مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

وقال آخرون : باتّحاد الكلمة بجسد المسيح فولدت مريم العذراء عليها‌السلام إلها أزليا ، وانقلبت الكثرة وحدة ، فالمسيح ناسوت كلّي لا جزئي ، وهو قديم أزلي ، وهذا القول هو المعروف بينهم باتّحاد اللاهوت بالناسوت.

وقال ثالث : بأنّ الاتّحاد كان بمعنى الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء.

وقال رابع : بأنّه كان بمعنى الإشراق ، أي : أرقت كإشراق الشمس من النور وهو قول بعض حكمائهم.

وقال جمع آخر : بأنّ الاتّحاد لم يبطل الأزليّة ، فالمسيح إله تامّ ، وإنسان تامّ ، وهما قديم وحادث والاتّحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث ، والقتل وقع على الناسوت دون اللاهوت.

وقال جمع آخر : إنّ الكلمة انقلبت لحما ودما ، فصار الإله هو المسيح ، ورووا عن يوحنا أنّه قال في صدر إنجيله : إنّ الكلمة صارت جسدا وحلّت فينا.

وقال جمع منهم : إنّ اللاهوت ظهر بالناسوت بحيث صار هو هو ، وذلك كظهور الملك لمريم العذراء عليها‌السلام المشار إليه في القرآن الكريم : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [سورة مريم ، الآية : ١٧].

وقال بعضهم : بالتركب ، أي : جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا كتركب النفس الناطقة مع البدن فصار جوهرا واحدا ، وهو المسيح وهو الإله ، فيقولون : صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها ، وإن مريم ولدت إلها والقتل والصلب وقعا على اللاهوت والناسوت جميعا ، إذ لو كان على أحدهما لبطل الاتّحاد.

ومنهم من قال : بالاتّحاد بين اللاهوت والناسوت على نحو الظهور ، فلم ينتقل من اللاهوت الى الناسوت شيء ولا حلّ فيه ، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصور المرئية في المرآة ، فإنّ القول بهذا النحو من التجسّد ممّا أوجب القول بالوهيّة المسيح ، بلا فرق في القول بين الاتّحاد أو الحلول أو التركّب ، ولشدّة ارتباط بينه عليه‌السلام وبين مريم العذراء ، فقد ادّعى الألوهيّة فيها ، وهذا هو المحكي في

٢٢١

القرآن الكريم : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦] ، وكان هذا أصل الأقانيم الثلاثة والقول بالتثليث.

الثاني : من جهة الاختلاف في صفات الباري جلّت عظمته ، فقيل : إنّ الأقانيم صفات للجوهر القديم وهي الوجود ، والعلم ، والحياة ، وعبّروا عن الوجود بالأب ، والحياة بروح القدس ، والعلم بالكلمة ، وهذا القدر من التفسير لا يدلّ على الشرك ، وإن كان باطلا من جهة اخرى كما لا يخفى على الخبير ، فإنّ الصفات مهما كثرت ، فإنّها عين ذاته المقدّسة ، وكذا تفسيره بما ذكروه.

وقيل : إنّ الأقانيم غير الجوهر القديم ، وإنّ كلّ واحد منها إله ، فصرّحوا بالتثليث ، فكلّ واحد إله قديم حقيقة ، وإنّ الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، وهذا يدلّ على الشرك في الذات ، وهو باطل كما هو معلوم.

وقيل : إنّ الله تبارك وتعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته ، وإنّ الاتّحاد كان بمعنى الإشراق كما عرفت آنفا ، وهذا باطل ولم يعرف له وجه أبدا.

وقيل : إنّ الله تعالى واحد وهو الأب ، والمسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء ، وهو مخلوق قبل العالم ، وهو خالق للأشياء كلّها ، وهذا يدلّ على الشرك في الفعل وهو باطل أيضا ، كما يدلّ على قدم الحادث وهو فاسد.

والمعروف بينهم أنّ الله تعالى هو الواحد الأب صانع كلّ شيء ومالك كلّ شيء وفاعل ما يرى وما لا يرى ، وأنّ المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلّها ، الّذي ولد من أبيه قبل العوالم كلّها وليس بمصنوع ، إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه الّذي بيده اتّقنت العوالم وخلق كلّ شيء ، الّذي من أجلنا ـ معاشر الناس ـ ومن أجل خلاصنا نزل من السماء واتّحد مع روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبلت به وولد من مريم البتول ، وهذا القول باطل ، لاستلزامه انقلاب الحقائق ، وتعدّد القدماء ، وقدم الحادث.

الثالث : من جهة خلق عيسى عليه‌السلام من غير أب وصدور المعجزات الّتي

٢٢٢

تخرج عن مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقدّر عليها موصوفا بالإلهيّة.

هذه هي عمدة ما يمكن أن يستفاد من أقوالهم المتفرّقة وآرائهم المتشتّتة في هذه المسألة ، وقد خبطوا فيها كثيرا حتّى أخرجوها عن حدود الأدلّة والبراهين ، واستدلّوا عليها بأمور عاطفيّة وادّعاء الرؤية في المقام وغير ذلك ممّا لم يقم عليه برهان ، بل ادّعى بعضهم : «بأنّ الوهيّة المسيح فوق المتعقّل ، ولكنه معقول» ، فإذا لم يكن متعقّلا فكيف يمكن أن يكون معقولا؟! فهل يكون الوهيّة الله تعالى الّتي اتّفقوا عليه أمرا غير متعقّل إلّا أن يقال : بأنّ الوهيّة المسيح إنّما تكون كذلك لأنّه إنسان مخلوق حادث ويراد إخراجه عن حدود البشريّة والعروج به الى حدود الإلهيّة الّتي عرفت أنّها تختصّ بالواحد الأحد ، ويستحيل أن يصل إليها أحد من المخلوقات.

