مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

بحث روائي

علي بن إبراهيم بسنده عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا مات الرجل وله اخت ، لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت ، والنصف الباقي يردّ عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها ، فإن كان موضع الاخت أخ أخذ الميراث كلّه ؛ لقول الله : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ، فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية والثلث الباقي بالرحم ، (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وذلك كلّه إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة».

أقول : الرواية من باب التفسير والتوضيح للآية المباركة كما تقدّم.

العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) : «إنّما عنى الله الاخت من الأب والام ، أو الاخت من الأب (فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ، وقال : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، فهؤلاء الّذين يزادون وينقصون وكذلك أولادهم يزادون وينقصون».

أقول : الرواية كسابقتها ، ونصيب كلالة الام تقدّم في الآية الّتي تقدّمت في أوائل السورة.

وفيه أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا ترك الرجل امه وأباه وابنه وابنته ، فإذا هو ترك واحدا من هذه الأربعة فليس هو من الّذي عنى الله في قوله : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ، ليس له أن يرث مع الام ولا مع الأب ولا مع الابن ولا مع الابنة إلّا زوج أو زوجة ، فإنّ الزوج لا ينقص من النصف إذا لم يكن معه ولد ، ولا تنقص الزوجة من الربع شيئا إذا لم يكن معها ولد».

أقول : وقريب منه ما عن زرارة ، وتقدّم تفصيل المراتب في الإرث من كتاب

٢٤١

(مهذب الأحكام) ، والرواية من باب التفسير للآية المباركة.

وفي المجمع عن جابر بن عبد الله الانصاري قال : «اشتكيت وعندي تسعة أخوات لي ـ أو سبع ـ فدخل عليّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنفخ في وجهي فأفقت فقلت : يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ فقال : أحسن. قلت : الشطر؟ فقال : أحسن. ثمّ خرج وتركني ورجع إليّ فقال : يا جابر إنّي لا أراك ميتا من وجعك هذا ، وإنّ الله تعالى قد أنزل في الّذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين ، وكان جابر يقول : أنزلت هذه الآية فيّ».

أقول : الرواية تتضمّن كرامة للنبي ، وكم له صلى‌الله‌عليه‌وآله منها في كلّ يوم من أيّام عمره الشريف ، وكان في مرض جابر مصالح وبركات.

وفي الدرّ المنثور عن جابر بن عبد الله قال : «دخل عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا مريض لا أعقل ، فتوضّأ ثمّ صبّ عليّ فعقلت فقلت : إنّه لا يرثني إلّا كلالة ، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض» ، وقال جابر : «أنزلت فيّ : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ، هكذا في رواية أبي حاتم».

أقول : الظاهر وحدة القضية ، وأنّ النفخ كان من مقدّمات صبّ الماء على وجهه ، وأنّ الشفاء حصل بمجرّد النفخ ، وصبّ ماء الوضوء كان لمنقبة اخرى ومفخرا لجابر ؛ لأنّ المسلمين كانوا يتسابقون للتبرّك بقطرة من ماء وضوئه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي الدلائل للبيهقي عن البراء قال : «آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)».

أقول : اختلف المفسّرون في آخر سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيأتي في المحلّ المناسب التعرّض له.

وفي الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال : «جاء رجل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسأله عن الكلالة؟ فقال : تكفيك آية الصيف».

أقول : تسمية الآية الكريمة بآية الصيف لنزولها في ذلك الموسم ، فإنّ الله

٢٤٢

تعالى أنزل في الكلالة آيتين ، إحداهما في الشتاء وهي الّتي في أوّل هذه السورة ، واخرى في الصيف وهي هذه الآية.

