تفسير القمّي بسنده عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد عليهم

٢٧٢

لعلي عليه‌السلام بالخلافة في عشرة مواطن ، ثمّ أنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الّتي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه‌السلام».

أقول : العشرة من باب ذكر الأهمّ والأشهر ، وإلّا فهو أكثر بكثير كما لا يخفى من سبر حياته وسيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكيف كان ، فالرواية من باب الجري وذكر أجلّ المصاديق ، ويمكن أن يقال إنّ ذلك من باطن التنزيل والله العالم.

وعن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن حبان قال : «بلغنا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) يقول : أوفوا بالعهود يعني العهد الّذي كان عهد إليهم في القرآن في ما أمرهم من طاعته أن يعملوا بها ونهيه الّذي نهاهم عنه ، وبالعهود الّذي بينهم وبين المشركين وفيما يكون من العهود بين الناس».

أقول : تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الإيمان بالله هو المعاهدة معه جلّ شأنه في الائتمار بأوامره والانزجار عن نواهيه ، فيجب عقلا على المؤمنين الوفاء بهذه العهود ، وإطلاق الآية الشريفة يشمل كلّ عهد مطلقا ، إلّا إذا نهى الشارع عنه.

وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال : «سألت أحدهما عليهما‌السلام عن قول الله عزوجل : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) فقال : الجنين في بطن امه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة امه الّذي عنى الله تعالى».

أقول : وقريب منه ما عن ابن عباس كما في الدرّ المنثور ، وفي المأثور : «الأنعام كلّها حلّ» ، وسيأتي في البحث الفقهي أنّ ذلك مقتضى القاعدة المستندة الى الكتاب والسنّة ، ولا بدّ من توفّر سائر الشروط في الجنين كما يأتي ذكرها في ذلك البحث ، والرواية من باب التطبيق.

وعن الصدوق في الفقيه بإسناده عن جعفر بن محمد عليه‌السلام «انّ عليا عليه‌السلام سئل عن أكل لحم الفيل والدبّ والقرد؟ فقال : ليس هذا من بهيمة الأنعام الّتي تؤكل».

أقول : الحكم بالحرمة في الحيوانات المذكورة من باب الخروج الموضوعي ، فإنّ العرب لا تعرف معنى للأنعام إلّا الإبل والبقر والغنم ، كما مرّ في التفسير ؛ فلذلك لا تكون غيرها حلالا ، وهي غير صالحة للأكل شرعا.

٢٧٣

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) قال : «الشعائر : الإحرام ، والطواف ، والصلاة في مقام إبراهيم عليه‌السلام والسعي بين الصفا والمروة ، والمناسك كلّها من شعائر الله ، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حجّ ثمّ أشعرها ـ أي قطع سنامها أو جلدها أو قلّدها ليعلم الناس أنّها هدي فلا يتعرّض لها أحد ـ وإنّما سمّيت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها ، وقوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) وهو ذو الحجّة وهو من الأشهر الحرم ، وقوله : (وَلَا الْهَدْيَ) وهو الّذي يسوقه إذا أحرم المحرم ، وقوله : (وَلَا الْقَلائِدَ) ، قال : يقلّدها النعل الّتي قد صلّى فيها ، وقوله : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) قال : الّذين يحجّون البيت».

أقول : الشعائر هي المعالم الّتي أمر الله عزوجل بالقيام عليها أو ندب إليها ، فتشمل شعائر الحجّ مطلقا كالتلبية والوقوف ، والطواف ، والرمي ، والذبح وغيرها ، كما تشمل الصلاة أيضا يقال إنّها من شعائر العبادة والخضوع لله جلّ شأنه ، والشعائر جمع شعيرة كما تقدّم.

وفي المجمع للطبرسي : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم» ونقل عن السدي أنّه قال : «أقبل الحطم ابن هند البكري حتّى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعاه فقال : إلام تدعو؟ فأخبره وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم رجل من ربيعة يتكلّم بلسان شيطان ، فلما أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : انظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره ، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ، فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا ، فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) ، فقال ناس من أصحابه : يا رسول الله ، خلّ بيننا وبينه فإنّه صاحبنا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه قد قلّد! قالوا : إنّما هو شيء كنّا نصنعه في الجاهليّة ، فأبى عليهم فنزلت الآية فانتهى القوم».

٢٧٤

أقول : الرواية ـ مع قطع النظر عن السند ـ من باب الجري والتطبيق لما ورد من الاختلاف في شأن النزول.

