مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

مواهب الرحمن في تفسير القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دفتر سماحة آية الله العظمى السبزواري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٥

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

الآيتان الشريفتان من الآيات المباركة المعدودة في القرآن الكريم الّتي تعدّ هذه الامّة إعدادا عمليا صالحا لتحمّل المهمّة الكبرى الّتي أنيطت إليها ، حيث جعلها خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وأنّها أمة وسط شهداء على الناس ، وقد ميّزها عزوجل بهاتين المهمتين ، أي الشهادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الّذين يكونان تطبيقا عمليا للعقيدة.

أما الآية الاولى ، فهي آية تربويّة توجيهيّة لإقامة العدل الإلهي في هذه الأرض المليئة بالعدوان ؛ ليتنعّم البشرية وتقوم بالقسط. وهذه المهمة لا يمكن أن يقوم لها أساس إلّا بتربية من يقوم بها تربية خاصّة صالحة ؛ ليتجرّد للحقّ وإقامة العدل ، فإنّ الإنسان عرضة للميل إلى الأهواء ، فأمر عزوجل أن يكونوا قوامين شديدي التمسّك بالقسط في كلّ شؤونهم وما يتعلّق أو من يتعلّق بهم حتّى يكونوا شهداء لله تعالى ، لا إلى المصالح والمنافع ولا رئاء الناس ، وهو يتطلّب التضحية ، فلا يكون الغنى والفقر ولا غيرهما هو الميزان في العدل ، بعد أن كان إقامة القسط والعدل لله تعالى وأنّ مرضاته عزوجل هي الهدف والغاية ، لا الأهواء الّتي تزيغ الإنسان وتحدّه عن إقامة العدل.

٥

والآية المباركة تؤكّد على أخذ الحيطة والاجتناب عن اتّباع الهوى الّذي هو السبيل الوحيد للضلال ، ويعتبر جانب الضعف في الإنسان الّذي به يستولي الشيطان على مشاعره ، فهذه الآية الشريفة من الآيات التربويّة الّتي تعدّ الأمة إعدادا فكريا تربويا لتطبيق العدل الرباني ليكونوا شهداء على الخلق أجمعين.

وأمّا الآية الثانية ، فهي تحدّد الإيمان تحديدا دقيقا ، وتبيّن الأركان في الإيمان بالله العظيم وقواعده الّتي بها يمكن أن تصل الأمة إلى المنزلة الّتي أعدّها الله تعالى لها ، فأمر عزوجل بالتمسّك بالإيمان الّذي آمنوا به أوّلا ، إذ مجرّد الإيمان من دون أن يكون راسخا في النفوس لا أثر مهم يرجى منه ، فأمرهم بالإيمان ثانيا في أسلوب ملفت للنظر ، ليثير الإحساس فيتهيّأ للعمل على تنميته والاستقامة عليه ، ثم شرح الإيمان بالله تعالى شرحا وافيا ؛ ليبيّن أنّ الإيمان به لا يمكن أن يكون مجهولا كما كان عليه أهل الجاهليّة ، فإنهم أيضا كانوا يدّعون الإيمان قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [سورة الزمر ، الآية : ٣٨] إلّا أنّ الإيمان المطلوب هو الإيمان بالله العظيم مقرونا بالإيمان بالرسول وبالكتاب الّذي نزّل عليه وما اشتمل عليه من الأحكام والتوجيهات والإرشادات ، ثم يؤكّد ذلك ببيان ضدّه ـ وهو الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ـ للإعلام بأن الإيمان ليس أمرا ادعائيا يدخل فيه كل من اعتبر نفسه مؤمنا إلّا إذا تحقّقت تلك القواعد والأركان الّتي أعدّ الله تعالى لهذه الأمة.

والآيات الشريفة ذات صلة بالآيات المباركة السابقة من حيث أنّها تشرح الإيمان وتبيّن التقوى بيانا كافيا.