وكيف كان ، فنحن نتعرّض في المقام الى ما يمكن أن نذكره من المناقشات في ما ذكروه إجمالا ، والتفصيل في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

ما يتعلّق بعقائدهم :

ذكرنا جملة من عقائد المسيحيين في السيد المسيح عليه‌السلام ، وكثير منها إن لم تكن كلّها دعاوي مجرّدة لم يقم عليها دليل إن لم تكن الأدلّة على خلافها ، وحاول بعضهم إقامة الأدلّة العقليّة والنقليّة عليها ولكنه لم يأت بشيء جديد سوى إضافة دعاوي جديدة عليها والاستدلال بأمور عاطفيّة أو عنايات أو بما هو أقرب الى الجدل والسفسطة ، كما لا يخفى على من راجعها في كتبهم. ولظهور فسادها اعترف بعضهم بأنّ مسألة تجسّد الكلمة ـ الّتي هي من أمهات عقائدهم ـ فوق عقولنا ولكنّه معقول ، ولم يعلم وجه هذا القول ، فإنّ المسألة إذا خرجت عن حدود فهم البشريّة وكانت فوق عقولهم كيف يمكن أن تكون معقولة ويقام عليها الأدلّة العقليّة؟!.

٢٢٣

وكيف كان ، فنحن نذكر في المقام بعض القواعد المسلّمة عند جميع العقلاء ـ بما فيهم المسيحيون أنفسهم ـ الّتي تدلّ على فساد جملة كثيرة ممّا اعتقدوه في عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، ثم نذكر ما يمكن الردّ عليها.

الاولى : اتّفق الملّيون الّذين يعتقدون بالإله الوحد الأحد أنّ الله تعالى ليس بجسم ولا بمتحيّز ، وليس في جهة ولم يكن محلا للحوادث ، وقد أقاموا الأدلّة والبراهين القويمة العقليّة والنقليّة على ذلك ، وأنّ القول بتجسّد الكلمة ينافي ذلك بلا ريب ، فإنّ تجسّد الإله ـ سواء كان على نحو العينيّة أو الحلول أو التركب أو الإشراق وغير ذلك ـ يستلزم أن يكون الإله جسما ومتحيّزا وفي جهة ، وأن يكون محلا للحوادث ومشابها لمخلوقاته ، إلّا أن يراد بتجسّد الكلمة غير الّذي أرادوا فلا بدّ من بيانه.

الثانية : امتناع قلب الحقائق فإنّه ممّا أجمعت عليه العقلاء ، فيمتنع قلب حقيقة الى حقيقة اخرى مخالفة للأولى إلّا بإعدامها. والقول بأنّ المسيح الّذي هو مخلوق حادث صار إلها قديما أزليا يصادم هذه القاعدة المسلّمة.

الثالثة : امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى ، فيمتنع قولهم بأنّ الكلمة امتزجت بجسد المسيح وغير ذلك ممّا اعتقدوه في تجسّد الكلمة الأزليّة.

الرابعة : امتناع تعدّد الكلّي الواحد والإشارة إليه وكونه مرئيا ، كما هو مبيّن في علم المنطق ، والقول بأنّ عيسى عليه‌السلام إنسان كلّي باطل ، فإنّ الإنسان الكلّي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي آخر ، وقد اتّفق النصارى على كون المسيح مولودا من مريم عليها‌السلام ، فإن كانت مريم كلّيا كما يدّعيه بعضهم ، فإن كان هو عين إنسان المسيح لزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ، ولزم أن يولد الشيء من نفسه. وكلاهما باطل ، وإن كان إنسان مريم جزئيا ، فالكلّي ما كان صالحا لاشتراك الكثرة فيه ، فيلزم أن يكون المسيح جزءا من مفهوم مريم وبالعكس ، وهو محال.

مضافا إلى أنّ الكلّي لا يمكن أن يقع مورد الإشارة إلّا بالإشارة الى جزئي من جزئياته ، أو يقع مورد القتل والتعذيب والاضطهاد ، فإنّه محال.

٢٢٤

هذه بعض القواعد المسلّمة عند الجميع ، الّتي يستلزم القول بها بطلان جملة كثيرة من معتقدات النصارى في المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام.

وأمّا القول بتجسّد الكلمة الأزليّة ، فإنّه مجرّد دعوى بلا دليل ، بل الأدلّة قائمة على خلافه ، فإنّه إن كان المراد منه حلول الباري القديم عزوجل في المسيح الحادث وتقمّص جسده ، فهو باطل بلا إشكال ، ويدلّ على بطلانه ما دلّ على بطلان كون الله تعالى جسما ، وامتناع حلول الحوادث فيه.

وإن كان المراد منه رفع المسيح الحادث الى مقام الألوهيّة ، فهو من انقلاب الحقائق الّذي هو ممتنع عند الجميع ، إذ كيف يمكن للمخلوق الحادث أن يكون إلها أزليا قديما.

وإن كان المراد منه إشراقا من الله تعالى عليه ، فإن كان المراد من الإشراق إشراقا نوريّا كإشراق الشمس ، فهو باطل لأنّه من لوازم الجسميّة ، والله تعالى منزّه عنها.