وفي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) قال : كان المشركون يحجّون البيت الحرام ويهدون الهدايا ، ويعظّمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجّهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فقال الله تعالى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، وفي قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) يعني : لا تستحلّوا قتالا فيه ، وفي قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) يعني : من توجّه قبل البيت ، فكان المؤمنون والمشركون يحجّون البيت جمعا ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحجّ البيت ، أو يتعرّضوا له من مؤمن أو كافر ، ثمّ أنزل الله بعد هذا : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا).

أقول : تقدّم منّا مكرّرا أنّ شأن النزول في الآيات الشريفة لا يصير سببا للتخصيص ولا يجدي نفعا ولا ضررا ؛ لما تضمّنته الآيات الكريمة من المعارف والأحكام ، ومكارم الأخلاق ، والكلّيات الّتي لها مصاديق كثيرة في مرّ الزمن ، وأنّ الآية المباركة في مقام بيان قاعدة أخلاقيّة ودستور إلهي.

على أنّ ما ورد عن ابن عباس لا يصحّ أن يصير سببا لنزول الآيات الكريمة المذكورة ؛ لما تسالموا عليه أكثر المفسّرين من أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع ، وقد سبقتها سورة البراءة في النزول ، فيكون قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) بعد قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) ، وكذا بعد قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، فلا مجال عليهم إلّا أن نقول بالنسخ ، فيكون قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) منسوخا بما ورد في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة ، فيدلّ على ما ذكرنا ، وتقدّم أنّ الآية الكريمة هي على إطلاقها وعمومها فلا تنافي عدم دخول المشركين الى الحرم الإلهي ، وأنّها في مقام المنع والردع عن التعرّض لحرمات الله تعالى من المشركين وغيرهم.

٢٧٥

وكيف كان ، فما ذكر في سبب النزول كلّه من باب الجري والتطبيق.

وعن البيهقي في شعب الإيمان عن النواس قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن البرّ والإثم في قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ، فقال : ما حاك في نفسك فدعه ، قال : فما الإيمان؟ قال : من ساءته سيئته وسرّته حسنته ، فهو مؤمن».

أقول : المراد من صدر الرواية ـ مع قطع النظر عن سندها ـ ما كان في قلبك من الشكّ والريب وكرهت أن يطّلع عليه الناس فدعه.

وفي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس».

أقول : للبرّ مراتب أسماها حسن الخلق الّذي هو من غر الصفات الحميدة ، وإنّ الأديان السماويّة كلّها نزلت لأجل غرس أسسه وتشييد أركانه.

وفي الدرّ المنثور عن البخاري في تأريخه عن وابصة قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا لا أريد أن ادع شيئا من البرّ والإثم إلّا سألته عنه ، فقال لي : يا وابصة أخبرك عمّا جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت : يا رسول الله أخبرني! قال : جئت لتسأل عن البرّ والإثم ، ثمّ جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها صدري ويقول : يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك ، البرّ ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في القلب وتردّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك».

أقول : لعلّ تنكيته صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل التفاته وتوجّهه لمقاله صلى‌الله‌عليه‌وآله بارجاعه الى الفطرة ، وإنّ كلّ ما قبلته الفطرة من الصفات فهو من البرّ ، وما نبذته أو شكّ فيه فهو من الإثم ، والله العالم.

بحث فقهي

تدلّ الآيات المباركة على قواعد فقهيّة متينة ترتبط بالحياة الفرديّة

٢٧٦

والاجتماعيّة قد كثر الابتلاء بها وتمسّك الفقهاء بها في أكثر أبواب الفقه ، خصوصا في المعاملات :

الاولى : قاعدة : «الوفاء بالعقود مطلقا إلّا ما أخرجه الدليل ، وهي قاعدة قيّمة ، وركيزة في التجارات ، وعبّروا عنها ب «أصالة اللزوم في العقود ، إلّا إذا دلّ دليل على الخلاف» ، ولا جدوى في اختلاف التعبير هنا.

ومعنى القاعدة أنّ كلّ عقد جامع للشروط المعتبرة ـ في العقد والعاقد والعوضين ـ لو تحقّق في الخارج يكون ثابتا ودائما لا يجوز حلّه مطلقا ، إلّا بسلطة الشرع كما في مورد الخيارات ، أو برضاء الطرفين الجامعين للشرائط الشرعيّة كما في مورد الإقالة.

