مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أطاعه عزوجل فيهما فقد اعتصم به تعالى وحصّن نفسه من زيغ الشيطان ومكائده وشبهات أهل الضلال وأكاذيبهم.

وهذه الآية الشريفة تبيّن الجانب العملي من الإيمان ، فإنّ الاعتصام لا يتحقّق إلّا بالعمل بكتاب الله واتّباع رسوله العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإطاعتهما حقّ الطاعة.

كما أنّ الآية المباركة الاولى تبيّن الجانب العقائدي ، وهو الإيمان بالله الواحد الأحد الّذي اتّصف بجميع صفات الكمال وتنزّه عن جميع صفات الجلال ، والّذي ليس كمثله شيء ، فاستجمع الإيمان ركيزتيه الّتي بهما يتمّ ، وهما العقيدة والعمل ، كما أكّد عزوجل عليهما في مواضع كثيرة في القرآن الكريم ، ولا فائدة في الإيمان الّذي فقد فيه إحداهما ؛ ولذا كان الجزاء عظيما بقدر عظمة الإيمان المطلوب.

قوله تعالى : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ).

بيان لجزاء المؤمنين الّذين آمنوا حقّ الإيمان ، بل إنّ ما ورد في هذه الآية المباركة آثار الإيمان الصحيح ، وهي الدخول في رحمة منه عزوجل وهي الثواب العظيم الّذي لا يعرف كنهه إلّا الله تعالى جزاء لإيمانهم وطاعتهم له عزوجل.

قوله تعالى : (وَفَضْلٍ).

هو الإحسان الزائد على الجزاء ، وهو أيضا لا يقدّر قدره ويمكن أن يكون بيانا ؛ لقوله تعالى آنفا : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).

قوله تعالى : (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً).

أثر خاصّ مترتّب على الاعتصام بالله تعالى كما بيّنه عزوجل في موضع آخر ، قال تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠١] ، والهداية الى الصراط المستقيم من أعظم عنايات الله تعالى على من يشاء من خلقه ، وقد خصّ بها الأنبياء العظام عليهم‌السلام والأولياء الكرام وبعض الخلّص من عباده.

والمراد بها التوفيق للطاعة والعبادة الّتي توصلانه الى الله تعالى ويبلغ بها

٢٠١

الغاية من القرب والزلفى لديه عزوجل ونيل جزائه العظيم والدخول في رحمته ، وقد تقدّم ما يتعلّق بالصراط المستقيم في سورة الفاتحة فراجع.

وذكر الهداية إليه عزوجل في المقام إنّما هو للتأكيد على رعايته عزوجل للمؤمنين ، ومقابلة لقوله تعالى في جزاء الكافرين المعاندين : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [سورة النساء ، الآية : ١٦٩].

٢٠٢

بحوث المقام

بحث أدبي

خيرا في قوله تعالى : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره : افعلوا أو نحوه. وذهب الفراء الى أنّه نعت لمصدر محذوف ، أي : إيمانا خيرا لكم ، فيكون صفة مؤكّدة لا للتبيين حتّى يستلزم أن يكون الإيمان منقسما الى خير وغيره ، مضافا إلى أنّه لا اعتبار بمفهوم الصفة ، بل لا مفهوم لها أصلا.

وقيل : إنّه خبر كان مضمرة ، والتقدير : يكن الإيمان خيرا لكم. وضعّف بأن (كان) لا تحذف مع اسمها دون خبرها إلّا في مواضع معدودة.

وجملة : «ألقاها الى مريم» إمّا حال من الضمير المجرور في «كلمته» ، بتقدير : قد ، والعامل فيها معنى الإضافة.

وقيل : حال من ضميرها عليهما‌السلام المستكن في ما دلّ عليه (وكلمته) من معنى المشتق الّذي هو العمل فيها.

وقيل : حال من فاعل (كان) مقدّرة مع إذ المتعلّقة بالكلمة ، والتقدير : إذ كان ألقاها الى مريم.

و (من) في قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ) متعلّقة بمحذوف صفة لروح ، وهي لابتداء الغاية كما عرفت.

وقوله تعالى : (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) حرف الجر المقدّر إمّا (عن) ، أو (من) ، والجملة دالّة على الاستمرار بما يقتضي وظيفة العبوديّة.

وإفراد فعل (يستنكف) وما عطف عليه في قوله تعالى : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ) مراعاة للفظ (من).

وأمّا الجمع في (فَسَيَحْشُرُهُمْ) ، فإنّه مراعاة لمعناه من صيغ العموم ،

٢٠٣

وقرئ (فَسَيَحْشُرُهُمْ) بكسر الشين كما قرئ : (فسنحشرهم) بنون العظمة ، وفيه التفات من الغيبة الى التكلّم.

وأمّا التفصيل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فقد وقع فيه الكلام ، فقيل : إنّه تفصيل للمجازاة لا الفريقين ، فلا حاجة الى المطابقة مع آخر الآية الكريمة الّتي قبلها ؛ لأنّ الجزاء لازم الحشر فبيّنه عقيبه. وردّه بعضهم بأنّ (اما) يدخل على الفريقين ، لا على قسمي الجزاء.

وقيل : إنّه لحشر الفريقين ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه ؛ ولأنّ الإحسان للمطيعين العابدين يعمّ الفريق الآخر ، فكان داخلا في التنكيل بهم.

وقوله تعالى : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ) ، فإن كان المراد من الرحمة الثواب فيكون تجوّزا في الجار ، لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف ، وإن كان المراد منها الجنّة ، فيكون تجوّزا في المجرور دون الجار.