٦

التفسير

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

سبق الكلام في هذا الخطاب الدالّ على كمال العناية بالمؤمنين ، حيث جعلهم عزوجل مورد الإفاضة واللطف وتشريع الأحكام دون غيرهم ، إلّا أنّه نزيد هنا أنّ هذا النداء الربوبي يشير إلى معنى دقيق لا يوجد في أي خطاب آخر ، وهو أنّ المؤمنين لمّا تشرّفوا بالإيمان وأعرضوا عن جميع المميزات ونبذوا كلّ الحواجز الّتي ابتداعها أهل الزيغ والضلال فصارت رابطة الإيمان أقوى الروابط الّتي تشدّ بعضهم مع بعض وأشدّها تأثيرا عليهم ، فلم تبق رباطة اخرى تحرّكهم وتؤثّر عليهم من الروابط الّتي أقامتها الجاهليّة الغابرة والحاضرة لاستيعاب الدين والعقيدة والحدّ من تأثيرهما ، كرابطة الجنس واللغة واللون وغيرها ، وخمدت كلّ الصرخات الباطلة والأهواء الزائفة والعادات السيئة ، فأصبحوا بفضل الإيمان أمة واحدة بررة متحابّين يشدّ بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص ، لا تمييز فيها ولا فضل إلّا بالتقوى لأنهم عبيد الله والمؤمنون به ، فتشرّفوا بهذا النداء الربوبي ، وناداهم الجليل تعالى بأهل الإيمان وأمته لأنّهم أمة متميّزة ، لا أمة الجنس ، ولا اللون ، ولا أمة اللغة ولا القوم ولا العصبية ، ولا الأرض ، لأنّهم آمنوا بالله تعالى وتربّوا بتربيته عزوجل ، وتميّزوا بعقيدة خالصة وتحمّلوا أعظم مسؤوليته ، وهي التبليغ والشهادة ؛ لأنّهم علموا بأنّ هذه العقيدة لا بدّ أن تطبق على واقع الأرض ، فأصبحوا شهداء لله تعالى على خلقه ، فهذا النداء الربوبي يتضمّن العقيدة والتوجيه والتربية والإعداد ، فما أعظمه وأشدّ تأثيره على المؤمنين الّذين تميّزوا بخالص العقيدة ، ولذا ورد في الحديث : أنّ جميع ما ورد في القرآن الكريم من هذا الخطاب فعلي عليه‌السلام رأسه وأميره ، والسرّ في ذلك معلوم لأنّه عليه‌السلام تميّز بصدق الإيمان وخالص العقيدة وثباتها وعرف ما يتضمّن هذا النداء من المسؤولية فآمن وعمل بمقتضاه ، فصار بحقّ رأسه وأمير المؤمنين.

٧

وممّا ذكرنا يعرف السرّ في الابتداء بهذا النداء ؛ لأنّه يعدّ المؤمن لتلقي حكما إلهيا عظيما ويهيّئوه للدخول في الأفق الأعلى.

قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ).

إرشاد إلى حقيقة واقعية ، وهي : أنّ الإنسان لا يمكن له الوصول إلى ما خلقه الله تعالى لأجله الّذي فيه كماله وسعادته ، ولا يصحّ له أداء الأمانة الكبرى الّتي عرضها سبحانه وتعالى على السموات والأرض والجبال وأشفقن منها وحملها الإنسان ، أنه كان ظلوما جهولا. فإنّ هذه الأمانة لا تقوم إلّا بإقامة القسط ، ولا تصلح هذه الأمة المرحومة ـ الّتي جعلها الله تعالى قائدة ورائدة لسائر الأمم وحمّلها مقام الشهادة على سائر الخلق ـ لهذه المهمة الكريمة إلّا بهذه الصفة وهي أن تكون قوامة للقسط والعدل فقط لا لهوى ومصلحة وغيرها ، ولا يكون هدفها سوى إقامة القسط وبسط العدل والشهادة لله تعالى ؛ لأنّ هذه الصفة من أتمّ الأسباب لاتّباع الحقّ وإقامته وملازمة الصدق والدنو إلى مقام الرضا.

والقوام : من القيام بالشيء ، أي المواظبة عليه وملازمته ، وهي من صيغ المبالغة ، وقد أوضحنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه لا معنى للمبالغة في الاستعمالات الواردة في القرآن الكريم ؛ لأنّها ضرب من الادعاء ، وهو لا يصلح لمقام هذا الكتاب الإلهي العظيم ، بل يمكن أن يقال إنّ أبنية المبالغة الملحقة بالكلام العادي الّذي يحاول صاحبه أن يجتنبه عن ما يبعده عن الواقع بعيد ، فيراد من استعمال هذه الصيغ في أمر إلفات النظر وتوجيه المخاطب إلى التمسّك به بشدّة وإتيانه بأتمّ الوجوه وأكملها وأدومها ، ففي المقام يراد به شدّة القيام بالقسط وملازمته على كلّ حال وإقامته على أحسن الوجوه وأكملها والاحتراز عن الجور ، ففي هذا الأسلوب دلالته الواضحة ، وهو يلفت النظر دون سائر التعابير. هذا ما يستفاد من أسلوب المبالغة ، وهو يرشد إلى أنّ القسط والعدل وسائر الأمور الدينيّة لا اعتبار بها ما لم تكن مستقرة دائمة ، فلا تكفي المرّة أو المرّات ، بل لا بدّ أن تكون ملكة راسخة ، وفي المقام لا بدّ من القيام بالقسط حتّى يصير عادة لهم داخلة في واقع إيمانهم وجزءا لا ينفكّ منه.