وفي تفسير العياشي عن بكير قال : «دخل رجل على أبي جعفر عليه‌السلام فسأله : عن امرأة تركت زوجها وإخوتها لامها وأختا لأب؟ قال : للزوج النصف ثلاثة أسهم وللإخوة من الام الثلث سهمان ، وللاخت للأب سهم ، فقال له الرجل : فإنّ فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامّة والقضاة على غير ذا يا أبا جعفر! يقولون : للاخت للأب والام ثلاثة أسهم نصيب من ستة تعول الى ثمانية ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ولم قالوا ذلك؟ قال : لأنّ الله تعالى قال : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجّون بأمر الله بإنّ الله سمّى لها النصف ، فإنّ الله سمّى للأخ الكلّ ، والكلّ أكثر من النصف ، فإنّه تعالى قال : (فَلَها نِصْفُ) ، وقال للأخ (وَهُوَ يَرِثُها) : يعني جميع المال ، (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) فلا تعطون الّذي جعل له الجميع في بعض فرائضكم شيئا وتعطون الّذي جعل الله له النصف تامّا؟!».

أقول : إن ردّه عليه‌السلام كان بالنقض كما هو واضح ، وذكرنا التفصيل في الإرث من (مهذب الأحكام) ، فمن شاء فليرجع إليه.

تمّت هذه السورة المباركة والحمد لله الّذي أذهب عنا الحزن بالتوفيق للتفسير ، إنّ ربّنا لغفور شكور ، جعلنا الله تعالى من العاملين بما أنزل فيها من الأحكام.

والمتخلّقين بما ورد فيها من الآيات في مكارم الأخلاق ، وأسمى الحسنات وسجايا الصفات.

والمعتصمين بما ذكر فيها من الأسماء والصفات.

والذاكرين بما سرد فيها من الأذكار ، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم : «إنّ الّذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخلون الجنّة وهم يضحكون».

٢٤٣

والسالكين في ما تلطّف عليها فيها من السبل الى عتاب حضرته.

ومن المجذوبين بآياتها النازلة في الجذب بالعناية الى ساحة كبريائه.

ومن العارفين بما أفاض علينا فيها من المعارف الربانيّة.

ومن العاشقين لحضرة جماله وأنواره ، متجرّدين عن كلّ مرغوب ومرهوب ، منفردين من كلّ مطلوب ومحبوب ، بما منّ علينا فيها من آيات العرفان ، ونسأله جلّ شأنه أن لا يقطع عنّا عونه وفيضه ، ويمدّنا بالتوفيق ، إنّه سميع مجيب.

٢٤٤
٢٤٥

سُورَةُ المائِدَةِ

٢٤٦
٢٤٧

سورة المائدة

٢٤٨

سورة المائدة وهي مائة وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

هذه السورة المباركة نزلت في حجّة الوداع فيما بين مكّة والمدينة وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله على ناقته ، فبركت من ثقلها كما في بعض الأخبار.

وعن بعض المفسّرين أنّها مدنيّة إلّا آية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، فإنّها نزلت بعرفة عام حجّة الوداع.

وكيف كانت ، فإنّها ـ كسائر السور القرآنيّة ـ اشتملت على جملة من المعارف الإلهيّة ، والإرشادات الربوبيّة ، والتوجيهات السماويّة ، وعالجت قضية القرآن الرئيسة ، وهي قضية : «لا إله إلّا الله» ، وإثبات رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والدعوة إلى الإيمان الصحيح ، فكان القسم الأعظم من هذه السورة في محاجّة اليهود والنصارى مع ذكر المنافقين والمشركين ، ولم تخرج عن الغرض العظيم الّذي يهدف إليه القرآن الكريم ، وهو إرشاد الإنسان إلى الكمالات الواقعيّة ، وبيان طرق

٢٤٩

استكماله ، فذكرت كثيرا من الأحكام العمليّة الفرديّة والاجتماعيّة والتربويّة الّتي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس وإصلاحها وتزيينها بالأخلاق الفاضلة.

ويمكن بحقّ أن تسمّى هذه السورة بسورة الأحكام والمواثيق ؛ لأنّها اشتملت على أمهات التكاليف في الأصول والفروع ، ويكفي شاهدا على ذلك أنّه ذكر فيها أهمّ موضوع بعد التشريع ، وهو الاعتناء ببقاء الشريعة ودوامها ، فذكرت بأسلوب رصين له وقع كبير في النفوس.

كما سمّيت السورة بسورة الأحبار ؛ لقوله تعالى فيها (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) ، وهم العلماء.