وإن كان المراد منه الفيض ونحوه ، فهو لا يختصّ بالمسيح ، فإنّ آدم عليه‌السلام وسائر الأنبياء العظام لهم مثل تلك الفيوضات الربوبيّة ، كلّ حسب استعداده.

وأمّا القول بالأقانيم ، فإن كان المراد منها صفات الله تعالى ، فلا بدّ من تطبيقها على القواعد المسلّمة الّتي ذكرت في الفلسفة الإلهيّة ، من كونها عين الذات إذا كانت من صفات الذات ، وإنّها أزلية أبدية لا يمكن تحديدها بحدّ كما لا يمكن تحديد الذات المقدّسة ، وعدم اختصاصها بواحد أو اثنين أو ثلاثة بل المدار على ما ميّزوا به صفات الذات عن صفات الفعل وغير ذلك ، فإن كان مرادهم من الأقانيم تلك ، فلا مشاحة في الاصطلاح ولكنهم لا يقولون به.

وإن كان المراد تعدّد الآلهة كما يظهر من كلماتهم ، فإنّ أدلّة التوحيد تنفي ذلك صريحا كما عرفت آنفا.

وأمّا القول بأنّ خلق المسيح عليه‌السلام من غير أب يدلّ على كونه إلها ، فإنّ آدم عليه‌السلام أبا البشر أحرى بأن يكون إلها على ما يزعمون ، فإنّه خلق من غير أب

٢٢٥

ولا أم وهم لا يقولون بذلك ، فليس الخلق من غير أب أو غير أم أو كليهما إلّا لبيان تمام قدرة الله تعالى على خلقه.

وأمّا القول بأنّ صدور المعجزات الباهرات وخوارق العادات منه عليه‌السلام لدليل على كونه إلها ، إذ لم تصدر تلك إلّا من الإله. فهو باطل أيضا ، فإنّها إن صدرت منه استقلالا ومن دون إقدار الله تعالى عليه ، فكان أولى له أن يخلّص نفسه من العذاب الّذي حلّ فيه من أعدائه ولم يحتج الى التماسه من أبيه لينجيه من ذلك ، كما ورد في العهد الجديد وقد تقدّم في البحث السابق ، وإن لم تكن من مقدوراته ، فهو عليه‌السلام وجميع الأنبياء في هذه الجهة على حدّ سواء ، فلم تكن ميزة له ، ليدلّ على كونه إلها ، وقد صدرت معجزات باهرات من موسى عليه‌السلام ولم يدع الألوهيّة فيه ، فإن نكروا ذلك فيحقّ لغيرهم أن ينكروا ما يدّعونه في المسيح عليه‌السلام ولا يمكنهم ذلك ، فإنّه لم يثبت ما يدعونه بأخبار التواتر إلّا ما ورد في القرآن الكريم ، وهم ينكرونه ويكذّبون من نزل عليه.

وأمّا الاستدلال على دعاويهم بما ورد في الأناجيل المعروفة عندهم ، فيردّ عليه ..

أوّلا : أنّه لا بدّ من إثبات ذلك ، فإن الأناجيل المعرفة لم تسلم من يد التحريف ، كما نطق به التنزيل.

وثانيا : أنّه معارض بمثله ، كما ورد في الأناجيل المذكورة ، ولقد كفانا مؤنة ذلك شيخنا الجليل الشيخ البلاغي (طاب ثراه) ، فمن شاء فليراجع كتابه (الهدى الى دين المصطفى) وتفسيره القيم (آلاء الرحمن).

وثالثا : أنّه يمكن تأويله بما لا يصادم القواعد المسلّمة إن أمكن التأويل ، وإلّا فيردّ.

هذه خلاصة ما يمكن أن يقال في المقام ، ولعلّ ما ورد في القرآن الكريم في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام بتعابير مختلفة ، كنسبته الى امه العذراء الطاهرة ؛ للدلالة على كونه منسوبا ومخلوقا كسائر أفراد الإنسان ، وإثبات كونه رسولا ،

٢٢٦

والتأكيد على أنّ ما صدر منه من المعجزات إنّما كانت بإذنه جلّ شأنه ، كما في سورة آل عمران والمائدة وغيرهما من التعابير الدالّة على كونه فردا كسائر الأفراد ، كلّ ذلك لنفي ما يزعمه النصارى وما يعتقدونه فيه.

أصل عقيدة التثليث :

لا ريب أنّ الشرك وكلّ عقيدة تدلّ عليه ليس لها أصل ولا واقع في الأديان الإلهيّة المبنية على التوحيد ونبذ الأنداد ، وإذا ظهر شيء منها في دين إلهي أو أية عقيدة اخرى تتخذ التوحيد أساسا لها ، فلا بدّ أن يكون لأحد امور على سبيل منع الخلو :

منها : فقدان المعلم المرشد الّذي يمثّل التوحيد قولا وعملا ويبيّنه بيانا واضحا لا لبس فيه لا تباعه.

ومنها : احتكاك الامة مع الأمم الّتي تدين بالوثنيّة وتقليدهم فيها على عمى وجهالة.

ومنها : تأويل من لا خبرة له ولا معرفة لما ورد في الكتب الإلهيّة وقول الأنبياء بما يوافق التشريك ، فيكون مجالا خصبا لزيغ المبطلين وإفساد المفسدين.

ومنها : إدخال الأعداء الآراء الهدّامة في الدين ودسّ الأفكار المضلّة في معارفه وأحكامه ، فيكون سببا لاندراس اصول الدين وأركانه حتّى لا يبقى من الدين إلّا اسمه ولا من الكتاب إلّا رسمه ، ولكلّ واحد من هذه الأمور طرق وشعب متعدّدة لا يسع المجال ذكرها.