ولكن لا فائدة في هذا النزاع ، فإنّ كليهما يدلان على العموم والشمول ، وإنّ الجار للظرفيّة.

وأمّا «صراطا» في قوله تعالى : (صِراطاً مُسْتَقِيماً) إمّا منصوب على أنّه مفعول ثان لفعل محذوف مقدّر ، أي : يعرفهم ، أو مفعول ثان ليهديهم لتضمّنه معنى يعرفهم.

وقيل : إنّ الهداية تتعدّى إلى مفعولين حقيقة ، فلا حاجة الى التضمين.

وقيل : إنّه بدل من (إليه) المتعلّق بمقدّر ، أي مقرّبين إليه.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) على أنّ ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الحقّ الّذي يجب الاعتقاد والعمل به ،

٢٠٤

وأنّ العقل ينكر الابتعاد أو التعدّي عنه ؛ لأنّ ما هو المخالف له يكون باطلا ويجب تركه ، وأنّ دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله عامّة لجميع الناس من دون استثناء.

وإطلاق الحقّ يشمل جميع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من المعارف الإلهيّة ، والتوجيهات الربوبيّة ، والأحكام التشريعيّة ، وما جاء به في شأن الأنبياء والمرسلين ، فتكون الآية المباركة توطئة لردّ ما اعتقده النصارى في المسيح عليه‌السلام ، والى هذا يشير قوله تعالى في ما يأتي : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) ، فإنّ الحقّ في الموردين يرمز الى أمر واحد ، وهو الّذي أنزله على الرسول وما جاء به من عند الله تعالى.

الثاني : يدلّ قوله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) على أنّ الإيمان الّذي بيّنه عزوجل في ما سبق من الآيات المباركة ، وذكر فيها أصوله وركائزه هو الوسيلة الوحيدة الّتي تجلب الخير وتوصل الى السعادة ، وأنّ حقيقة الخير تكمن في الإيمان بالله إيمانا صحيحا على النحو المطلوب ، وأنّ ما سواه ـ وهم وسراب ـ لا حقيقة له ، وإطلاقه يشمل جميع الأنحاء الخير الدنيوي والاخروي ، المادي والمعنوي. وهو يدلّ على أنّ الإيمان مطلوب بالفطرة ، كما أنّ الإنسان يطلب الخير بفطرته وطبيعته.

الثالث : يدلّ قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) على النهي في الغلو في الدين مطلقا من أي ملّة كان ؛ لأنّ وصفهم بأهل الكتاب إنّما هو تذكير لهم بأنّ من كان كذلك لا بدّ أن يلزم بما جاء في الكتاب ولا يتعدّى عنه ، وهذا المناط موجود في أهل القرآن أيضا ، فيجب عليهم الاعتقاد بما جاء فيه ويحرم عليهم الغلو في دينهم.

الرابع : يشمل قوله تعالى : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على برهان قويم من البراهين الدالّة على التوحيد ، وقد ذكره عزوجل في عدّة مواضع لسعة معناه ولطفه وقربه الى الفطرة ، فإنّ وحدة الأثر لشاهد عظيم على وحدة المؤثّر ، فهو من أتمّ الدلالة على التوحيد ؛ لأنّ وحدة النظام ووحدة المسير والغاية والهدف في المخلوقات لدليل على أنّ لهذه المخلوقات خالقا واحدا

٢٠٥

جامعا لجميع صفات الكمال ومنزّها عن مجانسة مخلوقاته ، وإلّا كان كأحدها يصيبه ما يصيبها ، ولعلّه الى هذا يشير قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢] ، فإنّ لكلّ إله أثره الخاصّ به ، فتختلف الآثار ويختل النظام ، وهذا خلاف ما نراه في السموات والأرض ، فوحدة النظام تدلّ على وحدة الخالق.

ثمّ إنّ إحاطة ملكه تعالى على الأشياء وآثارها واستسلامها تحت إرادته وقهّاريته وتسخيرها في المسير الّذي حدّده عزوجل بها ، كلّ ذلك يعطي في الكفر والإيمان والطاعة والمعصية معاني لطيفة ، فإنّها لا تخرج بالمعصية عن قهّاريته جلّت عظمته ، ولا توجب خروجها عن مسيرها التكويني والهدف الّذي حدّده عزوجل لها ، وإنّما يكون للإيمان والكفر والطاعة والمعصية آثارها الوضعيّة الّتي تؤثّر في الموجودات ما سواه تعالى ، وهو جلّ شأنه منزّه عن تلك الآثار ، فهو المالك لأمرها ويدبّر شؤونها ويحيط بها ، يثيب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بآثامه.

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) على النهي عن التقوّل على الله تعالى إلّا بما أذن به عزوجل ، فلا يجوز نسبته (تعالى) الى ما لا يرضيه ، ويستفاد منه أنّ نسبة ما لا يليق بشأن الأنبياء إليهم هو تقوّل على الله تعالى ؛ لأنّهم رسله ووسائط فيضه ، كما أنّ الغلو في الدين الّذي أنزله الله تعالى على رسله هو قول على الله بغير الحقّ ، فهذه الآية الشريفة تشمل كلّ أمر ينسب إليه عزوجل ، سواء كان متعلّقا بذاته المقدّسة ، أم صفاته العليا ، أم بشأن الأنبياء العظام عليهم‌السلام ، أم بما يتعلّق بكتبه وشرائعه المقدّسة إذا لم يكن مأذونا منه ، فهو تقوّل على الله تعالى.