ولعلّ الابتداء بالدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق ، وتخصيص الخطاب بالمؤمنين وذكرهم في مفتتحها وفوزهم بشرف النداء الربوبي ؛ لأنّهم استعدّوا بعد الجولة الطويلة معهم له وعرفوا عظيم هذا الأمر في بقاء الشريعة الختميّة وحفظها من كيد الأعداء والضياع.

مع أنّ ذلك من أجمل براعة الاستهلال المعروفة في علم البديع ؛ لأنّ فيها تلقين النفوس وترويضها على قبول هذا الحكم الإلهي ؛ لأنّه من كمال الدين وإتمام النعمة.

والآيات الاولى منها تشتمل على جملة من الأحكام العمليّة الّتي تتعلّق بالنظام العامّ والحجّ ، وابتدأ عزوجل بالدعوة إلى الوفاء بالعقود الّتي هي أساس كلّ تكليف إلهي ، فإنّ التكاليف عهود ومواثيق بين الله تعالى وبين عباده ، ومن جملتها العقود الدائرة بين الناس ، فيجب الوفاء بها.

كما أنّه سبحانه وتعالى أمرهم بالتعاون على البرّ والتقوى ، الّذي هو من الدعائم القويمة في الإسلام ، وأساس كلّ خير وفضيلة ، وحذّرهم عزوجل من التهاون بهذا الأمر ، وأمرهم بالتقوى بالايتمار بأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه ، فإنّه شديد العقاب لا يغفل عن عقاب العاصين.

٢٥٠

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي في سورة النساء ، وذكرنا أنّه يتضمّن كلّ معاني الإسلام والطاعة والإخلاص ، فهو يدلّ على عظيم شرف المؤمنين واستعدادهم لتلقي الفيض من العزيز العليم.

وافتتاح السورة به لبيان أنّ العمل بما ورد فيها يجعل الفرد مؤمنا مستسلما لله تعالى مطيعا له عزوجل.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا النداء يذكر في كلّ مورد يبيّن عزوجل حكما عمليّا ، أو شرطا من شروط الإيمان المطلوب ، أو ما يتعلّق بتهذيب النفس ومكارم الأخلاق ، وقد ذكرت جميع ذلك في هذه السورة المباركة.

قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

مادّة [وفي] تدلّ على أخذ الشيء وافيا والإتيان به تامّا لا نقص فيه ، وأوفينا الكلام في قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران ، الآية : ٧٦] ، وقوله تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٨٥].

والوفاء بالعقد : هو حفظ ما يقتضيه العقد وإتيانه تامّا بالقيام لموجبه ، يقال : وفي ووفيّ وأوفى ، وجميعها وردت في القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [سورة النجم ، الآية : ٣٧] ، وقال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) [سورة الفتح ، الآية : ١٠] ، وقال تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [سورة الحج ، الآية : ٢٩].

ومادّة (عقد) تدلّ على الربط والشدّ محكما ، بحيث يصعب انفصال أحد الأطراف عن الآخر ، وتستعمل في الأمور المحسوسة ، كعقد الحبل وعقد البناء ، وغير المحسوسة كعقود المعاملات من البيع والإجارة والصلح ونحوها ، ومنها عقد

٢٥١

النكاح ، قال تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧] ، وفي دعاء الصحيفة الملكوتيّة : «وأسألك بمعاقد العزّ من عرشك» ، أي : بالصفات الّتي استحقّ بها المجد والعزّ للعرش ، فيها انعقد وبوجودها تشرّف ، فلا يمكن الانفصال بينهما ، ولعلّ تلك الخصال أو الصفات تجليات خاصّة من ربّ العزّة استحقّ العرش بها المجد والعظمة.