٨

والقسط : هو العدل ، ومن أسمائه تعالى «المقسط» أي العادل ، وسمّي الميزان القسط أيضا ؛ لأنّ به يتحقّق العدل في الشيء ، وفي الحديث : «انّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه» ، وهو كناية عن ما يقدّره الله للعباد من رفع شؤونهم وتنزيلها. وفي صفات المؤمنين : «إذا قسّموا أقسطوا» ، أي : عدلوا. وتقدّم ما يتعلّق بهذه الكلمة في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [سورة النساء ، الآية : ٣] فراجع.

والقيام بالقسط من معدّات مقام الشهادة ، فلا يمكن أدائها بصدق وأمانة إلّا بإقامة القسط ، على ما عرفت فراجع. ومن هنا كان الابتداء بهذه الصفة له دلالته الخاصّة في أنّها من أهم مقوّمات الشهادة ولا يمكن أدائها إلّا مع القيام بتلك الصفة ، بل لا يتيسر للمؤمنين الشهادة إلّا بعد أن يكونوا قوامين بالقسط ، فتكون الشهادة في المقام ممّا اجتمع فيها الغاية والهدف والمقتضي والإعداد ، فهي مقوّم من مقوّمات إقامة القسط ، وهذا يدلّ على أهمية الحكم وعظمته.

وإطلاق الأمر يدلّ على لزوم القسط في جميع الشؤون في الحياة الاجتماعيّة والحياة الزوجيّة ، وفي علاقة الفرد مع خالقه أو مع نفسه ومع الآخرين.

قوله تعالى : (شُهَداءَ لِلَّهِ).

الشهداء جمع الشهيد ، وهذه الصيغة تدلّ على الصفات الراسخة ، كعليم وحكيم وغيرهما ، وتقدّم معنى الشهادة في قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨٢] وغيره من الآيات الكريمة.

وتدلّ الآية الشريفة على لزوم الشهادة والعناية بها ، بأن تكونوا على استعداد ومراقبة تامّين ، وهما يحصلان بالعقيدة الخالصة والعمل بالأحكام الإلهيّة ، واللام في اسم الجلالة (لله) للغاية ، أي تكون الشهادة خالصة لله جلّت عظمته لا لغرض آخر ، فلا تكون للهوى ولا للمصالح والمنافع ولا للسمعة ورئاء الناس ، ولا محاباة لأحد ، ولا حبّ الثناء ونحو ذلك ، بل لا بدّ أن تتمّ الشهادة لله تعالى.

والتأكيد على هذا الأمر لأجل أنّه التوجيه الصحيح الّذي يعدّ المؤمن إعدادا

٩

عقائديّا وعمليّا ونفسيّا ، فلا غرض له إلّا بسط العدل وإقامة الحقّ ، وتثبيت كلمة الله تعالى وابتغاء رضاه عزوجل.

قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ).

أي : كونوا شهداء لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته ، ولو كانت الشهادة فيها ضرر على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، فلا يحملنكم حبّ هؤلاء كتمان الواقع والشهادة على خلاف الحقّ ، فإنّه ليس من البرّ للوالدين ولا هو من صلة الأرحام إيقاعهم في الضرر والهلاك بكتمان الحقّ عليهم.

وإنّما ذكر عزوجل المذكورين ، لأنّهم أوثق الصلة بالنفس ومن أهمّ ما يمكن أن يكون سببا لإعراض الإنسان عن حاسة العدل والابتعاد عن الحقّ.

وإنّما عطف الوالدين ب (أو) لأنّه مقابل الأنفس ، بخلاف الأقربين ، فإنّه لا مقابلة بينهما فعطف بالواو.

ومعنى الآية الكريمة واضح أي : أنّ الشهادة لا بدّ أن تكون بالقسط وفي الحقّ ولو أدّت إلى ضرر بحاله أو بحال والديه والأقربين ، بلا فرق بين أن يكون المتضرّر هو الشاهد ـ أو المشهود عليه بلا واسطة أو معها ـ كما لو تخاصم اثنان وكان الشاهد متحملا لأحدهما ، بحيث لو أدّى الشهادة لتضرّر به نفس الشاهد أيضا كالمتخاصم الآخر.

قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً).

تحذير آخر من وقوع الميل عن الحقّ والزيغ في الشهادة ، وتأكيد على عدم جعل المصالح هي الهدف في الشهادة ، فإنّ العدل هو الميزان الثابت الّذي لا يتغيّر ولا يتبدّل ، فلا الغنى ولا الفقر ولا شيء آخر من المصالح لها دخل في ميزانه ، فلا بدّ أن تكون الشهادة لله تعالى وأنّ رضاه عزوجل أحقّ أن يتّبع ، فلا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحقّ طمعا في برّه وطلبا لرضاه أو خوفا من شرّه.