السادس : يتضمّن قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) على براهين متعدّدة تدلّ على نفي الوهية المسيح عيسى ابن مريم :

٢٠٦

الأوّل : كونه مولودا ومتكوّنا في رحم امرأة ومنسوبا إليها ، وينزّه الإله عن أن يكون كذلك ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، فإنّ المسيح مولود من امرأة ومنسوب إليها.

الثاني : أنّه مخلوق حادث وكان خلقه لأجل تعلّق الأمر به ، يدلّ عليه قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ) ، والخلق والحدوث من صفات المخلوقين دون الإله العظيم القدير.

الثالث : أنّه مركّب من بدن مثالي خارجي تكوّن في الرحم ، وروح قدسيّة أفاضها الله تعالى عليه في غاية النزاهة والطهارة ، وهي مخلوقة من أمر الله تعالى ، والتركّب من صفات المخلوق الحادث ، وينزّه الإله العظيم عنه ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ).

والحاصل : أنّ عيسى عليه‌السلام ليس إلّا عبدا كسائر العبيد ، أنعم الله تعالى عليه حيث جعله آية ، بأنّه خلقه من غير أب كما خلق آدم عليه‌السلام كذلك ، وشرّفه بالنبوّة ، وصيّره عبرة عجيبة ، قال تعالى في شأنه : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة الزخرف ، الآية : ٥٩].

وقد دلّت الآية الشريفة على قدسيّة المسيح عيسى بن مريم ومكانته العالية ، حيث كان موردا للفيض والإفاضة ، وقد اختاره الله تعالى رسولا هاديا ولا يمكن أن يكون الاتّحاد والحلول فيه ، فهذه الآية الشريفة بايجازها البليغ تضمّنت من البراهين العقليّة ما يدلّ على نفي كلّ ما قاله النصارى في المسيح من الألوهية والحلول والاتّحاد ، وكونه ابنا له جلّ شأنه.

السابع : يدلّ قوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) على التوحيد ونفي الشرك ، ونفي ولدية المسيح له عزوجل ، وقد أشار تعالى إلى أمر فطري ، وهو أنّ الإله الّذي يستحقّ العبوديّة والتعظيم يجب أن يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال ومنزّها عن كلّ النقائص ، ولا يعقل أن يكون متعدّدا وإلّا استلزم الخلف ، ويدلّ عليه قوله

٢٠٧

تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) ، ومع ذلك فقد ذكر عزوجل في هذه الآية الشريفة أمورا ثلاثة تدلّ على التوحيد ، ونفي الشرك ، ونفي كون المسيح ابنا له.

منها : قوله تعالى : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) ، فإنّه يدلّ على انتفاء الولد مطلقا واستحالته عليه ؛ لأنّ الولد يماثل أبيه في سنخ ذاته ؛ لأنّه متكوّن منه ، وهذا يدلّ على الإمكان والحدوث ونسبة صفات المخلوقين له ، وهو منزّه عنها لأنّه أحد ، فرد ، صمد ، ليس كمثله شيء.

ومنها : قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنّه يدلّ على إحاطة ملكه على جميع ما سواء تعالى ، خلقا وتدبيرا وتصريفا ، واحتياجها له واستغناؤه عزوجل عنها فلا يحتاج الى الشريك والولد ، بل لا يماثله شيء من الأشياء فلا ولد له.

ومنها : قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فإنّه يدلّ على احتياج الخلق إليه لتدبير شؤونهم وهدايتهم الى ما هو الخير لهم وإرشادهم الى سعادتهم ، فإنّ ذلك يكفي استغناءه عن الولد والشريك ، بل إنّ التفكّر في معنى الألوهيّة والربوبيّة يكون كافيا في الحكم بانتفاء الولد عنه عزوجل من دون احتياج الى برهان آخر ، ولعلّ تذييل هذه الآية الشريفة بهذا الأمر لإرجاع الإنسان الى الوجدان والتفكّر في عظمة الباري عزوجل ثم الحكم بعد ذلك ، وهذا من البراهين الاقناعيّة والأمور التربويّة الّتي اعتمد عليها القرآن الكريم لإرجاع الإنسان الى رشده ، وله الوقع الكبير في النفوس المستعصية ، وقد ذكر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم.

وكيف كان ، فهذه الآية المباركة تدلّ على توحيد الله تعالى وتنزيهه عمّا نسب إليه النصارى. مع أنّ الديانة المسيحيّة الصحيحة ديانة مبنيّة على التوحيد الخالص ، ولكن يد التحريف دخلت في كتبهم فحرّفت ما كان منافيا لعقيدتهم من التثليث والاتحاد والحلول ، وقد نبّه القرآن الكريم الى ذلك وبرّأ عيسى بن مريم من قول اليهود والنصارى ، قال تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) [سورة مريم ، الآية : ٣٤] ، وفي المقام نهى سبحانه وتعالى عن قول

٢٠٨

التثليث لمنافاته لملّة إبراهيم المبتنية على التوحيد الخالص ، وأمرهم بابتغاء ما هو الخير لهم ، فقال عزوجل : (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) ، ولعلّ الخير هذا يشير الى ما ورد في صدر الآية الكريمة من قول الحقّ والإيمان به ، قال تعالى (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ).

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) على أنّ المسيح عيسى بن مريم خارج عن حقيقة الألوهيّة وداخل في حقيقة العبوديّة ، فهو إنسان كسائر البشر ، فاز بالنبوّة والرسالة ، وهو يستنكف عن أن يقال بأنّه ثالث ثلاثة ؛ لأنّه ينافي العبوديّة الّتي يعترف بها ويعلم علما قطعيا بأنّه سيحشر إليه تعالى فيحاسبه على أعماله ، فلا بدّ له من أن يعمل بمقتضى العبوديّة ، فيؤمن به ويتّقيه وإلّا لم يجد وليا ولا نصيرا.