والوفاء بالعقد : هو الالتزام بلوازمه وعدم نقضه ، وإطلاق الكلمة يشمل جميع العهود والمواثيق الخالقيّة ، والخلقيّة ، ما لم يرد نهي عن الشارع المقدّس عن الوفاء به ؛ لأن في كلتيهما يتحقّق معنى الاستيثاق والشدّ ، وأنّ ذكر بعضهم بأنّ العقد يختلف عن العهد في أنّ الأوّل ما كان انشاؤه بين اثنين ، بخلاف الثاني فإنّه قد ينفرد به واحد ، ولكنه لا يضرّ بأصل المعنى الّذي اشتركا به.

وربّما يستفاد من موارد استعمال المادتين أنّ العهد أشدّ من العقد ، فإنّ الأخير ربط بين شيئين ، بحيث يلزمه ولا ينفكّ عنه بينما يكون الأوّل ربطا بين العاهد والمعهود له فيه تمكين من النفس. فلا يمكن للعاهد أن ينقضه ، ولعلّه لأجل ذلك كان استعمال العهد أكثر من العقد في القرآن الكريم ، فقد ورد العهد فيه ما يقرب من خمسين موضعا ولم يبلغ العقد العشرة ، وأكّد القرآن على الوفاء بالعهد فقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) [سورة الإسراء ، الآية : ٣٤]. وهو يشمل كلّ مصاديق العهد وجميع معانيه من الفرديّة والاجتماعيّة ، والعقود الدائرة في المجتمع ، والنذور ، وهذه الثلاثة هي ركائز الحياة ولا غنى للإنسان عنها ، فإنّ جميع الحقوق الفرديّة والاجتماعيّة مبنيّة على الوفاء بها ، وفي نقضها هدم للكيان الإنساني فلا تقوم له قائمة ، ويكفي في ذمّه أنّه إبطال للعدل الاجتماعي الّذي هو الركن الأساسي في حياة الإنسان ، وهو مأواه من الظلم والطغيان ، وبه ينتظم سلك الاجتماع وتتحقّق السعاة ، ففي العقد والعهد بجميع معانيهما قوام حياة الإنسان في كلّ علاقاته مع خالقه ومع نفسه ومع الآخرين ؛ لأنّه الوسيلة الوحيدة في اكتساب المزايا والحظوظ الدنيويّة والاخرويّة ؛ ولذا أكّد القرآن الكريم على الوفاء

٢٥٢

بهما ومدح الموفين بعهودهم وعقودهم ، وشدّد النكير على نقضهما وعدم الاعتناء بهما وذمّ الناقضين لهما ذمّا بالغا ، والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّ الإسلام يعتبر الوفاء بالعقد والعهد من مكارم الأخلاق ومظهرا من مظاهر صفاته عزوجل ، مضافا الى أنّ فيه حياة الامة ، وأنّه أساس كلّ عدل فردي واجتماعي ، بلا فرق بين أن ينتفع العاقد من العقد أم لا ، إلّا أن يتضرّر منه ، وينقض كلّ عقد يستلزم الظلم ويوجب سلب الحقّ عن الآخرين.

وبعبارة اخرى : أنّ الإسلام يجعل العقد والعهد والوفاء بهما خدمة للحقيقة ووسيلة لرعاية الحقّ ، لا أن يكون لهما موضوعيّة خاصّة فقط ، وبهذا افترق في احترام العهد والعقد عن سائر الأمم والقوانين الوضعيّة ، فإنّها إنّما تحترم العقود والعهود إذا جلبت المنافع ، أو استلزم منها تثبيت حقّ ، أو كانت وسيلة لابتزاز حقوق الآخرين والسيطرة على المحرومين.

وبتعبير أوضح أنّ الأمم إنّما تحترم العقد والعهد إمّا لأنّهما تجلب المنفعة أو تدفع المفسدة ، وكلاهما لا يكون غاية في احترام العهود والعقود في الإسلام كما عرفت.

إن قلت : إنّ العقود والعهود في أدلّة وجوب الوفاء هي المتداولة بين أعراف العقلاء ، فلا وجه للتفاوت والتفصيل بينها.

قلت : البحث في الدافع لاحترامها والمحفّز للالتزام بها ، فتارة : يكون لأجل رعاية الحقّ وحفظ الحقيقة ولا يراعي الجوانب الاخرى ـ مثل المنافع أو المفاسد ـ وغيرهما وهذه نظرية الإسلام.