وعلى ضوء ما ذكرناه تعرف أنّ عقيدة التشريك في النصرانيّة والّتي هي دين إلهي ، لا تخرج عن سائر الأديان الإلهيّة الّتي تتّخذ التوحيد أصلا من أصولها ، بل أساس كلّ معتقد وفكرة فيها ، ليس لها أساس ولا واقع وإنّما دخلت فيها نتيجة امور وظروف معيّنة ، وقد حكى عزوجل في القرآن الكريم عن عيسى بن

٢٢٧

مريم عليه‌السلام أنّه كان يأمر بالتوحيد ونبذ الأنداد ، فقال تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦ ـ ١١٧].

ويستفاد من هذه الآية المباركة أنّ عبادة الله تعالى الواحد الأحد كانت من أساسيات هذا الدين العظيم ، وكان عيسى عليه‌السلام يأمر بها وهو الشهيد على ذلك ؛ لعلمه بأنّها كانت قائمة عند وجوده فيهم ، وأمّا بعد ارتحاله وفقدان المعلم المرشد فيهم ، فالأمر كان على خلاف ذلك ، فقد دبّ الخلاف فيهم وتعدّدت الأناجيل وكثر المتأوّلون لآياتها ، فضلّوا وأضلّوا كما حكى عزوجل في القرآن الكريم عنهم ، ويدلّ عليه بعض الأناجيل أيضا ، فقد روى يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله قول عيسى عليه‌السلام : «وهذه هي الحياة الأبديّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الّذي أرسلته» ، وهو يدلّ على أنّ الله تعالى واحد ، وهو الإله فقط والمسيح رسوله ، وهذا هو الّذي دعا إليه القرآن الكريم كما ورد في الآيات الّتي تقدّم تفسيرها. ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله أوّل الوصايا : «فأجابه يسوع أوّل الوصايا اسمع يا اسائيل الربّ إلهنا ربّ واحد» ، وهو يدلّ على أنّ عقيدة التوحيد هي المعقول وأساس هذا الدين ، فإذا كان شيء يخالف ذلك فلا بدّ من تأويله إن كان قابلا له ، وإلّا فهم أولى بتفسير كلمات كتابهم.

ويذكر علماء تاريخ الأديان الإلهيّة أسبابا عديدة لدخول عقيدة التثليث في النصرانيّة ، والمعروف بينهم أنّ النصارى كانوا على دين الإسلام برهة من الزمن بعد ما رفع عيسى ابن مريم عليه‌السلام الى السماء ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه كان بينهم بعض الحواريين الّذين اتّبعوا المسيح عليه‌السلام حقّ الاتّباع ، وهم الّذين نشروا تعاليمه في البلاد فكانوا أوصياءه عليه‌السلام ، وبعد غيابهم دخلت تلك العقيدة في النصرانيّة ، فقيل : إنّ

٢٢٨

السبب في ذلك هم اليهود الّذين عرفوا ببغضهم لهذا الدين ، فادخلوا فيه هذه العقيدة لهدمه ، وكانت لهم أساليب متعدّدة.

وذكر بعضهم أنّه لما وقعت الحرب بينهم وبين اليهود خرج رجل يقال له بولس ، فقتل جماعة من أصحاب عيسى عليه‌السلام ، فاحتال لأن يفرّق جمعهم ويشتّت شملهم فأوقع فيهم الخلاف وأضلّهم بهذه العقيدة ، على ما هو المذكور في كتب التأريخ.

وقيل : إنّ السبب هو نقل المتنصّرين الّذين دخلوا في النصرانيّة عقائدهم البدائيّة الوثنيّة ، فأوّلوا آيات التوحيد وأدخلوا التحريف والتأويل فيها ، وتدلّ عليه شواهد كثيرة ؛ لأنّ النصرانيّة كانت محاطة بأمم تتّخذ التثليث عقيدة لهم ، منهم البراهمة ؛ ومنهم البوذائيين ، ومنهم قدماء المصريين ، ومنهم الرومان ، فقد تأثّرت النصرانيّة بعقائدهم. وقيل غير ذلك ، فراجع كتب تأريخ الأديان والعقائد والله العالم.

بحث فقهي :

اختلف الفقهاء (قدس الله تعالى أسرارهم) في نجاسة الكافر الكتابي وطهارته ، كما أنّهم اتّفقوا في نجاسة المشركين من الكفّار بالأدلّة المقرّرة ، وإنّ المسألة بجوانبها محرّرة في الفقه مفصّلا.

وبناء على طهارة الكتابي ـ كما ذهب إليها جمع من الفقهاء ـ فهل تشمل الأدلّة الدالّة على نجاسة الكفّار من المشركين الكتابي أيضا ؛ لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ) ـ الى أن قال تعالى ـ (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٠ ـ ٣١] ، وقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً

٢٢٩

لَكُمْ) وغيرهما من الآيات الشريفة ، فيكون الكفّار مطلقا محكومين بالنجاسة أو لا تشملهم؟

الظاهر هو الثاني ؛ لأنّ عنوان الكتابي ـ من اليهود والنصارى والمجوس ـ غير عنوان المشرك ، لما فيهم نحو إضافة الى الدين أو إليه سبحانه وتعالى ونزول الكتاب بواسطة أنبيائهم ، فالكتابي والمشرك عنوانان متقابلان وإن كان بينهما عنوان مشترك ـ وهو الكفر ـ وكان بعض عقائدهم يشابه عقائد المشركين ، إلّا أنّ الأحكام مطلقا تابعة لعناوين موضوعاتها ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [سورة الحج ، الآية : ١٧] ، فأفرد سبحانه وتعالى المشركين عن اليهود والنصارى.