بل يمكن أن يقال : إنّ كلّ إنشاء جامع للشرائط ـ عقدا كان أو إيقاعا حتّى لو كان مبايعة مع أوليائه تعالى ـ يجب الالتزام بمضمونه مطلقا ولا يجوز نقضه اختيارا ، إلّا إذا ورد ترخيص من الشرع في ذلك ، وما ورد في الآية الكريمة من العقود إنّما هو من باب ذكر الغالب لا التقييد. فتأمّل.

ولا فرق في العقد بين أن يكون خلقيّا كأغلب العقود مثل البيع والإجارة وغيرهما ، أو خالقيّا كالنذور والصدقات ، أو مشوبا به كالنكاح ، وكذا في الإيقاعات كالطلاق والعتق.

واستدلّ للقاعدة بالأدلّة الأربعة : فمن الكتاب آيات :

منها : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، فاللزوم وإن كان حكما وضعيّا ، ولكن منشأه الأمر التشريعي أو التقريري ، وإطلاقه يشمل كلّ عقد وعهد ، الجامعين للشرائط العقلائيّة ، في كلّ زمان ، أي : أنّ وجوب الوفاء استمراري في جميع اللحظات الزمانيّة ، كما يشمل كلّ عاقد وأي نوع من أنواع الثمن أو المثمن.

ومنها : قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) [سورة النحل ، الآية : ٩١] ، وعهد الله هو ما شرّعه تعالى ـ عقدا كان أو إيقاعا منوطا بقصد القربة كالعبادات ، أو لم يكن كذلك كالمعاملات ـ وهو في مقابل عهد الشيطان ، أي : العهود الّتي فيها مفسدة كشف الشارع عنها بنهيه ، فكلّ عهد صدر من الخلق هو من عهد

٢٧٧

الله تعالى ما لم يرد فيه نهي منه سبحانه ، إذ أنّ التشريعيّات كالتكوينيّات ترجع إليه جلّ شأنه ، وقد خصّصت الآية المباركة بموارد بيّنتها السنّة الشريفة.

ومنها : قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [سورة الإنسان ، الآية : ٧] ، الّذي هو في مقام الإنشاء والتشريع بقرينة قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [سورة الحج ، الآية : ٢٩] ، وذكر النذر ليس من باب التخصيص والتقييد ، وإنّما هو من باب ذكر أحد الأفراد للعقد بقرينة ما تقدّم.

ومن السنّة روايات كثيرة ، منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» ، فيستفاد منه أنّ الخيار حكم عارضي للعقد محدّد بزمان خاصّ ، وإلّا فإنّ من ذات العقد اللزوم ، ولولا ذلك لم يكن معنى ل (جعل الخيار) إلّا بنوع من التجوّز ، وهو خلاف الظاهر ، كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بذلك.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الناس مسلّطون على أموالهم» ، فبعد انتقال السلطنة بالعقد حلّها ـ أو هدمها ـ لا يجوز إلّا برضاء الطرفين ، وقد استفيدت من هذه الرواية قاعدة اخرى ، وقد عبّر عنها ب «قاعدة السلطنة» ، وهي تدعم قاعدة «الوفاء بالعقود» ، وسيأتي البحث عن مقدار دلالتها في المورد المناسب إن شاء الله تعالى.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفسه» ، فجعل المناط في الحليّة طيب النفس ، وليس هذا إلّا اللزوم ، فحلّ العقد من طرف واحد لا يتحقّق فيه طيب النفس ، فلا يحلّ المال.

وهناك روايات اخرى ذكرت في المفصّلات ، فمن شاء فليراجع إليها.

ومن الإجماع ما ادّعاه غير واحد من أساطين الفقهاء ، بل عدّ ذلك من المسلّمات الفقهيّة.

ومن العقل اتّفاق العقلاء كافّة على قبح نقض العهد أو حلّ العقد من طرف واحد بلا رضا الطرف الآخر ، وعدّ ذلك عندهم غدرا وهو مذموم عقلا وشرعا ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يعرف به».

وهذه القاعدة من القواعد الّتي لم تنلها يد الخلاف كثيرا ؛ لكونها عقلائيّة

٢٧٨

قرّرها الشارع المقدس ، وأنّ الأدلّة الشرعيّة ترشد الى ما قرّرته العقلاء.

وقد خصّصت القاعدة بموارد دلّت عليها الأدلّة الشرعيّة.

الأوّل : الخيارات بأقسامها وأنواعها كخيار المجلس ، والحيوان وخيار العيب ، والغبن وغيرها ، كما هي مذكورة مفصّلة في الكتب الفقهيّة ، ومن شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

الثاني : ما إذا حكم الشارع بعدم اللزوم وجواز الفسخ ، كبعض أقسام الهبة والوكالة والوديعة ، ومثل هذه الموارد تحتاج الى دليل خاصّ.