وبعبارة أخرى : لا تكون ممالأة ذوي الجاه والسلطان والمال والنفوذ للحصول على مصلحة منهم داعية لترك الشهادة أو إقامتها على غير العدل ،

١٠

وكذلك لا يكون فقر الفقير صارفا عن الحقّ وموجبا لترك الشهادة له ، تهاونا به أو عليه رحمة به.

قوله تعالى : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما).

أي : أنّ إقامة الشهادة بالحقّ هي الّتي خير للشاهد والمشهود له أو المشهود عليه ، بلا فرق بين أن يكونا غنيين أو فقيرين أو مختلفين ، وأنّ القسط هو المطلوب في الشهادة ، والله تعالى أولى بالاتباع من الغني والفقير ؛ لأنّه أعلم بمصلحتهما وأرحم بهما وانظر لهما ، وقد شرّع سبحانه وتعالى من الأحكام ما يرجع نفعه ويعود خيره للجميع.

وضمير التثنية يرجع إلى الغني والفقير. و (أو) في الآية الكريمة يدلّ على الترديد والإبهام وهو يرجع إلى ما يمكن أن يتحقّق أو يفرض من الأفراد ، والأقسام هي كثيرة ، فإنّ الشهادة تعمّ الشهادة للمشهود له أو عليه ، وكلّ واحد منهما قد يكون غنيا والآخر فقيرا ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكونان فقيرين ، وقد يكونان غنيين ، وعدم ذكر الأقسام أوجب مجيء (أو) ليرجع إلى المذكور المتعدّد. وبعبارة اخرى أنّ ضمير التثنية يرجع إلى المشهود له أو عليه بأي وصف كان عليه.

وذكر الرضي أنّ الضمير الراجع إلى المذكور المتعدّد الّذي عطف بعضه على بعض ب (أو) ، يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدّد ، وذلك يدور على القصد ، ويمكن ارجاعه إلى ما ذكرنا ، فإنّ المقام يستدعي الإبهام والترديد ليشمل جميع حالات الفقير والغني.

وقيل في وجه تثنية الضمير امور اخرى ، والحقّ ما ذكرناه.

قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى).

بيان للسبب الّذي يوجب الميل عن الحقّ والإعراض عن العدل والزيغ في الشهادة ، وهو اتّباع الهوى بجميع أنواعه وصوره ، من مراعاة صداقة أو عداوة أو عصبية ، أو انتهاز فرصة أو غنيمة أو ممالأة ذوي الجاه والسلطان والنفوذ ونحو

١١

ذلك. وهو يرجع إلى حبّ النفس الّذي يكون منشأه حبّ الدنيا. والهوى هو نقطة الضعف في الإنسان ومزلّة الأقدام ومبعث الضلال والشقاء والكفر والنفاق ، وقد حذّرنا الله تبارك وتعالى من اتّباعه تحذيرا أكيدا في عدّة مواضع من كتابه الكريم ، وعالج الموضوع بجميع صوره وجوانبه وخصوصياته بما لم تكن كذلك في أي موضوع آخر ، لما له الأهميّة في حياة الإنسان الدنيويّة والاخرويّة ، ولما له دخل في شقائه وسعادته ، فهو السبب الوحيد لوقوع الإنسان في حبائل الشيطان وخدعه وكيده ، وإنّه الوسيلة الّتي بها يسطير إبليس على الفرد ، وهو الّذي يحبط منزلته ويصدّه عن الكمال ، ويصرفه عن طاعته عزوجل ويوقعه في شرك الشيطان ، وبالآخرة يرجعه إلى أسفل السافلين ، قال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) [سورة ص ، الآية : ٢٦] ، ولا يسلم منه أحد إلّا بترويض النفس على التقوى وارغامها على الصبر على طاعة الله وترك المعاصي والآثام ومراقبتها على الدوام ، ولعلّ في تقديم الأمر بإقامة القسط إشارة إلى أنّها السبب في إعداد الإنسان إعدادا عقائديّا وعمليّا للتسلّط على الهوى وترك اتّباعه ، فيسهل عليه إقامة الشهادة بالعدل وبسط الحقّ. وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضوع المهمّ من الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : (أَنْ تَعْدِلُوا).

وهو إمّا من العدول بمعنى الميل من الحقّ ، أو من العدل مقابل الجور ، ومنه (العدل) الّذي من أسمائه تعالى ، أي الّذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم ، فوضع موضع العادل وهو أبلغ ؛ لأنّه جعل المسمّى نفسه عدلا.