ودعوى : أنّ المراد من الأمم في الآية المباركة غير المنحرفة إلى الشرك ، أي دين اليهود الواقعي الّذي جاء به موسى عليه‌السلام ، أو النصرانيّة الّتي جاء بها المسيح عليه‌السلام.

غير صحيحة : لأنّ التخصيص بذلك تخصيص بالفرد المعدوم أو القليل جدا ، وإطلاق الآية الشريفة يشمل اليهود والنصارى الموجودين حال نزول الآية الكريمة وبعده ، وهما لا يخلوان عن الشرك كما تنصّ الآيات المباركة الكثيرة.

أو تخصيص الأدلّة الدالّة على نجاسة المشركين بالأخبار الدالّة على طهارة الكتابي وفيها الصحيح ، وتقدّم مرارا أنّ للشرك مراتب ، وأنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة الكتابي تحمل على محامل مذكورة في الكتب الفقهيّة المفصّلة.

وأنّ الشرك الّذي محكوم بالنجاسة ، وعدم الغفران ، والضلال البعيد ، والحرمان عن الدخول في الجنّة ، ووجوب القتل إن تحقّقت شروطه ، هو الشرك العظيم الّذي هو الشرك في الذات ـ أي المعبود ـ والعبادة ، والصفات ـ أو إنكار المبدأ بالكليّة ـ فإذا لم يكن كذلك خرج عن الحكم بالنجاسة واتّصف بحكم آخر ، ولا ينافي ذلك مبغوضيّته عند الشارع.

وبالجملة : أنّ عقيدة الكتابي بالشرك لا تنافي القول بطهارتهم ـ لو قلنا بها ـ

٢٣٠

والقول بنجاسة المشركين كما عرفت من الوجوه ، وحتّى لو التزمنا بنجاسة الكتابي فالاستدلال بتلك الآيات ـ الدالّة على شركهم ـ بنجاستهم مشكل ، فتأمّل جيدا. هذا كلّه لو قلنا بطهارتهم ، وأمّا لو قلنا بنجاستهم فلا موضوع لهذا البحث أصلا كما هو واضح.

بحث عرفاني

تقدّم في أحد مباحثنا العرفانيّة السابقة أنّ للقلب حياة وممات ، ولكلّ منهما علامات تأتي في ضمن تفسير الآيات الكريمة المناسبة لها إن شاء الله تعالى. فمن علامات موت القلب الغفلة عن الله تعالى ، وإرسال الجوارح في معاصيه جلّ شأنه ، وعدم المبالاة بالزلّات ، وأنّ الجامع الباعث لموته حبّ ما سواه تعالى.

وحياة القلب لا تكون إلّا بمعرفة الله تعالى ، فكلّما كانت المعرفة أكثر وأعمق تكون آثارها كذلك ، ومن تلك الآثار ظهور آياته جلّت عظمته بدرك القلب الّذي فيه الحياة لها ، ويعبّر عنها بالتجلّي في مصطلح أهل العرفان.

ولم ترد التجلّيات إلّا على القلب الّذي سلم من يد الأغيار في حياته ، واستعدّ للواردات الربوبيّة بشهود أنواره ، وصار محلا لدرك الإفاضات بصفاته ، ولذلك كان ظهور التجلّيات في صنف الأنبياء والأولياء أكثر من غيرهم لكمال معرفتهم بالله العظيم وانسهم بخالقهم ، وبعدهم عن الأوهام ، وخوفهم من سخطه ، وتقرّ بهم الى ساحة كبريائه.

وقد فاز بالحظّ الأوفر من التجلّيات الإلهيّة سيد الأنبياء وخاتمهم نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لكمال استعداده ؛ وعظيم معرفته ؛ ومنتهى أنسه بربّه ، كما نصّت عليه الآيات الشريفة الّتي يأتي شرحها وتفسيرها والبراهين العقليّة.

وأعظم تلك التجلّيات كان لإبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام ، وأسماها لموسى بن عمران عليه‌السلام ، قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [سورة الأعراف ، الآية :

٢٣١

١٤٣] ، ففي الحديث : «انّه برز من نور العرش مقدار الخنصر ، فتدكدك به الجبل وصار مستويا بالأرض» أي ترابا ، وكذلك لمريم ابنة عمران عليها‌السلام ، فقد تجلّى ربّها لها بإرسال الأمين وتمثّل بالبشر عندها ، فولد عيسى منها بلا أب ، وغير ذلك ممّا ظهر لها في المحراب ، وأمّا تجلياته جلّ شأنه لعيسى بن مريم فهي كثيرة ، من إبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير ، وإحياء الموتى بإذن ربّه ، ورفعه الى السماء وغيرها.

وتختلف تلك التجلّيات حسب اللياقة والصفاء ، والزمان ، والانس بالربّ وحسب المصالح الّتي لا يعلمها إلّا هو جلّت قدرته ، كما هي مذكورة في كثير من الآيات الشريفة والكتب السماويّة المصونة من يد التحريف ، وتفصيل ذلك خارج عن موضع هذا الكتاب ، ويأتي ما يتعلّق بذلك في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأمّا التجلّيات للمؤمنين ، فتختلف حسب اختلاف درجات إيمانهم وحياة قلوبهم وقرب منزلتهم لديه جلّ شأنه ، وإن كانت أصولها تنقسم الى أقسام ثلاثة :

الأوّل : التجلّي بعد الانتباه من الغفلة الى اليقظة ، ويعبّر عنه بالإقبال ، فيغيب عمّا سواه تعالى ولا ينظر إلّا الى آثاره تعالى ، وهو المرحلة الاولى للسالكين إليه عزوجل ، وله مراتب متفاوتة ، وفي كلّ مرتبة درجات.