واخرى : يكون الدافع أو المحفّز المنافع أو دفع المفاسد ، وهذه نظرية الأمم أو القوانين الوضعيّة ، فلا وجه للإشكال كما هو واضح.

ثمّ إنّ العقود من الأمور العقلائيّة الدائرة في المجتمع ، ولا تختصّ بالإسلام ، وإن احترامها من الأمور الفطريّة ؛ لأنّ البشر من أوّل وجوده على هذه البسيطة ـ مع قطع النظر عن الديانات ـ كان يحترمها ، فيكفي في اعتبارها عدم ورود المنع في

٢٥٣

الشريعة ، ولها مصاديق كثيرة مثل البيع والإجارة والصلح وغير ذلك ، سواء أكانت فرديّة أم اجتماعيّة.

اللهمّ إلّا أنّ في احترام العهود الاجتماعيّة بسط العدل على وجه الأرض وانتظام شؤون الناس وتحقيق سعادتهم ، وفي نقضه هدم كيان الامة والسبب في شقائها ، وحرمانها عن الترقي بالوصول الى الكمال ، وعلى أية حال يحرم نقض العهد مطلقا إلّا ما أذن الشارع ـ الّذي هو عالم بالمصالح والمفاسد ـ في نقضه.

وممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في كثير ممّا نقله المفسّرون في المقام ، فقد قال بعضهم : إنّ المراد من العقود الّتي كانت في الجاهليّة يعاهد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة على من يبغي عليهم أو يقصدهم بسوء ، ونقل بعض أرباب التواريخ أنّها كانت كثيرة جدا ، ولعلّ تكرار ذكره في القرآن الكريم لأجل أنّه كان شائعا في عصر نزوله.

وقال آخرون : إنّ المراد بها هي الّتي يتعاقدها الناس ـ كعقد البيع والإجارة ، والمضاربة ، والنكاح ، أو ما يعقدها الإنسان على نفسه ، كعقد اليمين والنذر والعهد.

وقال ثالث : إنّ المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بالتوراة والإنجيل ، وغير ذلك ممّا ذكره أرباب التفاسير.

والحقّ أنّ جميع ذلك خلاف ظاهر الآية الكريم ، وتخصيص لها بغير دليل يقنع العقل به أو يكون منقولا شرعيا.

واستظهر الزمخشري وتبعه آخرون : أن يكون المراد عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه ؛ لما فيه من براعة الاستهلال ، ومن التفصيل بعد الإجمال.

ولا يخفى أنّ ما ذكره وإن كان وجيها ، إلّا أنّه لا ينافي التمسّك بعموم اللفظ والحكم بأنّه يعمّ جميع ما ألزمه الله تعالى على عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام وما يعقدونه بينهم من العقود والعهود وغيرهما مما يجب الوفاء بها ، فإنّ به يجمع بين ما يقتضيه اللفظ من الوجه الأدبيّة البلاغيّة ، ومن المقصود الظاهر من الكلام.

٢٥٤

قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

حكم امتناني إلهي يبيّن ضروريات الإنسان في معاشه ، وهو من العهود الّتي أمر الله تعالى بالوفاء بها ؛ لما له من الأهميّة في حياة الناس ، وفيه تفصيل بعد إجمال فقد ذكر عزوجل القاعدة العامّة في ما يحل أكله من الطعام ، ثمّ استثنى ما يكون محرما ، وذكر بعض الحالات الّتي يحرم فيها الصيد وأكله.

والإحلال : الإباحة ، وفي الحديث المشهور عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انّ الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ، أي : صار المصلّي بالتسليم يحلّ له ما حرّم عليه فيها بالتكبير من الكلام والأكل وسائر المنافيات ، كما يحلّ للمحرم بالحجّ بالتقصير وطواف النساء ما كان حراما عليه ، وقد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥].