فهذه الآية المباركة برهان آخر يدلّ على نفي الألوهيّة عنه ؛ لأنّ الإله لا يكون عبدا يخاف من مولاه ، ولكنه يختلف عن سائر البراهين المتقدّمة في أنّه مأخوذ من اعتراف المسيح والنصارى به فيحاجّون به.

وقد جمعت هذه الآيات الشريفة على جميع أقسام البراهين العقليّة المعروفة ـ مضافا إلى البرهان الوجداني النابع من صميم الفطرة وواقعها ـ الدالّة على توحيد الله تعالى ، ونفي الشرك ، والحلول ، والاتّحاد ، ونفي الولد عنه مطلقا.

ولا تختصّ هذه البراهين بخصوص هذا المورد ، فيشمل كلّ مورد يدعي فيه تلك المزاعم.

التاسع : يدلّ قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا) (عن عبادته) أنّ الاستكبار عن عبادة الله تعالى يوجب انقطاع العصمة بينه جلّ شأنه وبين المستكبرين عن عبادته ، فلن يجد له وليا ولا نصيرا ليشفع ويرفع عنه العذاب ويكون واسطة لردّ العصمة بينه وبين مولاه عزوجل.

العاشر : يدلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) على الدعوة العامّة لجميع الناس ، وهو يدلّ على عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه البرهان الّذي يكون منزّها عن الخطأ والزيف وعاصما لغيره من الوقوع في الضلال.

٢٠٩

الحادي عشر : يدلّ قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ) على أنّ الحقيقة الّتي لا بدّ أن يذعن بها الناس هي الإيمان بالله والاعتصام به لطاعته والعمل بأحكامه الشرعيّة ، وهو الخير الّذي أمرنا عزوجل بابتغائه ، وغير ذلك باطل ولا يجدي نفعا. ولعلّ ذكر الآية المباركة في ختام هذه السورة لكونها جامعة لجميع الحقائق الموجودة فيها.

الثاني عشر : يدلّ قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) أنّه عند اليهود ثاني اثنين ، كما في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٣٠] ، وذلك لاشتراكهما في الشرك في الجملة.

الثالث عشر : قد تكرّر كثيرا في هذه السورة مادة [خ ي ر] ، وكان الغالب في ذلك الآيات المباركة الأخيرة ، ولعلّ الوجه في ذلك أنّ هذه السورة تشتمل على كثير من الأحكام الشرعيّة ـ وهي متفرّدة من هذه الجهة ـ ولا شكّ أنّ الأحكام هي خير للبشرية ، ولأجل ذلك كرّرت الكلمة فيها. أو لأجل المعارف المذكورة فيها ، ولا شكّ أنّها خير ، أي خير أسمى منها!

أو لأنّ غالب آياتها في العقائد الموصلة الى الحقّ ـ كما في الآيات المتقدّمة وغيرها ـ والكاشفة عن الحقيقة والواقع ، وذلك هو المصداق الحقيقي للخير. والله العالم.

بحث روائي

في المجمع للطبرسي سمّي عيسى المسيح ؛ لأنّه ممسوح البدن من الأدناس والآثام كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أقول : المراد من الأدناس جميع أقسامها ـ الظاهريّة ـ كالجنايات ، والباطنيّة وسائر الصفات الرديئة من الجهل ، والحرص ، والشره والأخلاق الذميمة.

كما أنّ المراد من الآثام مطلقها ، سواء أكانت من الأفعال الّتي توجب البعد

٢١٠

عن ساحة قدسه جلّ شأنه المبطئة للثواب ، أم من الأمور النفسانيّة ، فإنّ قلوب الأنبياء في التوجّه الدائم معه سبحانه وتعالى ، بخلاف قلوب غيرهم كما تقدّم مكرّرا.

وسمّي الدجال مسيحا أيضا ؛ لأنّه مسح عنه القوى المحمودة من العلم والحلم ، والأخلاق الجميلة ، والصفات الحميدة ، والمثل السامية.

وقيل : سمّي عيسى بن مريم مسيحا لكونه ماسحا في الأرض ، أي : ذاهبا فيها ، فإنّ أغلب الأنبياء كانوا مشّائين وسائحين بسيرهم في الأرض ـ كإبراهيم وموسى ، وعيسى عليهم‌السلام وغيرهم ، ولعلّ السرّ في ذلك أنّه أسهل في إبلاغ ما أمروا به بإفشاء الحجّة على جميع من سكن هذه البسيطة.

وقيل : سمّي عيسى بن مريم مسيحا ؛ لأنّه عليه‌السلام كان يمسح ذا العاهة فيبرأ ولذلك سمّي به ، وقيل غير ذلك.

والمسيح بالعبرانيّة : (مشيح) ، كما أنّ موسى عليه‌السلام (موشي).

وفي الكافي بإسناده عن حمران قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَرُوحٌ مِنْهُ)؟ قال : روح الله مخلوقة خلقها في آدم وعيسى».

أقول : إضافة الروح إليه جلّت عظمته إضافة تشريفيّة ؛ لأنّها مخلوقة بإرادته عزوجل ، كقوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) أو (يا عِبادِيَ) ، وتقدّم أنّ خلق عيسى بن مريم كان بكلمة (كن) التكوينيّة الفعليّة ، ولذلك تشرّف عليه‌السلام بمعجزات خاصّة كإحياء الموتى ، كما تشرّف آدم عليه‌السلام بنبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبثّ النسل منه كما مرّ في أوّل السورة ، ويدلّ الحديث على نفي القدم الّذي هو من صفات الألوهيّة عن عيسى عليه‌السلام.

وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) ، أي : لا يأنف أن يكون عبدا لله (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

أقول : أي : أنّ المسيح لا يمتنع أصلا عن أن يكون عبدا لله تعالى ويخضع بالتشرّف للعبوديّة ، وتقدّم معناها ومراتبها في التفسير مكرّرا.

٢١١

وفي الدلائل للبيهقي عن ابن مسعود قال : «بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الى النجاشي ونحن ثمانون رجلا ومعنا جعفر بن أبي طالب وبعثت قريش عمارة ، وعمرو بن العاص ومعهما هدية إلى النجاشي ، فلما دخلا عليه سجدا له وبعثا إليه بالهدية ، وقالا : إنّ ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا وقد نزلوا أرضك ، فبعث إليهم حتّى دخلوا عليه فلم يسجدوا له ، فقالوا : ما لكم لم تسجدوا للملك؟! فقال جعفر : إنّ الله بعث إلينا نبيّه فأمرنا أن لا نسجد إلّا لله ، فقال عمرو بن العاص : إنّهم يخالفونك في عيسى وامه ، قال : فما تقولون في عيسى وامه؟ قالوا : نقول كما قال الله : هو روح الله وكلمته ألقاها الى العذراء البتول الّتي لم يمسّها بشر ، فتناول النجاشي عودا فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذه ، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، فأنا اشهد أنّه نبي ، ولوددت أنّي عنده فأحمل نعليه ، فانزلوا حيث شئتم من أرضي».

أقول : لا شكّ أنّ انقياد النجاشي للواقع كان من أثر تلك الحقيقة الكائنة في نفس المرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد تجلّى في رسوله الّذي له الأهليّة للتجلّي بها وإظهار الحقّ وبيان الواقع ، ونسأل الله جلّت عظمته أن يتجلّى فينا بتلك الحقيقة ويرزقنا قبسا من ذلك النور لنهتدي به في عالم الدنيا والآخرة.

وفي تفسير العياشي بإسناده عن عبد الله بن سليمان قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) ، قال : البرهان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنور علي عليه‌السلام ، قال : قلت له : (صِراطاً مُسْتَقِيماً) ، قال : الصراط المستقيم علي عليه‌السلام».

أقول : قد ثبت في محلّه أنّه من أقسام العلل العلّة المبقية للشيء ، والعلّة المظهرة له أو المبيتة للشيء ، ولا شكّ عند المسلمين بل وعند غيرهم من الّذين سيّروا التاريخ الصحيح وساروا فيه أنّ عليا عليه‌السلام بلّغ دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيّنه بلسانه وفعله وأخلاقه بل بوجوده ، فلا غرو أن يكون صراطه ومنهجه صراط محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنهجه ، فيكون نورا تهتدي به الامة.

٢١٢

وكيف كان ، فالرواية من باب التطبيق وذكر أكمل الأفراد وأجلّها ، لا من باب التخصيص كما هو واضح ، وقد فسّر النور بالكتاب أيضا ، وذلك من باب التطبيق أيضا.

بحث عقائدي

الآيات المباركة المتقدّمة من جلائل الآيات الّتي نزلت في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام الّذي اختلف فيه اختلافا كبيرا ، فقد أبغضته اليهود حتّى رموه بما لا يليق بشأنه ، وقدّسته النصارى حتّى ادّعوا فيه الألوهيّة وأنّه ابن الله وهو ثالث ثلاثة وكلا الفريقين غلوا في دينهم كما حكي عزوجل عنهما في القرآن الكريم ، لا سيما هذه السورة المباركة ، وأمرهم باتّباع الحقّ في عقائدهم وأقوالهم ونهاهم عن الغلوّ في الدين ؛ لأنّ الإيمان بأنبياء الله تعالى ـ بكونهم رسلا مبشّرين ومنذرين ، وأنّهم عباد مكرّمون خصّهم الله عزوجل بالفيض ـ أحد أركان الإيمان المطلوب ، قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٣].

وقد أشار سبحانه وتعالى في هذه السورة الى بعض ما اعتقده النصارى في المسيح ، وخصّ بالذكر مسألة الصلب والفداء وبيّن الحقّ فيها ، ومسألة ألوهيته وأنّه ثالث ثلاثة ونهاهم عن القول فيها فضلا عن الاعتقاد بها ، وإنّما خصّهما بالذكر لأهمّيّتهما في دينهم ، ولأثرهما العميق في عقيدتهم ، ولدلالتهما على بعدهم عن الحقيقة والواقع ، وشهادتهما على تحريفهم لكتبهم المقدّسة ، ونهاهم عن قول ما يوجب الانحراف عن الواقع والإعراض عن ما أنزله الله تعالى. وقد ذكرنا في أحد المباحث السابقة بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب والفداء ، وتعرّضنا لما ذكره المسيحيون فيها وناقشناهم فيها فراجع.

٢١٣

وفي هذا البحث نذكر ما يتعلّق بمسألة الوهيّة المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام الّتي لا تقلّ أهميّة عن سابقتها إن لم تكن بأعظم منها ؛ لأنّها تمسّ عقيدة التوحيد الّتي بنيت عليها الأديان الإلهيّة ، ولأثرها الخطير في الأحكام الشرعيّة ، ولتأثيرها في النفوس وإطفاء نور الفطرة فيها.