الثاني : التجلّي بالوصال وهو مختصّ بالأوصياء والكمّل من الأولياء ، وفي دعوات الصحيفة الملكوتيّة السجاديّة ودعاء كميل شواهد كثيرة على ذلك ، وله أيضا مراتب وفي كلّ مرتبة درجات.

الثالث : التجلّي بالفناء ، بكشف الحقيقة أو بفناء النفس في جنبه ، وهو مختصّ بالخلّص من الكمّل ، والغور فيه بالبحث عنه مزلّة الأقدام ، فطوبى لمن نال بقبس من ذلك النور وفاز برشحة منه.

وهناك تقسيم آخر للتجلّي وهو العظيم ، والأعظم ، والأكبر كما ورد في الدعوات المأثورة ، والبحث عنه موكول للآيات المناسبة له إن شاء الله تعالى.

وعن بعض العرفاء أنّ العوالم كلّها ساحة تجلّياته تعالى ، ويدركها الإنسان إن تحقّقت المعرفة ، ورفعت الحجب ، وأزيلت الأستار ، وانفصلت الأغيار عن النفوس ،

٢٣٢

وصفي القلب عن الشوائب ، وإلّا فدركها بالعقول المشوبة بالمادّة والنفوس المختلطة بالأوهام غير ممكن ، كما قال الشاعر :

وللعقول حدود لا تجاوزها

والعجز عن درك الإدراك ادراك

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ٩٦] ، وفي بعض الدعوات المأثورة : «اللهمّ أرنا الأشياء كما هي» ، وفي الدعاء عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا» هذا.

ولعلّ ما ورد في كلمات المسيحيين من حلول المبدأ جلّ شأنه في المسيح مرادهم التجلّي له ، كما حصل ذلك لإبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في المعراج ، وإنزال الروح الأمين على قلبه ، وانشراح صدره ، وتجاوزه قاب قوسين أو أدنى الى غير ذلك من تجلياته ، وإلّا فإنّ الحلول محال وغير ممكن كما عرفت سابقا ، ويشهد لذلك أنّ مثل هذا التعبير قد وقع في جملة من كلمات مشايخ العرفان وأكابر الصوفيّة ، ومرادهم نوع من التجلّي لا الحلول الواقعي كما هو واضح والله العالم بالحقائق والشاهد على السرائر.

٢٣٣

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

الآية الشريفة هي ختام هذه السورة الّتي اشتملت على جملة من المعارف الربوبيّة والأحكام الإلهيّة والتوجيهات والإرشادات الواقعيّة ، وقد عالجت أهمّ قضية في الأديان السماويّة ، وهي قضية : «لا إله إلّا الله» ، وكانت فيها جولات مع الكافرين والمنافقين المعاندين وبيّنت صفاتهم ونواياهم الخبيثة.

وفي هذه الآية الكريمة ردّ على فتوى المستفتين في فريضة من الفرائض الإلهيّة الّتي سبق ذكرها في هذه السورة أيضا ، وإنّما الفرق بينهما أنّ هذه الآية المباركة تبيّن حكم كلالة الأب خاصّة ، وأمّا الاولى فهي تبيّن حكم كلالة الام فقط.

كما أنّ في هذه الآية الكريمة تفصيلا لأقسامها وبيان فرائض كلّ قسم ، بخلاف الاولى ، فإنّها اعتبرت كلالة الام قسما واحدا ، فكانت فرائضها قليلة.

وكيف كان ، فإنّ وقوع هذه الآية الشريفة في ختام السورة ؛ لبيان كمال عناية الله تعالى بالمؤمنين ، فهي رحمة من ربّ العالمين لهدايتهم ، كما أنّ فيها إيماء باستكمال المؤمنين بالتوجيهات الربوبيّة ، فإنّ طلب الفتوى علامة من علامات الإيمان والتسليم والطاعة لله ورسوله ، الّتي أمر عزوجل بها في هذه السورة.

التفسير

قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

تقدّم في الآيات المباركة السابقة الكلام في معنى الاستفتاء والإفتاء

٢٣٤

والكلالة ، وقلنا إنّها إخوة الرجل وأقاربه غير الوالد والولد ، فمأخوذ في معناها فقد الوالدين والأولاد ، وتطلق على الوارث والمورّث من جهة انتساب كلّ واحد منهما الى الآخر ، وتتناول الذكر والأنثى.

والمعنى : يستفتونك في أمورهم وأحكامهم قل : لهم الله يفتيكم في الكلالة. أو أنّ المعنى : يستفتونك في الكلالة ، حذفت لدلالة الجواب عليها.

قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ).

جملة استئنافية لبيان الفتيا ، و (إن) شرطيّة مختصّ بالفعل المستكن في (هلك) ، والولد يشمل الذكر والأنثى للإطلاق ، خلافا لما ذهب إليه بعض من تخصيصه بالذكر للتبادر ، فإنّه بلا دليل ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) أن إطلاق الولد يشمل الذكر والأنثى ، وفي حكم الولد ولد الولد كما مرّ.