ومادّة (بهم) تدلّ على الغمض والإغلاق وعدم التمييز ، ومنه باب مبهم ، أي : مغلق ، وليل بهيم أو بهمة ، للشجاع الّذي لا يدري من أين يؤتى له ، وفي الحديث : «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة بهما» ، ومعناه : يحشر الناس وليس فيهم شيء من العاهات والأعراض أو الأمراض الّتي تكون في الدنيا كالعمى ، والعور ، والعرج ، وإنّما هي أجساد مصحّحة للخلود إمّا في الجنّة أو في النار ، ولكنّهم لا ينطقون لهول المحشر وما سيطر عليهم من الغلق والرعب فأبهموا عن البيان ، وممّا ذكرنا ظهر معنى ما ورد عن ابن عباس : «أبهموا ما أبهم الله».

والبهيمة : اسم جنس لكلّ ذات الأربع من دواب البرّ والبحر ، سمّيت بها لعدم تمييزها وإبهام الأمر عليها ، والجمع بهائم وبهم ، وفي الدعاء : «والبهم الصافين الحافّين حول عرشك» والمراد بهم الملائكة ، ولعلّ الوجه في تسميتهم بها ؛ لأنّ أحوالهم وسائر شؤونهم قد ابهمت على غالب الخلق ، أو لأنّهم شاهدوا التجلّيات وظهرت لهم الحقائق ، فلم يتمكنوا من بيانها وإظهارها ولذلك أبهموا ، وإفراد البهيمة لإرادة الجنس.

والأنعام : جمع النعم ، وهي الدواب المعروفة ، واللفظ يشمل جميع الأنواع ممّا

٢٥٥

يحلّ أكله ـ كالأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام كما يأتي ـ وألحقت بها الظباء وبقر الوحش بدليل السنّة ، وكذا الحمار والفرس وغيرهما ، إلّا إذا ورد في الشريعة ما يدلّ على حرمة أكله أو كراهته.

وإضافة البهيمة الى الأنعام بيانيّة كثوب الخز ، أي : أحلّ لكم البهيمة من الأنعام ، وهي الأزواج الثمانية الّتي ذكرت في سورتها ، وتدلّ عليه بعض الروايات كما يأتي.

واعترض عليه بأنّه من قبيل إضافة الجنس الى النوع منه ، فإنّ البهيمة اسم جنس والأنعام نوع منه ، ولا فائدة في مثل هذه الإضافة ، بل هي مستقبحة كإضافة الحيوان الى الإنسان.

ويردّ عليه : بأنّ مثل هذه الإضافة شائعة وليست من إضافة الجنس الى أنواعه ، بل إضافة النوع الى أصنافه ، مضافا الى ذلك أنّ إضافة الجنس الى النوع لا يكون مستقبحا إذا كانت فيها فائدة مستحسنة كما في المقام ، فإنّها لإزالة الإبهام من البهيمة وتعميمها للأزواج الثمانية ، ورفع الحظر الّذي فرضه أهل الجاهليّة على بعضها.

وقيل : المراد من الآية المباركة جنين الأنعام ، فتكون الإضافة لامية وورد ، فيه بعض الروايات.

وقيل : إنّ المراد من البهيمة غير الثمانية ممّا يشابهها ـ كالظباء ، وبقر الوحش ، ونحوهما ممّا يماثل الأنعام في بعض صفاتها كالاجترار ونحوه ، فتكون إضافتها للأنعام لملابسة المشابهة بينهما ، وجوّز بعضهم أن تكون الإضافة في مثل ذلك إمّا بمعنى اللام إن أريد منها الاختصاص بين المشبّه والمشبّه به ، أو بمعنى (من) البيانيّة إن أريد الاتّحاد بينهما.