وإمّا مفعول لأجله للنهي أو المنهي عنه ، أو مجرور بتقدير اللام متعلّق بالاتّباع المنهي عنه ، أي : لا أن تعدلوا ، فالاحتمالات خمسة :

١٢

الأوّل : أن يكون بمعنى العدول ، ويكون علّة للمنهي عنه ، أي : فلا تتبعوا الهوى لئلا تميلوا من الحقّ ، وحينئذ فلا حاجة إلى التقدير.

الثاني : أن يكون كذلك وهو علّة للنهي ، فيحتاج إلى التقدير ، أي : أنهاكم عن اتباع الهوى مخافة العدول عن الحقّ والابتعاد عن القسط.

الثالث : أن يكون بمعنى العدل وهو علّة للنهي عنه ، أي لا تتّبعوا الهوى في إقامة الشهادة كراهة أن تعدلوا ، أو بتقدير اللام كما عرفت ، أي : لأن تعدلوا ولا تجوروا فلا تتبعوا الهوى ، فيحتاج إلى التقدير أيضا.

الرابع : أن يكون بمعنى العدل وهو علّة للنهي ، فلا يحتاج إلى التقدير كالاحتمال الأوّل ، أي أنهاكم عن اتّباع الهوى للعدول وعدم الجور.

الخامس : ما تقدّم بتقدير اللام.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا).

تحذير آخر ينبئ عن إنذار شديد إذا هم حرّفوا الشهادة أو أعرضوا عن إقامتها بعد تحملها ، وتلووا ـ بسكون اللام وضمّ الواو ـ من اللّي بالشيء وهو إتيانه على غير وجهه ، أو في المقام سواء كان بالتحريف في الشهادة أو إتيانها على غير وجهه أو تبديلها والحكم بالباطل ، أو تعرضوا عنها وتكتموها فلا تؤدّوها رأسا.

وقرئ (تلوا) بضم اللام واسكان الواو من الولاية ، أي : إن وليتم إقامة الشهادة وآتيتم بها أو أعرضتم عنها ، فإنّ الله تبارك وتعالى هو الخبير بجميع أعمالكم ونواياكم.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

إنذار ، أي : أنّكم إذا تصدّيتم لأمر الشهادة بأي نحو كان بالأداء أو بالتحريف أو بالإعراض ، فإنّ الله تعالى خبير يعلم دقائق الأمور ، مطّلع على جميع مقاصدكم ـ من الغشّ والخيانة ونحوهما ـ وعلى جميع أعمالكم ـ من التحريف والكتمان ـ فيجازيكم عليها ، وإنّما لم يبيّن سبحانه وتعالى نوع الجزاء لتهويل الأمر ، وأنّه حسب ما يترتّب عليه من الفساد والضرر من الشدّة والضعف.

١٣

وهذه الآية الشريفة تضمّنت أحكاما دقيقة في الشهادة ، وإقامة القسط لو عمل بها الأمة المؤمنة لأمكنها أداء الأمانة لنفسها وحملت ميزان العدل الرباني وطبّقته على الأرض بأحسن وجه وتخلّقت بالأخلاق الربوبيّة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

تأكيد يلفت النظر ويسترعي الانتباه ، يدلّ على أنّ الّذين اتصفوا بصفة الإيمان لم يكونوا على أهلية تامّة ؛ لأنّه لم يرد من هذا النداء تحصيل الحاصل وما هو متحقّق بالفعل ، بل المطلوب أمر آخر مهم في نظر القرآن ، وهو إمّا الأمر ببسط الإيمان على جميع الجوارح والجوانح بعد أن كان مقتصرا على اللسان فقط ، أو الأمر بالثبات وزيادة الطمأنينة واليقين ، أو الأمر بالاستزادة منه ، أو التمسّك به والعمل على تنميته ، أو الاستقامة عليه حتّى لا يصيبه ما يوجب زعزعته ونقصانه ، فهو على كلّ حال يثير التساؤل في نفوس المؤمنين ويكشف لهم حقيقة خفية عليهم ، لما يلاقونه من الهموم والغموم وما يصيبهم من الكدح والملل في هذه الحياة.

ثم إنّ هذا النداء إجمالا يثير الهمم على كشف تفاصيله ، فإنّ الأمر بالإيمان مرّة اخرى على هذا النحو من الإجمال بعد التلبّس به ، يبعث المؤمن على طلب التفصيل ومزيد البيان ، فكأنّ في الإيمان المتلبسّ به نقصا لا بدّ من تلافيه.

كما يبيّن سبحانه وتعالى تفصيلا لقواعد الإيمان وأركانه ، قطعا لكلّ تساؤل وحسما لكلّ نزاع ، وتفصيلا لإيمان هذه الامة على إيمان سائر الأمم وإيضاحا لكلّ من الإيمان والكفر حتّى لا تبقى حجّة وعذر للمعرض المعاند.

قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ).

تفصيل بعد إجمال وبيان لحقيقة الإيمان ، وإرشاد للمؤمنين بأن المطلوب ليس إيمانا مبهما ، فلا بدّ من بسط إجمال إيمانهم على ما يفصّله عزوجل من الحقائق ، الّتي هي معارف ربوبيّة يرتبط بعضها مع بعض ، وبينها من التلازم بحيث يكون الإيمان بواحدة منهما مستلزما للإيمان بالأخرى ، كما أنّ إنكار واحدة منهما

١٤

موجب لإنكار جميعها ، فيكون كفرا عند إظهار الإنكار ونفاقا مع الإخفاء ، فالإيمان المطلوب الّذي حدّده عزوجل هو الإيمان بالله الواحد الأحد الّذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، والإيمان بالمبدأ يستلزم الإيمان بالمعاد والإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالكتاب ـ الّذي نزل عليه ـ المتضمّن على جميع شروط الإيمان وصفاته ، ويبيّن المعارف الإلهيّة ، والكتاب الّذي نزل على الأنبياء السابقين الّذي يحتوي على اصول الأحكام والشرائع. ومجموع ذلك يدعو إلى العمل والتخلّق بمكارم الأخلاق.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً).

شرح لما ورد في صدر الآية الشريفة في تفصيل دقيق وبيان وافي بأنّ الإيمان وحدة متكاملة ، وأنّ الكفر بواحدة منها يوجب الكفر بالجميع بعد الدعوة إلى الإيمان بالجميع ، وإرشاد بأنّ التفصيل الّذي ورد في صدر الآية يتضمّن أجزاء اخرى مترابطة وإن لم تذكره الآية المباركة ، فليست هذه الآية الشريفة شيئا آخر مغايرا لما ورد في صدرها ، فإنّ قوله تعالى : (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) يتضمّن جميع ما ورد في هذا الذيل ، فالإيمان المطلوب على وجه الدقّة هو الإيمان بالله تعالى والملائكة ـ الّذين هم رسل الله سبحانه وتعالى ـ والأنبياء ـ الّذين أرسلهم عزوجل لهداية خلقه إلى ما يرشدهم ويسعدهم ويحذّرهم عمّا يوجب شقائهم ـ والإيمان باليوم الآخر ـ وهو يوم الجزاء ـ والإيمان بالكتب الإلهيّة الّتي تضمّنت جميع المعارف والأحكام والشرائع.

وتبيّن الآية الكريمة أنّ الكفر بالمجموع هو كفر وضلال بعيد ، وليس الأمر كذلك في كفر البعض ، فإنّه وإن كان كفرا وضلالا ولكن غير متّصف بالبعد ؛ لأنّ للضلال مراتب ، ووصف الضلال بالبعيد هو من أبلغ الوصف وأكمله ، فإنّ الكفر يبعّد الإنسان عن طريق الهداية وسبل الخير.

١٥

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ) يدلّ على الثبوت والتحقّق ، ولا ملازمة بها بالاستمرار.

(شهداء) في قوله تعالى : (شُهَداءَ لِلَّهِ) لم ينصرف ، لكونها جمعا نهائيا قائما مقام السببين ـ كالأمناء ، والرقباء ، والعرفاء ـ وهي منصوب على النعت ل (قوامين) ، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال للضمير المستكن في (قوامين) الراجع إلى (الّذين آمنوا).

وردّه بعضهم بأنّ ذلك يستلزم تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة.

واحتمل بعضهم أن تكون خبرا بعد خبر ، وقوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلّق ب (شهداء).

و (أو) في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) للترديد ؛ لاحتواء جميع الفروض الّتي يمكن أن تتحقّق في المقام كما عرفت في التفسير.

وقيل : إنّها بمعنى الواو ، أي : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بالخصمين ، ولكنّه ليس بشيء.

وتثنية الضمير في قوله تعالى : (بِهِما) لرجوعه إلى ما تقدّم ذكره من المشهود والمشهود عليه ، ويحتمل أن يكون بمعنى : فالله أولى بكلّ واحد منهما. وقرأ بعضهم : (فالله أولى بهم) بضمير الجمع ، وتقدّم ذكر الاحتمالات في قوله تعالى : (أَنْ تَعْدِلُوا).

وتقدّم أنّ (تلووا) من اللي بمعنى الميل والتحريف ، وقال بعضهم بمعنى الولاية والمباشرة من قولك : وليت الأمر. ولكنّ الحقّ أنّه لا معنى للولاية هنا.

١٦

وقيل : (تلووا) من لويت فلانا حقّه ليا إذا دفعته به ، والفعل (لوى) والمصدر (ليا).