ونفى الولد هنا للتأكيد ؛ لما تقدّم آنفا من أنّ معنى الكلالة مأخوذ فيه فقد الوالدين والولد ، ويدلّ عليه مضافا الى ذلك ظاهر الآية الشريفة ، فإنّه لو كان أحدهما موجودا لذكر سبحانه وتعالى سهمه ؛ لأنّ الآية المباركة في مقام البيان ، ويدلّ عليه أيضا السنّة الشريفة والإجماع.

وإنّما اكتفى عزوجل بنفي الولد دون الوالد ، إمّا تغليبا ، أو لأجل معلوميّة الحكم من الآيات المباركة السابقة الواردة في الفرائض ، أو لأجل الردّ على بعض العادات الّتي كانت سائدة في العصر الجاهلي من تقديم الإخوة على الأولاد.

قوله تعالى : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ).

المراد من الإخوة هنا إخوة الأب والام ، أو الأب خاصّة. وبعبارة اخرى : أنّ الآية الشريفة تبيّن حكم كلالة الأبوين أو الأب خاصّة ، وأمّا كلالة الام فقد تقدّمت في الآية الاولى.

والمعنى : إن مات امرؤ عادم للولد ، أو غير ذي ولد ، وكان له أختا من أبويه معا ، أو من أبيه فقط ، فلها نصف ما ترك.

٢٣٥

قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ).

أي : أنّ المرء يرث أخته إذا لم يكن لها ولد ـ ذكرا كان أم أنثى ـ ولا والد ، كما عرفت من أنّ نفي الولد مأخوذ في معنى الكلالة ، فيكون ذكره للتأكيد ، وهو يرثها المال كلّه ؛ لأنّ فريضة النصف مشروط بكون الوارث أختا للميت ، سواء كان ذكرا أم أنثى ، وأمّا لو انعكس بأنّ كان الوارث ذكرا وأخا للميت ، فالفريضة السابقة لا تشمله لفقد الشرط ، فيرث المال كلّه ، فلا أثر لذكوريّة الميت أو انوثته في الفريضة ، وإنّما المدار على الوارث.

وإطلاق الآية الكريمة يدلّ على بطلان قول من ذهب الى أنّ الأخ يرث مع البنت نصف مال الاخت ، وكذلك الاخت ترث نصف ما تركته أختها مع البنت ؛ لأنّ الولد إنّما يطلق على الذكر دون الأنثى.

ويردّ عليه ما ذكرناه آنفا من إطلاق الولد عليهما ؛ ولأنّ إحراز الأخ جميع المال مشروط بانتفاء الولد بالكليّة ، لا ثبوت الإرث لهما في الجملة.

ثمّ إنّه عزوجل ذكر قسمين من أقسام إرث كلالة الأب في المقام ، وهما : أن يكون الوارث أختا واحدة للميت ولم يكن غيرها ، وفريضتها النصف ، وترث الباقي ردّا.

وأن يكون الوارث أخا للميت كذلك ، وهو يرث المال كلّه ، كما ذكرنا ذلك مفصّلا في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

وظاهر الآية الشريفة أنّ ذلك فريضة ، ويدلّ عليه بعض الأخبار أيضا ، كما ذكرناه في الفقه أيضا.

وبقي قسمان آخران يعلم حكمهما ممّا ورد في الآية المباركة ، وهما أن يكون الوارث والمورث أختين ، وسهمها النصف أيضا ؛ لإطلاق الآية الكريمة ؛ وما ذكرناه آنفا من عدم دخل مال الميت في الذكورة والأنوثة في اختلاف الفرائض في المقام والمدار على حال الوارث. والرابع أن يكون الوارث والمورث أخوين وسهمه المال

٢٣٦

كلّه أيضا لما عرفت ، ولأنّه لو كانت هناك فريضة اخرى لهذين القسمين لذكرت في الآية الشريفة ؛ لأنّها في مقام البيان.

ولا يخفى أن إرث هؤلاء مشروط بالانفراد والوحدة ، وإلّا فالحكم يختلف كما سيبيّنه عزوجل في ما يأتي.

قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ).

عطف على الشرطيّة الاولى ؛ لبيان سهم الأختين فصاعدا ، فلهن الثلثان ممّا تركه الميت ، سواء كان أخا للوارث أم أختا له ، كما عرفت آنفا. وإنّما ذكر عزوجل اثنتين دون الأختين وغيره ؛ لأنّ العبرة بالعدد.

واستشكل بعضهم في الإخبار عن ضمير التثنية «كانتا» بالاثنتين ؛ لأنّ الخبر لا بدّ أن يفيد ما يفيده المبتدأ ، وضمير التثنية دالّ على الاثنينية ، فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا.

وأجيب عنه بوجوه عديدة لا تخلو أغلبها عن المناقشة ، كما لا يخفى على من راجعها.

والحقّ أن يقال : إنّ اثنتين حال مؤكّدة ، ولبيان أنّ العبرة بالعدد والخبر محذوف ، أي : فإن كانت الأختان الوارثتان له اثنتين أو أكثر ، هذا كلّه حكم صورتي الانفراد والتعدّد من كلالة الأب لكن مع الوحدة. وبغير زوج أو زوجة كما هو المفروض في جميع ما تقدّم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

بيان لحكم التعدّد والاختلاف ، أي : وإن كان من يرث إخوة من الكلالة وأخوات رجالا ونساء ، فللذكر مثل حظ الأنثيين ، فإنّه القاعدة في باب الإرث في ما إذا اجتمع الذكور والإناث من الوارث ، فللذكر مثل حظ الأنثيين ، إلّا ما خرج بالدليل كما ذكرنا في الإرث من كتابنا (مهذب الأحكام).