وكيف كان ، فالحقّ أن يقال : إنّ الظاهر من الآية الكريمة هو العموم الشامل لكلّ ما يصدق عليه عنوان الأنعام المعروف عند اللغة والعرف ، من غير اختصاص بصنف خاصّ وإن كثر إطلاقه عليه ـ كما في الإبل ـ فإنّه لا يصير سببا للتخصيص كما هو المعروف في علم اصول الفقه ، فيشمل الجنين أيضا لأنّه من الأنعام عرفا ،

٢٥٦

ولا فرق فيه بين أن تكون وحشية ـ كبقر الوحش والظباء ـ أو أليفة ؛ لصدق العنوان عليها جميعا ، إلّا إذا خرج صنف عن هذا العنوان ، فلا تشمله الآية الشريفة ، أو ورد دليل على التحريم ـ كالموطوءة وكالجلال ـ والكراهة والبحث مذكور في الفقه ، ومن شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

والمراد من الحليّة هي حليّة أكل لحومها ، لمناسبة الحكم والموضوع الّتي هي من القرائن المعروفة الّتي يعتمد عليها العلماء ، وتقدّم مثلها في سورة البقرة آية (١٦٨) أيضا. ولأنّ الأكل هو الّذي حرّمه أهل الجاهليّة على أنفسهم لبعض الأنعام ، كما هو مذكور في سورة الأنعام.

قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).

استثناء من الحليّة ، أي : يحلّ أكل لحوم بهيمة الأنعام إلّا ما حرّمه عزوجل في ما يأتي من الآيات الكريمة ، وما ورد في السنّة الشريفة.

قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ).

حال من ضمير الخطاب في قوله عزوجل : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ، والصيد يحتمل المصدر والمفعول أي : المصيد ، كقوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [سورة المائدة ، الآية : ٩٥].

وقيل : لا يقال للشيء الصيد حتّى يكون ممتنعا ، حلالا ، لا مالك له ، ولكن ذلك كلّه من الشروط والقيود الشرعيّة ، وإلّا فإنّ الصيد هو أخذ الحيوان الممتنع بحيلة ودهاء.

وتبيّن الآية الشريفة قيدا من قيود الحكم المزبور ، فيكون تخصيصا لعمومه ، فتحرم بهيمة الأنعام الممتنع إذا كان اصطيادها في حال الإحرام ، وتبقى الحلّية في سائر الأحوال ، والمراد من محلّي الصيد أي : لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه.

وقيل : إنّ الجملة حال من قوله : «أوفوا» ، أو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى : (يُتْلى عَلَيْكُمْ). ولا يخفى بعدهما.

٢٥٧

قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ).

حال من الضمير في «محلي» ، وحرم ـ بضم الحاء والراء ـ جمع محرم ، وبكسر الراء الرجل يحرم للطواف حول البيت الشريف.

والمعنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام في غير حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون ؛ لئلا تقعوا في مشقّة وحرج. وقال بعضهم : إنّ المراد منه الدخول في الحرم ، يقال : أحرم دخل في الحرم ، فيحرم صيد الحرم ، ولكن التخصيص للصيد في حال الإحرام أولى.

وللقوم في تفسير الآية المباركة وجوه وأقوال لا تخلو من المناقشة ، بل هي بعيدة عن سياقها.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ).

أي : أنّ الله تعالى يقضي ما يريد من الأحكام حسب ما تقتضيه حكمته البالغة وعلمه الأتمّ ، ولو كان الحكم خلاف المعهود عند الناس.

و (يحكم) يتعدّى بالباء ، ولكن ضمن معنى يفعل فعدّى بنفسه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ).

خطاب مجدّد للمؤمنين تشريفا لهم وتكريما بهم وتعقيبا لما بيّنه عزوجل ـ من حرمة إحلال الصيد في حال الإحرام الّتي هي من شعائر الحجّ ـ ذكر تعالى النهي عن إحلال سائر الشعائر ، وفيه التأكيد على شدّة العناية بحرمات الله تعالى وتهويل الأمر في إحلالها.

والإحلال : الإباحة بغير مبالاة بمنزلة المأتي به وحرمته في الدين ، وهتك كلّ شعيرة إنّما يكون بحسبها ، فإحلال شعائر الله تعالى هو عدم احترامها والتهاون بها وإباحة العمل لها ، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته بالقتال بعد ما منع القتال فيه.

والشعائر : جمع شعيرة على وزن فعيلة ، وهي ما جعله الله تعالى شعائر الدين ومعلما من معالمه كشعائر الحج وغيرها ، وتقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٨] ، وفي

٢٥٨

الحديث أنّ جبريل عليه‌السلام قال له : «مر أمتك حتّى يرفعوا أصواتهم بالتلبية ، فإنّها من شعائر الحج» ، ومنه إشعار البدن ، أن يجعل لها علامة من شقّ أحد جنبي سنام البدنة حتّى يسيل دمها.