وقرأ بعضهم (نزّل) و (انزل) في قوله تعالى : (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ) بالضمّ ، وأما الباقون فقد قرءوا بالفتح فيهما.

بحث دلالي

تدلّ الآيات المباركة على امور :

الأوّل : يدلّ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) على أهميّة القسط وشرف العدل وعظيم أثره في حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة والدنيويّة والاخرويّة ، ويستفاد ذلك من الأمر بملازمة القسط في جميع الحالات وفي كلّ الشؤون ، حتّى تصير ملكة راسخة عند الفرد ، ويدلّ على أهميّة هذا الحكم أنّ الفعل فيه يدلّ على ملازمة القسط والثبات عليه ولم يقبل التخصيص والتقييد في مورد ، ومثل ذلك نادر في الأحكام الشرعيّة ؛ لأنّ القسط هو الصراط المستقيم والّذي يوصل سالكه إلى الكمال ، وأنّ به يتحدّد كلّ شيء وتتجلّى الحقيقة ، وفيه يتحقّق الصلح والطمأنينة ويصل كلّ فرد إلى ما يستحقّه. ويدلّ على أهميته أيضا ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بالعدل قامت السموات والأرض».

وقد ذكر عزوجل أثرا مهمّا من آثار القيام بالقسط وهو الشهادة لله تعالى ، فإنّ القيام بالقسط يعدّ الإنسان إعدادا عقائديّا وعمليّا للوصول إلى مقام الشهادة لله تعالى وطرح جميع الأغيار ، فلا يكون متّهما ولا انتهازيا طالبا للجاه والنفوذ والمال يجرّ من شهادته النفع إليه ، فإنّ القسط هو الّذي أعدّه لذلك وجعله يطلب رضاء الله تعالى في جميع أموره ، ومنها الشهادة. وقد خصّها تعالى بالذكر ؛ لأنّ لها الأثر في تشريع الأحكام وتثبيت الحقوق وتحقيق الصلح ورفع النزاع.

١٧

الثاني : قد جمعت الآية الشريفة جميع ما يمكن فرضه من الأطراف في الشهادة الّتي يمكن أن يقع مورد الجنف والظلم ، فذكرت شهادة المرء على نفسه ، وفيها إقراره بالحقوق الّتي عليها. ثمّ ذكر الوالدين لوجوب البرّ بهما وعظم قدرهما ، ومن البرّ لهما الشهادة ولو كانت عليهما وتخليصهما من الباطل ، ثمّ ثنّى بالأقربين ، إذ هم مظنّة التعصّب والمودّة ، وأمّا الأجنبي فهو أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، فالآية الشريفة جمعت حقوق الخلق في الأموال وغيرها.

الثالث : إطلاق قوله تعالى : (شُهَداءَ لِلَّهِ) يعمّ الشهادة في الأموال وغيرها ، خلافا لما ذكره بعض المفسّرين من اختصاصها بالشهادة في الأموال ، بقرينة قوله تعالى : (عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ) ، ولكنّه ليس بشيء كما هو معلوم.

كما يدلّ قوله تعالى أيضا على ردّ كلّ شهادة لم تكن لله تعالى ، فتردّ شهادة المتّهم والكافر على المسلم وغيرهم ممّا هو مذكور في الفقه.

الرابع : يمكن أن يكون قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) إشارة إلى مقام الحضور ومظهريّة العبد لصفات الله تعالى وتوحيده ، فإنّه عزوجل بعد أن أمر المؤمنين بالتوحيد العملي في الآيات الكريمة السابقة ، أمرهم في هذه الآية الشريفة بالثبات عليه والتلبّس بالعدالة الّتي هي أشرف الفضائل وأسماها ، وهي من الصفات العليا الّتي أمر عزوجل المؤمنين بالتحلّي بها بعد أن علم منهم الأهليّة ، وأنّ بها تقوم سائر الفضائل والمكارم ، فلا قوام لها بغيرها ، وأنه لا بدّ أن يكون المؤمن قواما بحقوقها لا تظهر معها رذيلة ولا اتباع هوى ولا جور ، فينال مقام جنّة اللقاء والقرب لديه عزوجل ، ويكون شهيدا لله تعالى مظهرا من مظاهر وحدانيّته وكمال صفاته ومرآة لحقية أحكامه المقدّسة ، فلا نظر له إلّا الله تعالى ورضاه وليس للغير فيه مطمع ، وهذا من أجلّ المقامات وأعلاها ، ولا يمكن الوصول إليه إلّا بالعمل بهذه الآية الشريفة وتطبيقها تطبيقا كاملا في جميع الأمور ، فيكون اتباع الهوى من موانع الوصول إلى هذا المقام العظيم ، فإنّه من ترك اتباع الهوى يستعد للاتّصاف بصفة العدالة ويتهيّأ لمقام الشهادة بالوحدانيّة.