وقد عالج جلّ شأنه هذه المسألة في آيات محكمة ذات أسلوب بلاغي رائع ، فذكر خلق عيسى بن مريم ، ورسالته ، وأنّه عبد من عباد الله تعالى لا يستنكف عن عبادته ، وبيّن الحقّ فيها وأقام الحجج والبراهين عليه ، ونهاهم عن القول بالتثليث ، فأثبت عقيدة : «لا إله إلّا الله» الّتي لم ينفك القرآن الكريم عن الدعوة إليها.

ونذكر في هذا البحث الألوهيّة في القرآن الكريم وما ذكره عزوجل في شأن هذا النبي العظيم الّذي يعد معجزة إلهيّة في جميع أحواله من خلقه وولادته ومبعثه ورفعه الى السماء ، ثم نذكر عقيدة المسيحيين وما يتعلّق بها ، كما نبيّن وجه البطلان فيها ، ثم نذكر مآخذ هذه العقيدة والسبب في دخولها في المسيحيين إن شاء الله تعالى.

الإله في القرآن الكريم :

يعدّ القرآن المجيد من أمتن الكتب الإلهيّة وأعظمها في معالجة مسألة الألوهيّة وبيان خصائصها ، فقد أثبت الإله الواحد الأحد وأشاد بعقيدة التوحيد وأسّس أسسها وقواعدها ، وأقام دعائم الوحدانيّة واستدلّ عليها بأدلّ وبراهين متعدّدة ، الفلسفيّة منها والوجدانيّة والطبيعيّة وغيرها ، حتّى جعلها أقرب الأمور الى النفوس وأعذبها إليها ، ورفض الشرك بجميع أشكاله وعدّه من الظلم العظيم الّذي لا يغفر ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) واعتبره أمرا مرفوضا بالفطرة ، وله آثار وضعيّة جسيمة على الإنسان وبقية المخلوقات ، وحاجّ المشركين بجميع أصنافهم.

٢١٤

وأمّا التوحيد ، فقد أودعه في الفطرة الإنسانيّة وأخذ العهد من بني آدم على تثبيته اعتقادا وعملا ، فصار أمرا فطريا لا يقبل الإنكار ، ولا محالة يلجأ إليه الإنسان عند ما تشتدّ به الحاجة وتنجلي عنه ظلمة الجهل مهما كابر وعاند ، وعظّم القرآن الكريم أمر التوحيد ببيان جميع جوانبه ، فأقام أركانه بإثبات الخالق العظيم وبيان صفاته عزوجل ، وذكر قواعدها وبيّن خصوصياتها وقسّمها إلى صفات كماليّة يتّصف بها الباري تعالى ، وصفات جلالية منزّه عنها سبحانه وتعالى ، وذكر من أفعاله وآثاره وإبداعه في خلقه ما يدلّ على علمه الأتمّ وحكمته المتعالية وقدرته التامّة وقهّاريته العظمى وقيّوميته الكاملة ، بحيث لا يدع مجالا للشكّ في وجوده ووحدانيته واستجماعه لجميع الصفات العليا الجماليّة ، فليس كمثله شيء ، وبرّأ ساحته عن مجانسة مخلوقاته مهما بلغت من الكمال ؛ لأنّها خلقه عزوجل يدبّر أمرها ـ إيجادا وإبقاء وإعداما ـ إلّا أنّ مسألة الألوهيّة مع كثرة اهتمام القرآن بها وتبسيطها الى أقرب الحدود ، لكنها لا تخلوا من تعقيدات ؛ لأنّها من الأمور الغيبيّة الّتي يتطرّق إليها الظنون والأوهام ، فلم تنج من شبهات الملحدين وزيغ المبطلين ، فلا بدّ للمؤمن الّذي يعتقد بهذه المسألة الّتي لها الأثر الكبير في حياته الدنيويّة والاخرويّة ، كما يجب على المفكر الباحث أن يستقي المعلومات فيها من عين صافية بعيدة عن كلّ زيغ وضلال.

وقد حدّد القرآن الكريم مصادرها ، وهي إمّا الوحي من الله تعالى العالم بجميع الحقائق ، وهذا خاصّ بمن اصطفاهم الله تعالى وليس لغيرهم نصيب منه. أو يكون رسولا اصطفاه الله تعالى بالرسالة ، وأفاض عليه من أنواع العلوم والمعارف الإلهيّة وحلّة الأمانة الكبرى لتبليغ شرائعه وتعليماته وتوجيهاته إلى الناس ، وأيّده بالمعجزات وخوارق العادات ما تثبت دعاويه ، وهذا يختصّ بالحاضرين في عصره ، فلا يشمل الغائبين المعدومين. أو يكون كتابا سماويا احتوى جميع ما يوجب رقي الإنسان ورشده الى كماله وسعادته في الدارين ، ويشترط فيه أن يكون

٢١٥

مأمونا من التحريف ، وهو ينحصر القرآن الكريم الّذي اتّفقت الامة على سلامته وأمنه من كلّ تحريف وبطلان ، فكان معجزة إلهيّة من جميع جوانبه كما هو معلوم.

وأمّا سائر الكتب الإلهيّة ، فقد ثبت تحريفها بأدلّة كثيرة مذكورة في محلّها إلّا أنّ القرآن الكريم لما لم يمكن فهم مقاصده بسهولة ، فلا بدّ أن يرجع في تفسيره وبيان مقاصده إلى من نزل القرآن المجيد عليه الّذي علّمه الله تعالى جميع رموزه وعلّمه من أسرار التأويل ما يزيل كلّ شكّ وريب. هذا موجز الكلام في هذه المسألة المهمة العظيمة وللتفصيل موضع آخر.