الثالث : ما إذا اشترط من الطرفين أو كلّ واحد منهما الحلّ أو الفسخ وقرّره الشرع ، لأنّ اللزوم في العقود هو الحكم الأولي ، أي : الطبيعي لها ، وهو قابل للرفع لو اتّفق الطرفان على ذلك ، وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة تقتضي التسهيل والتيسير على الامة المرحومة فتكون امتنانيّة.

ثمّ إنّ موارد التمسّك بهذه القاعدة كثيرة ، أهمّها ثلاث :

الأوّل : عند الشكّ في اللزوم وعدمه بعد تحقّق العقد ، فمقتضى القاعدة هو الحكم باللزوم.

الثاني : العقود المستحدثة إن لم يدخل في أحد العقود الّتي كانت في عصر الشرع ، كما في عقد التأمين وغيره ممّا حصل في التجارات الحديثة.

الثالث : عند الشكّ في اعتبار أمر زائد على الشروط الأوليّة المتّفقة عند العقلاء في العقد المقرّرة لدى الشرع.

وبعض الفقهاء (قدس الله أسرارهم) جعل موردا رابعا في المقام ، وهو الرجوع إليها إن لم يدلّ دليل على الجواز أو الخيار ، لكنّه داخل في القسم الأوّل ، لا أن يكون قسيما له فتأمّل.

ولا بدّ من إحراز هيكل العقد عند التمسّك بهذه القاعدة ، وإلّا يكون من التمسّك بالعامّ في الفرد المردّد ، فتكون الشبهة مصداقيّة ، وإحراز ذلك لا يكون إلّا بتحقّق الشرائط الرئيسة المتّفقة عند العقلاء ، كرضاء الطرفين وتعيين كلّ من الثمن والمثمن.

٢٧٩

وهذه القاعدة كما تجري في العقود التمليكيّة كذلك تجري في العقود الإذنيّة ، إلّا أنّ الشارع حكم فيها بالجواز كالوكالة والوديعة ، ولا شكّ أنّ الأدلّة الخاصّة ـ لفظيّة كانت أو لبيّة ـ حاكمة عليها كما ثبت ذلك في علم الأصول.

أو نقول : إنّ الجواز في العقود الإذنيّة من مقتضيات ذواتها ؛ تمسّكا بقاعدة «السلطنة» ، فإنّ الناس يأذنون لمن شاؤوا بما شاؤوا ، فلا يكون الجواز لدليل خاصّ ، وإنّ ما ورد يكون إرشادا لما عرفت.

وعلى أي حال أنّ الخروج في العقود الإذنيّة إمّا خروج حكمي أو موضوعي ، فقاعدة اللزوم لا تجري فيها إلّا إذا ورد دليل خاصّ على اللزوم فيها ، فتأمّل.

الثانية : قاعدة كلّية تختصّ باللحوم من الأطعمة ، وهي : «كلّ ما في الأنعام يحلّ أكله بعد التذكية ، إلّا ما خرج بالدليل» ، ويلحق بالأنعام الحيوانات المحلّلة شرعا كالظبي ، والطيور ، والأسماك ، فتعميم القاعدة تكون من هذه الجهة.

واستندت القاعدة على الأدلّة الأربعة ، فمن الكتاب آيات كثيرة :

منها : قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، فإطلاقها يشمل جميع أجزاء الحيوان إلّا ما أخرجه الدليل أو الاستثناء في الآية الكريمة ، كما يأتي.

ومنها : قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، فإنّ الأمر فيها للرخصة لا للوجوب ، وإطلاقه يشمل القاعدة ، وهناك آيات كريمة اخرى يأتي الاستدلال بها في محالها.

ومن السنّة الشريفة روايات كثيرة ، منها : معتبرة داود بن فرقد عن الصادق عليه‌السلام : «كلّ شيء لحمه حلال فجميع ما كان منه ـ من لبن أو بيض أو انفحة ـ كلّ ذلك حلال طيب» ، وذكر الثلاثة ليست من باب الحصر ، وإنّما يكون من باب الغالب ، وأنّها لا تحلّ الحياة كما هو واضح ، وقريب منها غيرها ، وتدلّ على هذه القاعدة : «قاعدة الحلية في الأشياء» أيضا ، وسيأتي في المورد المناسب البحث عنها.

ومن الإجماع ، فهو ممّا لا شكّ فيه كما عبّر في كلمات جمع من الفقهاء.

٢٨٠