١٨

الخامس : يدلّ قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) على أنّ اتّباع الهوى من أشدّ الرذائل تأثيرا على النفس في إبعادها عن الواقع وأكبر الموانع من الوصول إلى المقامات العالية ، وتظهر أهميّته من أهميّة الفضيلة الي ذكرها عزوجل في صدر الآية المباركة.

السادس : يستفاد من قوله تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) أنّ المعصية الّتي يمكن أن تتحقّق في الشهادة هي التحريف والتبديل والشهادة بالباطل ، وما ذكره عزوجل آنفا من الشهادة لغير الله وجرّ النفع والجور فيها أو الإعراض عنها بالكليّة بأن يكتمها ولا يؤدّيها ، وهذا شاهد على ما ذكرناه في أحد مباحثنا السابقة من تناسب المعصية مع الأفعال والأقوال ، فإنّ كلّ معصية تتناسب مع الموضوع الّذي وقعت فيه المعصية ، ففي الأقوال مثلا الكذب والبهتان والزور ونحو ذلك ، كما أنّ في كلّ جارحة لها معصيتها ، ففي العين النظر إلى المحرّم ، وفي اليد السرقة والخيانة في الأمانة ولمس الأجنبيّة ، وفي الرجل السعي إلى الحرام وهكذا ، فالمعصية في الشهادة هي الّتي فيها بالمعنى الأعمّ والإعراض عنها.

وعلى هذا ، يمكن أن يكون قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) تفسيرا لهذه الآية المباركة ـ وهي إجمال لصدرها ، وهي تدلّ على كونها في مقام تعداد معاصي الشهادة ـ قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) الظاهر في التهديد والتوبيخ لمن يجور في الشهادة.

السابع : عموم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) يشمل جميع أنحاء الإيمان إيمان العيان ، وإيمان البرهان ، والإيمان العيني ، وتجريد الإيمان لله تعالى وتخليصه من كلّ أنحاء الشرك الجلي والخفي وجميع الشبهات والاعتراضات والإيمان بالمجموع ، وإيمان التسليم والتفويض والإيمان التفصيلي ، فإنّ الإيمان له مراتب وكلّ فرد يستفيد من الآية الكريمة حسب استعداده وما يفاض عليه من المبدأ الفيّاض جلّ جلاله.

١٩

الثامن : يدلّ قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) ، على أنّ الإيمان الإجمالي لا اعتبار به ما لم يكن عن تفصيل ، فإنّ الوثني أيضا يعتقد بالله ويؤمن ، كما حكي عنه عزوجل ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [سورة الزخرف ، الآية : ٩] ، وقال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [سورة الزخرف ، الآية ٨٧] ، ومع ذلك فهو في عداد المشركين والكافرين ، فالإيمان بحسب نظر القرآن وحدة جامعة للإيمان بالله تعالى والرسول الكريم والكتاب الّذي انزل عليه والكتاب الّذي انزل من قبل على سائر الأنبياء والمرسلين. وهذه الوحدات متكاملة يستلزم بعضها البعض لا تقبل التجزّؤ ، وتشتمل على جميع المعارف الإلهيّة الّتي شرحها القرآن الكريم في سوره وآياته المباركة.

ومن هنا نرى أنّ الآيات الكريمة التالية تنبئ عن ماهية الإيمان بصورة دقيقة ، وتشرح حقيقته شرحا وافيا. وتقسّم الكافرين حسب درجات كفرهم من حيث إنكارهم لمجموع الوحدات أو لبعضها ، فيصف عزوجل من أنكر المجموع بالضلال البعيد ، كما يصف من يفارق بعضها بالنفاق ، ويبيّن أنّه من الكفر التقرّب إلى الكفّار وموالاتهم وتصديقهم في ما يرمون به المؤمنين والاستهزاء بالإيمان وأهله ، وهذا ما نراه في الآيات الكريمة التالية.

التاسع : يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) أركان الإيمان الصحيح ، وهي : الركن الأوّل الإيمان بالله الواحد الأحد المستجمع لجميع صفات الكمال ، والمنزّه عن النواقص الّتي هي صفات الجلال ، وهذا الاعتقاد يستدعي نبذ الشرك والأنداد والاتّصاف بصفات الواحد المنّان.

الركن الثاني : الإيمان بجنس الملائكة الّذين هم رسل الله تعالى ، لا يعصون الله ما أمروا به ، وهم وسائط الوحي والفيض.

الركن الثالث : الإيمان بالكتب الّتي أنزلها الله تعالى على الأنبياء والرسل ،

٢٠