ومن جميع ما ذكرناه يعرف أنّ الإله في القرآن الكريم لم يكن أمرا وهميّا كما يدّعيه بعض ، ولا أمرا نسبيا كما يدّعيه آخرون ، بل هو حقيقة واقعيّة ، فهو الإله الواحد الأحد الّذي عرّفه القرآن الكريم بأمور أربعة لا يمكن أن تتحقّق في غيره.

الأوّل : أن يكون الإله واحدا أحدا لا مثل له ولا شبيه ولا ندّ له ، فلو كان غير ذلك لظهر الفساد في الخليفة ، قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢] ، ولبان الاحتياج في الخالق ، وهو منفي بالوجدان.

الثاني : أن يكون مستحقّا للعبوديّة ؛ لكونه الخالق العظيم العليم الحكيم الغني الّذي لا يستغني عنه غيره وهو مستغن عنه ، قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء ، الآية : ٢٣] ، وقد ذكرنا ما يتعلّق به في سورة الفاتحة فراجع.

الثالث : أن يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال ـ كالعلم والحياة والقدرة ونحوها وإلّا استلزم الخلف ، وتقدّم في آية الكرسي ـ ٢٥٥ من سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.

الرابع : أن يكون منزّها عن جميع صفات الجلال ـ كالزمان والمكان والجسميّة ـ وإلّا احتاج الى غيره ، وهو ينافي الألوهيّة.

٢١٦

وفي الآيات الّتي تقدّم تفسيرها يبيّن عزوجل جملة من الصفات الكماليّة والجماليّة.

منها : أنّه إله واحد ؛ لأنّه الله المستجمع لجميع الصفات الكماليّة ، قال تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) ، فليس له شريك ولا نظير ولا ولد.

ومنها : أنّه مالك لما في السموات وما في الأرض ـ خلقا وتدبيرا وتصريفا وإبقاء وإفناء ـ فهو الغني عن خلقه وهم محتاجون إليه ولا يحتاج الى معين أو ولد ، ويدلّ على ذلك آيات كثيرة أيضا.

ومنها : أنّه الولي على خلقه يدبّر شؤونهم والقيّم عليهم ؛ فإذا كان الله تعالى واجدا لهذه الصفات الكريمة فلا يحتاج الى ولد ، وهو منزّه عن أن يكون له ولد ؛ لدلالته على احتياجه واتّصافه بصفات المخلوقين ، ولا يعقل الإله أن يكون كذلك. وقد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك أيضا فراجع ، فإذا ادّعى أحد الألوهيّة ، فهو يرجع إمّا إلى تنزيل مقام الألوهيّة الى مقام الخلق ، وهو خلف. وإمّا رفع المخلوق الى مقام الخالق الإله ، وهذا أيضا باطل.

المسيح في القرآن الكريم :

عظّم القرآن المجيد الإنسان وأسمى شأنه وميّزه من سائر مخلوقاته وأعزّ به ، فقال جلّ شأنه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون ، الآية : ١٤] ولم يعظم سائر مخلوقاته بمثل ما عظّم هذا المخلوق العجيب الّذي منحه العقل والإرادة ، وأودع فيه الأمانة الكبرى الّتي أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها فحملها الإنسان ، إنّه كان ظلوما جهولا.

وقد خصّ بعض أفراد الإنسان بالفيض وجعلهم مورد الاستفاضة ، وهم الأنبياء الّذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر ، وأنزل إليهم الكتاب وفيه تبيان كلّ شيء ، واصطفى من الأنبياء بعضا فخصّهم ببعض الفيوضات الخاصّة. منهم عيسى

٢١٧

ابن مريم الّذي يعدّ معجزة إلهية في خلقه وحياته ورفعه إلى السماء ، فقد خلقه عزوجل من غير أب وأسباب عادية الّتي لا بدّ من توفرها في سائر أفراد الحيوان ، فتعلّقت الإرادة الأزليّة أن يخلقه بكلمة (كن) التكوينيّة من غير سبب مادي عادي تعلّقت بمريم العذراء ، فولد منها فكان محتاجا إليها حين الحمل والولادة والرضاعة والتربية ، ثمّ خصّه بالفيض واصطفاه بالرسالة ، فكان رسولا مبلغا عن الله تعالى محتاجا إليه في الفيض وسائر شؤونه ، وكان هذا الاصطفاء سببا في زيادة تعلّقه عليه‌السلام بخالقه العظيم ، فصار عبدا من عباده المخلصين الّذين عرفوا معنى العبوديّة وأدّوا لوازمها وحقوقها فلم يتخطّوا عن تلك ، وإلّا خرجوا عن مورد الفيض وهبطوا عن ذلك المقام السامي ، فقال تعالى فيه : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [سورة المائدة ، الآية : ١١٦] ، فهو عبد الله تعالى اصطفاه وجعله مورد الإفاضة بخلقه من غير أب كما اصطفاه بالرسالة ، فلم يكن له أن يقول ما ليس له فيه حقّ ، فلم يدع الألوهيّة لنفسه ولا لامه الطاهرة الّتي هي مثله في الخلق والعبوديّة ، وإلّا خرج عن مورد الاصطفاء ولم يف بحقوق العبوديّة ، وهذا هو السبب في تعظيم شأن عيسى ابن مريم في القرآن الكريم.