٢٣٧

وفي الآية المباركة تغليب الذكور على الإناث ، وأنّ قوله : (رِجالاً وَنِساءً) بدّل كما هو واضح.

قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا).

تعليل لما سبق ، أي : يبيّن الله تعالى لكم أحكامه المقدّسة وامور دينكم ؛ لئلّا تضلوا ، أو كراهة أن تضلّوا ، على الخلاف المعروف بين البصريين والكوفيين في مثل هذه الجملة.

وقيل : يبيّن الله لكم الضلالة من الهداية ، فتجتنبوا الاولى وتتّقوها وتأتوا بالثانية.

وكيف كان ، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ الأحكام الإلهيّة من سبل هداية الإنسان ، ومن طرق الوصول الى الكمال والسعادة المنشودتين.

قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

أي : أنّ الله تعالى يعلم ما يوجب خيركم وجميع خيركم وجميع مصالحكم ، فلم يشرّع لكم من الأحكام إلّا لأجل سعادتكم.

والآية الشريفة بمنزلة التعليل لتشريع ما سبق من الأحكام المبتنية على المصالح.

٢٣٨

بحث المقام

بحث دلالي

تدلّ الآيتان الشريفتان على أنّ إرث الكلالة مطلقا مشروط بانتفاء الوالدين والأولاد مطلقا ، فيستفاد منهما أنّهم من الطبقة الثانية ، كما أنّ الوالدين والأولاد من الطبقة الاولى ، وقد دلّت الأخبار الواردة من المعصومين عليهم‌السلام على أنّ الأجداد يشاركون الإخوة والأخوات فيكونون من الطبقة الثانية أيضا ، وقد ذكرنا جملة منها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

كما أنّ الأخبار دلّت على أنّ إرث الأعمام والأخوال مشروط بانتفاء الإخوة والأجداد ، فعلم من ذلك أنّهم من أهل الطبقة الثالثة ، على التفصيل المذكور في الكتب الفقهيّة.

وأنّ الآيتين الشريفتين تدلّان على تفصيل توريث كلالة الأبوين أو الأب خاصّة على الإطلاق ، حيث لم تشترط فقد الإخوة من كلالة الام.

والكلالة : هي القرابة غير الوالد والولد كما تدلّ عليه الآية المباركة والسنّة الشريفة وآية الكلالة مذكورة في هذه السورة المباركة في موضعين ، وفي كلتيهما يبيّن عزوجل معنى الكلالة بأحسن بيان ، ففي قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) بيان لمعنى الكلالة ، فيستفاد منه أنّ الكلالة ليست في عمود النسب.

وفي كلمة «هلك» والتعبير به دون مات أو توفي أو أمثالهما ، إشارة لطيفة بأنّ من لا ولد له فهو هالك.

وفي الآية الشريفة قرينة على أنّ المراد بالكلالة المتقرّب بالأبوين أو الأب فقط ، فتدبّر فيها وفي ما مرّ من آية الكلالة.

٢٣٩

كما أنّ الآية الاولى الّتي وردت في كلالة الام دلّت على توريثها على الإطلاق كما عرفت ، فيعلم من ذلك أنّ الكلالتين تجتمعان وقد تفترقان ، وكذا حالهما مع الأزواج ، فإذا اجتمعت كلالة الأب وكلالة الام فإن كانت الأخيرة واحدة ، فالسدس لها ، وإن كانوا أكثر فيقتسمون الثلث بينهم بالسوية مطلقا ، وأمّا الباقي فيعطى لكلالة الأب ، فإن كانت أختا واحدة فلها النصف من الثلثين والبقية يردّ عليها ، وإن كانت أختين فصاعدا يعطى لهما ثلثا الثلثين والباقي يردّ عليهما ، وإن كانوا ذكورا وإناثا فيعطى لهم الثلثين ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولا شيء عندنا للعصبة ، فيعطي له نصيبه الأعلى ، فإن بقي شيء فللكلالة ، بالتفصيل الّذي ذكرناه في الإرث من (مهذب الأحكام).

والمستفاد من الآيتين الشريفتين أنّ السهام المذكورة لكلالة الأب فيهما هي سهم الاخت الواحدة وهو النصف ، وسهم الأختين وهو الثلثان ، وسهم الأخ الواحد وهو المال كلّه ، مشارك غيره من الزوج أو الجدّ كما دلّت عليه النصوص. وسهم الإخوة ذكورا وإناثا ، وهو المال كلّه ، للذكر مثل حظّ الأنثيين ، ومن ذلك يعلم بقية السهام ، وهي سهم الأخوين ، وهو المال كلّه بينهما بالسوية ، ومنها الأخ مع الاخت ، فللذكر مثل حظّ الأنثيين ، ويصدق على الجميع الإخوة.

ويدلّ قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) على أنّ تشريع الأحكام يختصّ بمن كان عالما بجميع الأمور ـ حقائقها ومصالحها ـ وما تتعلّق بمحياكم ومماتكم ، وبمقدار قدرة العباد في تحمّلها ، فيعلم من ذلك بطلان أيّ تشريع آخر صادر من غيره عزوجل ، فإنّه ضلال ولا يجلب إلّا الشقاء والحرمان ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا).

كما أنّ في الآية الشريفة إشارة الى أنّ الله تعالى لم يكل تشريع الأحكام الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما هو رسول ومبلّغ من عنده جلّ شأنه.

٢٤٠