وإضافتها الى الله تعالى في الآية المباركة لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها.

والمعنى : يا أيها الّذين آمنوا لا تتهاونوا بحرمات الله عزوجل وتهتكوا شعائر الله تعالى فتجعلوها حلالا تعملون فيها كما تشاؤن. وخصّ بعض المفسّرين الآية الكريمة بشعائر الحجّ ، ولكنه تخصيص لها بغير دليل.

قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ).

أي : ولا تستحلّوها بالقتال والغارة وهما محرمان عليكم ، وأشهر الحرم في الإسلام أربعة ، واحد فرد وهو شهر رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرم الحرام. وإفراده في المقام لإرادة الجنس.

قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ).

أي : ولا تحلّوها ، والهدي واحدة هديّة. والمراد بها ما يساق للحجّ من الغنم ، والبقر ، والإبل.

والقلائد جمع قلادة ، وهي ما يقلّد به الهدي من نعل ونحوها ؛ ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له ، وهي سنّة إبراهيميّة بقيت حتّى الإسلام. وإحلالهما هو عدم التعرّض لهما بالغصب والمنع من دخول محلّه.

والتعرّض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرّض لذواتها ، كما قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [سورة النور ، الآية : ٣١] ، فإنّ النهي عن إظهار الزينة نهي عن إظهار محلّها بالأولى.

وإنّما خصّهما بالذكر تعظيما لهما ولكونهما من شعائر الحجّ ، فتعظيمهما يكون تعظيما له ، كما أنّ ذكر الخاصّ (القلائد) بعد العامّ (الهدي) ؛ للتنبيه على فضلها وشرفها.

٢٥٩

قوله تعالى : (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ).

يعني : القاصدين له ، اسم فاعل من أمّ إذا قصد ، يقال : أممت كذا ، أي : قصدته. أي : ولا تستحلّوا القاصدين للبيت الحرام بأن تمنعوهم من دخوله ، ولا يختصّ ذلك بخصوص الشهر الحرام ، بل هو عامّ يشمل جميع الأزمنة ، بل وحتّى المشركين الّذين يقصدون البيت لولا منعه تبارك وتعالى عن دخولهم الحرم.

ويختلف الأمّ عن القصد في أنّ الأوّل هو التوجّه الى الشيء وقصده قصدا مستقيما لا يعني الى غيره ، بخلاف القصد.

قوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً).

الجملة إمّا في موضع الحال من ضمير (آمين) ، أو صفة لآمين ، وحينئذ يكون المراد منهم المسلمين ؛ لأنّهم هم الّذين يطلبون ذلك ، فتكون الآية الشريفة غير منسوخة ، كذا قيل.

وفي الآية المباركة إشارة الى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه ، لما ذكر فيها من اسم الربّ من التشريف لهم ، وكونهم قاصدين البيت الحرام الّذي من قصده كان من الآمنين.

والفضل هو الأجر والمال ، أي : منهم يبغي ويقصد البيت للتجارة والربح ، ومنهم من يطلب رضوان الله تعالى.

وفي الآية المباركة لطف من الله عزوجل لمن يقصد البيت الحرام ، واستئلاف منه جلّ شأنه لغير المسلمين ؛ لتنبسط النفوس فيردون الموسم فيستمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم.

وخصّ بعض المفسّرين الحكم بالمشركين ، ثمّ قال : إنّه نسخ بقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [سورة التوبة ، الآية : ٢٨] ، ولقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة ، الآية : ٥] ، وأيّده بما رواها جمع في سبب نزول الآية الشريفة وكونها في المشركين.

والحقّ أنّ الآية المباركة على إطلاقها وعمومها كما تقدّم ، وأنّها تدلّ على عدم التعرّض لحرمات الله تعالى ، وأنّ المؤمن لا بدّ له من التسليم والعمل بما أنزله

٢٦٠