والآيات الشريفة المتقدّمة تضمّنت أمورا عديدة تدلّ على نفي كلّ ما يدّعي فيه من الألوهيّة وحلول الباري عزوجل فيه وأنّه ولد الله تعالى ، وغير ذلك ممّا يدّعيه النصارى في حقّ هذا النبي العظيم ، فيخرجونه بها من حدود الإنسانيّة ويجعلونه في مصاف الألوهيّة ، فهي الّتي يبطلها القرآن الكريم بوجوه عديدة.

منها : أنّه مخلوق مبارك لم يكن قديما اختصّ بالفيض فصار خلقه معجزة إلهيّة كما عرفت في التفسير ، والإله لا يعقل أن يكون مخلوقا حادثا كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة.

ومنها : أنّه محدود ، فإنّه منسوب إلى امرأة طاهرة هي امه ، فهو محتاج إليها

٢١٨

في بعض مراحله ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، وتعالى الله أن يكون محدودا ومحلا للحوادث كما عرفت.

ومنها : أنّه مركّب من بدن مثالي خارجي وروح قدسيّة صارت مورد الفيض ، قال تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) على ما تقدّم في التفسير ، والإله منزّه عن التركيب لدلالته على الاحتياج.

ومنها : أنّه رسول الله تعالى تحمّل الأمانة الكبرى الى الناس يجب عليه تبليغها إليهم ، ولا ريب أن جميع ذلك ينافي الألوهيّة ، والولديّة لله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

المسيح في عقيدة النصارى :

لم يكن المسيح عيسى ابن مريم عليه‌السلام فردا عاديا كسائر الأفراد من بني البشر ، فقد خصّه الله تبارك وتعالى بالكرامة بأن خلقه من غير أب وجعله مورد الفيض القدسي ، وأجرى على يديه المعجزات الباهرات ، فكانت حياته من حين انعقاد حمله الى رفعه الى السماء معجزة إلهيّة. ولا ريب في ثبوت ما له عليه‌السلام من الشرف والمكانة السامية عند المسلمين والمسيحيين على حدّ سواء ، فهم جميعا يحترمونه ويجلّونه ويقدّسونه ، إلّا أنّ مثل هذا الفرد لا يسلم من التقوّل عليه بما هو خارج عن حقيقته ، والغلو فيه وإخراجه عن طور الإنسانيّة والعروج به إلى مقام الألوهيّة ، كما حكى عزوجل في الآيات الشريفة السابقة ، قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [سورة النساء ، الآية : ١٧١] ، وقد كان هذا النبي العظيم ملتفتا إلى هذه الجهة في حياته على الأرض ، فكانت أفعاله وأقواله تدلّان على أنّه إنسان ولد من أنثى وهي مريم العذراء ، وأنّه يبقى برهة من الزمن على هذه الأرض ثم يموت كما يموت سائر المخلوقات ، وأنّه

٢١٩

عبد لله تعالى وهو ابن الأرض ـ كسائر أفراد البشر ـ وليست سياحته في الأرض إلّا لإعلام هذه الجهة ، وقد أخذ المواثيق من حوارييه على عدم التقوّل عليه بعد رفعه كما حكى عزوجل عنه في عدّة مواضع من القرآن الكريم ، وفي العهد الجديد الكثير من ذلك ، وقد كان أتباعه أثناء حياته على الأرض على التوحيد ولم يعتقدوا فيه إلّا ما كان حقّا ، وكذلك كانوا بعد رفعه الى السماء برهة من الزمن حتّى دبّ الخلاف فيهم واشتدّ الصراع بينهم في تفسير حياته عليه‌السلام ، فحصلت لهم آراء ومذاهب تشترك كلّها على الغلو فيه وتقديسه بما يقدّس الإله المعبود الحقّ ، ولكنّهم مع فرقهم المختلفة في شأنه عليه‌السلام مجمعون على التثليث ، فيقولون : إنّ الله جوهر واحد ثلاثة بالأقانيم الوجود ، والحياة ، والعلم ، فيريدون من الأب الوجود ، ومن الروح الحياة ، ومن الابن المسيح.

واختلفوا في تفسير هذه المقالة اختلافا فاحشا بعد اتفاقهم على أنّ الله تعالى جوهر ـ بمعنى أنّه قائم بنفسه ـ غير متحيّز ، ولا مختصّ بجهة ، ولا مقدّر بقدر ، ولا يقبل الحوادث بذاته ، ولا يتصور عليه الحدوث والعدم.

ولعلّ منشأ الاختلاف في المسيح عيسى ابن مريم وادّعاء الألوهيّة فيه يرجع الى امور يعتقدونها فيه عليه‌السلام.

الأول : القول بتجسّد الكلمة ، أي : أنّ الله تعالى تجسّد في المسيح عليه‌السلام ، واختلفوا في كيفيّته ، فقال بعضهم : إنّ الكلمة قد تجسّدت بمعنى أنّ الإله ـ اقنوم الابن ثالث الثالوث ـ الّذي هو واحد حقيقة ، وثلاثة حقيقة قد تجسّد في الأرض وتوشّح الطبيعة البشرية فأخذ جسدا من مريم عليها‌السلام وبقي اقنوم الأب ، واقنوم الروح القدس في السماء ، وبعد ثلاثين سنة انفتحت السماء ونزل اقنوم الروح القدس وحلّ على اقنوم الابن المتجسّد ، وبقي الأب في السماء ، وصار اقنوم الابن المتجسّد ، واقنوم الروح القدس الحال عليه في الأرض ـ الى آخر ما ذكروه في المقام.

٢٢٠